مفهوم الأمية

إنضم
10/10/2005
المشاركات
4
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
لقد احتج القائلون بالحساب الفلكي بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إنا أمة أمية لا نكتب ولا ‏نحسب الشهر هكذا وهكذا..." فقالوا إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- علل "أمره باعتماد رؤية ‏الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة ‏حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ‏ثلاثين. وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص."2 والقائلون بهذا القول جعلوا من أمة محمد –صلى ‏الله عليه وسلم- أمتين, أمة أمية وأمة غير أمية. والسؤال الذي نطرحه الآن, هل كان الصحابة بعد بعثة ‏رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أميين؟ وهل ارتفعت الأمية عن المسلمين اليوم لأنهم أصبحوا يعرفون ‏الحساب الفلكي؟. ثم نسال سؤالا آخر, هل يمكن أن يكون الخطاب في حديث رسول الله –صلى الله ‏عليه وسلم- خاصا للأمة الأمية التي لاتعرف الحساب الفلكي؟ أما متى عرفت الحساب فيجوز لها أن ‏تلغي هذا الحديث وتسقط اعتباره لأن المكلف به الأمة الأمية. ‏
أقول وبالله التوفيق إن الأمي في معاجم اللغة كاللسان وغيره هو الذي لايكتب وتأتي بمعنى الذي على ‏خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته والأميون جمع أمي. ومعنى "إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب" ‏أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى. ومعنى الحديث ‏‏"بعثت إلى أمة أمية" قيل للعرب الأميين لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أوعديمة. وقيل لسيدنا محمد –‏صلى الله عليه وسلم- , الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب, وبعثه الله رسولا وهو ‏لايكتب ولا يقرأ من كتاب.‏
أما معنى الأمة في معاجم اللغة فقد وردت لها معان مختلفة منها أن كل قوم في دينهم من أمتهم وتفسير ‏الآية "إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" والآية "إن هذه أمتكم أمة واحدة" أي دين ‏واحد. وورد أيضا أن كل من مات على دين واحد مخالفا لسائر الأديان فهو أمة على حدة كما كان ‏إبراهيم عليه السلام أمة. وكل قوم نسبوا إلى نبي وأضيفوا إليه فهم أمة وقد يجئ في بعض الكلام أن أمة ‏محمد –صلى الله عليه وسلم- هم المسلمون خاصة وجاء أيضا أن أمته من أرسل إليه ممن آمن به أو كفر ‏به فهم أمته في اسم ألأمة لا الملة. وكل جيل وكل جنس من السباع والحيوان أمة كما ورد في قوله تعالى ‏‏" وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم" وقوله –صلى الله عليه وسلم- "لولا أن ‏الكلاب أمة لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم" وتأتي الأمة بمعنى الجماعة والطريقة والدين.‏
والأمية في كتب التفاسير كابن كثير والقرطبي لاتختلف كثيرا عنها في كتب اللغة فالأميون في الأية الكريمة ‏‏"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"(البقرة 78) هم أهل الكتاب الذين ‏لايعلمونه إلا تخرصا وظنونا والأمي هو الذي لايحسن الكتابة. والأية "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ ‏لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ‏الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد"(آل عمران 20) فرقت بين الذين أوتوا الكتاب والأميين فقال بعض المفسرين ‏أن الأميين هم العرب. وقال بعضهم إن العرب نسبت من لايكتب ولايخط من الرجال إلى أمه في جهله ‏بالكتاب دون أبيه. أما قول أهل الكتاب في الآية "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ‏وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ ‏سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"(آل عمران 75) ليس علينا في الأميين سبيل يعني العرب.‏
أما النبي الأمي في الآيتين الكريمتين "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي ‏التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ ‏مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف 157) و "(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ‏مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ‏وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم"(الأعراف 158). هو محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, ووصف الله له ‏بالأمي لأنه لايحسن الكتابة كما قال عنه سبحانه "وَمَا كُنْت تَتْلُوا مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك ‏إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ "(العنكبوت 48).‏
