إبراهيم عوض
New member
- إنضم
- 18/03/2005
- المشاركات
- 203
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
"امرأة خائفة" لسلوى علوان
د. إبراهيم عوض
فى البداية لم أكن أعرف شيئا عن كاتبة الرواية، إذ كانت هذه أول مرة أسمع بهذا الاسم. وكلما سألت عنها أحد الأصدقاء أوالزملاء أجاب بأنه لا يعرفها، وليس لديه أية معلومات عنها، ثم قرأت فيما بعد أنها تشتغل فى الإدارة التعليمية بالمحلة الكبرى. والحق أننى لو لم يقتحم اسمها وعنوان روايتها علىَّ خلوتى وأنا جالس فى حالى لا علىَّ ولا لِيَا لظللت على جهلى بها، إذ جاءنى إيميل من الإيميلات الكثيرة التى تنهال علينا يوميا من كل صوب وحَدَب يشير إلى الكاتبة وكتابها وما قاله النقاد بشأنها، كما طالعتنى أنباء متناثرة هنا وهناك فى بعض المواقع والصحف على المشباك فى نفس الموضوع، وكلها صاخبٌ مُصِمٌّ للآذان. ومنها أن روايتها تمثل فتحا فى الأدب العربى يعيد عصر نجيب محفوظ من جديد، وأن عددا من قراء الرواية أُغْمِىَ عليهم من فرط ما فيها من أحداث مأساوية ومشاعر عنيفة، وأن هذا العدد يزداد باطراد. فكان أن بحثتُ عن الرواية لأفهم سر هذه الزمبليطة حتى حصلت على نسخة منها، وشرعت أقرؤها. وكنت أسجل ما ألاحظه على الرواية أولا بأول. وإذا كنت قد وجهت انتقاداتى إلى بطلة الرواية فقد جريت فى ذلك على طريقة الظاهريين من أهل الفقه كابن حزم رضى الله عنه، إذ هى التى تسرد الوقائع، وتصف الأماكن والأشخاص والمشاعر، وتخبرنا أنها فعلت كذا وتركت كذا وشعرت بكذا وضحكت وبكت وخُطِبَتْ وتزوجت وطُلِّقَتْ وعشقت وصاعت وضاعت وتماشت وتلاشت. وبالمثل اتبعتُ سنة طه حسين عندما أشار إلى نفسه فى سيرته الذاتية فى كتاب "الأيام" بكلمة "صاحبنا".
وهذا أولا بعض ما وجدته على المشباك (الإنترنت) من الدعاية الصاخبة التى رافقت صدور الرواية، وكأنها فلم من أفلام الرعب التى ينيغى تحذير مرضى القلب من مشاهدتها، وكأن صاحبتها عبقرية نادرة لا يظهر هلالها إلا كل كم قرنا، ودفعتنى إلى البحث عنها وقراءتها لأرى مبعثها: "مساء أمس الثلاثاء تم حفل التوقيع الأول لرواية "امرأة خائفة" للكاتبة الصحفية سلوى علوان والذى حضره لفيف من كبار النقاد والأدباء والفنانين وجمهور غفير من محبى الثقافة والأدب فى مصر. وشهد الحفل مداولات نقدية جذابة حول مضمون رواية "امرأة خائفة"، واستمتع الحضور بنقاشات ثريّة أسهمت فى فتح آفاق الإبداع الثقافى، وهو ما أشار للإضافة التى صنعتها "الرواية" للمكتبة العربية، وبزوغ نجم "سلوى علوان" فى سماء الثقافة العربية كأديبة وروائية تستلهم إبداعها من واقع القضايا العربية وقدرتها على التعمق داخل النفس البشرية ووصف المشاعر الإنسانية بطريقة تستحق العرض بالسينما والمسرح والتليفزيون. كما تحول حفل التوقيع إلى احتفالية صاخبة بمناسبة فوز الكاتبة سلوى علوان فى مهرجان "الألف شاعر وأديب" كأفضل روائية عربية لعام 2014".
"ناقشت اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين مساء الثلاثاء رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان في حضور عدد من الإعلاميين والفنانين، بالإضافة إلى عدد من القراء، ومن أبرزهم فؤاد قنديل. وتأتي مناقشة الرواية متزامنة مع التصويت السنوي الذي يجريه موقع "جود ريدز" العالمي (مهرجان "الألف شاعر وأديب عربي") حاليا لتقييم الأعمال الأدبية لجميع كتاب العالم، والذي تتصدر فيه سلوى علوان قائمة التميز برواية "امرأة خائفة". وصدرت الرواية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة "حروف"). وتبدأ الرواية بإهداء هو في حد ذاته عمل فني يضغط على مشاعر القارئ ويلهب عقله مستعرضا كل آلام الواقع في جمل تلغرافية تحمل المتناقضات التي تجعل منها مبكية ومرثية علي شعب عظيم وقع تحت الذل والهوان والضعف. الرواية تعتمد علي اللغة الشاعرية التي تميل في بعض مقاطعها إلي الرومانسية، كما تعتمد الكاتبة علي استخدام الراوي المشارك في الأحداث، والصور المجازية التي تستخدمها الكاتبة والتي تصيغها بطريقتها الخاصة، وتثير لغة جديدة رغم أن ألفاظها وكلماتها من معجمنا المتداول غالبًا في الكتابة الرومانسية. كما تستخدم الكاتبة أساليب تحرك الذهن داخل هذا العالم الرومانسي بلغتها، وان كانت الرواية معبرة عن النسوية من خلال الطرح الذي يتحدث عن أنثي، كما أنها تعبر عن الخطوط الحمراء التي تحاط بها المرأة في عالمنا الشرقي. الوطن في الرواية هو المفاعل الموضوعي لهذه الأنثى، فكلاهما في خوف واضطهاد، وهذا جعل المؤلفة تسترسل في ذكر تفاصيل سياسية واجتماعية كثيرة، وكأنها تؤرخ لهذا العصر. لكنها تغلف هذا التأريخ التسجيلي بلغة رومانسية تلطف من وقع السرد الحياتي وتريح من الشعور بغصة ألم الواقع الذي تعيشه أنثي والوطن كلاهما. ومن المقرر أن تجري إذاعة مونت كارلو الفرنسية حوارًا إذاعيًّا مع الكاتبة الأسبوع القادم حول رواية "امرأة خائفة"، وتدير الحوار الإذاعية الكبيرة كابى لطيف. ويشار إلى أن الكاتبة سلوى علوان تم اختيارها لتكريمها في مهرجان "الألف شاعر وأديب عربي" الثاني بمصر والذي سيعقد في الإسماعيلية كروائية مصرية".
"بدأت رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان بتلقى عروض من شركات الإنتاج الفنى بمجرد انتهاء حفل التوقيع يوم 20 مايو الماضى. وذكرت بعض المصادر أن احد شروط الكاتبة سلوى علوان هو أن تقوم الفنانة يسرا بتجسيد دور ليلى عابد بطلة الرواية. ومن جهة اخرى تعيد "أخبار اليوم" طرح رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى للمرة الثانية بالأسواق، وتستمر حتى 26 مايو الجارى و ذلك نزولاً على رغبة القراء. و"امرأة خائفة" هى رواية صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وحصلت على أعلى تقييم عالمى بموقع جود ريدز بتصويت القراء كما حصلت الكاتبة سلوى علوان على أفضل روائية عربية لعام 2014 فى مهرجان "الألف شاعر وأديب عربى"...".
"وصلت حالات الإغماء جَرَّاءَ قراءة رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان إلى 12 حالة خلال 48 ساعة، وتم نقل مجدي السيد الراعي (52 سنة) إلى مستشفى العام بتاريخ 24 أبريل، يشكو هبوطًا في ضغط الدم، وظهرت عليه أعراض هبوط عام في الدورة الدموية، وأفاد بتعرضه لفقدان الوعي أثناء قراءة رواية "امرأة خائفة"، وتلقى العلاج وغادر المستشفى في حالة جيدة. أما جومانة رفيق خليل (ممرضة، 40 سنة، تعمل بالمستشفى القبطي) تعرضت لإغماء مفاجئ أثناء قراءة الرواية، وتولت زميلاتها إفاقتها، فيما دخل سامي إبراهيم سروجي (45 سنة، يعاني مرض السكري وجلطة دماغية سابقة) إلى المستشفى الإيطالى بتاريخ 24 أبريل بأعراض انخفاض في ضغط الدم أثناء قراءة الرواية، وتلقى العلاج، وحالته الصحية مستقرة. كما تعرض زياد على مرعي (مواطن، 50 سنة) لانخفاض في ضغط الدم أثناء قراءته رواية "امرأة خائفة"، ونُقِل إلى المستشفى العام بتاريخ 24 أبريل، وحالته مستقرة. تلقى العلاج وغادر المستشفى. أما حنان خالد سرحان (مواطنة، 44 سنة) دخلت مستشفى المبرة بنفس التاريخ بأعراض ضغط الدم بسبب قراءة الرواية. وحالتها الصحية مستقرة. وتلقت العلاج. بالإضافة إلى 7 حالات أخرى تم حصرها، ولم يتم التمكن من إجراء حوار معهم. ويُذْكَر أن جميع الحالات أوضحت أنها ستقوم باستكمال قراءة الرواية رغم ما تعرضت له. جاء ذلك وفقًا لحوار أجرته مراسلة قناة "السلام" مع قراء الرواية تحت عنوان "مراسلة قناة "السلام" في حوار مع قراء رواية: امرأة خائفة". القراء: رواية تأخذ العقل، وسنستكمل قراءتها مهما حدث".
"تميزت الكاتبة المصرية والتى تملك قدرات غير عادية فى وصف الحالة النفسية للمرأة ومعاناتها الخوف فى جميع مراحل حياتها بل وزادت عمقا فى تشريح تأثير الخوف على المجتمع وتداولت بعض صفحات التواصل الاجتماعى تعليقات تحذر مرضى القلب من قراءتها... انتشرت فى بعض صفحات التواصل الإجتماعى: "الفيس بوك" حملات تطالب وزارة الصحة بمراجعة رواية "امراة خائفة"، التى انتشرت بالأسواق فى الأيام الاخيرة فى منافذ توزيع الأخبار ولدى باعة الصحف، ودون كتابة تحذير رغم ما تسببه من حالات إغماء وهبوط مفاجىء فى ضغط الدم. وتدوالت تلك الصفحات تعليقات تحذر مرضى الضغط والقلب والسكر من قراءة رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان... تناولت الصفحات الألكترونية أن الرواية تجذب لقراءتها رغم ما تحدثه من تأثير على استقرار الدورة الدموية. لذا إذا كنت مريضًا بالضغط أو السكر أو القلب فاحذر من قراءة الرواية قبل أن تستشير الطبيب وتستعد بالأدوية اللازمة".
"روائية مصرية تعيد أمجاد نجيب محفوظ: سلوى علوان في دراستها الثانوية كانت تحلم أن تصبح كاتبة عالمية. ولكن عندما واجهت حقيقة حياة المرأة في مصر أدركت أن حلمها كان مجرد ضرب من الخيال فقط، ولكنها قررت أن تحوله إلى واقع. بدأت تستجمع خواطرها المتمردة وتدون كلماتها في شكل قصص صغيرة كخطوة أولى، وبعد تخرجها من الجامعة أصدرت مجموعتها: "ليلة زفاف زوجي"، والتي وصلت إلى أعلى معدل توزيع. ثم بدأت في الكتابة في العديد من الصحف العامة في جميع أنحاء مصر. وفي نهاية المطاف قررت أن تبدأ رحلتها الحقيقية ككاتبة. قررت أن الوقت قد حان للمضي قدما لتصبح جزءًا من الثقافة المصرية من خلال إصدار روايتها: "امرأة خائفة" والتي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة "حروف")، والتي أحدثت ضجة بين القراء. "امرأة خائفة" في الطريق لترجمتها إلى العديد من اللغات للاشتراك فى الجائزة العالمية للرواية العربية لتصبح فيلما مصريا دوليا جاهزا للاشتراك فى الأوسكار.
وحول ماتعرض له بعض القراء من حالات إغماء والذى نشرتة جريدة "فيتو" تبين أن حالات الإغماء حدثت للقراء الذين يعانون من أمراض الضغط والقلب لما تتميز بة الرواية من تعمق داخل النفس البشرية وتأثيرها على الحاله النفسية للقارىء حيث يجد نفسه بطلا للرواية فيتجاوب معها بمشاعره ويعيشها واقعًا حقيقيًا".
والآن نأخذ فى تسجيل ملاحظاتنا على الرواية، وأول ما نود تسجيله ما نقرؤه فى الفصل الأول من كلام كثير ككلام المراهقات المجنح المتميع الذى لا يثير العقل ولا القلب بقدر ما يسبب الملل ويُنْفِد الصبر لكثرة ما فيه من تكرار لا يقدم جديدا ولا يقول شيئا محددا، كما تشوبه المبالغات المقيتة والعبارات الإنشائية العامة. وهو عبارة عن خواطر تجرى فى عقل بطلة الرواية وقت جلوسها مع حبيبها. خواطر سيالة لا يضبطها ضابط ولا يربطها رابط: فخاطرة من الشرق، وخاطرة من الغرب. ويحس القارئ أن الكاتبة تسجل كل ما يخطر لقلمها دون تمييز أو تفكير. وفوق ذلك فأهم ما تقوله يتسم بالتسيب والتصنع، ويتناقض تناقضًا فِجًّا مع سلوكها فى دنيا الواقع. فمثلا هل يعقل أن تنشغل البطلة كل هذا الوقت عن حبيبها الذى تجلس معه على إحدى القهوشيات (الكافتيريات) وتؤكد أنه هو الوحيد الذى أعطى حياتها معنى وأنها كانت تتوق طوال حياتها لذلك اللقاء الذى يضمهما معا، وأنها كثيرا ما حلمت به فى المنام قبل أن تلقاه، هل يعقل أن تنشغل البطلة عن حبيبها هذا فتتركه وتستغرق فى خواطرها الاستطرادية التى لا تكاد تنتهى وتنعدم فيها الفائدة ولا تعرف التجانس؟
وهذا مثال على تلك الثرثرة الطنانة التى لا تغذى العقل ولا الفؤاد، وتظن البطلة مع ذلك، ويظن معها السطحيون والسذج والمتسيبون عاطفيا، أنها قد أتت بالذئب من ذيله. تقول البطلة فى أول صفحة بل منذ أول سطر فى الرواية واصفة لقاءها بحبيب القلب الذى تقول إنها طالما حلمت به فى المنام ولم تتصور يوما أن هذا الحلم سوف يصبح حقيقة: "جلسنا وبيننا طبق للزينة من الكريستال وُضِعَتْ به بضع ورقات ذابلة من الورد المجفف بلون قرمزى داكن، وحولنا انبعثت إضاءة خافتة لمصباح كلاسيكى وصوت هادئ لموسيقى زامفير. سألتُ: كيف تتحول الأحلام والأمنيات المستحيلة إلى صورة من بشر، صورة من لحم ودم، إلى شرايين تضخ النور الذى يبدد ظلام الحياة ويؤجج شوقها ويوقظ رغباتها؟ كيف أصبحتُ فجأة أمام الحلم الذى راودنى فى اليقظة والنوم، الحلم الذى طاردتُه بطول سنوات العمر؟ كيف تأتينى اليوم مثل ترانيم ليلة عيد القيامة أو كأذكار روحانية فى حضرة ليلة صوفية؟ كيف تحققت الرؤيا بلقائك، فأتيت؟ فى تلك اللحظة تذكرت عبارة كتبها نزار قبانى: "الحب جرثومة تدخل دورتنا الدموية فتجعلنا أجمل وأنضر"... ما كل هذا الشوق الذى تفجر داخلى إليك، وأنت كالمارد أتيت تستنهض روحى وتشعل ثورتى وتبدد حزنى وتجدد أملى فى الحياة؟ تهزنى نبضة تبدأ من القلب وتسير باتجاه المخ على عكس ما تعلمناه طوال عمر دراستنا من أن إشارات جميع أجهزتنا جميعها تبدأ من المخ؟ تمتد النبضة عبر الأوردة لتضخ رغبة ملحة فى خلاياى تبشر بصحوة فى هذا العصر البائس أخشى أن تكون فى واقعها صحوة موت. ووجدتنى فجأة فى حالة من الفرح الاستثنائى والمتعة الاستثنائية والعشق الاستثنائى، فى حالة متناقضة من الحكمة والجنون، من الألم والنشوة، من السعادة والشجن، حالة من الوعى واللاوعى، حالة سببها أنت. وإذا بالمارد الذى أتانى يتعاظم حجمه ووجوده، فيحيطنى أمانا، ويغمرنى أنسا، ويملؤنى نورا، وشعرت بأن كل الناس فيما عداك أشباح تسير فوق الأرض، خيالات بلا ملامح أو معالم أو وجوه، بينما النبض البشرى الوحيد الذى أشعر به هو نبضك أنت، أنت المارد فى الحب، المارد فى القسوة والإيلام. وسألت: كيف تجرأت أحلامى الصغرى على التمرد ضدى لتخرج منى، رغما عنى، لتعلن عن نفسها وتطالب بحقها فى الوجود، وبحقى فى الحياة؟ كيف تجرأت أحلامى على صمتى وخوفى؟ وكيف سمحت لها بهذا التمرد العفوى المحفوف بالمخاطر والغارق فى بحور الخوف؟ قبلك عشت مثل أرض شققها الجفاف فأصبحت بلا خير أو زرع أو أحلام. اليوم تحلق معى الأمنيات فى فضاء الكون وتفرد ذراعيها بالحب للحياة. تزرعنى أرضا خصبة، وتبدرنى مثل أحلام تناثرت فوق الكرة الأرضية، ثم تغرسنى فى سماء الدنيا كأبهى ألوان الطيف، وتنشدنى كأعذب الأغنيات، وما كنت قبلك إلا بضع أوراق من لحم، وأحبار من دم وُضِعَتْ فى شهادة ميلاد كوثيقة رسمية لوجودى وبطاقة تحقيق هوية".
والآن انظر إلى الصور والتعابير العقلية الباردة التى تصطنعها البطلة اصطناعا وتذكرنا بالعملة الورقية التى لا يحميها غطاء من الذهب فتتضخم فى الجيوب دون أن تكون قادرة على شراء شىء ذى قيمة. ومن هنا يمكنك، عزيزى القارئ، أن تفهم السر فى تلك المبالغات الثقيلة الخانقة. وانظر مرة أخرى تر بكل وضوح كيف تتناقض البطلة فى كلامها من جملة لأخرى، فتصف حبيبها بأنه ملأ حياتها نورا وأمانا لتستدير فى التو واللحظة لتقول عنه إنه مارد فى القسوة والإيلام، علاوة على أن هذا هو أول لقاء لها به، فمن أين أتتها قسوته وإيلامه؟ وبالمثل نراها تصف فرحها بأنه فرح استثنائى، ومتعتها بأنها متعة استثنائية، لتنقلب على عقبيها فى الحال قائلة إن حالتها حالة من الألم والنشوة، ومن السعادة والشجن، مع كلام ضخم فخم، لكن بلا رصيد من المشاعر الحقيقية، عن الأحلام التى تناثرت فوق الكرة الأرضية وألوان الطيف التى انغرست فى سماء الدنيا. أما تصويرها لنفسها عقب هذا الكلام بأنها امرأة يسكنها الخوف ويشلها الخوف ويقتلها الخوف فهو كلام فى الهجايص، إذ سوف تقول لنا بعظمة لسانها إنها كثيرا ما اشتركت فى المظاهرات وكسرت كلام أبيها ونفذت كل ما تريد رغم أنف الجميع. ودعك من حديثها بعد ذلك عن تمردها وجنونها وجنوحها، فهو يتناقض تناقضا أبلق مع دعواها التى أقامت عليها روايتها كلها بأنها "امرأة خائفة". ودعك كذلك من كلامها عن النبضة التى لا ندرى هل صدرت من القلب إلى المخ كما تقول أم هل صدرت من المخ إلى خلايا الجسم كما يفهم من كلامها عقب هذا، وهل الأوردة هى التى تحمل الدماء إلى الخلايا أم هل هى الشرايين، فمن الجلىّ أن البطلة تهرف بما لا تعرف. والواقع أن هذا الكلام أشبه ما يكون بكلام المراهقين والمراهقات حين يمسكون القلم ويريدون أن يدخلوا عالم الكتابة فيقولون كلاما طنانا طائشا منفلتا ظنا منهم أن الأدب هو هكذا: مبالغات مجنحة بلا ضابط، وصور مصطنعة باردة، ونهنهات رومانسية فارغة، وخيالات طائشة مهزوزة.
وبطلتنا لا تكف عن الثرثرة حول حرمانها من تحقيق أحلامها ولا عن الولولة بسبب فقدانها الحرية فى أن تحب وأن تلتقى بحبيبها كما تقول، فى الوقت الذى يجلس أمامها حبيبها وتطارحه الغرام الملتهب دون أن تخاف أو تحسب حسابا لأى أحد أو أى شىء، وأمامها على مائدة القَهْوَشِيّة (الكافتريا) زهرية مملوءة بأوراق الورد القرمزية، وفى جنبات المكان ترفرف موسيقى زامفير. بل كانت تجرى معه أحيانا فى الشارع محبورة غير ملقية بالا إلى الناس ولا أنه من الممكن أن يراها أحد من أهلها أو معارفها أو زوجته هو أو أولاده. فهل هذا هو العجز والحرمان من الحرية والحب الذى تملأ به الرواية ثرثرة وتفيهقا؟ ثم إنها، كما تصف نفسها بنفسها، مثقفة ثقافة عالية ومناضلة سياسية تقود المظاهرات وتدخل السجن دفاعا عن الحرية والكرامة البشرية، وتمارس الصحافة بكل ثقة واقتدار. وفوق ذلك ها هى ذى أمامنا تستمع إلى مقطوعة موسيقية أجنبية وتدرك بكل بساطة أنها موسيقى جورجى زامفير عازف الفلوت الرومانى. ويا ليت الأمر وقف عند الموسيقى الأجنبية فحسب، بل هناك أيضا الرقص الغربى الذى تصرح بأنها تريد أن تنهض من مجلسها وتأخذ حبيبها فى أحضانها ويذهبا فى رقصة هادئة من رقصاته، أو رقصة "سْلُو" حسب رطانتها. ليس هذا فحسب، إذ تخبرنا فى الفصل الرابع أنها هى التى بادرت بالاتصال بحبيبها والتقت به عدة مرات فى القهوشية المذكورة حيث موسيقى زامفير وطبق ورق الورد القرمزى. فهل يمكن أن يدخل عقل عاقل أن فتاة أو امرأة كهذه تفتقد الحرية فى أن تحب وتُحَبّ؟ بل هل يمكن أن يصدق أحد أن مثل تلك الحرية مفتقَدة فى مجتمعنا بعد كل الحريات التى حصلت عليها المرأة وكل التطورات التى اعترت المجتمع؟ وهل هناك من يجهل الحب أو الاستمتاع بالحب بعد كل تلك الأفلام والمسلسلات والروايات والمسرحيات التى تتهاطل علينا من المذياع والتلفاز، علاوة على اختلاط الشبان والشابات فى الشوارع وأماكن العمل والمدارس والجامعات؟ الحقيقة أن ما تقوله البطلة لا محل له من الإعراب ولا حتى من البناء، إن كان للبناء محل.
