عبدالرحيم الشريف
Member
من غريب التأويلات العلمانية المنحرفة المعاصرة: تحريف محمد شحرور للمراد بالعورة الواجب على المرأة سترها، فأوَّلَ الجيوب في قوله تعالى: " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " [النور: 31] بالعورة المغلظة والثديين وأسفل الإبطين، [1] ويرى أن مسوغ تأويله الشاذ للجيب، أن كلمة (جيب) تعود إلى الجذر (جوب) الذي يدور على معنى: الخرق. [2]
والصواب أن كلمة (جُيُوبِهِنَّ) تعود إلى الجذر (جيب)، قال ابن منظور: " الجَيب: جَيبُ القَمِيصِ والدِّرْعِ والجمع جيوب، وفي التنزيل العزيز: " ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنَّ " [النور: 31]، وجِبتُ القمِيص: قوَّرت جَيبه، وجَيَّبته: جعلت له جيباً. وأما قولهم: " جُبتُ جيبَ القميص " [أي: خَرَقته]. فليس (جُبت) من هذا الباب؛ لأن عين (جُبت) إنما هو مِن جابَ يجوبُ، والجيب عينه ياء؛ لقولهم: جيوب ". [3]
إضافة إلى أن معرفة الجذر الصحيح لكلمة (جُيُوبِهِنَّ) يهدم التأويل الشاذ لشحرور، فإن معرفة عادة نساء العرب في تغطية رؤوسهن ـ قبل نزول الآية الكريمة ـ توضح أن معنى الجيب في الآية الكريمة: مكان الجيب الداخلي في قميص المرأة.
فقد أمر الله نساء المسلمين بوضع جلابيبهن بطريقة يغطين بها صدورهن، فتواري المرأة ما تحت تلك الجلابيب من صدر وترائب؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكنَّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرِطة آذانها، فأمرَ الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن. [4]
وهكذا فإن جهل شحرور بعادة نساء العرب زمن نزول القرآن الكريم ـ إضافة إلى جهله بالجذر الصحيح لكلمة (جيوبهن) ـ قاده إلى ذاك التأويل الشاذ المنحرف عن الحق، المخالف لما أجمع عليه الناس منذ خمسة عشر قرناً.
وإن كان له قدوة، فقدوته طائفة من أصحاب الفكر المنحرف الباطني الذي ألحد في تفسير القرآن الكريم، وتوسعَ الإمام الشاطبي في التمثيل على شذوذهم في كتابه الموافقات، ومن الأمثلة التي ذكرها: تأويل معنى الأنداد والطاغوت بأن المقصود بكل منها: النفس الأمَّارة بالسوء، والشجرة التي نهى الله عز وجل آدم عليه السلام وزوجه أن يأكلا منها: صرف الهمة عن الله، والجار ذي القربى: القلب، والجار الجنب: النفس، والصاحب بالجنب: العقل، وابن السبيل: الجوارح.. وغير ذلك مما لا يعرفه العرب لا مَن آمن منهم ولا مَن كفر، ولو كان عندهم معروفاً لنُقِل. [5]
وقد صدق الشيخ محمد الذهبي في وصف ما يقوم به أولئك فقال: " مُنيَ الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد، وطرق الهدم، وكان من أهم الأبواب التى طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة: تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما في القرآن من هداية، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سوَّلته لهم نفوسهم من نِحَلٍ خاسرة وأهواء.
مُنيَ الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومنيَ بمثل هذا فى أحدث عصوره، فظهر في هذا العصر أشخاص يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضى حاجات في نفوسهم، فأدخلوا فى تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، تقبَّلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة، ورفضها بكل إباء مَن حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم ".
ثم علل سبب قيامهم بهذا الفعل العجيب: " اندفع هؤلاء النفر مِن المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائغة فى القرآن بعوامل مختلفة، فمنهم مَن حسب أن التجديد ـ ولو بتحريف كتاب الله ـ سببٌ لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسِّرين ويرميهم جميعاً بالسَّفَهِ والغفلة، ثم طلعَ على الناس بجديده فى تفسير كتاب الله.. جديد لا تقره لغة القرآن، ولا يقوم على أصل من الدين.
ومنهم مَن تلقَّى من العلم حظاً يسيراً، ونصيباً قليلاً، لا يرقى به إلى مصاف العلماء، ولكنه اغتر بما لديه، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين فى العلم، ونسي أنه قَلَّ في علم اللُّغة نصيبه، وخفَّ في علم الشريعة وزنه، فراح ينظر في كتاب الله نظرة حُرَّة لا تتقيد بأيِّ أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذي بأفهام فاسدة، تتنافى مع ما قرره أئمة اللُّغة وأئمة الدين، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حُجَّة، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نِحْلَة دينية، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلَّطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نِحَلٍ مختلفة، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل فى قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء، فأخذ يُؤوِّله بما يتفق معها، تأويلاً لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعاً خاضوا في القرآن على عماية، فلم يراعوا في فهمه قوانين البلاغة، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السُّنَّة الصحيحة ". [6]
[SUP]==========[/SUP]
1) انظر: الكتاب والقرآن، محمد شحرور، ص606.
2) قال ابن فارس: " الجيم والواو والباء أصلٌ واحد، وهو خَرْقُ الشيء ". انظر: معجم مقاييس اللغة 1/491 (جوب).