أما قوله تعالى"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ‏وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الجمعة2) يعني الذي بعث في العرب وتخصيص الأميين ‏بالذكر لاينفي من عداهم. و قوله تعالى في الآية التي تليها "وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ ‏الْحَكِيمُ" (الجمعة 3) فقد روى البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى ‏اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْجُمُعَة " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " قَالُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّه؟ ‏فَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ حَتَّى سُئِلَ ثَلَاثًا وَفِينَا سَلْمَان الْفَارِسِي فَوَضَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَده عَلَى ‏سَلْمَان الْفَارِسِيّ ثُمَّ قَالَ " لَوْ كَانَ الْإِيمَان عِنْد الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَال أَوْ رَجُل مِنْ هَؤُلَاءِ " وفسر ابن جَرِير قَوْله ‏تَعَالَى " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ " بِفَارِسَ. وقيلَ هُمْ الْأَعَاجِم وَكُلّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر ‏الْعَرَب كما أورد أيضا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قالَ " إِنَّ فِي أَصْلَاب أَصْلَاب أَصْلَاب ‏رِجَال وَنِسَاء مِنْ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب " ثُمَّ قَرَأَ" وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " يَعْنِي بَقِيَّة ‏مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّة مُحَمَّد –صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْله تَعَالَى " وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " أَيْ ذُو الْعِزَّة ‏وَالْحِكْمَة فِي شَرْعه وَقَدَره .‏
والذي يظهر لي - والله أعلم- أن للأمية معنى خاصاً ومعنى عاماً ، أما المعنى العام فيعني الجهل ‏والضلالة والظلام ، وأما المعنى الخاص فهو عدمُ معرفة الكتابة. ولا ترتفع الأمية عن أحد بمعناها الخاص ‏إلا متى عرف الكتابة كما أنها لاترتفع عن أمة بمفهومها العام إلا متى خرجت من الجهل والضلالة والظلام ‏إلى العلم والهدى والنور ولا يخرجها من هذا إلا نبي وكتاب.‏
والآية الكريمة "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" تدل على أن أهل ‏الكتاب لما أصبحوا لايعرفونه إلا أماني وظنونا وتخرصا عادت إليهم أميتهم بمفهومها العام لا الخاص على ‏الرغم من معرفتهم بالكتابة كما أنهم لو بقوا متمسكين بكتبهم وعلموها كما أنزلت على أنبيائهم عليهم ‏الصلاة والسلام لبقيت الأمية بمفهومها العام مرتفعة عنهم. ولذلك نجد أن الأمية بمعناها العام ارتفعت عن ‏اليهود والنصارى ببعثة موسى وعيسى عليهما السلام بالتوراة والإنجيل وبقي اليهود والنصارى ينظرون ‏إلى أنفسهم أنهم غير أميين وينظرون إلى أمة العرب على أنها أمة أمية حتى قالوا " ليس علينا في الأميين ‏سبيل" لأن العرب لم يبعث فيهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب وفي هذه الآية دليل واضح على أن الأمية ‏نقيصة لافضيلة.‏
والمشترك بين معنى الأميين في الآية "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" ‏والأميين في الآية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ‏وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"لا يمكن أن يكون إلا الجهل والضلال.‏
والدليل على أن الأمية بمعناها العام ضلال قوله تعالى "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو ‏عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" فالتزكية ومعرفة ‏الكتاب والحكمة رفعت عن الأميين الضلال المبين والذي هو الأمية بمعناها العام.‏
كما أن الدليل على أن الأمية ظلام قوله تعالى "الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ ‏إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " (إبراهيم 1) والناس هنا هم الأميون وقوله تعالى "وَلَقَدْ ‏أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ ‏صَبَّارٍ شَكُورٍ" (إبراهيم 4) وقوله تعالى "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ ‏إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحديد 9). ‏
والعرب قبل البعثة النبوية كانوا أميين بالمعنى الخاص للأمية وذلك لعدم تفشي الكتابة بينهم كما ‏أنهم كانوا أميين بالمعنى العام لعدم وجود نبي وكتاب فيهم. وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمياً ‏بالمعنيين أيضا ودليل ذلك قوله تعالى "وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى" (الضحى 7). ولكن الأمية بمعناها العام ‏ارتفعت عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد نزول الوحي عليه كما أن الأمية بمعناها الخاص ‏بقيت ملازمة له لأنه لايعرف الكتابة ولكن ملازمة الأمية لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فضيلة ‏وكمال وفي غيره نقيصة.‏
وإذا كانت الأمية بمعناها العام لاترتفع عن نبي يوحى إليه من ربه الهدى والحكمة والعلم فما ‏الذي يرفعها إذن؟. وكيف لاترتفع الأمية عن سيد الأولين والأخرين –صلى الله عليه وسلم- والذي ‏اختصه الله بالرسالة الخالدة من بين بلايين البشر من عرب وعجم وأنبياء ورسل.‏
وخلاصة القول أن الأمية بمفهومها العام ارتفعت عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ارتفاعاً ‏لم ترتفعه عن أحدٍ من قبله ولا بعده ذلك أنه أعلم الناس بالله وملائكته وكتابه كما أن علمه بالله ‏وملائكته وكتابه علم يقيني لايخالطه شك أو ريب فكيف يصبح أمياً بعد ذلك.