والطريف أن البطلة فجأة يتراءى لها، وهى جالسة فى القهوشية قبالة حبيبها، أن تتحدث عن جدتها فتقول دون سبب مفهوم إنها كانت طوال عمرها تعيش على الخوف، وإنها قد ورَّثت هذا الخوف لأمها، التى ورَّثته بدورها لها هى. عظيم! فما هو ذلك الخوف الذى ورثته الجدة لابنتها التى هى أم البطلة فورثته هذه للبطلة نفسها؟ المنتظر أن يكون الخوف الوراثى فى الأسرة خوفا خاصا بهذه الأسرة، لكننا نفاجأ بأنه الخوف الذى يخافه كل الناس، فكل الناس مثلا تخاف الموت، وكذلك ما بعد الموت إن كانوا ممن يؤمنون بالآخرة. وهذا أحد الخوفين اللذين تتحدث عنهما البطلة فى هذا السياق. وهو، كما يرى القارئ، لا علاقة له بالوراثة الأسرية التى تشير إليها. كذلك تتحدث بطلتنا عن بكاء الأطفال حين يولدون بوصفه ثانى الخوفين اللذين ورثتهما البطلة عن أمها، التى ورثتهما عن جدتها.
ومعروف أن بكاء الطفل لا علاقة له بالخوف من قريب أو من بعيد لأن الطفل لا يدرك ولا يعقل ولا يفهم شيئا حتى يقال إنه خائف أو غير خائف. أما قول ابن الرومى فى بيته التالى:
لِمَا تُؤْذِن الدنيا به من صُرُوفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يُولَدُ
فإنه محض كلام شعرى لا حقيقة له فى الواقع. وأيا ما يكن الأمر هنا فبكاء الولادة أمر عام يعرفه الأطفال جميعا ولا يقتصر على البطلة وأم البطلة وجدة البطلة حين كن أطفالا، فنحن كلنا نبكى ساعة الميلاد. وما دامت المسألة ثرثرة فى ثرثرة فلا مانع أن آخذ حقى منها فأقول إننى، لمعرفتى أن كل الأطفال يبكون ساعة يولدون، قد استغربت حين رأيت ابنى، وقت نزوله من بطن أمه فى مستشفى جون رادكليف بأكسفورد عام 1979م، لا يبكى، ورأيت الممرضة مشغولة بالأم التى كانت مرهقة تماما، وخشيتُ أن يكون الولد قد مات أو يعانى من مشاكل فى الجهاز التننفسى يمكن أن تقضى عليه، فلفتُّ نظر الممرضة إلى الأمر، فما كان منها إلا أن أمسكت الولد النازل لتوه من بطن أمه من رجليه، والدم يغطيه، جاعلة رأسه إلى الأسفل وهى تناشدنى ألا أقلق، ثم خبطته على ظهره خبطة خفيفة، فاستهل صارخا. وعلاء الدين ولد لا بنت، ولا علاقة له بأسرة البطلة، ولم يرث شيئا من مخاوف أمها التى ورثتها من قبل عن جدتها. فما قول بطلة روايتنا فى هذه المسألة؟
ثم إن المسألة لا تنتهى هنا، وهو ليس بالقليل، إذ إن البطلة المغرمة بإفساد فرحة العمر التى كانت تنتظرها منذ سنوات وسنوات بكل ما لديها من شوق وتلهف، وهى فرحة اللقاء بحبيبها الذى كانت تراه فى الأحلام قبل أن تلقاه فى الواقع، تستمر فى ترك حبيبها الجالس أمامها وتروح فى سلسة طويلة متتابعة من الذكريات تحدث فيها أمها وتحدثها أمها وتحكى لها عن الجلّة التى كانت تلمها الأم من الشوارع وهى حافية رغم أنها بنت عُمَدٍ كما تقول، وغير ذلك من الموضوعات التى لا تكاد تنتهى. كل ذلك، والحبيب جالس أمامها لا ندرى ماذا يفعل. وإن الإنسان ليستاءل محقا: أحُبِكَتْ فلم يَحْلُ للبطلة استرجاع ذكريات الجِلّة إلا الآن وفى حضرة الحبيب؟
ومن بين ذكريات البطلة التى تترك فيها حبيبها جالسا أمامها كخيال المقثأة لا تبالى به رغم ما تزعمه من أنها كانت تنتظر لقاءه منذ أعوام وأعوام بكل الشوق واللهفة التى فى قلبها بسبب الحرمان العاطفى الطويل: ذكرى مقتل خالها فى عرس أحد شبان الأسرة جراء طلق نارى طائش مما يُضْرَب فى الأفراح الريفية. وفى هذه الذكرى تطالعنا شخصية للبطلة لا يمكن أن تقنع أحدا، إذ إن بنت عشر السنوات تصف الحقول والطرق والبشر وتحلل الأحداث وتفلسفها كما يفعل المفكرون الكبار مرددةً مفاهيم لا يمكن أبدا أن تخطر لبنت صغيرة مثلها. إن البطلة ساردة الرواية لا تفرق بينها وقد نضجت وبينها هى نفسها حين كانت طفلة صغيرة لا يمكنها التفكير بتلك الطريقة. وهذا عيب كبير فى الرواية.
كذلك نسيت البطلة ما قالته قبل سطور قليلة من أن إحدى النسوة، عقب مقتل الخال، قد جمعت أطفال الأسرة الصغار، ومعهم بطلتنا، فى غرفة أحكمت إغلاقها عليهم من الخارج بحيث لا يستطيع أى منهم أن يغادرها، فتقول عقب هذا إنها ذهبت إلى بيت خالها ورأت النسوة المتشحات بالسواد متجمهرات هناك، فكان عليها أن تخوض هذه الكتل البشرية إلى قلب الدار. أما كيف خرجت من الغرفة المغلقة عليها وعلى أطفال الأسرة من الخارج فالله أعلم. وأما كيف لم يثر ظهورها وسط النسوة اللاتى حبستها إحداهن فى الغرفة المذكورة دهشتهن فالله أيضا أعلم.
ثم عندنا جدتها، التى تقول هى نفسها عنها إن أولادها لم يكونوا يشترون لها أو لابنتها (أم البطلة) جلبابا. هذه الجدة تفاجئنا بعد موت ابنها، خال البطلة، بارتدائها عباءة وطرحة محترمتين، ويعالجها أولادها القساة القلب الذين بخلوا عليها بجلباب، مجرد جلباب، عند أكابر الأطباء. ليس ذلك فقط، بل إن تلك الجدة التى كان أولادها لا يتورعون عن ضربها، كما تخبرنا البطلة، ولا يحترمونها ولا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة أمامهم أو تقول لهم: ثلث الثلاثة كم؟ هذه الجدة تجمع أولادها هؤلاء قبيل موتها وتأمرهم بأن يزوجوا الحفيدة الفلانية للحفيد الفلانى، وتصدع الأسرة بالأمر وتعمل على تنفيذه، ويتقدم لخطبة بطلتنا ابن خالها الذى عينته جدتها لها. ثم إن البطلة، كما سنعرف لاحقا، سوف ترفض ابن خالها لأنه لم يوافق على أن تكمل تعليمها بعد الزواج كما أصرت، ويكون لها ما أرادت. ومع هذا لن تسكت ندابتنا، بل ستظل فى عويل ولطم وشكوى من ظلم الرجال للنساء، وإجحاف الرجال بحقوق النساء، وعجز النساء أمام الرجال الظلمة، وخوف النساء الملازم لهن من الرجال المستبدين قساة القلوب.
وهنا تحضرنى القصة التالية الطريقة، فقد كان عندنا فى قريبتنا أخوان مختلفا الطباع، وكانا على شىء من التعليم، وكان موظفين بسيطين فى المركز، ولهما منزلٌ شركٌ ورثاه عن أبيهما: فأما الأصغر فكان عفيا قويا شرسا، وأما الأكبر فلم يكن له فى المعارك والخناقات. وذات مغربية استفرد الأصغر بالأكبر داخل الدار، واشتبك معه فلَبَّبَه وبَرَك فوقه، وهات يا ضرب من النوع الذى يحبه قلبك، وهو يصرخ وينادى رغم ذلك: "يا خلق هوه! الحقونى يا ناس! المجرم ابن الكلب يضربنى ويريد أن يقتلنى!". ويسرع رجال الحى محاولين فتح الباب لإنقاذ الشرس القبيح وتخليصه من براثن الطيب الغلبان، فلا يستطيعون فتحه لأن الشيطان كان قد أحكم غلقه حتى لا يمكن أحدا الدخولُ إليهما ومعرفة الظالم من المظلوم. ولما قابلته ثانى يوم، وكان لى عليه دالَّة، أخذ يروى لى القصة وهو يضحك ويصف لى فى حبور إبليسى كيف أشبع أخاه لطما ولكما ورفسا وعضا وعلمه أصول الأدب حتى لا يفكر أن يطالبه بحقه فى البيت بعد ذلك أبدا. بطلتنا، أقولها وأنا لا أتمالك من الضحك، تذكِّرنى بهذا الأخ الشرس!
وفى فصل الرواية الأول، الذى ما زلنا فيه، تقول البطلة إنها، لكونها أنثى، كان كل شىء فيها يشكل عيبا عند أهلها والناس من حولها بمعنى أنها ينبغى ألا يراها أحد أو ترى أحدا: فشكلها عيب، ورؤيتها عيب...إلخ، وكأنها لم تكن تخرج من بيتهم أو تذهب إلى المدرسة فيراها الناس فى الشوارع ذاهبة آيبة، ويراها المدرسون فى الفصل وفناء المدرسة، وكأن أمها (وأمها طبعا أنثى) لم تشنف آذاننا بأنها كانت تذهب دائما للغيط وتجمع روث البهائم من الطرقات لتصنع منها أقراص الجلة وهى حافية ملهلهة الثياب (رغم أنها سليلة بيت العُمَد)، وهو ما يعنى أن الناس كانت تراها ولا تشكل أى عيب!
وأخيرا، وبعد كل ذلك السرحان والتوهان، تتذكر البطلة بعد عشرين صفحة كاملة أن هناك حبيبا لها يجلس قبالتها لا تبالى به أو تسأل عن صحته، فتُسْمِعُنا صوته وهو يقول لها، لا "وَحِّدُوووه!" كما ينبغى أن تكون حبكة القافية، بل "إيه؟ فيه إيه؟ رحتى فين؟". إن هذا كله يناقض ما نعرفه عن الطبيعة البشرية، فليس من المعقول أن تترك فتاة أو امرأة حبيبها الجالس أمامها فى هذا الجو الرومانسى، والذى ضاع عمرها كله فى انتظار تشريفه، وتروح فى ذكريات الجلة والحفاء وتنساه تماما. ولنفترض أن فتاة فى مثل هذا الموقف قد سرحت رغم ذلك كله فلا يمكن أن يكون سرحانها فى الجلة وأقراصها، فضلا عن أن السرحان لا يمكن أن يستغرق عشرين صفحة بالتمام والكمال.
لكن بطلة الرواية مغرمة بالسرحان لأتفه سبب، ومن ثم فما إن عبَّر حبيبها عن دهشته من أمر ما حتى ألفيناها تتركه وتسرح مرة أخرى فى أمر مشابه، وكأنها "تتسلبط". إنها مدمنة سرحان. وكانت قبل قليل قد قالت إنها حريصة على الحديث مع حبيبها فى أى موضوع خشية إصابته بالملل جراء صمتها. لكن من الواضح أن كلام الليل عندها المدهون بالزبد سرعان ما يسيح دون انتظار الصباح، بل فى التو واللحظة، إذ ها هى ذى تترك حبيبها جالسا أمامها كالبيت الوَقْف وتذهب إلى حادثة جرت فى 1980م بالقاهرة تقول عنها إنها فى ذلك اليوم (أى يوم يا ترى؟ لا يهم، إنه يوم والسلام من أيام سنة 1980م الثلاثمائة والثلاثة والستين. ونترك لك، أيها القارئ، حرية الاختيار. والمهم أنه يقع فى عام 1980م، وهذا ليس بالشىء القليل. واحمد ربك أنها حددت المكان بمدينة القاهرة، ولم تقل إن تلك الحادثة قد وقعت فى جمهورية مصر العربية كلها) تقول إنها فى ذلك اليوم كانت تنظر من خلف النافذة الخشبية المغلقة فرأت عشرات من جنود الأمن المركزى ينتشرون فى الشارع يحرسون المسجد والكنيسة الموجودين هناك. تقصد تداعيات ما وقع من أحداث فى الزاوية الحمراء. والاكتفاء بأن الحادثة التى تشير إليها قد وقعت فى عام 1981م هو لون من التهافت الفنى لأن مثل هذه الأحداث لا يصح أن يقال إنها وقعت فى العام الفلانى. هذا فى الواقع تسيب وتفكك لا يقع فيه إلا كاتب متهافت الموهبة. دعك من القول بأنها نجيب محفوظ آخر. ومع هذا فالحمد لله أنها لم تقل إن تلك الواقعة قد حدثت فى القرن العشرين!
ثم نرى البطلة المحروسة تذكر اصطحاب جدتها (أم أبيها) لها ذات يوم إلى الكنيسة التى فى حيهم. وكانت المحروسة فى العاشرة من عمرها، ولم تكن قد دخلت كنيسة من قبل. ومع هذا نراها تتعرف على تمثال العذراء على الفور، مع أن هذا غير ممكن من طفلة فى مثل سنها لا تعرف شيئا عن الكنيسة ولا عن النصرانية. ثم تقول إنها رأت فى ناووس زجاجى تمثالا لامرأة غاية فى الجمال والرقة والحشمة لا تعرف من هى، لتنسى هذا بعد عدة جمل وتقول إنها كانت تدرك آنذاك أن هذا التمثال هو للقديسة المذكورة. كيف تقول إنها لم تكن تعرف لمن التمثال، ثم تقول بعد عدة جمل إنها كانت تدرك لمن هو؟ واضح مدى التفكك الذى يسم بل يصم الرواية حتى فى هذه التفاصيل التافهة، وهو ما يومئ إلى أن بطلتنا ضحلة الموهبة، ويومئ أيضا أن الدعاوى السخيفة على قفا من يشيل. ألم يقل القائلون إنها نجيب محفوظ جديد؟
كذلك نراها تَسْرُد ما وقع من جدتها المذكورة فى تلك المناسبة من استشفاعها عند الله بالعذراء والقديسة تيريزة سَرْدَ المسرور الراضى لأن هذا دليل على رسوخ الوحدة الوطنية فى مصر، وكأن الوحدة الوطنية لا تقوم إلا بنسيان المسلمين أصول دينهم وأسسه ومجاملة إخوانهم فى الوطن بالتعبد بما لا يقبله دينهم على أى نحو من الأنحاء. إن الإسلام لا يعرف توسيط النبى محمد ذاته عند الصلاة والدعاء، فكيف يقبل توسيط تيريزة، والدين الذى تدين به تيريزة مرفوض فى الإسلام؟ إننا نحترم اختيارات الآخرين لما يعتقدونه وما يتعبدون به، لكن ليس معنى هذا أن نعتقد ما يعتقدون أو نردد ما يرددونه فى عباداتهم. هذه نقرة، وتلك نقرة. قد تكون جدة البطلة جاهلة لا تفهم، ولكن ما عذر البطلة، وهى المثقفة التى تعرف موسيقى زامفير، وكذلك الرقص "السّلُو"؟
لقد أنكرت البطلة (فى دخيلة نفسها) آنذاك على جدتها ما صنعت، فما الذى غيرها وأراها الأمور الآن بعين أخرى؟ ثم إذا كانت ترفض وقتئذ هذا الذى صنعته جدتها فلماذا لم تصارحها بهذا الرفض؟ بل لماذا لم تثر هذا الموضوع فى البيت أمام أعضاء الأسرة كما يتوقع فى مثل تلك الحالة من طفلة فى سنها لا تعرف اعتبارات المجاملة؟ بل لماذا لم تخبرها الجدة قبل الخروج من البيت بطبيعة المشوار التى تنوى أن تصطحبها فيه على عادة الناس فى مثل تلك الظروف، على الأقل: ردا على فضول الطفلة الصغيرة التى تحب أن تعرف إلى أين تأخذها جدتها؟ وقبل ذلك كله لم يا ترى ذهبت الجدة أصلا إلى الكنيسة للتشفع بقديسيها؟ لم تذكر الرواية أى سبب لذلك. ولا أظن إلا أن الرواية اصطنعت تلك الواقعة اصطناعا لتفهمنا أن الوحدة الوطنية تقتضى هذا رغم أن الوحدة الوطنية الحقيقية إنما تقوم على تفهم طبيعة الحياة وأنها قائمة على الاختلاف فى كل شىء بما فيها الأديان والمذاهب مثلما شرح لنا القرآن الكريم، وعلى أن لكل إنسان الحق فى أن يؤمن بما يشاء ويكفر بما يشاء مثلما شرح لنا أيضا القرآن الكريم، وأن إيمان المسلم بأن دينه هو وحده الدين الحق شىء، والإيمان بنفس القوة والإخلاص بأن اختيار المخالفين لنا لدينهم ومذهبهم هو حق من حقوقهم التى لا يجوز الجور عليها أو انتقاصها كما يفهمنا ديننا كذلك شىء آخر لا يتعارض معه بل ينبغى أن يتعايش الأمران فى عقل المسلم وقلبه فى تفاهم وسلام.
ولا أظنك، عزيزى القارئ، قد نسيت زعم البطلة أنها لم تكن تنكشف على أحد أو يراها أحد. فها هى ذى قد لحست كلامها كله إذ تحدثت عن خروجها مع جدتها (وأين؟ إلى الكنيسة) دون أن تبالى بأن يراها هى وجدتها أحد لا من أمة محمد بل ولا من أمة غير محمد. فماذا ينبغى أن نقول؟ ورغم هذا تذكر بعد قليل أنها قد عوقبت هى وأختها عقابا شديدا من أبيها لأنهما ركبتا الأرجوحة التى كانت منصوبة بجوار بيتهم. لماذا؟ لأن الأنثى لا يصح أن تتأرجح. وكأن بنات مصر فى شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها لا يركبن الأراجيح والأحصنة والصناديق وكل ما يخطر على البال من الألعاب المعروفة فى الموالد والأعياد. وإلا فإلى أى البلاد تنتمى البنات والفتيات اللاتى يركبن الأراجيح؟ ثم من أين يا ترى تأتى الفتيات والنساء اللاتى يذهبن إلى المدارس والجامعات متعلمات ومعلِّمات أو يقصدون الأسواق شاريات بائعات، وينكشفن بطبيعة الحال على الرجال فى ذهابهن وإيابهن ويرى الرجال بعيونهم التى تستحق الخزق وجوههن وقوامهن وملابسهن ويسمعون أصواتهن؟ أهن مستوردات من أوربا؟ البطلة تتكلم فى مثل هذه الموضوعات بكل خفة واستخفاف، وكأنها تخاطب قومًا بُلْهًا لا عقل عندهم ولا فهم ولا تمييز.
وفى هذا الفصل أيضا تنتهز البطلة كل فرصة لتنخرط فى فاصل من الأغانى الشعبية التى من الواضح أنها تحفظها جيدا، فتوردها بتمامها أغنية وراء أغنية مثلما فعلت فى الفصل السابق بداعٍ حينا، وبدون داعٍ سوى الاستعراض فى كثير من الأحيان. ومثل ذلك غرامها بترديد الأمثال الشعبية سواء كانت هناك حاجة لهذا أو لا. ولعلها تظن أن اللون المحلى، الذى كان يوما ما هوسا لدى القصاصين، يقتضى ذلك. وهناك أيضا الاستطرادات والدخول من حكاية إلى حكاية لأوهى سبب، وإن كان من الجلى أن هذا يشبع لدى البطلة الرغبة فى الحكى والثرثرة.
ثم تختم البطلة فصلها الثانى، وهو فصل مفعم بالثرثرة كسابقه، بموضوعها الذى تدمنه، ألا وهو التباكى على أنها لا تستطيع أن تحب أو تعبر عن حبها لمن تحب، رغم أنها تمارس الحب أمامنا بكل حرية وأريحية وأستاذية، وعلى أنغام فلوت جورجى زامفير، وفى ضوء الشموع، ويمسك الحبيب بيديها فى حنان، ويقبلها قبلة فوق الجبين، ومعروف أن الذى فوق الجبين لا بد أن تشوفه العين، ولا بد أن تذوقه الشفاه يوما، فالمسافة بين الجبين والشفاه لا تزيد على بضعة سنتيمترات يمكن أن تتلاشى تماما لو انزلقت شفاه المقبِّل سهوا أو خطأً أو لسبب آخر غير السهو والخطإ، وما أكثر تلك الأسباب! ليس ذلك فحسب، بل إن البطلة تريد فوق البيعة أن تنهض فتراقص حبيب القلب رقصة "سْلُو"؟ ثم إن هذا ليس هو اللقاء الوحيد بين العاشقين بل سبقته لقاءات وحوارات وغراميات كثيرة أمسك فيها الحبيب يديها، واستعرض مهاراته الغرامية وعدَّد لها طوائف النساء اللاتى وقعن فى دباديبه، ونظر بهيام وغرام وانتقام فى عينيها، وأسمعها كثيرا من الكلام التافه الذى تعشقها أمثالها من المتحذلقات الفارغات العقل والقلب رغم ظنها أنها مثقفة ومستنيرة وتبغض البطرياركية الاستبدادية وتريد الانعتاق والانطلاق وتعمل على تحقيق الذات.