3) لسان العرب، ابن منظور 1/736 (جيب).
4) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ص1210.
5) انظر: الموافقات، الشاطبي 3/397-403.
6) التفسير والمفسرون، د. محمد الذهبي2/522.
والصواب أن كلمة (جُيُوبِهِنَّ) تعود إلى الجذر (جيب)، قال ابن منظور: " الجَيب: جَيبُ القَمِيصِ والدِّرْعِ والجمع جيوب، وفي التنزيل العزيز: " ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنَّ " [النور: 31]، وجِبتُ القمِيص: قوَّرت جَيبه، وجَيَّبته: جعلت له جيباً. وأما قولهم: " جُبتُ جيبَ القميص " [أي: خَرَقته]. فليس (جُبت) من هذا الباب؛ لأن عين (جُبت) إنما هو مِن جابَ يجوبُ، والجيب عينه ياء؛ لقولهم: جيوب ". [3]
إضافة إلى أن معرفة الجذر الصحيح لكلمة (جُيُوبِهِنَّ) يهدم التأويل الشاذ لشحرور، فإن معرفة عادة نساء العرب في تغطية رؤوسهن ـ قبل نزول الآية الكريمة ـ توضح أن معنى الجيب في الآية الكريمة: مكان الجيب الداخلي في قميص المرأة.
فقد أمر الله نساء المسلمين بوضع جلابيبهن بطريقة يغطين بها صدورهن، فتواري المرأة ما تحت تلك الجلابيب من صدر وترائب؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكنَّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرِطة آذانها، فأمرَ الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن. [4]
وهكذا فإن جهل شحرور بعادة نساء العرب زمن نزول القرآن الكريم ـ إضافة إلى جهله بالجذر الصحيح لكلمة (جيوبهن) ـ قاده إلى ذاك التأويل الشاذ المنحرف عن الحق، المخالف لما أجمع عليه الناس منذ خمسة عشر قرناً.
وإن كان له قدوة، فقدوته طائفة من أصحاب الفكر المنحرف الباطني الذي ألحد في تفسير القرآن الكريم، وتوسعَ الإمام الشاطبي في التمثيل على شذوذهم في كتابه الموافقات، ومن الأمثلة التي ذكرها: تأويل معنى الأنداد والطاغوت بأن المقصود بكل منها: النفس الأمَّارة بالسوء، والشجرة التي نهى الله عز وجل آدم عليه السلام وزوجه أن يأكلا منها: صرف الهمة عن الله، والجار ذي القربى: القلب، والجار الجنب: النفس، والصاحب بالجنب: العقل، وابن السبيل: الجوارح.. وغير ذلك مما لا يعرفه العرب لا مَن آمن منهم ولا مَن كفر، ولو كان عندهم معروفاً لنُقِل. [5]
وقد صدق الشيخ محمد الذهبي في وصف ما يقوم به أولئك فقال: " مُنيَ الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد، وطرق الهدم، وكان من أهم الأبواب التى طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة: تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما في القرآن من هداية، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سوَّلته لهم نفوسهم من نِحَلٍ خاسرة وأهواء.
مُنيَ الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومنيَ بمثل هذا فى أحدث عصوره، فظهر في هذا العصر أشخاص يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضى حاجات في نفوسهم، فأدخلوا فى تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، تقبَّلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة، ورفضها بكل إباء مَن حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم ".
ثم علل سبب قيامهم بهذا الفعل العجيب: " اندفع هؤلاء النفر مِن المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائغة فى القرآن بعوامل مختلفة، فمنهم مَن حسب أن التجديد ـ ولو بتحريف كتاب الله ـ سببٌ لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسِّرين ويرميهم جميعاً بالسَّفَهِ والغفلة، ثم طلعَ على الناس بجديده فى تفسير كتاب الله.. جديد لا تقره لغة القرآن، ولا يقوم على أصل من الدين.
ومنهم مَن تلقَّى من العلم حظاً يسيراً، ونصيباً قليلاً، لا يرقى به إلى مصاف العلماء، ولكنه اغتر بما لديه، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين فى العلم، ونسي أنه قَلَّ في علم اللُّغة نصيبه، وخفَّ في علم الشريعة وزنه، فراح ينظر في كتاب الله نظرة حُرَّة لا تتقيد بأيِّ أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذي بأفهام فاسدة، تتنافى مع ما قرره أئمة اللُّغة وأئمة الدين، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حُجَّة، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نِحْلَة دينية، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلَّطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نِحَلٍ مختلفة، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل فى قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء، فأخذ يُؤوِّله بما يتفق معها، تأويلاً لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعاً خاضوا في القرآن على عماية، فلم يراعوا في فهمه قوانين البلاغة، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السُّنَّة الصحيحة ". [6]
[SUP]==========[/SUP]
1) انظر: الكتاب والقرآن، محمد شحرور، ص606.
2) قال ابن فارس: " الجيم والواو والباء أصلٌ واحد، وهو خَرْقُ الشيء ". انظر: معجم مقاييس اللغة 1/491 (جوب).
3) لسان العرب، ابن منظور 1/736 (جيب).
4) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ص1210.
5) انظر: الموافقات، الشاطبي 3/397-403.
6) التفسير والمفسرون، د. محمد الذهبي2/522.