ومما يدلل على أن ألأمية في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فضيلة وكمال أنه استغنى عن ‏الكتابة والقراءة بالوحي الذي يوحيه إليه ربه ، وإنما يحتاج إلى القراءة والكتابة من لايوحى إليه فكم ‏كشف الله له من الحجب التي لايمكن أن تكشف لكاتب أوقارئ ومنها ماكشفه سبحانه وتعالى له في ‏الإسراء والمعراج ، ومنها عندما ضرب على الصخرة فقال الله أكبرفتحت فارس، والذي نفسي بيده، إني ‏لأرى قصور المدائن الحمراء الساعة. الله أكبر فتحت الروم، والذي نفسي بيده إني لأرى قصور بصرى ‏البيضاء الساعة. الله أكبر فتحت اليمن، والذي نفسي بيده إني لأرى قصور صنعاء الساعة. ومنها عندما ‏بشر سراقة رضي الله عنه بسواري كسرى وكيف يحتاج إلى الكتابة من سمع حنين الجذع ومن اشتكى له ‏الجمل وغير ذلك كثير مما لا يتسع المقام لذكره. ومن كانت هذه صفاته فهو مستغن عن الكتابة ، ‏والكتابة غير مستغنية عنه كما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد استغنى بالقرآن عن الشعر ذلك ‏أن الكامل مستغن عن الناقص.‏
وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة" فيه دلالة ‏واضحة على أن أعلى درجات الشعر الحكمة كما أن أعلى درجات البيان السحر. كما أن الحكمة ‏الموجودة في القرآن وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حكمة بالغة غير ناقصة والحكمة الموجودة ‏في الشعر حكمة ناقصة. أما كتاب الله سبحانه وتعالى فقد بلغ منزلة بهرت أساطين البلاغة من قريش ‏وقصة الوليد بن المغيرة مشهورة عندما ذهب ليستمع إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم عاد وهو ‏يقول "والله ما في قريش من رجل أعلم بالشعر أو رجزه أو قصيده مني ، ولا والله ما يشبه الذي يقول ‏محمد شيئاً من هذا الشعر أو ذلك الرجز والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن ‏أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه يحطم ما تحته فأنكر عليه أبو جهل وقال له لا يرضى عنك قومك ‏حتى تقول فيه ، ففكر طويلا فقال هذا سحر يؤثر"‏
ومما يروى عن المأمون أنه قال لرجل عنده "بلغني أنك أُمِّيّ، وأنك لا تقيم الشِّعر، وأنك تَلحن ‏في كلامك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه، وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر ‏فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك ‏فزدْتني عَيباً رابعاً، وهو الجهل، ياجاهل، إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك ‏نَقيصة، وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه، لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب، وقد قال ‏تبارك وتعالى: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ".
والذي يفهم من قوله تعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" أي ماينبغي لرسول الله –صلى الله عليه ‏وسلم- النقص وإنما ينبغي له الكمال ذلك أن الكمال في الوحي بشقيه من قرآن وسنة والنقص في الشعر ‏في أعلى درجات حكمته وصدقه. ومما لايخفى على أهل اللغة والأدب أن الشعر يدخله الباطل بل إن ‏غالبه كذلك ويدخله التناقض والاضطراب والكذب وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق ولا أجد أبلغ ‏من قول دعبل في وصف الشاعر عندما قال "من فضل الله على الشاعر أَنَّهُ ما مِن أَحدٍ يكذبُ إلا اجتواهُ ‏الناسُ إِلا الشاعرُ فإنه كلما إزداد كذبهُ كلما ازداد المديحُ له ولا يكتفى له بذلك حتى يقال أحسنت والله ‏فما يشهد له بشهادة زور إلا وكان معها يَمين بالله" ويشهد الله لو كان هذا الموقف مع غير القرآن ‏والسنة لانتصرت للشعر ولكني لا أستطيع الانتصار لقول مخلوق ضعيف معظمه كذب وتزويرعلى قول ‏خالق قوله حق مبين لايأيتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.‏
ومعلوم عند أهل اللغة أنه مامن قصيدة في دواويين الشعر القديم والحديث تخلو من عيب نحوي ‏أو صرفي أو اضطراب واختلاف أو معنى مبتذل وصدق الله القائل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا ‏فيه اختلافا كثيرا" (النساء 82). وإذا كان الشعر الجاهلي لم يخل من ذلك فكيف يخلو منه ماهو دونه في ‏اللغة والبيان فهذا طرفة في قوله:‏
[align=center]قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تَحذري[/align]
قد حذف النونَ. وهذا الراعي النميري في قوله:‏