إن البطلة، بسلوكها هذا وشكواها الكاذبة التى لا تنتهى، لتذكرنى بالشحاتين المحترفين الذين يرفعون عقائرهم (أقصد "حناجرهم"، وإن كانت هذه غير تلك، ولكنْ هكذا صار الأمر) دائما أبدا بشكوى الفقر والمرض رغم كل ما ينهال عليهم من أهل الخير السذج من النقود والطعام والملابس، ومع هذا نراهم كل مرة بنفس الملابس القديمة الوسخة ونفس الشكوى من الفقر والمرض. والغريب أنهم لا يغيرون المنطقة التى يشحتون فيها، على الأقل: كيلا ينكشفوا. ولكنهم قوم بهت لا يخجلون. وأخيرا أيضا تنتهى بطلتنا بالعودة من ذكرياتها الطويلة المنثالة إلى حيث تجلس ويجلس أمامها حبيب قلبها، الذى يظل يناديها، كما تقول هى، لينبهها إلى وجوده فلا يفلح أبدا إلى أن ينتهى بنزين ذكرياتها فتتوقف سيارتها رغما عن أنفها لا برضاها ولا بلياقة منها: لا اللياقة الفنية التى ينبغى أن تراعيها فى بناء روايتها ولا اللياقة السلوكية التى ينبغى أن تراعيها فى التصرف تجاه حبيبها.
وننتقل إلى الفصل الثالث ظانين أن البطلة قد شبعت انصرافا عن حبيب الروح الذى كانت تنتظره طوال عمرها "على أحر من الجمر" كما تقول العبارة التقليدية، وسوف تقبل عليه انتهازا لفرصة اللقاء السعيد، لكننا نفاجأ بها تتحول إلى موضوع آخر ضربت فيه صفحا عن حبيبها تماما حتى لم نعد نعرف ألا يزال جالسا معها فى القهوشية يحاول أن ينبهها لوجوده مرارا دون أن تلقى إليه بالا من فرط استغراقها فى خواطرها وذكرياتها وتطلعاتها ومخاوفها. وهذا الموضوع الجديد هو رغبتها فى الذهاب إلى جنوب لبنان مع الصحفيين من زملائها لتكون على مقربة من فلسطين حيث كان الإسرائيليون ماضين فى قتل الرجال والشبان والأمهات والأطفال وهدم البيوت على رؤوس أصحابها دون أن يعبأوا بالمظاهرات التى اجتاحت العالم كله، تلك الرغبة التى تصطدم بمعارضة أبيها الرافض لسفر امرأة مطلقة مثلها كان ينبغى أن تبقى فى البيت إلى أن تتزوج مرة أخرى قطعا للألسنة التى لا ترحم المطلقات. وهذا هو بيت القصيد الذى اصطنعت البطلة تلك القصة كى تصل إليه وتسمعنا مندبة عن المطلقات.
ويهمنى هنا أن أتريث قليلا أمام اشتغالها صحفية أولا، ورضا أبيها باشتغالها تلك الشغلة ثانيا. فأما الأولى فقد تركنا البطلة فى الفصل الأول وقد قرر الأب والأم أن تتزوج من أحد أقربائها وتترك التعليم، الذى سيفسدها ويعلمها الحب والفجور. ترى كيف وافق الوالد المستبد المتخلف الرجعى صاحب الدماغ الحجرية والقلب الصوانى الذى لا يتفاهم ولا يرى للفتاة ولا للمرأة حقا فى أى شىء على أن تشئتغل ابنته شغلة تقتضيها الخروج معظم الوقت وحدها من البيت لا يدرى أثناءها ماذا تفعل ولا مع أى شخص تتواصل ولا أين تذهب؟ وأين الخوف الذى وصفت به البطلة نفسها وجميع نساء أسرتها، وها هى ذى تعترض على قرار أبيها بعدم السفر غير خائفة منه: لا من الأب ولا من السفر؟ فكيف تقول عن نفسها إنها "امرأة خائفة" بل تجعل من تلك العبارة عنوانا لروايتها؟ ثم ها هى ذى أمها أيضا تقف إلى جوارها فى موضوع السفر وتعارض زوجها دون أى خوف منه، فيسلم الأب بما تقول مذكرا إيانا بالرجل ذى العينين المتخاصمتين فى فلم "ابن حميدو"، الذى لم تكن كلمته تنزل الأرض أبدا، حتى إذا أتأرته زوجته النظر بعينيها الناريتين وشمرت عن زنديها السمينين وقالت له بصوتها الملعلع: "حنفى؟" انهار حنفى فى الحال ولعق تهديداته المقعقعة وقال وقد كسر رأسه ووضع عينيه فى الأرض باستخذاء تام: "خلاص! هذه المرة تنزل كلمتى الأرض!". ومن الغريب العجيب أن البطلة تصف الأب فى الفصل التاسع بأنه "يخفى تحت صرامته حنانا كثيرا وقلبا ضعيفا أخفاهما خلف قسوة الخوف علينا، على بناته وسمعته وشرف تقاليده الموروثة". فأين الكلام المجعلص عن قسوة الأب وديكتاتوريته الوحشية التى لا تعرف الهوادة؟
ألم تصدعنا البطلة، عفا الله عنها، بالحديث الممل المزعج عن ظلم النساء واضطهادهن وحرمانهن من كل حقوقهن فى مجتمعنا الذكورى اللعين، وبالذات فى أسرتها التى تتميز نساؤها وبناتها بأنهن مصابات بخوف مزمن حتى ليخفن من خيالهن ويصبن إذا لمحن هذا الخيال بالإغماء مثلما غُشِىَ على قراء الرواية نظرا لما فيها من قوة العبقرية وبلاغة السرد والتصوير والمآسى الفاجعة، وهو ما يذكرنا برواية "آلام فرتر"، التى شاع انتحار كثير من قرائها لدن صدروها تقليدا لانتحار بطلها؟ ولم لا؟ أليست عبقرية البطلة من نفس عيار العبقرية التى كان عليها جوته؟ أليست البطلة هى "نجيبة محفوظة" العصر والأوان كرما من الله ونعمة حتى لا نعيش يوما بدون أن يكون بيننا العبقرى الألمعى عمنا الكبير نجيب محفوظ ولو فى طبعة أنثوية تصيب الناس بما لم تستطع رواياته أن تصيبهم به من الإغماء بحيث يشح البصل (لزوم تفويق الناس!) من الأسواق، فيرتفع سعره، ويجنى محتكروه الأرباح الفلكية من ورائه؟
لقد انتشر الصحفيون والمذيعون والمراسلون التلفازيون فى كل مكان من أرض مصر المحروسة، ورصدوا حالات الإغماء، فتبين لهم أن نصف المصريين قد أغمى عليه، وأن النصف الآخر فى طريقه إلى الإغماء: واحد واحد يا زباين! والظاهرة الجديرة بالتسجيل هى أن كل من أُغْمِىَ عليه ما إن شمموه بَصَلَة ونهض من غفوته حتى أقسم بالطلاق والعتاق إنه لن يتوقف عن إكمال قراءة الرواية حتى لو راح فطيسا بسببها. وهى ظاهرة عجيبة فعلا لم يسجلها التاريخ الأدبى فى أى بلد من قبل، ولا أحسبها يمكن أن تتكرر من بعد.
ولقد سرحت بطلة روايتنا عن حبيبها هذه المرة أيضا فصلا كاملا بحذافيره كلها وحَوْبَرِه وزَوْبَرِه لم يأت له ذكر خلاله بأى حال من الأحوال ولو من بُعْد سبعين خريفا. والواقع أن فضولى يكاد يقضى علىَّ حتى أعرف ماذا تم بين الحبيبين فى هذه الجلسة الرومانسية التى كانت تصدح أثناءها موسيقى الفلوتست الرومانى جورجى زامفير، ويعبق فى جنباتها عبير أوراق الورد القرمزية. ونصل إلى الفصل الرابع لنفاجأ فيه بأن البطلة قد تمردت على ما كان يريده لها أهلها فرفضت الزواج من ابن خالها، وتزوجت من رجل آخر وافق على أن تكمل تعليمها، ولنفاجأ مرة أخرى بأنها طلبت الطلاق منه ونجحت فى الحصول عليه رغم أنف أهلها. كل ذلك، وهى ماضية طوال الوقت فى الشكوى والنواح من أنها لا تمارس حريتها. كما نفاجأ أيضا أنها، بعد أن أكملت تعليمها وتوظفت (وهو ما يعنى مرور نحو عشرين عاما منذ كانت فى الثانية عشرة من عمرها حين أرادوا تزويجها إلى أن صارت امرأة ثلاثينية كما تقول عن نفسها عندما قابلت حبيبها)، نفاجأ بأنها لم تتأقلم مع زوجها الذى لم تتزوجه عن حب، وكانت لهذا السبب تشعر، كلما مارس معها حقه الطبيعى كزوج، أنه ينتهك جسدها، فسقطت مريضة لا يعرف الأطباء علة مرضها ولا كيفية الشفاء منه، ودار بها الأهل على الدجالين والمشعوذين والمتاجرين يالقرآن وقارئى الفنجان وغيرهم لعلهم يستطيعون لها علاجا، لكن دون جدوى، ونفاجأ كذلك بأنها تركت أهلها يصنعون بها كل ذلك دون أية مقاومة. وهذا كله غريب جد غريب. ترى أين ذهب تمردها على أوضاع المجتمع المتخلف المتوحش، وقدرتها على فرض إرادتها دون مبالاة بأحد من أهلها أو من غير أهلها؟
لقد رأينا أنها كانت تنفذ ما تريد دائما دون أن يستطيع أهلها معها شيئا، فرفضت الزواج بابن خالها، واقترنت بالرجل الذى أرادت، وأكملت تعليمها، وتوظفت، ثم حصلت على الطلاق من زوجها، الذى لم تفكر مجرد تفكير فى أن ترينا ولو عيبا واحدا من عيوبه التى دفعتها إلى النفور منه، قاصرة كلامها على أنها لم تكن تحبه، رغم ما أكدته من أن كثيرا من النساء يسعدن بزواجهن غير القائم على الحب. والسؤال الآن هو: ترى أين كان هذا النفور من الزوج طوال كل هاتيك الأعوام؟ وكيف صبرت عليه؟ ثم كيف، وهى العنيدة المتمردة التى لا تعرف التراجع أمام أعتى العقبات، تترك نفسها لأهلها يصنعون بها ما يشاؤون ويجرونها جرا للأفاقين المشعبذين دون أن تفتح فمها بكلمة اعتراض؟ أما تفسيرى لهذا فهو أن البطلة تريد أن ترسل رسالة إلى من يهمهم سماع تلك الأمور، وأن المرأة فى المجتمعات المسلمة البطرياركية العفنة المتخلفة الوحشية تعانى الأمرين وتعيش فى مناخ خانق لا يليق بالبشر. ولا أدرى لماذا سكتت بطلتنا عن فتح موضع الختان، وهو من مكملات المشهد حتى تحلو القعدة وترتفع أسهمها عند مانحى صكوك التحضر والتنوير؟ لقد فاتت تلك المسألة بطلتنا هذه المرة. ولكن لا عليها، فالجائيات أكثر من الرائحات على رأى الكابتن محمد لطيف!
هذا، وما زلنا فى الفصل الرابع، وما زالت البطلة ماضية فى ثرثرتها والانصراف عن حبيب القلب الذى ظلت تنتظره الأعوام الطوال حتى شرَّف سيادته فانصرفت عنه مع ذكرياتها وخواطرها وسرحاناتها انصرافا غير حميد، انصرافا كله ثرثرة وقفز من موضوع لموضوع، وظلت هكذا طوال سبع صفحات كاملات لا تأتى لسيرته أبدا، ثم بدا لها أن تلتفت إليه بعض الالتفات فخصصت له ثلاث فقرات أخذت تتساءل أثناءها، فيما بينها وبين نفسها، عن عدد النساء اللاتى كانت له بهن علاقة قبل أن تعرفه، وكم مرة قبَّل تلك، وكم مرة نام مع هذه، وكم واحدة خدعها، وكم واحدة خدعته... إلخ، لتتركه بعد ثلاث فقرات إلى الحديث عن بيروت والحرب هناك. سمك، لبن، تمر هندى!
ويلفت الانتباه أنها، فى آخر الفقرات الثلاث وقبل أن تترك حبيبها مرة أخرى إلى ذكرياتها وخواطرها، قد تحدثت عن اعترافاته لها بما صنعه مع من عشقهن قبلها من النساء قائلة إنها أخذت هذه الاعترافات على محمل الرغبة لديه فى التطهر من الآثام والتكفير عنها، ثم عقبت قائلة بنص عبارتها: "قال الرب: تعالَوْا إلىَّ يا جميع المتعَبين، وأنا أريحكم"، وهأنذا يا ربى متعبة وتائهة، فلتكن مشيئتك". وهكذا تكون الوحدة الوطنية، وإلا فلا. أفلا يقول النصارى إن المسيح هو الرب؟ فيجب عليها إذن هى المسلمة أن تقول عما هو منسوب فى الأناجيل إلى السيد المسيح عليه السلام: "قال الرب". أليس الاعتراف أمام القسيس عند النصارى فرصة للتطهر من الآثام ونيل الغفران؟ إذن فليكن مصارحة الحبيب لها بكل ما صنعه مع طوائف النساء اللاتى عرفهن قبلها فرصة لتطهره واغتساله من الآثام. ألا يقول النصارى فى صلواتهم: "فلتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض"؟ فينبغى أن تقول هى أيضا: "لتكن مشيئتك". وهذا يذكرنا بالممثلة صاحبة القول المشهور إنها تتعلم صحيح الدين من البابا شنودة، لأنه بابا النصارى والمسلمين جميعا. ومن نفس الإناء أيضا نضحت كلمات المرأة اللبنانية المسلمة التى ذكرت البطلة أنها، حين ذهبت إلى الكنيسة ووقفت أمام تمثال مريم عليها السلام، قد ابتهلت إليها قائلة: "أخذوا ابنك وصلبوه..." مما يناقض قوله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبِّه لهم". وقد ذكَّرَتْ هذه الحادثة الأخيرة بطلتنا بما صنعته جدتها منذ سنين حين أخذتها إلى الكنيسة وناجت العذراء واستشفعت بالقديسة تيريزا. ترى أهذه رسالة أخرى تبعث بها بطلة الرواية لمن يهمهم الأمر؟
والعجيب، وكثير مما فى الرواية عجيب لا يدخل العقل ولا يحترم المنطق، أن بطلتنا التى لا تكف عن التبرم والتذمر من الظلم الواقع على أدمغة النساء من الرجال المستبدين الغاشمين عديمى الرحمة، أن بطلتنا المغوارة المتمردة على المجتمع المتخلف البطرياركى قامع النساء وآكل حقوقهن لا تجد أية معابة فى أن يكون حبيبها صاحب مغامرات نسائية لا تحصى ولا تعد، ويلعب بالبيضة والحجر، وكذابا مخادعا قراريا من الطرازالأول، إذ يوهم كلا من عشيقاته أنها هى وحدها التى يحبها وأنه لا يوجد على الحجر غالٍ سواها، ولا يسمح لأية منهن أن تعرف بوجود امرأة أخرى فى حياته، ومع ذلك كله تتهافت بطلتنا عليه وتبادر دائما إلى الاتصال به، فى الوقت الذى لا يتصل هو ولا يشغل نفسه بها. لو كان كلام بطلتنا عن رفضها للمجتمع الذكورى الظالم للنساء المسكينات صحيحا لرفضت هذا الأفاق الذى تتجسد فيها الذكورية بأجلى ما يكون، إذ هو لا يحترم المرأة، بل يلعب بها ولا يرى فيها إلا جسدا ومسلاة لتضييع الوقت، ويجمع العشيقات كما يجمع غيره طوابع البريد، ويخدعهن ويوهم كلا منهن أنها وحدها التى تسكن سويداء قلبه، ثم يتباهى أمام بطلتنا بهذا كله، فتقع صريعة هواه وتزداد تراميا على قدميه.
على أن الأمر لا ينتهى هنا، إذ تقول بطلتنا كارهة الرجال المتخلفين الرجعيين عدماء الضمير ظالمى النساء إن ذلك الأفاق مدعى الدفاع عن حقوق الإنسان قد أخرج منها أجمل ما فيها، وأراها الدنيا بعيون أخرى فبدت أحلى وأنضر وأجمل رغم كل ما قاله لها عن غرامياته وسفالاته الكثيرة، فقد سامحتْه رغم أنها، كما قالت، لم تكن تظن يوما أنها يمكن أن تتسامح فى أمر كهذا، كل ذلك فى عبارات وثرثرات من عبارات المراهقات التى تبرع فيها بطلتنا وتكرر بها نفس المعنى فى صور بهلوانية تستعرض فيها براعتها اللغوية دون أن تضيف جديدا سوى إملال كل من عنده ذوق أدبى ويعرف كيف ينبغى أن تكتب القصص والروايات.
ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضينا القول بأن البطلة قد سجلت فى هذا الفصل عدة مشاهد قوية من القتل والدمار الذى أحدثه العدو الصهيونى فى جنوب لبنان، تصلح أن تكون تقريرا صحفيا جيدا. وفى هذا الفصل أيضا يغمى على البطلة، فيكون هذا الإغماء سببا فى تعرفها إلى حبيبها المحامى المصرى خالد الراوى، الذى كان مع زملائه من أعضاء لجنة حقوق الإنسان فى زيارة للبنان لرصد ألوان الدمار والتقتيل التى ارتكبتها إسرائيل فى حق اللبنانيين، إذ ذهب إلى المستشفى مع بعض زملائه كى يطمئنوا على الصحفية المصرية (بطلتنا) التى غُشِىَ عليها من كثرة ما شاهدت وسمعت من صور الدمار والقتل، فكانت هذه هى الخطوة الأولى نحو وقوعها فى غرامه.
إلا أن البطلة، حين ترسم بعض ملامح شخصيتها، يصيبها ما لاحظتُه من قبل عليها من أنها تقول الشىء ونقيضه، إذ بينما تصف نفسها بأنها طوال عمرها تمشى جنب الحائط، إن لم يكن داخل الحائط، إذا بها بعد سطور قليلة تقول عن نفسها إنها ليست امرأة تقليدية وإن من حولها يتهمونها دائما بأنها صاحب القرارات المجنونة. ثم تعود فى التو واللحظة إلى القول بأنها ليست من الجنون فى شىء وأنها لا يمكنها اتخاذ موقف غير تقليدى، لتخبرنا عقب ذلك بأنها، بعد عودتها من لبنان إلى مصر، لم تستطع صبرا على تجاهل المحامى خالد الراوى لها وعدم اتصاله بها، فتبادر هى إلى الاتصال به وتلح فى الاتصال أكثر من مرة إلى أن يرد عليها. كما أنها، بمجرد أن قابلت حبيبها فى مطار بيروت، قد نسيت كل ما يتصل بمهمتها التى سافرت إلى لبنان من أجلها، وهى التعرف عن كثب إلى ما أنزلته إسرائيل بالجنوب اللبنانى من تدمير وتقتيل، فلم تعد تتحدث عنها رغم هيامها بالثرثرة، وذابت للتو فى شخصية المحامى، الذى تقول لنا إنها كثيرا ما رأته فى أحلامها قبل أن تلقاه وتعرفه، وهو ما أثار استغرابها لتشابهه التام مع الشخص الذى كانت تحلم به حَذْوَك القُذَّة بالقُذَّة. ولا تسألنى عن معنى "القُذَّة" من فضلك، بل ابحث عنها مشكورا فى المعجم.
وفى هذا الفصل نحس أن البطلة تكاد تجن من حبها لخالد الرواى، الذى لا تستطيع أن تنساه لحظة، بل تروى لنا أنها تقضى يومها كله، سواء كانت بالمنزل أو بالخارج، فى التفكير فيه وفيما يفعل وفى غزواته الغرامية وفى رصد مشاعرها نحوه بالتفصيل فى ثرثرة وعبارات من عبارات المراهقين لا تنتهى، لتتحول فجأة، حين فتحت التلفاز فى إحدى هذه المرات لتخفف عن عقلها ضغط حبيبها الطاغى، إلى الحديث عن بغداد واحتلال العراق والقتلى والدمار والأمريكان وتحول الوطن العربى إلى بلاد تحتلها جنود العم سام، وتستمر فى هذا الاستطراد الذى لم يكن فى خطتها، بل عرض لها بغتة فأمسكت به لم تُفْلِتْه حتى نهاية الفصل، فأشعر أنا عندما وصلت إلى تلك النهاية بشىء من الراحة أنْ قد استطعتُ التنفسَ أخيرا من هذه الثرثرة المتلاحقة التى لا تعرف الهمود أبدا. ولا ينبغى أن ننسى أن كل هذا الكلام من أول الرواية حتى الآن إنما تم والبطلة جالسة فى حضرة الحبيب سرحانة كعادتها السخيفة. أما كيف ذلك فعلمه عند علام الغيوب!
ويتكون الفصل الخامس من أقل من أربع صفحات، فهو قزم هزيل بين الفصول الأخرى. وليس فيه إلا أنها كانت تستقل سيارة أجرة فى طريقها لمكتبها فى الصحيفة التى تتولى فيها باب "بريد القراء"، مع تخصيص صفحتين من الكلام الثرثار عن أهمية هذا الباب. وفى أثناء ركوبها التاكسى تصادف أن استمعت لأحد المذيعين الرياضيين وهو يطالب الناس بأن يتصرفوا فى مباريات كأس الأمم المقامة فى مصر بتحضرٍ ورُقِىٍّ، فتذكرت فى الحال ما قالته لها إحدى زميلاتها عن عرض ذلك المذيع عليها الزواج سرا كما يفعل كثير من أمثاله بغية تجديد حياته، التى أجدبت مع زوجةٍ اقترن بها أيام الفقر ولم يعد يجد لديها ما تقدمه لمتعته. وهى تقول ذلك من باب الانتقاد الشرس لجنس الرجال ذوى العيون الفارغة الذين يستحقون الحرق. أما ما تفعله هى مع خالد الرواى زير النساء الذى لم يخف عنها شيئا من مغامراته وفجوره مع النساء وخداعه لهن، وتراميها عليه رغم ذلك ومطاردتها له، فحَلاَلٌ زَلاَلٌ بَلاَل.
وهكذا الأمر أيضا فى الفصل السادس، ففيه كلام عن مذيع تلفازى من نفس الطينة والعجينة أغوى بنتا صحفية تعلقت به لخفة ظله وشهرته وأناقته حتى حملت منه ثم لفظها ولم يرض أن يتزوجها. ثم ينتقل الكلام، بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، إلى حادثة غرق العبارة المشهورة التى راح ضحيتها نحو ألف وثلث، والبطاطين التى كان رجال الإسعاف يلفون فيها الناجين القلائل من الغرق، لينتقل إلى البطانية التى كان خالها المجند فى الجيش قد أحضرها معه من المعسكر فأصابت البيت بزلزال، وكانت تتحرك فى مكانها كأن عفريتا يختفى تحتها، إلى أن أخذها الخال خارج البيت وأشعل فيها النار تخلصا من عفاريت الجنود المقتولين فى حرب 1967 الذين كانوا يتغطَّوْن بها، وهو ما دفعها إلى أن تخصص جزءا من هذا الفصل لمناقشة موضوع العفاريت هذا، وهل يمكن أن يكون للشهداء عفاريت؟ وكأن هناك فعلا عفاريت للمقتولين من غير الشهداء. ثم فجأة تنعطف البطلة نحو حبيبها فتناجيه بينها وبين نفسها كعادتها على طول الفصول الماضية، وتتحدث عن حبها له وللوطن، ثم عن حبها لله، فـ"الله محبة"، ولا يمكن أن يلومنا البشر على أن "الله محبة" تلك الكلمة "الإسلامية القبطية" كما تقول، وتمضى فتشرح لنا أننا نقول إن الله محبة لأن الحب هو أصل الوجود، فلماذا يستكثر حبيبها ووطنها عليها أن تحب؟ صحيح: لماذا؟ لكن من قال إن حبيبها ووطنها قد أنكرا أو استكثرا عليها أن تحب؟ ومتى كان ذلك؟ وبأية أمارة يا ترى؟ إنها منذ أول الرواية حتى الآن وهى نازلة حبا فى حب، ولم أسمع أحدا يستنكر منها ذلك. أم هو كلام والسلام؟
ثم تترك البطلة حبيبها فجأة كما تذكرته وخاطبته وناغته وهامت به فجأة، ودخلت فى عدة قصص أخرى كقصة الشاب المتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق كبير، والذى قدم أوراقه للاشتغال فى الخارجية، وكان من أسرة فقيرة، فرُفِض طلبه وقيل فى سبب الرفض: "غير لائق اجتماعيا"، وهو ما دفعه إلى إغراق نفسه فى النيل. وهى قصص تتكدس فيها المآسى تكدسا دون أن تكون هناك بارقة أمل، ودون أن يكون هناك فى العادة منطق أو عقل، مما يعجب السطحيين الذين لا يفهمون أوضاع الحياة ويغرمون بالاستماع إلى النواح ومشاهدة اللاطمين ظنا منهم أنه كلما زاد النواح واشتد اللطم كانت القصة رائعة. وبعض تلك القصص يذكرنا بكل قوة بالأفلام الهندية التى صار يُضْرَب بها المثل على البلاهة.
وبعد أن قضت بطلتنا من هذه الأفلام الهندية وطرا تحولت بغتة، وبدون سابق إنذار، إلى حبيبها تناجيه قائلة هكذا من الباب للطاق: "رغم هذا كله ما زلت أبحث عنك وعن الوطن. أنظر إلى كل هذه الوجوه حولى أستجدى دعوة براحة البال، أنضم إلى الهائمين على وجوههم فى بيوت الله بحثا عن نفحة رحمة تأتينى من السماء، يتعلق قلبى بكل مئذنة مسجد وقت الأذان لكل صلاة وكل جرس لكنيسة يدق للتذكرة بالله، أحسك ملء الهواء وملء الأرض وملء السماء، وبالرغم من هذا لا أراك". ويرى القارئ دون أن يحتاج منى إلى تنبيه كيف أن إحساسها العالى بالوحدة الوطنية لا يتركها هنا أيضا، فهى تذكر الكنيسة جنب الجامع خبط لزق مثلما ذكرت فى الفصل الأول ترانيم قداس عيد الميلاد بجوار التراتيل فى الحضرة الصوفية تعبيرا عن شفافية الأجواء الروحانية. لكنى أحب أن أقول له إن بطلتنا لم تذهب يوما إلى مسجد، فكله كلام فى الهواء مما لا يكلف صاحبه شيئا. وأنا، حين أقول ذلك، لا أشم على ظهر يدى، بل أقوله اعتمادا على قصتها، التى لا تذكر فى أى موضع منها أنها تذهب إلى المساجد. وكل ما تقوله أنها تقابل حبيبها فى قهوشية فيمسك يدها ويقبلها "فوق جبينها" ويستمعان إلى معزوفات زامفير وبين أيديهما زهرية فيها وريقات ورد قرمزية، ثم هى تتركه جالسا أمامها وتروح فى ذكريات الجلة رغم أنها ظلت طوال عمرها تنتظر ذلك الحبيب العجيب الذى كانت تشاهده فى المنام من قبل الأوان بأوان كما فى الأفلام الرومانسية.
وتمضى البطلة فتشكو من أن حبيبها جُرْحٌ دامٍ فى حياتها وأنه يهجرها ويؤلمها ولا يستجيب لنداءاتها، ثم تتحدث عن حلوى مما تباع فى الشارع اشترتها لتأكلها، فوجدت أنها بلا علامة تجارية أو تاريخ إنتاج أو ذكر لبلد المنشإ، فتروح فى مندبة أخرى، إذ تجد أن هذه الحلوى تشبهها. وهو تشبيه مضحك، فهل كانت تريد أن يخبطوها خاتما على قفاها مثلا يحدد البلد الذى أتت منه، فيقولون: "Made in Egypt"؟ أم ماذا؟ ألا يرى القارئ مدى السذاجة التى تتمتع بها بطلتنا؟ ثم إنها لا تكتفى بهذا بل تتكلم بهذه المناسبة عن مصر الضائعة وقيمها المنهارة وعمالها البائسين الضائعين فى شوارعها يعانون الفقر والهم والغم. ولكنها للأسف نسيت أن تنوح قليلا على واحد مسكين مثلى كُتِبَ عليه أن يطالع روايتها ويتجرع هذه الغصص.
ويبدأ الفصل السادس بكلام بجح لا ظل له من الحقيقة، فبطلة الرواية تزعم أنها مكشوف عنها الحجاب (مثل الممثلة فلانة الفلانية، التى قالت عن نفسها: "أنا شيخة، ومكشوف عنى الحجاب")، فهى تشعر بالموت قبل وقوعه بزمن بعيد، ذاكرةً كشاهدٍ على ذلك مقتل خالها ومقتل راكبى عبارة السلام وسقوط الطائرة المصرية فى المحيط الأطلسى أمام السواحل الأمريكية، مع أنها، حين سردت هذه المآسى، كان واضحا أنها قد فوجئت بها مثلنا تماما نحن الذين لم نوهب مقدرة الشم على ظهر اليد ومعرفة الغيب قبل الهنا بسنة. كما أنها، حين تناولت موضوع شفافيتها الروحية كرة أخرى فى الفصل الحادى عشر، قد سردت بعض الأعراض التى تقول إنها تنتابها قبيل وقوع الموت من حولها، وهى انقباضةٌ فى القلب وضيقٌ فى التنفس وهَمٌّ يجثم على الصدر، وهو كلام عام نسمعه كثيرا على ألسن العوام، ورغم هذا لم تذكر لنا أنها قد شعرت بشىء من هذه الأعراض فى أية مرة من مرات الموت التى أوردتها. والحمد لله أنْ تواضعت فى ذلك الفصل وقالت إنها، عند موت أمها، لم يعترها أى عرض يدل على اقتراب الموت. وهذا دليل آخر على أن كلام البطلة لا يحكمه ضابط ولا رابط، بل تقول كل ما يخطر على بالها دون تمحيص.
وبعد ميلودراما أخرى من ميلودرامات الرواية التى ليست لها نهاية نفاجأ ببطلتنا (أو بالأحرى: لا أفاجأ بها لأننى حفظت ألاعيبها جيدا) وهى تنتقل دون إحم أودستور إلى مناجاة حبيبها ناسية الميلودراما التى كانت فيها منذ لحيظة، ميلودراما البنت الصغيرة التى انهار عليها وعلى أمها وأخواتها والجيران المنزل، وظلت إلى الصباح حتى أنقذوها، فلما خرجت إلى النور وشمت الهواء النقى ماتت، فتقول بطلتنا لحبيبها: "نفدت زجاجة عطرك القديم، وجاءنى صوتك عبر الهاتف وأنت تهرول فى كل ما تفعل استعدادا للقاء جديد... إلخ". ما هذا الخلط والنط من موضوع إلى موضوع لا تربطه به أية صلة؟
ومن المضحك أن نراها تحكى لنا أن حبيبها كان يلبس جوربه ويزرر قميصه ويدخل قدميه فى سرواله ويغسل أسنانه بالمعجون ويحكم ربطة عنقه ويفتح زجاجة عطر جديده وينثر منها على نفسه، كل ذلك وهو يحدثها فى الهاتف. كيف؟ الله وحده يعلم! والنبى ومَنْ نَبَّا النبى لو كان حبيبها هذا بهلوانا يلعب بالبيضة والحجر ما استطاع ذلك. لكن البطلة التى جعلت بطانية أخيها تتقافز بسبب عفريت الجندى الذى كان يستخدمها فى القشلاق قبل أن يقتل فى الحرب قادرة على أن تجعل لحبيبها الخائن الغادر عشر أذرع كالأخطبوط يستطيع بها أن يفعل كل هذا فى ذات الوقت. ثم إننا لا نعرف كيف صار هذا الحبيب خائنا غدارا ولا السبب فى خيانته وغدره. لقد أرادت البطلة أن يكون خائنا غدارا، فكان. لتكن مشيئتكِ يا بطلتنا!
ثم تبدأ البطلة مناحة أخرى لأنها، وهى المرأة الشرقية التى لا تحسن سوى العربية كما تقول، لا تستطيع أن تزاحم عشيقات حبيبها، اللاتى تتحدث إحداهن الإنجليزية، والثانية الفرنسية، والثالثة الألمانية رغم أنهن كلهن مصريات، لكن مصريات خواجايات، ودعنا من زوجته، التى لا ندرى بأية لغة ترطن له بها فى لحظات الانشكاح والليالى الملاح. والواقع أن الواحد لا يدرى أنحن أمام قصة غرامية أم عصبة أمم أم برج بابل. اتركونا من هذا كله، وتعالَوْا إلى ما صدعت به البطلة رؤوسنا عن المجتمع الذكورى الذى يظلم فيه الرجال النساء ظلم الحسن والحسين، فأين كرامتك يا فتاة وأنت تتهافتين هذا التهافت الشائن على رجل يعلق النساء كالمفاتيح فى مُدّلاَّته؟ واضح أن البطلة لا تحسن شيئا سوى الثرثرة والكلام الفاضى!
وهكذا تمضى الرواية حتى ختامها: قصة من الشرق، وأخرى من الغرب، ومشاهد تصادفها البطلة فى طريقها فتترك موضوعها الأصلى بل تنساه تماما وتأخذ فى الثرثرة إلى أن تجد نفسها قد أخرجت كل ما عندها فى ذلك الأمر الطارئ من ثرثرة، فحينئذ تستدير قليلا نحو حبيبها تناجيه فى دخيلة نفسها متناولة من الموضوعات ما يعنّ لها أو ما تصادفه أمامها، إلى أن ينفد ما تقوله فتعود إلى حبيب القلب لحظات قليلة تنتقل بعدها إلى موضوع آخر... وهكذا دواليك. والبطلة، كما تكررت الإشارة، تريد جنازة تشبع فيها لطما، فحكاياتها كلها يسودها الغم والكآبة مهما بدت فى أول الأمر واعدة بالبهجة، إذ لا بد أن يموت الشخص الذى تدور حوله الحكاية، وتكون ميتته مأساوية. كيف؟ هذا سر من أسرار عبقرية البطلة لا يمكننا معرفته. ومن ذلك حكايتها عن ابنة عمتها التى رفضت خطيبها الأول فعوقبت من أهلها، عند زواجها بغيره، بأن تم القران فى صمت، ثم كان الحمل والفرحة به، ولكنها قبيل الولادة تصاب بمرض فى المخ وتموت بسببه.
وفى الفصل التاسع نجد مشهدا بارعا أخذتنا البطلة إليه على حين غزة كعادتها. لقد كانت تصف احتفال الأسرة بزواج أختها، وبغتة ألفيناها تتحدث عن أعراض الصداع الذى يصيبها هى بين الحين والحين لينتقل الأمر إلى غرفة واسعة أُلْقِيَتْ عليها فيها ملاءة بيضاء طويلة عريضة بعدما دُلِق عليها أباريق من الماء البارد، ووقف كائنان يرتديان أيضا ملابس بيضاء يسألانها عن سنها وأعمالها فى الدنيا وهل تستحق أن تدخل الجنة أو لا، فتجيبهما بأنها تتمنى ذلك، وإن كانت لا تستطيع أن تعرف هل تستحقها أو لا. وهو مشهد لم أقابل مثله من قبل. والوصف والحوار ممتعان. وفى نهاية المطاف يتضح أنه إغماء، وأنهم أحضروا الطبيب ليفوّقها منه. ولكن رغم ما فى المشهد وطريقة تقديمه للقارئ من إمتاع أحب أن أسأل: هل المغمى عليه يمكن أن يشعر أو يدرك أى شىء مما يقع له أثناء النوبة بحيث يستطيع استعادته بعد النهوض منها؟ بطبيعة الحال لا. فكيف إذن استطاعت البطلة أن تدرك وتتذكر ما اعتراها خلال تلك النوبة؟ ثم إن البطلة لا تنبئ أفكارها ولا تصرفاتها طوال الرواية عن اهتمام بالدين والحياة الأخرى والحساب والثواب والعقاب، اللهم إلا مرة يتيمة حين كانت أمها على وشك الموت، فصلت بطلتنا الفجر ودعت لها، فكيف لم يخطر لها أثناء النوبة، إذا كان لنا أن نقيسها خطأ على النوم والأحلام، إلا مشهد الحساب الذى يشير إلى أن الكائنين اللذين حاسباها هما ملكان من الملائكة؟
كذلك يقابلنا فى هذا الفصل بعض مشاهد الدمار والقتل الذى يوقعه الصهاينة بإخواننا فى فلسطين. وهى مشاهد مؤثرة يمكن أن تكون تقارير صحفية جِدّ ناجحة. لكن البطلة للأسف تفسد كل ذلك بانتقالها فجأة إلى مناجاة حبيبها. وليس العيب فى الانتقال المباغت وحده، بل لا يوجد كذلك أى تناغم بين مناجاتها وبين ما كنا فيه من عرس أختها وما أصابها خلاله من إغماء ولا بينه وبين مشاهد الترويع فى فلسطين. على العكس ثَمَّ تعارض واضح بين الأمرين جدير بإفساد الأمر كله: "مضى فصل الشتاء، فأين أنت الآن؟ أتراك فى رحلة نيلية على ظهر مركب صغير فى فينيسيا تمارس الحب على ضوء الشموع؟ أم إنك الآن فى باريس تعيش حكاية جديدة تبدؤها من حيث نهاية غير سعيدة لامرأة مثلى؟...". إلى مثل هذه المناجاة تقفز البطلة بغتة من المشاهد الفلسطينية المأساوية دون تمهيد أو تدريج، وقد تكرر مثله كثيرا، وهو دليل على ضعف الصنعة الروائية عند البطلة، فهى تفعل الشىء بمجرد ما يعن لها أن تفعله دون التفات إلى أصول الفن.
كما أن قولها: "رحلة نيلية" عن رحلة الجندول فى البندقية سهوة فيها من الظرافة ما فيها. وتذكرنى بما قاله موظف ريفى الأصل قابلته بالقاهرة أواخر ستينات القرن المنصرم، وكنا فى مجلس يضم بعضا من المصريين المتعلمين وصديقا يابانيا كان يدرس معنا أيامها بجامعة القاهرة، فتطرق الحديث إلى الزراعة والرى، فما كان من الموظف ذى الأصل الريفى إلا أن انبرى يسأل محسن يوشيهارو أوجاساورا قائلا: "وهل تستخدمون فى زراعتكم باليابان الماء النيلى يا أستاذ محسن؟"، فكانت طرفة.
ويحتوى الفصل العاشر على حادثتين: الأولى إحياء الذكرى الثالثة لغرق عبارة السلام حيث تحدث بعض أهالى الضحايا وسردوا مآسيهم، وبكت البطلة بكاء حارا تعاطفا مع هؤلاء المساكين وتألما لمعاناة الغارقين رحمهم الله واستنكارا للامبالاة الوحشية التى تعاملت بها الدولة مع الفاجعة. والثانية مقتل السادات فى أكتوبر 1981م وبكاء أبيها العنيف رغم رفضه ما فعله رئيس مصر من التصالح مع إسرائيل والانحياز إلى الولايات المتحدة ورغم حب الأب الجارف لجمال عبد الناصر مع تحفظه على سجن الإخوان كما تقول البطلة. وليس بين الأمرين صلة كما هو بين. إنما هو أمرٌ عَنَّ للبطلة فسجلته وكتبت عنه، والسلام. وهو عيب ملازم للرواية كما وضحنا مرارا. لكن يحمد لها هذه المرة أنها لم تفرض علينا مناجاتها مع حبيبها، ذلك الذى لا نعرف عنه شيئا سوى أنه قابلها فى مطار بيروت وتعارفا هناك قبيل إقلاع الطائرة، ثم اتصلت به فى القاهرة مرات وتعددت لقاءاتهما فى إحدى القهوشيات، وتسابقا جريا فى الشارع مرة، ثم سمعناها تتكلم عن هجره وخيانته لها دون أن نعرف طبيعة ذلك الهجر ولا تلك الخيانة، بل دون أن نعرف شيئا عن المدى الذى بلغته علاقتهما غير لقاءات القهوشية والاستماع هناك لموسيقى زامفير وتلامس أيديهما وقُبْلَته لها على جبينها، وكان الله يحب المحسنين!
لكن إذا كانت البطلة فى الفصل الماضى قد خيبت توقعنا فى مناجاة حبيبها فى عز المصيبة التى تحكيها لنا فقد رجعت إلى قواعدها سالمة فى الفصل الحادى عشر، الذى خصصته لموت أمها بعد توقف كليتيها عن العمل ورفضها إجراء غسيل لهما. ففى غمرة أحزانها على موت أمها وتألمها الشديد بسبب تخيلها للدود يأكل عينيها ووجهها وسائر جثتها تحت التراب نراها قد جاءتها النوبة بغتة كما عودتنا، فتقول دون أية مقدمات مناجية له: "ما أحوجنى اليوم إليكَ! وما أبخلكَ! فكم نحن بحاجة إلى الحب حينما تقسو الحياة ويشتد الألم. ما أحوجنى إليك، وما أقساك أنت!... كم أنت قاس قسوة الزمن، وكم أنت موجع وجع مرض أمى!"، لتنتقل عقب هذا مباشرة إلى الحديث عن رفض أمها طوال ثلاثة أيام بلياليها لعمل غسيل كلوى إلى أن انتقلت إلى عفو الله ورحمته. كما نراها تقول وهى تتلقى عزاء أمها فى قريتهم بعد أن دفنوها هناك: "اليوم أنظر حولى: جميع الناس معى جاؤوا من بعيد ومن قريب، إلا أنت الغائب الحاضر دائما. لا أعرف إذا كنت قد علمت بموت أمى أم إنك تتجاهل حزنى كما كنت دوما تتجاهل حبى. ترى أين أنت الآن؟ وماذا تفعل بالزمن؟". ولا شك أن هذا تصرف غريب: غريب من الناحية الإنسانية، وغريب أيضا من الناحية الفنية، ولا يصدق عليه إلا أنه "سمك، لبن، تمر هندى".
إن هذه الميوعة العاطفية لا تعجبنى لا من الناحية الإنسانية المحضة ولا من ناحية الإبداع الأدبى. هذا كلام قد يعجب السطحيين السذج الذين لا يشجيهم غير النهنهة وعبارات المراهقين الإنشائية. ثم إن الحبيب الموهوم لم يعد له وجود فى حياتها منذ زمن طويل وصارت تنعته بالهاجر والخائن والقاسى، فما معنى استنجادها به فى مثل ذلك الموقف، الذى هو فوق ذلك آخر ما يصلح فيه مثل تلك المناجاة؟ ثم كيف كانت تريده أن يأتى لتعزيتها والوقوف إلى جانبها؟ ترى ماذا كانت ستقوله عند ذاك لأهلها؟ أتقول لهم إنه حبيبى جاء يعزينى ويخفف عنى؟ إلا أن البطلة التى لا يحلو لها الكلام عن الجلّة إلا فى سياق اللقاءات العاطفية مع حبيبها لا يستغرب منها شىء. وعلاوة على ذلك فإن البطلة لا تحسن ربط موضوعاتها بعضها ببعض ولا تعرف أن هناك شيئا اسمه البناء الروائى، وهو أمر يحتاج إلى تصميم مسبق، ولو فى خطوطه العامة. أما أن تترك نفسها هكذا للمصادفات والخواطر التى تنبت فى رأسها بغتة دون خارطة طريق فهذا برهان على التهافت الفنى.