[align=center]تأبى قُضاعةُ أَن تَعْرِفْ لكمْ نَسبا * وابنا نزارٍ وأنتم بيضةُ البَلَدِ[/align]
فسَكَّن تَعْرِف ضرورةً . وهذا شاعرُ الجاهلية أمرؤ القيس في قوله:‏
[align=center]لها متنتان خظاتا كما*أكب على ساعديه النمر[/align]
حذف النون. وقول زياد الأعجم:‏
[align=center]عجبتُ والدهرٌ كثيرٌ عَجَبُهْ * مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لَم أَضْرِبُهْ[/align]
فرفع أَضربُه. وقول الفرزدق:‏
[align=center]وعَضُّ زمانٍ يابن مروانَ لم يَدَعْ *مِن المالِ إِلاَّ مِسحتاً أَو مُجلفُ[/align]
فضم مجلفا. وهذه أمثلة قليلة جداً ذكرناها لبيان نقصان الشعر وعدم كماله عند أساطينه ‏وسادته ، ولذلك لم يرد الله لرسوله –صلى الله عليه وسلم- إلا الكمال فعصمه من الشعر لنفي الظنة ‏ولتطهير فمه وقلبه من قول ناقص وبيان غير مكتمل فوهبه الوحي الكامل وجنبه قول الشعر لما ذكرناه ‏وليبقى مثال الفصاحة والبيان إلى قيام الساعة ، فلو كان شاعراً لوقع فيما وقع فيه الشعراء العظام من لحن ‏وزلل واضطرار وإسناد وإقواء وإكفاء وإجازة وإيطاء وتفاوتات البيوت ولذلك أصبح –صلى الله عليه ‏وسلم- مستغنيا بالكامل عن الناقص.‏
ثم لو جاز له أن يكون شاعراً معصوماً من ذلك كله لأصبح مشتركاً مع الشعراء في الاسم ‏وذلك مالم يرده له سبحانه وتعالى. ومما ذكره الأزهري في تهذيب اللغة " وقيل للنبي محمد صلى الله عليه ‏وسلم: الأمي ، لأن أُمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب ، بعثه الله رسولاً وهو لا يكتب من ‏كتاب ، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة ، لأنه صلى الله عليه وسلم تلا عليهم كتاب الله منظوماً ‏مع أميته بآيات مفصلات ، وقصص مؤتلفات ، ومواعظ حكيمات ، تارة بعد أخرى ، بالنظم الذي ‏أنزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه. وكان الخطيبُ من العرب إذا ارْتَجَل خُطْبَةً ثم أَعادها زاد فيها ‏ونَقَص، فحَفِظه الله عز وجل على نَبيِّه كما أَنْزلَه، وأَبانَهُ من سائر مَن بَعَثه إليهم بهذه الآية التي بايَنَ بَينه ‏وبينهم بها، ففي ذلك أَنْزَل الله تعالى: "وما كنتَ تَتْلُو من قَبْلِه من كِتاب ولا تَخُطُّه بِيَمِينِك إذا لارْتابَ ‏المُبْطِلون" الذين كفروا، ولَقالوا: إنه وَجَدَ هذه الأَقاصِيصَ مَكْتوبةً فَحَفِظَها من الكُتُب."‏
وخلاصة القول في هذه المسالة أن الأمة المسلمة قد ارتفعت عنها الأمية بمعناها العام بعد بعثة ‏رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكيف لاترتفع عنها وهي التي علمت العالم جميعه مكارم الأخلاق ‏من حقوق الوالدين والأبناء والجار وإكرام الضيف وغض البصر وإغاثة الملهوف وكثيرا مما لايتسع المقام ‏لذكره ومن نافلة القول أن أمة تتصارع حضارتها مع هذه القيم والأخلاق لفي خسران عظيم. وكيف ‏يقال عن هذه الأمة أنها أمة أمية وقد أنجبت الصديق والفاروق وعثمان وعلي وسائر أصحاب رسول الله ‏‏–صلى الله عليه وسلم- رضوان الله عليهم أجمعين وأنجبت ربيعة الرأي وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وابن ‏حنبل والخليل وسيبويه وكثيرا ممن لايحصى.‏
كما أن الأمية لا يمكن أن تعود إلى هذه الأمة إلا متى عادت إلى جاهليتها الأولى وتركت كتاب ‏ربها وراءها وتنكرت لدينها ونبيها ومكارم أخلاقها التي تممها رسولها عليه أفضل الصلاة والتسليم.‏
أما الأمية بمعناها الخاص, عدم معرفة الكتابة, فما مات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا ‏وقد رفعها عن أمته بما يكفي لنقل هذا الدين كاملا غير منقوص من جيل الصحابة إلى جيل التابعين ‏ودليل ذلك قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" ولا ‏يمكن أن يكمل الدين إلا بمعرفة الكتابة والقراءة وإلا كيف تتواصل الأمة مع كتاب ربها وسنة نبيها –‏صلى الله عليه وسلم- من غير معرفة لقراءة وكتابة وقصة مفاداة أسرى بدر خير دليل على ذلك. وقول ‏رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت معلما" فيه دلالة واضحة على أن رسالته جاءت إلى الناس ‏لترفع عنهم الأمية بمعناه العام والخاص.‏
ومن المنطق, أن ارتفاع الأمية بمعناها العام عن الأمة يرفع الأمية عنها بمعناها الخاص لأنه لايمكن ‏للأمة التي لاتعرف الكتابة أن تتواصل مع رسالة ربها لتبلغها إلى الأمم والأجيال التي بعدها.