وغريب جد غريب أن تظل بطلتنا تتهافت على خالد الراوى ولم يبق إلا أن تبوس جزمته كى يبادلها ولو كلمة واحدة، وهى الثائرة المتمردة على جنس الرجال المستبدين الطغاة الذين لا يعرفون الرحمة ولا العطف ولا يفهمون سوى ظلم المرأة والجور على حقوقها وإنسانيتها. كنت أتصور أن تكون على مستوى هذه الاستنارة اللفظية ولو مرة واحدة، بيد أنها قد خذلتنا. أذكر فى هذا السياق كيف أن صديقا لى كتب ذات يوم بحثا علميا يثبت فيه ما تقوله بطلتنا من أن مجتمعنا بل أمتنا كلها فى ماضيها وحاضرها تظلم النساء وتحتقرهن ولا تقيم لهن وزنا حتى إن بلاغتها لتشبّه المرأة بالدابة عند الجماع فيقال: "ركب فلان فلانة". وبغض النظر عن أنهم فى الإنجليزية والفرنسية، كما بينت عند مناقشتى لكلامه فى أحد كتبى، يستخدمون الفعل ذاته: "to ride, to mount- monter " وعن أن الرجال فى مجتمعاتنا يعطفون على بناتهم حتى لو بدا أنهم قساة عليهن، وينظرون إلى نسائهم بوصفهن شرفهم وعرضهم وكرامتهم، ويحترمون أمهاتهم... إلخ، فقد هالنى، حينما كان عندى فى مكتبى بالجامعة ذات يوم، هجومه على المرأة هجوما شنيعا مقللا من قدرها وعقلها وفهمها، فقلت ضاحكا: الله أكبر! أين انحيازك الظالم لها ضد الرجال؟ إننى لا يمكن أن أقول عشر معشار ما تقوله الآن فى المرأة، ولا أرى أنها تقل فى الإنسانية عنا نحن الرجال، ولا ينبغى أبدا الحط من شأنها. فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة المحرج وسكت ثم حول دفة الحديث إلى موضوع آخر.
ومن ذلك أيضا أننى، فى تسعينات القرن المنصرم، كنت أحضر مجلسا أدبيا فى عيادة أحد الشعراء، وتعرفت هناك إلى مهندس يسارى تقدمى مستنير فوجئت به ذات ليلة، بعد أن انصرفت امرأة خليجية كانت موجودة معنا فى الصالون، وكانت زوجة سابقة لكويتب وقح مثير للجدل والقرف، فوجئت به يهاجمها ويصفها بأحط الصفات الخلقية. لماذا؟ لأنها تحضر مجلسا رجاليا كمجلسنا. فأعربت عن تعجبى من موقفه هذا، وهو اليسارى التقدمى المستنير. فأجابنى أن هذا مجرد كلام يقال باللسان، وأنه لا يمكن أن يسيغ مثل تلك التصرفات. ومن البين أن بطلتنا من هذا النوع: جعجعة ولا طِحْن. تهاجم الرجل كلاما، وتتهافت عليه واقعا وسلوكا، وتنسى فى تهافتها أن ثم شيئا اسمه الكرامة والخلق وعزة النفس، وبخاصة أن الرجل الذى تحبه لا يلتفت إليها ولا يبالى بها، وأنه قد رماها خارج نطاق وعيه تماما كما هو واضح من كلامه هى ذاتها. وقد رأيناها تنتقد بعض المذيعين والصحفيين فى سلوكهم مع الفتيات من أمثالها على نحو يناقض ما يدعون إليه فى العلن. فهل تراها أفضل منهم؟
ومن هنا أستغرب دهشتها من أن أباها، بعد موت أمها، أعلن عن رغبته فى الزواج، متسائلة كيف ينسى الناس زوجاتهم بهذه السرعة؟ ناسية أنها، فى عز مرض أمها وآلامها وتوقعهم لموتها بين آونة وأخرى، كانت تناجى حبيبها المتزوج الفلتان الذى يعلق النساء كالمفاتيح فى مدلاته والذى لا يسأل عن صحتها ولا يبالى بها. وهكذا تكون التقدمية والاستنارة من بطلتنا، تلك الاستنارة التى لا تكف عن إزعاجنا بمقولات الحنجوريين والحنجوريات عن المجتمع الذكورى المتخلف. بالله ما وجه الخطإ فى أن يتزوج الرجل بعد موت زوجته أو أن تتزوج المرأة بعد موت زوجها ما داما يشعران بالحاجة إلى الزواج ولا يقدران على العيش دون قرين؟ أليس تنطعا من بطلتنا أن تقف من أبيها هذا الموقف السخيف الخالى من العقل والإنسانية؟ بالله من الذى يريد مصادرة حرية الآخر: الأب، الذى نزل على رغبة ابنته فى كل شىء كما رأينا أَمْ الابنة، التى تنكر عليه حريته فى الزواج بمن نؤنس وحدته؟ ثم جاءت صديقة لبطلتنا فزادت الطين بلة، إذ قالت لها متعجبة من موقفها هذا: "هل تنبت لك فى ذقنك لحية؟" (قالتها بالعامية)، فأجابتها وهى لا تفهم مغزى السؤال: "طبعا لا". فقالت الشملولة: "إذن فلن تستطيعى أن تعرفى كيف يفكر الرجال". بارك الله فيك يا شملولتنا، فقد جئت بالتائهة!
لقد أنكرت بطلتنا أن يتخذ الصحفى الذى سبق ذكره آنفا زوجة أخرى إلى جانب زوجته التى ما زالت على قيد الحياة، وأنكرت أن يكون لأبيها زوجة أخرى بعد أمها، التى ماتت، وأنكرت أن يكون لحبيبِها المفدَّى زوجة أصلا لأنها تريده أن يكون لها عاشقا، وتنكر أن ينساها ولا يبالى بها رغم أنها ليست بزوجته ولا لها عليه أى حق، علاوة على أنه لا يشعر نحوها بحب، وله من العشيقات طابور طويل يغنينه عنها وعن ألفٍ مثلها. بالله أليس هذا أمرا مضحكا؟ إننى مثلا لا أحبذ الزواج بأكثر من واحدة، لكنى لا أنكره على من يفعله. ولى صديق ماتت زوجته من مدة، ويريد أن يتزوج، ويطلب منى المساعدة، فأضحك قائلا له: "يا ابن الحلال، ارض بما أنت فيه من سكنية وراحة بال، والتمس السعادة باللعب مع أحفادك، ولا تدخل فى تجارب لا تدرى فى هذا العمر المتأخر شيئا عن طبيعتها، ولا تتعرضْ من البلاء لما لا تطيق كما قال سيدنا النبى". ورغم ذلك فلو علمت أنه قد تزوج ما أنكرت عليه.
ومن ثم لست أفهم فيم كل هذه الهيصة والزمبليطة من بطلتنا الهمامة وكلامها الحنجورى عن المجتمع الذكورى بينما تريد أن تقمع أباها الذكر بنسوية ظالمة مجحفة! والسخيف أنها تنكر على الرجال تشبثهم، كما تقول، "بقول الرجال قوامون على النساء" محيلة الآية الكريمة، كما يرى القارئ، إلى مجرد قول فى الوقت الذى تقدم فيه كلام المسيح عليه السلام بعبارة "يقول الرب". ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟ من الآخر: الست البطلة تريد أن تعشق وتذوب وتمارس الغرام بكل حرية مع رجل ليس زوجها ولا يفكر فيها وله زوجة وعشيقات متعددات يرطنّ بالإنجليزى والفرنسى والألمانى وبكل الألسنة الأخرى التى كلم بها أدهم الشرقاوى مأمور إيتاى البارود، وكالمغنى الخليجى الذى لا أعرف اسمه والذى يقول إنه يحب حبيبته بكل لغات العالم، وكالأغنية التى كنا نحفظها ونحن شبان صغار من فلم "سانجام" حيث يردد المغنى جملة "أحبك" هكذا: "I love you- Je vous aime- Ich liebe dish، هُمَّه يحِبُّوا بعض"، لكنها فى ذات الوقت ترفض أن يتزوج أبوها بعد وفاة أمها. إنها لا تجد حرجا فى تذكر حبيبها خلال غمرات الموت التى كانت أمها تخوضها وعقب موتها وبعد موتها بعامين وأكثر من عامين، وتصيع فى الشوارع والكافيهات وقد انتفضت ذكرياته فى كيانها كله فتتنهد وتشهق وتزفر مسكونة به لا تستطيع أن تنسى ذوبانها فيه (وخذ بالك من "حتة الذوبان" هذه. وهو كلامها لا كلامى أنا)، لكنها لا تسمح لأبيها أن يتزوج على سنة الله ورسوله.
وهنا، على عادة بطلتنا التى لن تشتريها من الخارج لأنها طبع، والطبع غلاب كما تعرفون، تسرح بطلتنا فى مناجاة حارة مع حبيبها الذى لا نعرف عنه شيئا يذكر، فتقول فى آخر الرواية إنها لم تكن سعيدة بحبه، بل كانت تستدعى السعادة حتى تسعد به. يعنى أن كل الرواية طلعت فاشوشا، وكل ما قالته عنه وعن حبها له هو كلام هجاصين. ثم تترك نفسها للشارع والمترو متنقلة من موضوع إلى موضوع ومن مشهد إلى مشهد لا تكف عن انتقاد كل شىء ولا عن استعراض وطنيتها وإنسانيتها واستنارتها وكرهها الحنجورى للمجتمع الذكورى إلى أن تنتهى الرواية دون أن تستطيع التخلص من ذكريات حبيب القلب الذى لا يبالى بها والذى لا تدرى، كما تقول، مع أية امرأة هو الآن ولا ماذا يفعل معها، وإن كان الجواب هو أنه يفعل معها ما كان يفعل معك يا ذكية.
وفى ختام الرواية تقول البطلة إنها قد تلاشت بين البضائع المنثورة على الرصيف غير المعروفة الهوية أو تاريخ الصنع. وهو الختام الطبيعى لمثيلاتها ممن يَلُكْن مصطلحات ومفاهيم لا يحققنها ولا يفهمنها الفهم الصحيح، ورغم ذلك يُفْتَنّ بترديدها على السماع، فيضيعن أنفسهن ويهلكنها ولا يستفدن من النعم التى يفيضها الله عليهن بشىء، ويذهبن يتصايحن بإدانة المجتمع الذكورى المتخلف الغاشم قامع النساء ومحيل حياتهن إلى جحيم لا يطاق، ذلك الجحيم الذى لا وجود له فى الغالب خارج أذهانهن المضطربة.
والمضحك، بعد كل الذى قالته بطلتنا عن أبيها واستبداده وتصلبه وقسوته مع أمها ومعها ومع أختها، أنها فى الفصل التاسع تصف هذا الأب المرعب بأنه عاش طول عمره خائفا يرفع شعار "طُوبَى للخائفين!". إذن فالخوف ليس من نصيب نساء أسرتها وحدهن، بل للأب كِقْل كبير منه، بل الكفل الأكبر، فقد رأينا البطلة لا تضع شيئا فى ذهنها إلا حققته ضاربة عرض الحائط بكل اعتبار آخر. صحيح أنها كثيرة الثرثرة عن الذكورية المصرية والعربية، لكنها مجرد ثرثرة. أما الأب فمسكين عاش طول عمره خوافا يردد دائما: "طوبى للخائفين" كما تقول هى بعظمة لسانها، إن كان للألسنة عظم. وقد وردت عبارة "طُوبَى لـ..." فى الكتاب المقدس 74 مرة، وهذه بعض شواهدها فى الإنجيل المنسوب لمتى: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"، "طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ"، "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ"، "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ"، "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُون"، "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ"، "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ"، "طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ".
لكن هل الكتاب يخلو من أية ميزة؟ الحق أن فيه بعض المزايا التى لا يمكن نكرانها، لكن مستواه كروايةٍ ضعيفٌ جدا رغم ذلك. كيف؟ أول مزايا الكتاب الأسلوب المستقيم السلس. وهى مزية نفتقدها هذه الأيام لدى الأدباء الشبان بوجه عام بل لدى كثير جدا من المشاهير فى عالم الكتابة والأدب، وهم فى الواقع لا يساوون شيئا يذكر. وحتى لو كانت أقلام المراجعين قد أجيلت فى النص الذى بين أيدنيا، وذلك أمر غير مستبعد، فيُشْكَر لصاحبة العمل أَنْ فكرت فى إخراج كتابها مبرأ من الأخطاء البشعة الكثيرة التى تعج بها كثير من النصوص هذه الأيام، وإن لم يخل تماما من الأغاليط اللغوية، فلا شك أن الحرص على الصحة ميزة فى حد ذاته حتى لو استعان الواحد منا بالآخرين.
لكن العاطفية المسرفة والكلام الإنشائى الطنان فى كثير جدا من صفحات الرواية، والإلحاح على المعنى الواحد بجمل متعددة، يفسد متعة القراءة. كذلك كنت أحب لو اصطنعت صاحبة الكتاب اللغة الفصحى فى كل أنحاء القصة ولم تقصرها على السرد والوصف، بل استعملتها فى الحوار أيضا. ولا يحتج أحد بأن حوارات الناس فى الحياة إنما تجرى باللهجة العامية، إذ الرد على ذلك سهل جدا، وهو أن الناس أيضا فى الحياة لا يحكون قصصهم ولا يصفون ما يقع أمامهم بالفصحى، ومع ذلك فها هى ذى البطلة تستعملها فى سردها ووصفها واستبطاناتها الذاتية ومناجياتها الداخلية. إن الأدب إيهام بالحياة، وليس هو الحياة. وعملاق الرواية العربية كان يكتب كل شىء فى رواياته بالفصحى، وكثير منها يجرى فى الأحياء المغرقة فى الشعبية وعلى ألسن الأوباش، ومع هذا لا يحس القارئ بأية مفارقة أو نشاز فى حواراتها الفصحوية.
ويحتوى الكتاب كذلك على مشاهد أكثر من جيدة، كمشهد الحساب الذى ضم بطلة الرواية وكائنين يفترض أنهما ملاكان، وكمشاهد الدمار والتقتيل فى جنوب لبنان وفى فلسطين. لكن هذه المشاهد وغيرها فى الرواية ظلت مفككة لا يربطها بعضها ببعض رابط، أو لا يربطها رابط قوى. فمحور الرواية، وهو حبيب البطلة، التى لا تنفك تعود إليه دائما وتناجيه، ظل طوال الوقت شاحب الوجه، بل ضائع الملامح، ولا نعرف عنه شيئا ذا بال، ولا يظهر بنفسه فى الرواية رغم أنه هو كل شىء فى حياة البطلة. ولا تقول البطلة عنه إلا جملا مهوشة فى الغالب تعجب المراهقات، لكنها لا ترضى الفن الروائى. إن فصول "امرأة خائفة" لا ترتبط فيما بينها إلا بكونها متتابعة يقفو بعضها بعضا دون أن يكون هناك رابط سببى بينها. وقد وضحتُ مرارا وتكرارا أن البطلة كانت كلما عن فى بالها أو رأت فى طريقها مثلا شيئا أدخلته فى عملها. ولعلها تستفيد من هذه الملاحظات وتراجع فى ضوئها ما تكتب ولا تنصت إلى المبالغات السخيفة التى من شأنها، لو صدقتها وتصرفت بمقتضاها، أن تفسد مستقبلها الأدبى. إن العمل الذى أخرجتْه لنا يحتوى على عدد من المشاهد والتقارير الصحفية الجيدة، كما أن هناك بعض الحكايات الصغيرة التى استطاعت الكاتبة تقديمها بمهارة طيبة. لكن ذلك كله لا يصنع من العمل رواية جيدة، إذ الرواية الجيدة تحتاج إلى أشياء أخرى متعددة غير المشاهد والتقارير الجيدة.
إن شخصيات الرواية مثلا، وبخاصة شخصية البطلة، غير متسقة مع نفسها.فبطلتنا تقول كلاما كبيرا ضخما، لكنها عند التصرف تتصرف تصرفات صغيرة سخيفة. وهى تقول الشىء ونقيضه، وفى مساحة ضيقة جدا بحيث لا أدرى كيف عميت عنه فلم تلحظه، ومن ثم لم تصلحه. وهى مغرمة بالثرثرة، وتبدو فى تصرفاتها وكأنها مصرة على تدمير نفسها بالشعارات الخادعة والتمرد الطائش، والجرى وراء ما يضرها ويؤذيها كالفراش الذى يلقى بنفسه فى النار، حتى انتهى أمرها إلى التلاشى بعدما تمردت على زواجها وألقت بنفسها وكرامتها وعرضها تحت قدمى رجل سخيف تافه يحتقر جنس النساء ويلهو بهن كما يعبث الطفل بلعبه ويحطمها متى أراد دون أن يحسب للعواقب حسابا، رجل لا يقدرها ولا يبالى بها ولا يحترمها، ومع ذلك نراها ذائبة فيه، ولا تستطيع أن تطرحه من ذهنها حتى فى أشد لحظات حياتها تنافرا مع ذكراه كما هو الحال حين راحت تناجيه أثناء أخذ العزاء فى أمها، رجل من الذين يلعبون الثلاث ورقات ويلبسون لبوس المدافعين عن حقوق الإنسان، كسر الله حُقَّه، وهو ما يكشف عن خواء شخصيتها وتفاهتها رغم كل الشعارات الصاخبة التى تخدع نفسها وتحاول أيضا أن تخدعنا نحن القراء بها.
وهناك إسهال كلامى شديد فى كثير من صفحات الكتاب تروح البطلة خلاله فى نوبات من التطوح اللغوى يذكرنا بالدراويش حين يأخذهم الوجد، بل التواجد بالأحرى، فينخرطون فى التمايل يمينا وشمالا صارخين ضائعين. فكذلك بطلتنا حين تمسك قلمها وتصف مشاعرها أو تناجى حبيبها. إنها ساعتئذ تمطر القارئ بالعبارات المهوشة المائعة التى تفتتن هى بها وبما فيها من طنطنات قبل أى شخص آخر، ولا تبالى بخوائها من المعنى المفيد. إن العبارات تصبح هدفا فى حد ذاتها، ولا يهم المعنى، بل المهم الكلام الإنشائى المعسول. وهذا الكلام الفارغ من المضامين ذات القيمة هو السبب فى ذلك التلاشى الذى انتهى أمرها إليه فى نهاية الرواية، إن جاز أن نسمى ذلك العمل: رواية.
د. إبراهيم عوض
فى البداية لم أكن أعرف شيئا عن كاتبة الرواية، إذ كانت هذه أول مرة أسمع بهذا الاسم. وكلما سألت عنها أحد الأصدقاء أوالزملاء أجاب بأنه لا يعرفها، وليس لديه أية معلومات عنها، ثم قرأت فيما بعد أنها تشتغل فى الإدارة التعليمية بالمحلة الكبرى. والحق أننى لو لم يقتحم اسمها وعنوان روايتها علىَّ خلوتى وأنا جالس فى حالى لا علىَّ ولا لِيَا لظللت على جهلى بها، إذ جاءنى إيميل من الإيميلات الكثيرة التى تنهال علينا يوميا من كل صوب وحَدَب يشير إلى الكاتبة وكتابها وما قاله النقاد بشأنها، كما طالعتنى أنباء متناثرة هنا وهناك فى بعض المواقع والصحف على المشباك فى نفس الموضوع، وكلها صاخبٌ مُصِمٌّ للآذان. ومنها أن روايتها تمثل فتحا فى الأدب العربى يعيد عصر نجيب محفوظ من جديد، وأن عددا من قراء الرواية أُغْمِىَ عليهم من فرط ما فيها من أحداث مأساوية ومشاعر عنيفة، وأن هذا العدد يزداد باطراد. فكان أن بحثتُ عن الرواية لأفهم سر هذه الزمبليطة حتى حصلت على نسخة منها، وشرعت أقرؤها. وكنت أسجل ما ألاحظه على الرواية أولا بأول. وإذا كنت قد وجهت انتقاداتى إلى بطلة الرواية فقد جريت فى ذلك على طريقة الظاهريين من أهل الفقه كابن حزم رضى الله عنه، إذ هى التى تسرد الوقائع، وتصف الأماكن والأشخاص والمشاعر، وتخبرنا أنها فعلت كذا وتركت كذا وشعرت بكذا وضحكت وبكت وخُطِبَتْ وتزوجت وطُلِّقَتْ وعشقت وصاعت وضاعت وتماشت وتلاشت. وبالمثل اتبعتُ سنة طه حسين عندما أشار إلى نفسه فى سيرته الذاتية فى كتاب "الأيام" بكلمة "صاحبنا".
وهذا أولا بعض ما وجدته على المشباك (الإنترنت) من الدعاية الصاخبة التى رافقت صدور الرواية، وكأنها فلم من أفلام الرعب التى ينيغى تحذير مرضى القلب من مشاهدتها، وكأن صاحبتها عبقرية نادرة لا يظهر هلالها إلا كل كم قرنا، ودفعتنى إلى البحث عنها وقراءتها لأرى مبعثها: "مساء أمس الثلاثاء تم حفل التوقيع الأول لرواية "امرأة خائفة" للكاتبة الصحفية سلوى علوان والذى حضره لفيف من كبار النقاد والأدباء والفنانين وجمهور غفير من محبى الثقافة والأدب فى مصر. وشهد الحفل مداولات نقدية جذابة حول مضمون رواية "امرأة خائفة"، واستمتع الحضور بنقاشات ثريّة أسهمت فى فتح آفاق الإبداع الثقافى، وهو ما أشار للإضافة التى صنعتها "الرواية" للمكتبة العربية، وبزوغ نجم "سلوى علوان" فى سماء الثقافة العربية كأديبة وروائية تستلهم إبداعها من واقع القضايا العربية وقدرتها على التعمق داخل النفس البشرية ووصف المشاعر الإنسانية بطريقة تستحق العرض بالسينما والمسرح والتليفزيون. كما تحول حفل التوقيع إلى احتفالية صاخبة بمناسبة فوز الكاتبة سلوى علوان فى مهرجان "الألف شاعر وأديب" كأفضل روائية عربية لعام 2014".