ومن فرض القول أنه بعد بعثة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ارتفعت الأمية بمعناها العام عن الأمة ‏المسلمة وانتقلت إلى ماعداها من الأمم التي لم ترض بدين الله فأصبحت الأمة المسلمة غير أمية وأصبحت ‏كل أمة غيرها أمية.‏
ومما يدلل على ذلك قوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل ‏أسفارا" وليس ذلك مقصورا على اليهود وحدهم بل إن كل أُمةٍ تُحمَّلُ كتاباً ثم لاتَحملهُ هي كمثلِ ‏الحمار يحمل أسفاراً وهذه منزلة أدنى من منازل الأمية بمفهوميها العام والخاص حتى وإن كانت أمة كاتبة ‏قارئة. ويدلل على ذلك قوله تعالى " أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ " وقوله جل وعلا " ‏بِئْسَ مَثَل الْقَوْم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ "‏
أما أمية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الأيات السابقات فإنما هي على اعتبار ماضيه –‏صلى الله عليه وسلم- كما أنها حجة لدحض كل تهمة عنه لأن كفار قريش يعلمون حق العلم أنه ‏لايكتب ولا يقراء. ومما يدلل على ذلك أن القرآ ن الكريم في أسلوبه يتحدث أحيانا على إعتبار الماضي ‏فمعلوم أن الصحبة بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وبين كفار قريش قد انفكت بعد إيمانه ‏وتوحيده لله جل وعلا وبعد إصرارهم على الكفر والعناد وانتقل حق الصحبة إلى من آمن به ولذلك يقال ‏عن الذين آمنوا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ورأوه صحابته ولا يقال ذلك عن المشركين. ومع ‏ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى كفار قريش قائلا " ماضلَّ صاحبكم وما غوى" وذلك على اعتبار ‏ماكان بينهم من صحبة.‏
أما الأمة في كتب التفسير فقد وردت في آيات كثيرة منها قوله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً ‏وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة 143) وتفسيرها في قوله –‏صلى الله عليه وسلم- "يُدْعَى نُوح يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال لَهُ هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُول نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمه فَيُقَال لَهُمْ ‏هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِير وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَد فَيُقَال لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَد لَك فَيَقُول مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ ‏قَالَ : فَذَلِكَ قَوْله " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" قَالَ وَالْوَسَط الْعَدْل فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ ‏أَشْهَد عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.‏
وفي هذا الحديث دلالة واضحة أن المقصود بالأمة الوسط أمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ‏جميعها وليس صحابته فحسب ودليل ذلك قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث نفسه ‏‏"فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" ومن المعلوم أن شهادة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ‏على أمته جميعها وقوله فتشهدون له بالبلاغ في صيغة الجمع تقابله صيغة جمع أخرى وهي ثم أشهد ‏عليكم. فإن قال قائل إن صيغتي الجمع خاصة بالصحابه قلنا هذا يخالف قول الله تعالى "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا ‏مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41) لأن شهادة رسول الله –صلى الله عليه ‏وسلم- عامة على أمته جميعها كما أنه يخالف قوله تعالى "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ ‏بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (يونس 47).ويخالف قوله "وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ ‏كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" (النحل 84) وقوله تعالى "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ‏وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" ‏‏(النحل 89) ويخالف قوله "وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ ‏عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (القصص75) ويخالف قوله تعالى "وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى ‏كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " (الجاثية 28)‏
ومن هذه الآيات الكريمة يتبين لنا ان المقصود بالأمة الوسط أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- ‏التي آمنت به وصدقته وسارت على هداه ونهجه وليس ذلك مقصورا على صحابته.
كما أن اسلوب القرآن الكريم في غاية الوضوح عندما يريد تخصيص الأمة بمعنى الجماعة ومن ذلك قوله ‏سبحانه وتعالى "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ ‏الْمُفْلِحُونَ" (ال عمران 104). ومما هو معلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المسلمين ‏وعدم قيام بعض المسلمين بذلك لايخرجهم من الملة ويعتبرون مقصرين في هذا الجانب مع بقائهم من أمة ‏محمد ودليل ذلك أن الذين يأمرون بالمعروف في كل جيل من بعد بعثته –صلى الله عليه وسلم- جماعة ‏من الأمة المسلمة وليست الأمة المسلمة كلها وهذه الجماعة (الأمة) هي المفلحة وما صنعه الفاروق رضي ‏الله تعالى عنه عندما أنشأ نظام الحسبة خير دليل على ذلك. ‏
كما أن تخصيص الأمة في الجماعة في الآية "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ‏اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" (ال عمران 113) واضح ايضا. وهذه الآية نزلت فيمن آمن من أحبار ‏أهل الكتاب الذين أسلموا وأنهم ليسوا كمن لم يسلم فوصفهم الله بأنهم أمة يعني جماعة من أهل الكتاب. ‏ومن الآيات التي خصصت الأمة بالجماعة قوله تعالى " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ‏مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ " (المائدة ‏‏66) وقوله تعالى " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ "( الأعراف159) وقوله تعالى " وَإِذْ ‏قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏‏" (الأعراف 164) وقوله تعالى "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ" (النمل ‏‏83)
أما قوله تعالى " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ‏آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ " (آل عمران 110) فهو عام لكل ‏أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- وليس مقصوراً على عهد الصحابة أوغيرهم مادامت الأمة محققة ‏لشرطي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع اعتقادنا بأن اصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ‏هم أفضل هذه الأمة وخيرها بدليل قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "خير القرون قرني ثم الذين ‏يلونهم ثم الذين يلونهم" ‏
وكذلك قوله تعالى " كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا ‏إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ " (الرعد 30) عام لأمة ‏محمد –صلى الله عليه وسلم- جميعها ومعنى "لتتلو الذي أوحينا إليك" أي تبلغهم رسالة الله إليهم.
وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء..." ‏عام ايضا وليس مقصورا على صحابته. كما أن قوله –صلى الله عليه وسلم- "... وتفترق أمتي على ‏ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" دليل آخر على أن أمته ممتدة إلى قيام الساعة.
وقوله " ‏لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"وقوله " ‏إن بعدي من ‏أمتي أو ‏ ‏سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن ‏ ‏لا يجاوز ‏ ‏حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج ‏السهم من ‏ ‏الرمية ‏ ‏ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي " قوله ‏‏(أمية) أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنافي عدم معرفة ‏الكتابة والحساب فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم ولا بالشهور الشمسية الخفية بل كلفنا ‏بالشهور القمرية الجلية لكنها مختلفة كما بين بالإشارة مرتين كما في كثير من الروايات فالعبرة حينئذ ‏للرؤية والله تعالى أعلم"‏
وإجابة على السؤالين اللذين طرحناهما في بداية هذا البحث نقول إن أمة محمد –صلى الله عليه ‏وسلم- لايمكن أن تكون أمتين وإنما هي أمة واحدة ارتفعت عنها الأمية بعد بعثة رسول الله –صلى الله ‏عليه وسلم- من قبل معرفتها للحساب الفلكي. كما أنه لا يمكن أن يكون الحديث " إنا أمة أمية ‏لانكتب ولا نحسب ..." خاصا بمن لا يعرف الحساب الفلكي ولا يجوز لأحد أن يلغيه أو يسقط اعتباره ‏والتكليف به لاينتهي مادامت السموات والأرض.‏