"ناقشت اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين مساء الثلاثاء رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان في حضور عدد من الإعلاميين والفنانين، بالإضافة إلى عدد من القراء، ومن أبرزهم فؤاد قنديل. وتأتي مناقشة الرواية متزامنة مع التصويت السنوي الذي يجريه موقع "جود ريدز" العالمي (مهرجان "الألف شاعر وأديب عربي") حاليا لتقييم الأعمال الأدبية لجميع كتاب العالم، والذي تتصدر فيه سلوى علوان قائمة التميز برواية "امرأة خائفة". وصدرت الرواية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة "حروف"). وتبدأ الرواية بإهداء هو في حد ذاته عمل فني يضغط على مشاعر القارئ ويلهب عقله مستعرضا كل آلام الواقع في جمل تلغرافية تحمل المتناقضات التي تجعل منها مبكية ومرثية علي شعب عظيم وقع تحت الذل والهوان والضعف. الرواية تعتمد علي اللغة الشاعرية التي تميل في بعض مقاطعها إلي الرومانسية، كما تعتمد الكاتبة علي استخدام الراوي المشارك في الأحداث، والصور المجازية التي تستخدمها الكاتبة والتي تصيغها بطريقتها الخاصة، وتثير لغة جديدة رغم أن ألفاظها وكلماتها من معجمنا المتداول غالبًا في الكتابة الرومانسية. كما تستخدم الكاتبة أساليب تحرك الذهن داخل هذا العالم الرومانسي بلغتها، وان كانت الرواية معبرة عن النسوية من خلال الطرح الذي يتحدث عن أنثي، كما أنها تعبر عن الخطوط الحمراء التي تحاط بها المرأة في عالمنا الشرقي. الوطن في الرواية هو المفاعل الموضوعي لهذه الأنثى، فكلاهما في خوف واضطهاد، وهذا جعل المؤلفة تسترسل في ذكر تفاصيل سياسية واجتماعية كثيرة، وكأنها تؤرخ لهذا العصر. لكنها تغلف هذا التأريخ التسجيلي بلغة رومانسية تلطف من وقع السرد الحياتي وتريح من الشعور بغصة ألم الواقع الذي تعيشه أنثي والوطن كلاهما. ومن المقرر أن تجري إذاعة مونت كارلو الفرنسية حوارًا إذاعيًّا مع الكاتبة الأسبوع القادم حول رواية "امرأة خائفة"، وتدير الحوار الإذاعية الكبيرة كابى لطيف. ويشار إلى أن الكاتبة سلوى علوان تم اختيارها لتكريمها في مهرجان "الألف شاعر وأديب عربي" الثاني بمصر والذي سيعقد في الإسماعيلية كروائية مصرية".
"بدأت رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان بتلقى عروض من شركات الإنتاج الفنى بمجرد انتهاء حفل التوقيع يوم 20 مايو الماضى. وذكرت بعض المصادر أن احد شروط الكاتبة سلوى علوان هو أن تقوم الفنانة يسرا بتجسيد دور ليلى عابد بطلة الرواية. ومن جهة اخرى تعيد "أخبار اليوم" طرح رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى للمرة الثانية بالأسواق، وتستمر حتى 26 مايو الجارى و ذلك نزولاً على رغبة القراء. و"امرأة خائفة" هى رواية صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وحصلت على أعلى تقييم عالمى بموقع جود ريدز بتصويت القراء كما حصلت الكاتبة سلوى علوان على أفضل روائية عربية لعام 2014 فى مهرجان "الألف شاعر وأديب عربى"...".
"وصلت حالات الإغماء جَرَّاءَ قراءة رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان إلى 12 حالة خلال 48 ساعة، وتم نقل مجدي السيد الراعي (52 سنة) إلى مستشفى العام بتاريخ 24 أبريل، يشكو هبوطًا في ضغط الدم، وظهرت عليه أعراض هبوط عام في الدورة الدموية، وأفاد بتعرضه لفقدان الوعي أثناء قراءة رواية "امرأة خائفة"، وتلقى العلاج وغادر المستشفى في حالة جيدة. أما جومانة رفيق خليل (ممرضة، 40 سنة، تعمل بالمستشفى القبطي) تعرضت لإغماء مفاجئ أثناء قراءة الرواية، وتولت زميلاتها إفاقتها، فيما دخل سامي إبراهيم سروجي (45 سنة، يعاني مرض السكري وجلطة دماغية سابقة) إلى المستشفى الإيطالى بتاريخ 24 أبريل بأعراض انخفاض في ضغط الدم أثناء قراءة الرواية، وتلقى العلاج، وحالته الصحية مستقرة. كما تعرض زياد على مرعي (مواطن، 50 سنة) لانخفاض في ضغط الدم أثناء قراءته رواية "امرأة خائفة"، ونُقِل إلى المستشفى العام بتاريخ 24 أبريل، وحالته مستقرة. تلقى العلاج وغادر المستشفى. أما حنان خالد سرحان (مواطنة، 44 سنة) دخلت مستشفى المبرة بنفس التاريخ بأعراض ضغط الدم بسبب قراءة الرواية. وحالتها الصحية مستقرة. وتلقت العلاج. بالإضافة إلى 7 حالات أخرى تم حصرها، ولم يتم التمكن من إجراء حوار معهم. ويُذْكَر أن جميع الحالات أوضحت أنها ستقوم باستكمال قراءة الرواية رغم ما تعرضت له. جاء ذلك وفقًا لحوار أجرته مراسلة قناة "السلام" مع قراء الرواية تحت عنوان "مراسلة قناة "السلام" في حوار مع قراء رواية: امرأة خائفة". القراء: رواية تأخذ العقل، وسنستكمل قراءتها مهما حدث".
"تميزت الكاتبة المصرية والتى تملك قدرات غير عادية فى وصف الحالة النفسية للمرأة ومعاناتها الخوف فى جميع مراحل حياتها بل وزادت عمقا فى تشريح تأثير الخوف على المجتمع وتداولت بعض صفحات التواصل الاجتماعى تعليقات تحذر مرضى القلب من قراءتها... انتشرت فى بعض صفحات التواصل الإجتماعى: "الفيس بوك" حملات تطالب وزارة الصحة بمراجعة رواية "امراة خائفة"، التى انتشرت بالأسواق فى الأيام الاخيرة فى منافذ توزيع الأخبار ولدى باعة الصحف، ودون كتابة تحذير رغم ما تسببه من حالات إغماء وهبوط مفاجىء فى ضغط الدم. وتدوالت تلك الصفحات تعليقات تحذر مرضى الضغط والقلب والسكر من قراءة رواية "امرأة خائفة" للكاتبة سلوى علوان... تناولت الصفحات الألكترونية أن الرواية تجذب لقراءتها رغم ما تحدثه من تأثير على استقرار الدورة الدموية. لذا إذا كنت مريضًا بالضغط أو السكر أو القلب فاحذر من قراءة الرواية قبل أن تستشير الطبيب وتستعد بالأدوية اللازمة".
"روائية مصرية تعيد أمجاد نجيب محفوظ: سلوى علوان في دراستها الثانوية كانت تحلم أن تصبح كاتبة عالمية. ولكن عندما واجهت حقيقة حياة المرأة في مصر أدركت أن حلمها كان مجرد ضرب من الخيال فقط، ولكنها قررت أن تحوله إلى واقع. بدأت تستجمع خواطرها المتمردة وتدون كلماتها في شكل قصص صغيرة كخطوة أولى، وبعد تخرجها من الجامعة أصدرت مجموعتها: "ليلة زفاف زوجي"، والتي وصلت إلى أعلى معدل توزيع. ثم بدأت في الكتابة في العديد من الصحف العامة في جميع أنحاء مصر. وفي نهاية المطاف قررت أن تبدأ رحلتها الحقيقية ككاتبة. قررت أن الوقت قد حان للمضي قدما لتصبح جزءًا من الثقافة المصرية من خلال إصدار روايتها: "امرأة خائفة" والتي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة "حروف")، والتي أحدثت ضجة بين القراء. "امرأة خائفة" في الطريق لترجمتها إلى العديد من اللغات للاشتراك فى الجائزة العالمية للرواية العربية لتصبح فيلما مصريا دوليا جاهزا للاشتراك فى الأوسكار.
وحول ماتعرض له بعض القراء من حالات إغماء والذى نشرتة جريدة "فيتو" تبين أن حالات الإغماء حدثت للقراء الذين يعانون من أمراض الضغط والقلب لما تتميز بة الرواية من تعمق داخل النفس البشرية وتأثيرها على الحاله النفسية للقارىء حيث يجد نفسه بطلا للرواية فيتجاوب معها بمشاعره ويعيشها واقعًا حقيقيًا".
والآن نأخذ فى تسجيل ملاحظاتنا على الرواية، وأول ما نود تسجيله ما نقرؤه فى الفصل الأول من كلام كثير ككلام المراهقات المجنح المتميع الذى لا يثير العقل ولا القلب بقدر ما يسبب الملل ويُنْفِد الصبر لكثرة ما فيه من تكرار لا يقدم جديدا ولا يقول شيئا محددا، كما تشوبه المبالغات المقيتة والعبارات الإنشائية العامة. وهو عبارة عن خواطر تجرى فى عقل بطلة الرواية وقت جلوسها مع حبيبها. خواطر سيالة لا يضبطها ضابط ولا يربطها رابط: فخاطرة من الشرق، وخاطرة من الغرب. ويحس القارئ أن الكاتبة تسجل كل ما يخطر لقلمها دون تمييز أو تفكير. وفوق ذلك فأهم ما تقوله يتسم بالتسيب والتصنع، ويتناقض تناقضًا فِجًّا مع سلوكها فى دنيا الواقع. فمثلا هل يعقل أن تنشغل البطلة كل هذا الوقت عن حبيبها الذى تجلس معه على إحدى القهوشيات (الكافتيريات) وتؤكد أنه هو الوحيد الذى أعطى حياتها معنى وأنها كانت تتوق طوال حياتها لذلك اللقاء الذى يضمهما معا، وأنها كثيرا ما حلمت به فى المنام قبل أن تلقاه، هل يعقل أن تنشغل البطلة عن حبيبها هذا فتتركه وتستغرق فى خواطرها الاستطرادية التى لا تكاد تنتهى وتنعدم فيها الفائدة ولا تعرف التجانس؟
وهذا مثال على تلك الثرثرة الطنانة التى لا تغذى العقل ولا الفؤاد، وتظن البطلة مع ذلك، ويظن معها السطحيون والسذج والمتسيبون عاطفيا، أنها قد أتت بالذئب من ذيله. تقول البطلة فى أول صفحة بل منذ أول سطر فى الرواية واصفة لقاءها بحبيب القلب الذى تقول إنها طالما حلمت به فى المنام ولم تتصور يوما أن هذا الحلم سوف يصبح حقيقة: "جلسنا وبيننا طبق للزينة من الكريستال وُضِعَتْ به بضع ورقات ذابلة من الورد المجفف بلون قرمزى داكن، وحولنا انبعثت إضاءة خافتة لمصباح كلاسيكى وصوت هادئ لموسيقى زامفير. سألتُ: كيف تتحول الأحلام والأمنيات المستحيلة إلى صورة من بشر، صورة من لحم ودم، إلى شرايين تضخ النور الذى يبدد ظلام الحياة ويؤجج شوقها ويوقظ رغباتها؟ كيف أصبحتُ فجأة أمام الحلم الذى راودنى فى اليقظة والنوم، الحلم الذى طاردتُه بطول سنوات العمر؟ كيف تأتينى اليوم مثل ترانيم ليلة عيد القيامة أو كأذكار روحانية فى حضرة ليلة صوفية؟ كيف تحققت الرؤيا بلقائك، فأتيت؟ فى تلك اللحظة تذكرت عبارة كتبها نزار قبانى: "الحب جرثومة تدخل دورتنا الدموية فتجعلنا أجمل وأنضر"... ما كل هذا الشوق الذى تفجر داخلى إليك، وأنت كالمارد أتيت تستنهض روحى وتشعل ثورتى وتبدد حزنى وتجدد أملى فى الحياة؟ تهزنى نبضة تبدأ من القلب وتسير باتجاه المخ على عكس ما تعلمناه طوال عمر دراستنا من أن إشارات جميع أجهزتنا جميعها تبدأ من المخ؟ تمتد النبضة عبر الأوردة لتضخ رغبة ملحة فى خلاياى تبشر بصحوة فى هذا العصر البائس أخشى أن تكون فى واقعها صحوة موت. ووجدتنى فجأة فى حالة من الفرح الاستثنائى والمتعة الاستثنائية والعشق الاستثنائى، فى حالة متناقضة من الحكمة والجنون، من الألم والنشوة، من السعادة والشجن، حالة من الوعى واللاوعى، حالة سببها أنت. وإذا بالمارد الذى أتانى يتعاظم حجمه ووجوده، فيحيطنى أمانا، ويغمرنى أنسا، ويملؤنى نورا، وشعرت بأن كل الناس فيما عداك أشباح تسير فوق الأرض، خيالات بلا ملامح أو معالم أو وجوه، بينما النبض البشرى الوحيد الذى أشعر به هو نبضك أنت، أنت المارد فى الحب، المارد فى القسوة والإيلام. وسألت: كيف تجرأت أحلامى الصغرى على التمرد ضدى لتخرج منى، رغما عنى، لتعلن عن نفسها وتطالب بحقها فى الوجود، وبحقى فى الحياة؟ كيف تجرأت أحلامى على صمتى وخوفى؟ وكيف سمحت لها بهذا التمرد العفوى المحفوف بالمخاطر والغارق فى بحور الخوف؟ قبلك عشت مثل أرض شققها الجفاف فأصبحت بلا خير أو زرع أو أحلام. اليوم تحلق معى الأمنيات فى فضاء الكون وتفرد ذراعيها بالحب للحياة. تزرعنى أرضا خصبة، وتبدرنى مثل أحلام تناثرت فوق الكرة الأرضية، ثم تغرسنى فى سماء الدنيا كأبهى ألوان الطيف، وتنشدنى كأعذب الأغنيات، وما كنت قبلك إلا بضع أوراق من لحم، وأحبار من دم وُضِعَتْ فى شهادة ميلاد كوثيقة رسمية لوجودى وبطاقة تحقيق هوية".
والآن انظر إلى الصور والتعابير العقلية الباردة التى تصطنعها البطلة اصطناعا وتذكرنا بالعملة الورقية التى لا يحميها غطاء من الذهب فتتضخم فى الجيوب دون أن تكون قادرة على شراء شىء ذى قيمة. ومن هنا يمكنك، عزيزى القارئ، أن تفهم السر فى تلك المبالغات الثقيلة الخانقة. وانظر مرة أخرى تر بكل وضوح كيف تتناقض البطلة فى كلامها من جملة لأخرى، فتصف حبيبها بأنه ملأ حياتها نورا وأمانا لتستدير فى التو واللحظة لتقول عنه إنه مارد فى القسوة والإيلام، علاوة على أن هذا هو أول لقاء لها به، فمن أين أتتها قسوته وإيلامه؟ وبالمثل نراها تصف فرحها بأنه فرح استثنائى، ومتعتها بأنها متعة استثنائية، لتنقلب على عقبيها فى الحال قائلة إن حالتها حالة من الألم والنشوة، ومن السعادة والشجن، مع كلام ضخم فخم، لكن بلا رصيد من المشاعر الحقيقية، عن الأحلام التى تناثرت فوق الكرة الأرضية وألوان الطيف التى انغرست فى سماء الدنيا. أما تصويرها لنفسها عقب هذا الكلام بأنها امرأة يسكنها الخوف ويشلها الخوف ويقتلها الخوف فهو كلام فى الهجايص، إذ سوف تقول لنا بعظمة لسانها إنها كثيرا ما اشتركت فى المظاهرات وكسرت كلام أبيها ونفذت كل ما تريد رغم أنف الجميع. ودعك من حديثها بعد ذلك عن تمردها وجنونها وجنوحها، فهو يتناقض تناقضا أبلق مع دعواها التى أقامت عليها روايتها كلها بأنها "امرأة خائفة". ودعك كذلك من كلامها عن النبضة التى لا ندرى هل صدرت من القلب إلى المخ كما تقول أم هل صدرت من المخ إلى خلايا الجسم كما يفهم من كلامها عقب هذا، وهل الأوردة هى التى تحمل الدماء إلى الخلايا أم هل هى الشرايين، فمن الجلىّ أن البطلة تهرف بما لا تعرف. والواقع أن هذا الكلام أشبه ما يكون بكلام المراهقين والمراهقات حين يمسكون القلم ويريدون أن يدخلوا عالم الكتابة فيقولون كلاما طنانا طائشا منفلتا ظنا منهم أن الأدب هو هكذا: مبالغات مجنحة بلا ضابط، وصور مصطنعة باردة، ونهنهات رومانسية فارغة، وخيالات طائشة مهزوزة.
وبطلتنا لا تكف عن الثرثرة حول حرمانها من تحقيق أحلامها ولا عن الولولة بسبب فقدانها الحرية فى أن تحب وأن تلتقى بحبيبها كما تقول، فى الوقت الذى يجلس أمامها حبيبها وتطارحه الغرام الملتهب دون أن تخاف أو تحسب حسابا لأى أحد أو أى شىء، وأمامها على مائدة القَهْوَشِيّة (الكافتريا) زهرية مملوءة بأوراق الورد القرمزية، وفى جنبات المكان ترفرف موسيقى زامفير. بل كانت تجرى معه أحيانا فى الشارع محبورة غير ملقية بالا إلى الناس ولا أنه من الممكن أن يراها أحد من أهلها أو معارفها أو زوجته هو أو أولاده. فهل هذا هو العجز والحرمان من الحرية والحب الذى تملأ به الرواية ثرثرة وتفيهقا؟ ثم إنها، كما تصف نفسها بنفسها، مثقفة ثقافة عالية ومناضلة سياسية تقود المظاهرات وتدخل السجن دفاعا عن الحرية والكرامة البشرية، وتمارس الصحافة بكل ثقة واقتدار. وفوق ذلك ها هى ذى أمامنا تستمع إلى مقطوعة موسيقية أجنبية وتدرك بكل بساطة أنها موسيقى جورجى زامفير عازف الفلوت الرومانى. ويا ليت الأمر وقف عند الموسيقى الأجنبية فحسب، بل هناك أيضا الرقص الغربى الذى تصرح بأنها تريد أن تنهض من مجلسها وتأخذ حبيبها فى أحضانها ويذهبا فى رقصة هادئة من رقصاته، أو رقصة "سْلُو" حسب رطانتها. ليس هذا فحسب، إذ تخبرنا فى الفصل الرابع أنها هى التى بادرت بالاتصال بحبيبها والتقت به عدة مرات فى القهوشية المذكورة حيث موسيقى زامفير وطبق ورق الورد القرمزى. فهل يمكن أن يدخل عقل عاقل أن فتاة أو امرأة كهذه تفتقد الحرية فى أن تحب وتُحَبّ؟ بل هل يمكن أن يصدق أحد أن مثل تلك الحرية مفتقَدة فى مجتمعنا بعد كل الحريات التى حصلت عليها المرأة وكل التطورات التى اعترت المجتمع؟ وهل هناك من يجهل الحب أو الاستمتاع بالحب بعد كل تلك الأفلام والمسلسلات والروايات والمسرحيات التى تتهاطل علينا من المذياع والتلفاز، علاوة على اختلاط الشبان والشابات فى الشوارع وأماكن العمل والمدارس والجامعات؟ الحقيقة أن ما تقوله البطلة لا محل له من الإعراب ولا حتى من البناء، إن كان للبناء محل.
والطريف أن البطلة فجأة يتراءى لها، وهى جالسة فى القهوشية قبالة حبيبها، أن تتحدث عن جدتها فتقول دون سبب مفهوم إنها كانت طوال عمرها تعيش على الخوف، وإنها قد ورَّثت هذا الخوف لأمها، التى ورَّثته بدورها لها هى. عظيم! فما هو ذلك الخوف الذى ورثته الجدة لابنتها التى هى أم البطلة فورثته هذه للبطلة نفسها؟ المنتظر أن يكون الخوف الوراثى فى الأسرة خوفا خاصا بهذه الأسرة، لكننا نفاجأ بأنه الخوف الذى يخافه كل الناس، فكل الناس مثلا تخاف الموت، وكذلك ما بعد الموت إن كانوا ممن يؤمنون بالآخرة. وهذا أحد الخوفين اللذين تتحدث عنهما البطلة فى هذا السياق. وهو، كما يرى القارئ، لا علاقة له بالوراثة الأسرية التى تشير إليها. كذلك تتحدث بطلتنا عن بكاء الأطفال حين يولدون بوصفه ثانى الخوفين اللذين ورثتهما البطلة عن أمها، التى ورثتهما عن جدتها.
ومعروف أن بكاء الطفل لا علاقة له بالخوف من قريب أو من بعيد لأن الطفل لا يدرك ولا يعقل ولا يفهم شيئا حتى يقال إنه خائف أو غير خائف. أما قول ابن الرومى فى بيته التالى:
لِمَا تُؤْذِن الدنيا به من صُرُوفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يُولَدُ
فإنه محض كلام شعرى لا حقيقة له فى الواقع. وأيا ما يكن الأمر هنا فبكاء الولادة أمر عام يعرفه الأطفال جميعا ولا يقتصر على البطلة وأم البطلة وجدة البطلة حين كن أطفالا، فنحن كلنا نبكى ساعة الميلاد. وما دامت المسألة ثرثرة فى ثرثرة فلا مانع أن آخذ حقى منها فأقول إننى، لمعرفتى أن كل الأطفال يبكون ساعة يولدون، قد استغربت حين رأيت ابنى، وقت نزوله من بطن أمه فى مستشفى جون رادكليف بأكسفورد عام 1979م، لا يبكى، ورأيت الممرضة مشغولة بالأم التى كانت مرهقة تماما، وخشيتُ أن يكون الولد قد مات أو يعانى من مشاكل فى الجهاز التننفسى يمكن أن تقضى عليه، فلفتُّ نظر الممرضة إلى الأمر، فما كان منها إلا أن أمسكت الولد النازل لتوه من بطن أمه من رجليه، والدم يغطيه، جاعلة رأسه إلى الأسفل وهى تناشدنى ألا أقلق، ثم خبطته على ظهره خبطة خفيفة، فاستهل صارخا. وعلاء الدين ولد لا بنت، ولا علاقة له بأسرة البطلة، ولم يرث شيئا من مخاوف أمها التى ورثتها من قبل عن جدتها. فما قول بطلة روايتنا فى هذه المسألة؟
ثم إن المسألة لا تنتهى هنا، وهو ليس بالقليل، إذ إن البطلة المغرمة بإفساد فرحة العمر التى كانت تنتظرها منذ سنوات وسنوات بكل ما لديها من شوق وتلهف، وهى فرحة اللقاء بحبيبها الذى كانت تراه فى الأحلام قبل أن تلقاه فى الواقع، تستمر فى ترك حبيبها الجالس أمامها وتروح فى سلسة طويلة متتابعة من الذكريات تحدث فيها أمها وتحدثها أمها وتحكى لها عن الجلّة التى كانت تلمها الأم من الشوارع وهى حافية رغم أنها بنت عُمَدٍ كما تقول، وغير ذلك من الموضوعات التى لا تكاد تنتهى. كل ذلك، والحبيب جالس أمامها لا ندرى ماذا يفعل. وإن الإنسان ليستاءل محقا: أحُبِكَتْ فلم يَحْلُ للبطلة استرجاع ذكريات الجِلّة إلا الآن وفى حضرة الحبيب؟
ومن بين ذكريات البطلة التى تترك فيها حبيبها جالسا أمامها كخيال المقثأة لا تبالى به رغم ما تزعمه من أنها كانت تنتظر لقاءه منذ أعوام وأعوام بكل الشوق واللهفة التى فى قلبها بسبب الحرمان العاطفى الطويل: ذكرى مقتل خالها فى عرس أحد شبان الأسرة جراء طلق نارى طائش مما يُضْرَب فى الأفراح الريفية. وفى هذه الذكرى تطالعنا شخصية للبطلة لا يمكن أن تقنع أحدا، إذ إن بنت عشر السنوات تصف الحقول والطرق والبشر وتحلل الأحداث وتفلسفها كما يفعل المفكرون الكبار مرددةً مفاهيم لا يمكن أبدا أن تخطر لبنت صغيرة مثلها. إن البطلة ساردة الرواية لا تفرق بينها وقد نضجت وبينها هى نفسها حين كانت طفلة صغيرة لا يمكنها التفكير بتلك الطريقة. وهذا عيب كبير فى الرواية.