وخلاصة القول أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعث إلى جميع الأمم وأن أمته هي التي ‏أمنت به وصدقته وسارت على نهجه القويم وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "وستفترق أمتي" ‏اي أن أمته التي كانت مومنة به سوف تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة وقوله أمته على اعتبار ماضيهم ‏لاحاضرهم وكذلك الحال بالنسبة لأحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.‏
ومن هنا يتبين لنا أن ألأمة في الحديث "إنا أمة أمية..." أي أمة محمد جميعها ولا يمكن الفصل بين ‏جيل وجيل أو جماعة وجماعة إلا بدليل أو قرينة واضحة ولا قرينة في الحديث تقتضي التفريق.‏
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والذي هو سبب ‏الاختلاف بين القائلين بعدم جواز الأخذ بالحساب الفلكي والقائلين بجوازه أو وجوبه"إنا أمة أمية ‏لانكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا" وكما ذكرنا من قبل إن حجة المنتصرين للحساب الفلكي هي ‏أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد علل أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار ‏بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال ‏الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين.‏
أقول وبالله التوفيق : إن حجة القائلين بتعليل الحديث غير صحيحة من عدة وجوه:‏
‏1- لقد بينا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يمت إلا بعد أن رفع الأمية بمفهومها العام ‏والخاص عن الأمة بما يكفل نقل الدين من جيل إلى جيل كاملا غير منقوص. وبينا أيضا أن معنى "أمية" ‏في الحديث, أي منسوبة إلى الأم باعتبار البقاء على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنا في عدم ‏معرفة الكتابة والحساب .‏
‏2- القول بالتعليل يقسم أمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى قسمين أمة أمية وأمة غير ‏أمية وتخصيص الأمة التي كانت في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالأمية دون غيرها يحتاج إلى ‏دليل ولقد مرت بنا الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- التي تثبت أن أمة رسول ‏الله –صلى الله عليه وسلم- واحدة ولا يمكن الفصل بين أمة وأمة.‏
‏3- ليس من المعقول أن يختص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جماعة من أمته دون جماعة في ‏حديث عن ركن من أركان الإسلام وكأن الجماعات الأخرى من أمته غير معنية بهذا الركن. ‏
‏4- لقد بينا أيضا معنى الأمية الخاص وهو عدم معرفة الكتابة ولا علاقة للأمية من بعيد أو قريب ‏بالحساب ذلك أنني لم أجد تعريفا للأمية فيما اطلعت عليه من كتب اللغة والتفسير يدل على أن من ‏لايعرف الحساب أمي, إذن, لماذا ذكر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الحساب؟. والذي أعتقده أن ‏الإنسان يخرج من بطن أمه غير حاسب ولا كاتب ولكنه يتعلم الحساب من خلال بيئته ذلك أنه يحتاج ‏إلى البيع والشراء وعد الأشياء وتلك مهارة يكتسبها من غير معاناة ومشقة ومن هنا ترتفع أمية الحساب ‏عن كل إنسان بعد مدة من ولادته. أما أمية الكتابة فتبقى ملازمة للإنسان حتى يتعلم الكتابة. ومن هنا ‏يتبين لنا أن ذكر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للحساب, مع علمه أن الأمة حاسبة, تأكيد على أنه ‏يجب علينا أن نبقى بخصوص دخول الأشهر القمرية على الحال التي ولدتنا عليها أمهاتنا. ‏
‏5- كما أن المتأمل في الحديث يجد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "لانكتب ولا ‏نحسب" بالنون وليس بالتاء ولو كان الحديث لاتحسب ولا تكتب لعاد الضمير على الأمة وفي هذا إشارة ‏إلى نفي الأمية عن الأمة.‏
‏6- ثم إن الحديث فيه حساب وإلا كيف عرف أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ‏رضي الله عنهم أن الشهر 29 يوما أو 30 يوما. كما أن الأمة في عهد رسول الله –صلى الله عليه ‏وسلم- تعرف الحساب ودليل ذلك أن الناس في عهده –صلى الله عليه وسلم- كانوا يتبايعون بالدرهم ‏والدينار ولو لم يكونوا يعرفون الحساب لما تبايعوا. والأعظم من ذلك معرفتهم بعلم الفرائض والذي هو ‏في غاية التعقيد ويحتاج إلى معرفة السدس والربع وعلم الزكاة كربع العشر وما سواه. وقول رسول الله –‏صلى الله عليه وسلم- أفرضكم زيد فيه دلالة على أنه يوجد من الصحابة من يعرف هذا العلم غير زيد ‏وبقيت الأمة بعده صلوات الله وسلامه عليه عالمة بعلمي الفرائض والزكاة فما من فقيه مر على هذه الأمة ‏إلا ويعرف هذين العلمين معرفة وافية. كما أن العرب في أيام الجاهلية كانت تعرف الحساب وتعد الشاء ‏والنوق والإبل والنجوم.‏