كذلك نسيت البطلة ما قالته قبل سطور قليلة من أن إحدى النسوة، عقب مقتل الخال، قد جمعت أطفال الأسرة الصغار، ومعهم بطلتنا، فى غرفة أحكمت إغلاقها عليهم من الخارج بحيث لا يستطيع أى منهم أن يغادرها، فتقول عقب هذا إنها ذهبت إلى بيت خالها ورأت النسوة المتشحات بالسواد متجمهرات هناك، فكان عليها أن تخوض هذه الكتل البشرية إلى قلب الدار. أما كيف خرجت من الغرفة المغلقة عليها وعلى أطفال الأسرة من الخارج فالله أعلم. وأما كيف لم يثر ظهورها وسط النسوة اللاتى حبستها إحداهن فى الغرفة المذكورة دهشتهن فالله أيضا أعلم.
ثم عندنا جدتها، التى تقول هى نفسها عنها إن أولادها لم يكونوا يشترون لها أو لابنتها (أم البطلة) جلبابا. هذه الجدة تفاجئنا بعد موت ابنها، خال البطلة، بارتدائها عباءة وطرحة محترمتين، ويعالجها أولادها القساة القلب الذين بخلوا عليها بجلباب، مجرد جلباب، عند أكابر الأطباء. ليس ذلك فقط، بل إن تلك الجدة التى كان أولادها لا يتورعون عن ضربها، كما تخبرنا البطلة، ولا يحترمونها ولا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة أمامهم أو تقول لهم: ثلث الثلاثة كم؟ هذه الجدة تجمع أولادها هؤلاء قبيل موتها وتأمرهم بأن يزوجوا الحفيدة الفلانية للحفيد الفلانى، وتصدع الأسرة بالأمر وتعمل على تنفيذه، ويتقدم لخطبة بطلتنا ابن خالها الذى عينته جدتها لها. ثم إن البطلة، كما سنعرف لاحقا، سوف ترفض ابن خالها لأنه لم يوافق على أن تكمل تعليمها بعد الزواج كما أصرت، ويكون لها ما أرادت. ومع هذا لن تسكت ندابتنا، بل ستظل فى عويل ولطم وشكوى من ظلم الرجال للنساء، وإجحاف الرجال بحقوق النساء، وعجز النساء أمام الرجال الظلمة، وخوف النساء الملازم لهن من الرجال المستبدين قساة القلوب.
وهنا تحضرنى القصة التالية الطريقة، فقد كان عندنا فى قريبتنا أخوان مختلفا الطباع، وكانا على شىء من التعليم، وكان موظفين بسيطين فى المركز، ولهما منزلٌ شركٌ ورثاه عن أبيهما: فأما الأصغر فكان عفيا قويا شرسا، وأما الأكبر فلم يكن له فى المعارك والخناقات. وذات مغربية استفرد الأصغر بالأكبر داخل الدار، واشتبك معه فلَبَّبَه وبَرَك فوقه، وهات يا ضرب من النوع الذى يحبه قلبك، وهو يصرخ وينادى رغم ذلك: "يا خلق هوه! الحقونى يا ناس! المجرم ابن الكلب يضربنى ويريد أن يقتلنى!". ويسرع رجال الحى محاولين فتح الباب لإنقاذ الشرس القبيح وتخليصه من براثن الطيب الغلبان، فلا يستطيعون فتحه لأن الشيطان كان قد أحكم غلقه حتى لا يمكن أحدا الدخولُ إليهما ومعرفة الظالم من المظلوم. ولما قابلته ثانى يوم، وكان لى عليه دالَّة، أخذ يروى لى القصة وهو يضحك ويصف لى فى حبور إبليسى كيف أشبع أخاه لطما ولكما ورفسا وعضا وعلمه أصول الأدب حتى لا يفكر أن يطالبه بحقه فى البيت بعد ذلك أبدا. بطلتنا، أقولها وأنا لا أتمالك من الضحك، تذكِّرنى بهذا الأخ الشرس!
وفى فصل الرواية الأول، الذى ما زلنا فيه، تقول البطلة إنها، لكونها أنثى، كان كل شىء فيها يشكل عيبا عند أهلها والناس من حولها بمعنى أنها ينبغى ألا يراها أحد أو ترى أحدا: فشكلها عيب، ورؤيتها عيب...إلخ، وكأنها لم تكن تخرج من بيتهم أو تذهب إلى المدرسة فيراها الناس فى الشوارع ذاهبة آيبة، ويراها المدرسون فى الفصل وفناء المدرسة، وكأن أمها (وأمها طبعا أنثى) لم تشنف آذاننا بأنها كانت تذهب دائما للغيط وتجمع روث البهائم من الطرقات لتصنع منها أقراص الجلة وهى حافية ملهلهة الثياب (رغم أنها سليلة بيت العُمَد)، وهو ما يعنى أن الناس كانت تراها ولا تشكل أى عيب!
وأخيرا، وبعد كل ذلك السرحان والتوهان، تتذكر البطلة بعد عشرين صفحة كاملة أن هناك حبيبا لها يجلس قبالتها لا تبالى به أو تسأل عن صحته، فتُسْمِعُنا صوته وهو يقول لها، لا "وَحِّدُوووه!" كما ينبغى أن تكون حبكة القافية، بل "إيه؟ فيه إيه؟ رحتى فين؟". إن هذا كله يناقض ما نعرفه عن الطبيعة البشرية، فليس من المعقول أن تترك فتاة أو امرأة حبيبها الجالس أمامها فى هذا الجو الرومانسى، والذى ضاع عمرها كله فى انتظار تشريفه، وتروح فى ذكريات الجلة والحفاء وتنساه تماما. ولنفترض أن فتاة فى مثل هذا الموقف قد سرحت رغم ذلك كله فلا يمكن أن يكون سرحانها فى الجلة وأقراصها، فضلا عن أن السرحان لا يمكن أن يستغرق عشرين صفحة بالتمام والكمال.
لكن بطلة الرواية مغرمة بالسرحان لأتفه سبب، ومن ثم فما إن عبَّر حبيبها عن دهشته من أمر ما حتى ألفيناها تتركه وتسرح مرة أخرى فى أمر مشابه، وكأنها "تتسلبط". إنها مدمنة سرحان. وكانت قبل قليل قد قالت إنها حريصة على الحديث مع حبيبها فى أى موضوع خشية إصابته بالملل جراء صمتها. لكن من الواضح أن كلام الليل عندها المدهون بالزبد سرعان ما يسيح دون انتظار الصباح، بل فى التو واللحظة، إذ ها هى ذى تترك حبيبها جالسا أمامها كالبيت الوَقْف وتذهب إلى حادثة جرت فى 1980م بالقاهرة تقول عنها إنها فى ذلك اليوم (أى يوم يا ترى؟ لا يهم، إنه يوم والسلام من أيام سنة 1980م الثلاثمائة والثلاثة والستين. ونترك لك، أيها القارئ، حرية الاختيار. والمهم أنه يقع فى عام 1980م، وهذا ليس بالشىء القليل. واحمد ربك أنها حددت المكان بمدينة القاهرة، ولم تقل إن تلك الحادثة قد وقعت فى جمهورية مصر العربية كلها) تقول إنها فى ذلك اليوم كانت تنظر من خلف النافذة الخشبية المغلقة فرأت عشرات من جنود الأمن المركزى ينتشرون فى الشارع يحرسون المسجد والكنيسة الموجودين هناك. تقصد تداعيات ما وقع من أحداث فى الزاوية الحمراء. والاكتفاء بأن الحادثة التى تشير إليها قد وقعت فى عام 1981م هو لون من التهافت الفنى لأن مثل هذه الأحداث لا يصح أن يقال إنها وقعت فى العام الفلانى. هذا فى الواقع تسيب وتفكك لا يقع فيه إلا كاتب متهافت الموهبة. دعك من القول بأنها نجيب محفوظ آخر. ومع هذا فالحمد لله أنها لم تقل إن تلك الواقعة قد حدثت فى القرن العشرين!
ثم نرى البطلة المحروسة تذكر اصطحاب جدتها (أم أبيها) لها ذات يوم إلى الكنيسة التى فى حيهم. وكانت المحروسة فى العاشرة من عمرها، ولم تكن قد دخلت كنيسة من قبل. ومع هذا نراها تتعرف على تمثال العذراء على الفور، مع أن هذا غير ممكن من طفلة فى مثل سنها لا تعرف شيئا عن الكنيسة ولا عن النصرانية. ثم تقول إنها رأت فى ناووس زجاجى تمثالا لامرأة غاية فى الجمال والرقة والحشمة لا تعرف من هى، لتنسى هذا بعد عدة جمل وتقول إنها كانت تدرك آنذاك أن هذا التمثال هو للقديسة المذكورة. كيف تقول إنها لم تكن تعرف لمن التمثال، ثم تقول بعد عدة جمل إنها كانت تدرك لمن هو؟ واضح مدى التفكك الذى يسم بل يصم الرواية حتى فى هذه التفاصيل التافهة، وهو ما يومئ إلى أن بطلتنا ضحلة الموهبة، ويومئ أيضا أن الدعاوى السخيفة على قفا من يشيل. ألم يقل القائلون إنها نجيب محفوظ جديد؟
كذلك نراها تَسْرُد ما وقع من جدتها المذكورة فى تلك المناسبة من استشفاعها عند الله بالعذراء والقديسة تيريزة سَرْدَ المسرور الراضى لأن هذا دليل على رسوخ الوحدة الوطنية فى مصر، وكأن الوحدة الوطنية لا تقوم إلا بنسيان المسلمين أصول دينهم وأسسه ومجاملة إخوانهم فى الوطن بالتعبد بما لا يقبله دينهم على أى نحو من الأنحاء. إن الإسلام لا يعرف توسيط النبى محمد ذاته عند الصلاة والدعاء، فكيف يقبل توسيط تيريزة، والدين الذى تدين به تيريزة مرفوض فى الإسلام؟ إننا نحترم اختيارات الآخرين لما يعتقدونه وما يتعبدون به، لكن ليس معنى هذا أن نعتقد ما يعتقدون أو نردد ما يرددونه فى عباداتهم. هذه نقرة، وتلك نقرة. قد تكون جدة البطلة جاهلة لا تفهم، ولكن ما عذر البطلة، وهى المثقفة التى تعرف موسيقى زامفير، وكذلك الرقص "السّلُو"؟
لقد أنكرت البطلة (فى دخيلة نفسها) آنذاك على جدتها ما صنعت، فما الذى غيرها وأراها الأمور الآن بعين أخرى؟ ثم إذا كانت ترفض وقتئذ هذا الذى صنعته جدتها فلماذا لم تصارحها بهذا الرفض؟ بل لماذا لم تثر هذا الموضوع فى البيت أمام أعضاء الأسرة كما يتوقع فى مثل تلك الحالة من طفلة فى سنها لا تعرف اعتبارات المجاملة؟ بل لماذا لم تخبرها الجدة قبل الخروج من البيت بطبيعة المشوار التى تنوى أن تصطحبها فيه على عادة الناس فى مثل تلك الظروف، على الأقل: ردا على فضول الطفلة الصغيرة التى تحب أن تعرف إلى أين تأخذها جدتها؟ وقبل ذلك كله لم يا ترى ذهبت الجدة أصلا إلى الكنيسة للتشفع بقديسيها؟ لم تذكر الرواية أى سبب لذلك. ولا أظن إلا أن الرواية اصطنعت تلك الواقعة اصطناعا لتفهمنا أن الوحدة الوطنية تقتضى هذا رغم أن الوحدة الوطنية الحقيقية إنما تقوم على تفهم طبيعة الحياة وأنها قائمة على الاختلاف فى كل شىء بما فيها الأديان والمذاهب مثلما شرح لنا القرآن الكريم، وعلى أن لكل إنسان الحق فى أن يؤمن بما يشاء ويكفر بما يشاء مثلما شرح لنا أيضا القرآن الكريم، وأن إيمان المسلم بأن دينه هو وحده الدين الحق شىء، والإيمان بنفس القوة والإخلاص بأن اختيار المخالفين لنا لدينهم ومذهبهم هو حق من حقوقهم التى لا يجوز الجور عليها أو انتقاصها كما يفهمنا ديننا كذلك شىء آخر لا يتعارض معه بل ينبغى أن يتعايش الأمران فى عقل المسلم وقلبه فى تفاهم وسلام.
ولا أظنك، عزيزى القارئ، قد نسيت زعم البطلة أنها لم تكن تنكشف على أحد أو يراها أحد. فها هى ذى قد لحست كلامها كله إذ تحدثت عن خروجها مع جدتها (وأين؟ إلى الكنيسة) دون أن تبالى بأن يراها هى وجدتها أحد لا من أمة محمد بل ولا من أمة غير محمد. فماذا ينبغى أن نقول؟ ورغم هذا تذكر بعد قليل أنها قد عوقبت هى وأختها عقابا شديدا من أبيها لأنهما ركبتا الأرجوحة التى كانت منصوبة بجوار بيتهم. لماذا؟ لأن الأنثى لا يصح أن تتأرجح. وكأن بنات مصر فى شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها لا يركبن الأراجيح والأحصنة والصناديق وكل ما يخطر على البال من الألعاب المعروفة فى الموالد والأعياد. وإلا فإلى أى البلاد تنتمى البنات والفتيات اللاتى يركبن الأراجيح؟ ثم من أين يا ترى تأتى الفتيات والنساء اللاتى يذهبن إلى المدارس والجامعات متعلمات ومعلِّمات أو يقصدون الأسواق شاريات بائعات، وينكشفن بطبيعة الحال على الرجال فى ذهابهن وإيابهن ويرى الرجال بعيونهم التى تستحق الخزق وجوههن وقوامهن وملابسهن ويسمعون أصواتهن؟ أهن مستوردات من أوربا؟ البطلة تتكلم فى مثل هذه الموضوعات بكل خفة واستخفاف، وكأنها تخاطب قومًا بُلْهًا لا عقل عندهم ولا فهم ولا تمييز.
وفى هذا الفصل أيضا تنتهز البطلة كل فرصة لتنخرط فى فاصل من الأغانى الشعبية التى من الواضح أنها تحفظها جيدا، فتوردها بتمامها أغنية وراء أغنية مثلما فعلت فى الفصل السابق بداعٍ حينا، وبدون داعٍ سوى الاستعراض فى كثير من الأحيان. ومثل ذلك غرامها بترديد الأمثال الشعبية سواء كانت هناك حاجة لهذا أو لا. ولعلها تظن أن اللون المحلى، الذى كان يوما ما هوسا لدى القصاصين، يقتضى ذلك. وهناك أيضا الاستطرادات والدخول من حكاية إلى حكاية لأوهى سبب، وإن كان من الجلى أن هذا يشبع لدى البطلة الرغبة فى الحكى والثرثرة.
ثم تختم البطلة فصلها الثانى، وهو فصل مفعم بالثرثرة كسابقه، بموضوعها الذى تدمنه، ألا وهو التباكى على أنها لا تستطيع أن تحب أو تعبر عن حبها لمن تحب، رغم أنها تمارس الحب أمامنا بكل حرية وأريحية وأستاذية، وعلى أنغام فلوت جورجى زامفير، وفى ضوء الشموع، ويمسك الحبيب بيديها فى حنان، ويقبلها قبلة فوق الجبين، ومعروف أن الذى فوق الجبين لا بد أن تشوفه العين، ولا بد أن تذوقه الشفاه يوما، فالمسافة بين الجبين والشفاه لا تزيد على بضعة سنتيمترات يمكن أن تتلاشى تماما لو انزلقت شفاه المقبِّل سهوا أو خطأً أو لسبب آخر غير السهو والخطإ، وما أكثر تلك الأسباب! ليس ذلك فحسب، بل إن البطلة تريد فوق البيعة أن تنهض فتراقص حبيب القلب رقصة "سْلُو"؟ ثم إن هذا ليس هو اللقاء الوحيد بين العاشقين بل سبقته لقاءات وحوارات وغراميات كثيرة أمسك فيها الحبيب يديها، واستعرض مهاراته الغرامية وعدَّد لها طوائف النساء اللاتى وقعن فى دباديبه، ونظر بهيام وغرام وانتقام فى عينيها، وأسمعها كثيرا من الكلام التافه الذى تعشقها أمثالها من المتحذلقات الفارغات العقل والقلب رغم ظنها أنها مثقفة ومستنيرة وتبغض البطرياركية الاستبدادية وتريد الانعتاق والانطلاق وتعمل على تحقيق الذات.
إن البطلة، بسلوكها هذا وشكواها الكاذبة التى لا تنتهى، لتذكرنى بالشحاتين المحترفين الذين يرفعون عقائرهم (أقصد "حناجرهم"، وإن كانت هذه غير تلك، ولكنْ هكذا صار الأمر) دائما أبدا بشكوى الفقر والمرض رغم كل ما ينهال عليهم من أهل الخير السذج من النقود والطعام والملابس، ومع هذا نراهم كل مرة بنفس الملابس القديمة الوسخة ونفس الشكوى من الفقر والمرض. والغريب أنهم لا يغيرون المنطقة التى يشحتون فيها، على الأقل: كيلا ينكشفوا. ولكنهم قوم بهت لا يخجلون. وأخيرا أيضا تنتهى بطلتنا بالعودة من ذكرياتها الطويلة المنثالة إلى حيث تجلس ويجلس أمامها حبيب قلبها، الذى يظل يناديها، كما تقول هى، لينبهها إلى وجوده فلا يفلح أبدا إلى أن ينتهى بنزين ذكرياتها فتتوقف سيارتها رغما عن أنفها لا برضاها ولا بلياقة منها: لا اللياقة الفنية التى ينبغى أن تراعيها فى بناء روايتها ولا اللياقة السلوكية التى ينبغى أن تراعيها فى التصرف تجاه حبيبها.
وننتقل إلى الفصل الثالث ظانين أن البطلة قد شبعت انصرافا عن حبيب الروح الذى كانت تنتظره طوال عمرها "على أحر من الجمر" كما تقول العبارة التقليدية، وسوف تقبل عليه انتهازا لفرصة اللقاء السعيد، لكننا نفاجأ بها تتحول إلى موضوع آخر ضربت فيه صفحا عن حبيبها تماما حتى لم نعد نعرف ألا يزال جالسا معها فى القهوشية يحاول أن ينبهها لوجوده مرارا دون أن تلقى إليه بالا من فرط استغراقها فى خواطرها وذكرياتها وتطلعاتها ومخاوفها. وهذا الموضوع الجديد هو رغبتها فى الذهاب إلى جنوب لبنان مع الصحفيين من زملائها لتكون على مقربة من فلسطين حيث كان الإسرائيليون ماضين فى قتل الرجال والشبان والأمهات والأطفال وهدم البيوت على رؤوس أصحابها دون أن يعبأوا بالمظاهرات التى اجتاحت العالم كله، تلك الرغبة التى تصطدم بمعارضة أبيها الرافض لسفر امرأة مطلقة مثلها كان ينبغى أن تبقى فى البيت إلى أن تتزوج مرة أخرى قطعا للألسنة التى لا ترحم المطلقات. وهذا هو بيت القصيد الذى اصطنعت البطلة تلك القصة كى تصل إليه وتسمعنا مندبة عن المطلقات.