‏7- ثم لو فرضنا أن عدم معرفة الحساب أمية, ما الحساب الذي ترتفع به الأمية عن الأمة؟ هل ‏هو حساب جدول الضرب أو حساب الفرائض أو حساب الفلك. والحساب أنواع كثيرة جدا فمنه الجبر ‏والجبر ينقسم إلى خطي وغير خطي ومنه الهندسة الفراغية وحساب المثلثات و المعادلات التفاضلية الخطية ‏وغير الخطية و الفئات والحساب المالي والاقتصادي والهندسي والإحصاء والتحليل العددي وكثير مما ‏لانستطيع بسطه إلا في كتاب مستقل. ونسأل القائلين بالتعليل, أي حساب ترتفع به الأمية عن الأمة؟ ‏وهل يجب على الأمة جميعها أن تكون عالمة بجميع أنواع الحساب حتى ترتفع عنها الأمية؟ أم يكفي علمها ‏ببعض أنواعه وإذا كان لايجب على الأمة جميعها أن تكون عالمة بالحساب فما هو الحد الأدنى للعالمين به ‏حتى ترتفع عن الأمة الأمية. ‏
‏8- ثم هل الأمية محصورة بعدم معرفة الحساب والكتابة أم أنها تتعدى إلى غيرها مما لاتعرفه الأمة ‏اليوم من صناعة سيارات وطائرات وصواريخ فمتى قسنا أمتنا اليوم بباقي الأمم سوف نحكم عليها بالجهل ‏لا بالأمية فحسب لعدم إحاطتها بكثير مما يحيط به الغرب.‏
‏9- وإذا كانت معرفة فئة قليلة من الأمة بالحساب الفلكي ترفع عن الأمة المسلمة الأمية فإن ‏معرفة بعض الصحابة بالكتابة والحساب ترفع عن صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الأمية أيضا. ‏ولا يخالجني شك أن نسبة الكاتبين الحاسبين من الصحابة أكثر بكثير من نسبة العارفين بالحساب الفلكي ‏من الأمة المسلمة اليوم.‏
‏10- ثم ماذا يقول القائلون بالحساب متى علموا أن دراسة مقارنة استندت عليها الإليسكو ‏اظهرت أن نسبة الأمية في العالم العربي ستصبح الأولى في العالم بعد أن كانت الثانية بعد أفريقيا وليس ‏هذا فحسب بل إن متوسط عدد الأميين في العالم العربي اقترب من ضعف المتوسط العالمي. وكيف لو ‏علموا أن نسبة العاملين في البحث العلمي في العالم العربي لاتتجاوز 300 عالم لكل مليون عربي بينما ‏هي في أمريكا تتجاوز 4000 وفي أوربا تزيد عن 2000 وكيف لو علموا أيضا أن عدد الكتب ‏المنشورة في العالم العربي أقل من ثلث الكتب المنشورة في إسرائيل على الرغم من أن اليهود في فلسطين 7 ‏ملايين والعالم العربي تجاوز 320 مليون. وإنه ليجوز لنا بعد هذا كله أن نسأل بعد هذه الأمية التي ‏لاتعادلها أمية في العالم هل يعتبرنا القائلون بالحساب غير أميين وتصبح علة الأمية مرتفعة عنا.‏
ومن هنا يتبين لنا أن قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب ‏الشهر هكذا وهكذا" أنه يجب أن نكون على الحالة التي خرجنا عليها من بطون أمهاتنا في عدم معرفة ‏الكتابة والحساب حيال صومنا وفطرنا.‏
كما أن تعليل النصوص الشرعية بهذه الطريقة يجيز لمن يريد من أهل الهوى أن يجعل من بعضها ‏خاصا بفترة النبوة دون غيرها ليهدم ما أراد من أصول الدين وفروعه. ولن يعدم صاحب الهوى قرينة ‏يتأولها للوصول إلى مايريد وهذا يفتح المجال لكل متلاعب وعابث يريد أن يعبث في هذا الدين والذي ‏يقول بتعليل النصوص بهذه الطريقة كأنه ينفي شمول هذا الدين وصلاحه لكل زمان ومكان.‏
 
أرحب بالأخ العزيز ، والأديب البارع ، الدكتور محمد بن صبيان الجهني رئيس قسم الهندسة النووية بكلية الهندسة بجامعة الملك عبدالعزيز. وهو أديبٌ ذواقة ، وشاعر مفلقٌ ، وفوق ذلك له نظراته العلمية الدقيقة مثل هذا البحث الدقيق الذي أفادنا به في هذه المشاركة الأولى له في ملتقى أهل التفسير ، وأنا أعلم أن لها أخوات مثلها في العمق العلمي ، ودقة الاستنباط .
أسأل الله أن يوفق أبا عبدالرحمن لكل خير ، ومرحباً به مرة أخرى.
 
لقد سعدت كثيراً بهذه المشاركة يا دكتور محمد , وأتمنى أن تتحفنا دائماً بهذه الدراسات في هذا الملتقى المبارك...
 
عودة
أعلى