ويهمنى هنا أن أتريث قليلا أمام اشتغالها صحفية أولا، ورضا أبيها باشتغالها تلك الشغلة ثانيا. فأما الأولى فقد تركنا البطلة فى الفصل الأول وقد قرر الأب والأم أن تتزوج من أحد أقربائها وتترك التعليم، الذى سيفسدها ويعلمها الحب والفجور. ترى كيف وافق الوالد المستبد المتخلف الرجعى صاحب الدماغ الحجرية والقلب الصوانى الذى لا يتفاهم ولا يرى للفتاة ولا للمرأة حقا فى أى شىء على أن تشئتغل ابنته شغلة تقتضيها الخروج معظم الوقت وحدها من البيت لا يدرى أثناءها ماذا تفعل ولا مع أى شخص تتواصل ولا أين تذهب؟ وأين الخوف الذى وصفت به البطلة نفسها وجميع نساء أسرتها، وها هى ذى تعترض على قرار أبيها بعدم السفر غير خائفة منه: لا من الأب ولا من السفر؟ فكيف تقول عن نفسها إنها "امرأة خائفة" بل تجعل من تلك العبارة عنوانا لروايتها؟ ثم ها هى ذى أمها أيضا تقف إلى جوارها فى موضوع السفر وتعارض زوجها دون أى خوف منه، فيسلم الأب بما تقول مذكرا إيانا بالرجل ذى العينين المتخاصمتين فى فلم "ابن حميدو"، الذى لم تكن كلمته تنزل الأرض أبدا، حتى إذا أتأرته زوجته النظر بعينيها الناريتين وشمرت عن زنديها السمينين وقالت له بصوتها الملعلع: "حنفى؟" انهار حنفى فى الحال ولعق تهديداته المقعقعة وقال وقد كسر رأسه ووضع عينيه فى الأرض باستخذاء تام: "خلاص! هذه المرة تنزل كلمتى الأرض!". ومن الغريب العجيب أن البطلة تصف الأب فى الفصل التاسع بأنه "يخفى تحت صرامته حنانا كثيرا وقلبا ضعيفا أخفاهما خلف قسوة الخوف علينا، على بناته وسمعته وشرف تقاليده الموروثة". فأين الكلام المجعلص عن قسوة الأب وديكتاتوريته الوحشية التى لا تعرف الهوادة؟
ألم تصدعنا البطلة، عفا الله عنها، بالحديث الممل المزعج عن ظلم النساء واضطهادهن وحرمانهن من كل حقوقهن فى مجتمعنا الذكورى اللعين، وبالذات فى أسرتها التى تتميز نساؤها وبناتها بأنهن مصابات بخوف مزمن حتى ليخفن من خيالهن ويصبن إذا لمحن هذا الخيال بالإغماء مثلما غُشِىَ على قراء الرواية نظرا لما فيها من قوة العبقرية وبلاغة السرد والتصوير والمآسى الفاجعة، وهو ما يذكرنا برواية "آلام فرتر"، التى شاع انتحار كثير من قرائها لدن صدروها تقليدا لانتحار بطلها؟ ولم لا؟ أليست عبقرية البطلة من نفس عيار العبقرية التى كان عليها جوته؟ أليست البطلة هى "نجيبة محفوظة" العصر والأوان كرما من الله ونعمة حتى لا نعيش يوما بدون أن يكون بيننا العبقرى الألمعى عمنا الكبير نجيب محفوظ ولو فى طبعة أنثوية تصيب الناس بما لم تستطع رواياته أن تصيبهم به من الإغماء بحيث يشح البصل (لزوم تفويق الناس!) من الأسواق، فيرتفع سعره، ويجنى محتكروه الأرباح الفلكية من ورائه؟
لقد انتشر الصحفيون والمذيعون والمراسلون التلفازيون فى كل مكان من أرض مصر المحروسة، ورصدوا حالات الإغماء، فتبين لهم أن نصف المصريين قد أغمى عليه، وأن النصف الآخر فى طريقه إلى الإغماء: واحد واحد يا زباين! والظاهرة الجديرة بالتسجيل هى أن كل من أُغْمِىَ عليه ما إن شمموه بَصَلَة ونهض من غفوته حتى أقسم بالطلاق والعتاق إنه لن يتوقف عن إكمال قراءة الرواية حتى لو راح فطيسا بسببها. وهى ظاهرة عجيبة فعلا لم يسجلها التاريخ الأدبى فى أى بلد من قبل، ولا أحسبها يمكن أن تتكرر من بعد.
ولقد سرحت بطلة روايتنا عن حبيبها هذه المرة أيضا فصلا كاملا بحذافيره كلها وحَوْبَرِه وزَوْبَرِه لم يأت له ذكر خلاله بأى حال من الأحوال ولو من بُعْد سبعين خريفا. والواقع أن فضولى يكاد يقضى علىَّ حتى أعرف ماذا تم بين الحبيبين فى هذه الجلسة الرومانسية التى كانت تصدح أثناءها موسيقى الفلوتست الرومانى جورجى زامفير، ويعبق فى جنباتها عبير أوراق الورد القرمزية. ونصل إلى الفصل الرابع لنفاجأ فيه بأن البطلة قد تمردت على ما كان يريده لها أهلها فرفضت الزواج من ابن خالها، وتزوجت من رجل آخر وافق على أن تكمل تعليمها، ولنفاجأ مرة أخرى بأنها طلبت الطلاق منه ونجحت فى الحصول عليه رغم أنف أهلها. كل ذلك، وهى ماضية طوال الوقت فى الشكوى والنواح من أنها لا تمارس حريتها. كما نفاجأ أيضا أنها، بعد أن أكملت تعليمها وتوظفت (وهو ما يعنى مرور نحو عشرين عاما منذ كانت فى الثانية عشرة من عمرها حين أرادوا تزويجها إلى أن صارت امرأة ثلاثينية كما تقول عن نفسها عندما قابلت حبيبها)، نفاجأ بأنها لم تتأقلم مع زوجها الذى لم تتزوجه عن حب، وكانت لهذا السبب تشعر، كلما مارس معها حقه الطبيعى كزوج، أنه ينتهك جسدها، فسقطت مريضة لا يعرف الأطباء علة مرضها ولا كيفية الشفاء منه، ودار بها الأهل على الدجالين والمشعوذين والمتاجرين يالقرآن وقارئى الفنجان وغيرهم لعلهم يستطيعون لها علاجا، لكن دون جدوى، ونفاجأ كذلك بأنها تركت أهلها يصنعون بها كل ذلك دون أية مقاومة. وهذا كله غريب جد غريب. ترى أين ذهب تمردها على أوضاع المجتمع المتخلف المتوحش، وقدرتها على فرض إرادتها دون مبالاة بأحد من أهلها أو من غير أهلها؟
لقد رأينا أنها كانت تنفذ ما تريد دائما دون أن يستطيع أهلها معها شيئا، فرفضت الزواج بابن خالها، واقترنت بالرجل الذى أرادت، وأكملت تعليمها، وتوظفت، ثم حصلت على الطلاق من زوجها، الذى لم تفكر مجرد تفكير فى أن ترينا ولو عيبا واحدا من عيوبه التى دفعتها إلى النفور منه، قاصرة كلامها على أنها لم تكن تحبه، رغم ما أكدته من أن كثيرا من النساء يسعدن بزواجهن غير القائم على الحب. والسؤال الآن هو: ترى أين كان هذا النفور من الزوج طوال كل هاتيك الأعوام؟ وكيف صبرت عليه؟ ثم كيف، وهى العنيدة المتمردة التى لا تعرف التراجع أمام أعتى العقبات، تترك نفسها لأهلها يصنعون بها ما يشاؤون ويجرونها جرا للأفاقين المشعبذين دون أن تفتح فمها بكلمة اعتراض؟ أما تفسيرى لهذا فهو أن البطلة تريد أن ترسل رسالة إلى من يهمهم سماع تلك الأمور، وأن المرأة فى المجتمعات المسلمة البطرياركية العفنة المتخلفة الوحشية تعانى الأمرين وتعيش فى مناخ خانق لا يليق بالبشر. ولا أدرى لماذا سكتت بطلتنا عن فتح موضع الختان، وهو من مكملات المشهد حتى تحلو القعدة وترتفع أسهمها عند مانحى صكوك التحضر والتنوير؟ لقد فاتت تلك المسألة بطلتنا هذه المرة. ولكن لا عليها، فالجائيات أكثر من الرائحات على رأى الكابتن محمد لطيف!
هذا، وما زلنا فى الفصل الرابع، وما زالت البطلة ماضية فى ثرثرتها والانصراف عن حبيب القلب الذى ظلت تنتظره الأعوام الطوال حتى شرَّف سيادته فانصرفت عنه مع ذكرياتها وخواطرها وسرحاناتها انصرافا غير حميد، انصرافا كله ثرثرة وقفز من موضوع لموضوع، وظلت هكذا طوال سبع صفحات كاملات لا تأتى لسيرته أبدا، ثم بدا لها أن تلتفت إليه بعض الالتفات فخصصت له ثلاث فقرات أخذت تتساءل أثناءها، فيما بينها وبين نفسها، عن عدد النساء اللاتى كانت له بهن علاقة قبل أن تعرفه، وكم مرة قبَّل تلك، وكم مرة نام مع هذه، وكم واحدة خدعها، وكم واحدة خدعته... إلخ، لتتركه بعد ثلاث فقرات إلى الحديث عن بيروت والحرب هناك. سمك، لبن، تمر هندى!
ويلفت الانتباه أنها، فى آخر الفقرات الثلاث وقبل أن تترك حبيبها مرة أخرى إلى ذكرياتها وخواطرها، قد تحدثت عن اعترافاته لها بما صنعه مع من عشقهن قبلها من النساء قائلة إنها أخذت هذه الاعترافات على محمل الرغبة لديه فى التطهر من الآثام والتكفير عنها، ثم عقبت قائلة بنص عبارتها: "قال الرب: تعالَوْا إلىَّ يا جميع المتعَبين، وأنا أريحكم"، وهأنذا يا ربى متعبة وتائهة، فلتكن مشيئتك". وهكذا تكون الوحدة الوطنية، وإلا فلا. أفلا يقول النصارى إن المسيح هو الرب؟ فيجب عليها إذن هى المسلمة أن تقول عما هو منسوب فى الأناجيل إلى السيد المسيح عليه السلام: "قال الرب". أليس الاعتراف أمام القسيس عند النصارى فرصة للتطهر من الآثام ونيل الغفران؟ إذن فليكن مصارحة الحبيب لها بكل ما صنعه مع طوائف النساء اللاتى عرفهن قبلها فرصة لتطهره واغتساله من الآثام. ألا يقول النصارى فى صلواتهم: "فلتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض"؟ فينبغى أن تقول هى أيضا: "لتكن مشيئتك". وهذا يذكرنا بالممثلة صاحبة القول المشهور إنها تتعلم صحيح الدين من البابا شنودة، لأنه بابا النصارى والمسلمين جميعا. ومن نفس الإناء أيضا نضحت كلمات المرأة اللبنانية المسلمة التى ذكرت البطلة أنها، حين ذهبت إلى الكنيسة ووقفت أمام تمثال مريم عليها السلام، قد ابتهلت إليها قائلة: "أخذوا ابنك وصلبوه..." مما يناقض قوله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبِّه لهم". وقد ذكَّرَتْ هذه الحادثة الأخيرة بطلتنا بما صنعته جدتها منذ سنين حين أخذتها إلى الكنيسة وناجت العذراء واستشفعت بالقديسة تيريزا. ترى أهذه رسالة أخرى تبعث بها بطلة الرواية لمن يهمهم الأمر؟
والعجيب، وكثير مما فى الرواية عجيب لا يدخل العقل ولا يحترم المنطق، أن بطلتنا التى لا تكف عن التبرم والتذمر من الظلم الواقع على أدمغة النساء من الرجال المستبدين الغاشمين عديمى الرحمة، أن بطلتنا المغوارة المتمردة على المجتمع المتخلف البطرياركى قامع النساء وآكل حقوقهن لا تجد أية معابة فى أن يكون حبيبها صاحب مغامرات نسائية لا تحصى ولا تعد، ويلعب بالبيضة والحجر، وكذابا مخادعا قراريا من الطرازالأول، إذ يوهم كلا من عشيقاته أنها هى وحدها التى يحبها وأنه لا يوجد على الحجر غالٍ سواها، ولا يسمح لأية منهن أن تعرف بوجود امرأة أخرى فى حياته، ومع ذلك كله تتهافت بطلتنا عليه وتبادر دائما إلى الاتصال به، فى الوقت الذى لا يتصل هو ولا يشغل نفسه بها. لو كان كلام بطلتنا عن رفضها للمجتمع الذكورى الظالم للنساء المسكينات صحيحا لرفضت هذا الأفاق الذى تتجسد فيها الذكورية بأجلى ما يكون، إذ هو لا يحترم المرأة، بل يلعب بها ولا يرى فيها إلا جسدا ومسلاة لتضييع الوقت، ويجمع العشيقات كما يجمع غيره طوابع البريد، ويخدعهن ويوهم كلا منهن أنها وحدها التى تسكن سويداء قلبه، ثم يتباهى أمام بطلتنا بهذا كله، فتقع صريعة هواه وتزداد تراميا على قدميه.
على أن الأمر لا ينتهى هنا، إذ تقول بطلتنا كارهة الرجال المتخلفين الرجعيين عدماء الضمير ظالمى النساء إن ذلك الأفاق مدعى الدفاع عن حقوق الإنسان قد أخرج منها أجمل ما فيها، وأراها الدنيا بعيون أخرى فبدت أحلى وأنضر وأجمل رغم كل ما قاله لها عن غرامياته وسفالاته الكثيرة، فقد سامحتْه رغم أنها، كما قالت، لم تكن تظن يوما أنها يمكن أن تتسامح فى أمر كهذا، كل ذلك فى عبارات وثرثرات من عبارات المراهقات التى تبرع فيها بطلتنا وتكرر بها نفس المعنى فى صور بهلوانية تستعرض فيها براعتها اللغوية دون أن تضيف جديدا سوى إملال كل من عنده ذوق أدبى ويعرف كيف ينبغى أن تكتب القصص والروايات.
ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضينا القول بأن البطلة قد سجلت فى هذا الفصل عدة مشاهد قوية من القتل والدمار الذى أحدثه العدو الصهيونى فى جنوب لبنان، تصلح أن تكون تقريرا صحفيا جيدا. وفى هذا الفصل أيضا يغمى على البطلة، فيكون هذا الإغماء سببا فى تعرفها إلى حبيبها المحامى المصرى خالد الراوى، الذى كان مع زملائه من أعضاء لجنة حقوق الإنسان فى زيارة للبنان لرصد ألوان الدمار والتقتيل التى ارتكبتها إسرائيل فى حق اللبنانيين، إذ ذهب إلى المستشفى مع بعض زملائه كى يطمئنوا على الصحفية المصرية (بطلتنا) التى غُشِىَ عليها من كثرة ما شاهدت وسمعت من صور الدمار والقتل، فكانت هذه هى الخطوة الأولى نحو وقوعها فى غرامه.
إلا أن البطلة، حين ترسم بعض ملامح شخصيتها، يصيبها ما لاحظتُه من قبل عليها من أنها تقول الشىء ونقيضه، إذ بينما تصف نفسها بأنها طوال عمرها تمشى جنب الحائط، إن لم يكن داخل الحائط، إذا بها بعد سطور قليلة تقول عن نفسها إنها ليست امرأة تقليدية وإن من حولها يتهمونها دائما بأنها صاحب القرارات المجنونة. ثم تعود فى التو واللحظة إلى القول بأنها ليست من الجنون فى شىء وأنها لا يمكنها اتخاذ موقف غير تقليدى، لتخبرنا عقب ذلك بأنها، بعد عودتها من لبنان إلى مصر، لم تستطع صبرا على تجاهل المحامى خالد الراوى لها وعدم اتصاله بها، فتبادر هى إلى الاتصال به وتلح فى الاتصال أكثر من مرة إلى أن يرد عليها. كما أنها، بمجرد أن قابلت حبيبها فى مطار بيروت، قد نسيت كل ما يتصل بمهمتها التى سافرت إلى لبنان من أجلها، وهى التعرف عن كثب إلى ما أنزلته إسرائيل بالجنوب اللبنانى من تدمير وتقتيل، فلم تعد تتحدث عنها رغم هيامها بالثرثرة، وذابت للتو فى شخصية المحامى، الذى تقول لنا إنها كثيرا ما رأته فى أحلامها قبل أن تلقاه وتعرفه، وهو ما أثار استغرابها لتشابهه التام مع الشخص الذى كانت تحلم به حَذْوَك القُذَّة بالقُذَّة. ولا تسألنى عن معنى "القُذَّة" من فضلك، بل ابحث عنها مشكورا فى المعجم.
وفى هذا الفصل نحس أن البطلة تكاد تجن من حبها لخالد الرواى، الذى لا تستطيع أن تنساه لحظة، بل تروى لنا أنها تقضى يومها كله، سواء كانت بالمنزل أو بالخارج، فى التفكير فيه وفيما يفعل وفى غزواته الغرامية وفى رصد مشاعرها نحوه بالتفصيل فى ثرثرة وعبارات من عبارات المراهقين لا تنتهى، لتتحول فجأة، حين فتحت التلفاز فى إحدى هذه المرات لتخفف عن عقلها ضغط حبيبها الطاغى، إلى الحديث عن بغداد واحتلال العراق والقتلى والدمار والأمريكان وتحول الوطن العربى إلى بلاد تحتلها جنود العم سام، وتستمر فى هذا الاستطراد الذى لم يكن فى خطتها، بل عرض لها بغتة فأمسكت به لم تُفْلِتْه حتى نهاية الفصل، فأشعر أنا عندما وصلت إلى تلك النهاية بشىء من الراحة أنْ قد استطعتُ التنفسَ أخيرا من هذه الثرثرة المتلاحقة التى لا تعرف الهمود أبدا. ولا ينبغى أن ننسى أن كل هذا الكلام من أول الرواية حتى الآن إنما تم والبطلة جالسة فى حضرة الحبيب سرحانة كعادتها السخيفة. أما كيف ذلك فعلمه عند علام الغيوب!
ويتكون الفصل الخامس من أقل من أربع صفحات، فهو قزم هزيل بين الفصول الأخرى. وليس فيه إلا أنها كانت تستقل سيارة أجرة فى طريقها لمكتبها فى الصحيفة التى تتولى فيها باب "بريد القراء"، مع تخصيص صفحتين من الكلام الثرثار عن أهمية هذا الباب. وفى أثناء ركوبها التاكسى تصادف أن استمعت لأحد المذيعين الرياضيين وهو يطالب الناس بأن يتصرفوا فى مباريات كأس الأمم المقامة فى مصر بتحضرٍ ورُقِىٍّ، فتذكرت فى الحال ما قالته لها إحدى زميلاتها عن عرض ذلك المذيع عليها الزواج سرا كما يفعل كثير من أمثاله بغية تجديد حياته، التى أجدبت مع زوجةٍ اقترن بها أيام الفقر ولم يعد يجد لديها ما تقدمه لمتعته. وهى تقول ذلك من باب الانتقاد الشرس لجنس الرجال ذوى العيون الفارغة الذين يستحقون الحرق. أما ما تفعله هى مع خالد الرواى زير النساء الذى لم يخف عنها شيئا من مغامراته وفجوره مع النساء وخداعه لهن، وتراميها عليه رغم ذلك ومطاردتها له، فحَلاَلٌ زَلاَلٌ بَلاَل.
وهكذا الأمر أيضا فى الفصل السادس، ففيه كلام عن مذيع تلفازى من نفس الطينة والعجينة أغوى بنتا صحفية تعلقت به لخفة ظله وشهرته وأناقته حتى حملت منه ثم لفظها ولم يرض أن يتزوجها. ثم ينتقل الكلام، بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، إلى حادثة غرق العبارة المشهورة التى راح ضحيتها نحو ألف وثلث، والبطاطين التى كان رجال الإسعاف يلفون فيها الناجين القلائل من الغرق، لينتقل إلى البطانية التى كان خالها المجند فى الجيش قد أحضرها معه من المعسكر فأصابت البيت بزلزال، وكانت تتحرك فى مكانها كأن عفريتا يختفى تحتها، إلى أن أخذها الخال خارج البيت وأشعل فيها النار تخلصا من عفاريت الجنود المقتولين فى حرب 1967 الذين كانوا يتغطَّوْن بها، وهو ما دفعها إلى أن تخصص جزءا من هذا الفصل لمناقشة موضوع العفاريت هذا، وهل يمكن أن يكون للشهداء عفاريت؟ وكأن هناك فعلا عفاريت للمقتولين من غير الشهداء. ثم فجأة تنعطف البطلة نحو حبيبها فتناجيه بينها وبين نفسها كعادتها على طول الفصول الماضية، وتتحدث عن حبها له وللوطن، ثم عن حبها لله، فـ"الله محبة"، ولا يمكن أن يلومنا البشر على أن "الله محبة" تلك الكلمة "الإسلامية القبطية" كما تقول، وتمضى فتشرح لنا أننا نقول إن الله محبة لأن الحب هو أصل الوجود، فلماذا يستكثر حبيبها ووطنها عليها أن تحب؟ صحيح: لماذا؟ لكن من قال إن حبيبها ووطنها قد أنكرا أو استكثرا عليها أن تحب؟ ومتى كان ذلك؟ وبأية أمارة يا ترى؟ إنها منذ أول الرواية حتى الآن وهى نازلة حبا فى حب، ولم أسمع أحدا يستنكر منها ذلك. أم هو كلام والسلام؟
ثم تترك البطلة حبيبها فجأة كما تذكرته وخاطبته وناغته وهامت به فجأة، ودخلت فى عدة قصص أخرى كقصة الشاب المتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق كبير، والذى قدم أوراقه للاشتغال فى الخارجية، وكان من أسرة فقيرة، فرُفِض طلبه وقيل فى سبب الرفض: "غير لائق اجتماعيا"، وهو ما دفعه إلى إغراق نفسه فى النيل. وهى قصص تتكدس فيها المآسى تكدسا دون أن تكون هناك بارقة أمل، ودون أن يكون هناك فى العادة منطق أو عقل، مما يعجب السطحيين الذين لا يفهمون أوضاع الحياة ويغرمون بالاستماع إلى النواح ومشاهدة اللاطمين ظنا منهم أنه كلما زاد النواح واشتد اللطم كانت القصة رائعة. وبعض تلك القصص يذكرنا بكل قوة بالأفلام الهندية التى صار يُضْرَب بها المثل على البلاهة.
وبعد أن قضت بطلتنا من هذه الأفلام الهندية وطرا تحولت بغتة، وبدون سابق إنذار، إلى حبيبها تناجيه قائلة هكذا من الباب للطاق: "رغم هذا كله ما زلت أبحث عنك وعن الوطن. أنظر إلى كل هذه الوجوه حولى أستجدى دعوة براحة البال، أنضم إلى الهائمين على وجوههم فى بيوت الله بحثا عن نفحة رحمة تأتينى من السماء، يتعلق قلبى بكل مئذنة مسجد وقت الأذان لكل صلاة وكل جرس لكنيسة يدق للتذكرة بالله، أحسك ملء الهواء وملء الأرض وملء السماء، وبالرغم من هذا لا أراك". ويرى القارئ دون أن يحتاج منى إلى تنبيه كيف أن إحساسها العالى بالوحدة الوطنية لا يتركها هنا أيضا، فهى تذكر الكنيسة جنب الجامع خبط لزق مثلما ذكرت فى الفصل الأول ترانيم قداس عيد الميلاد بجوار التراتيل فى الحضرة الصوفية تعبيرا عن شفافية الأجواء الروحانية. لكنى أحب أن أقول له إن بطلتنا لم تذهب يوما إلى مسجد، فكله كلام فى الهواء مما لا يكلف صاحبه شيئا. وأنا، حين أقول ذلك، لا أشم على ظهر يدى، بل أقوله اعتمادا على قصتها، التى لا تذكر فى أى موضع منها أنها تذهب إلى المساجد. وكل ما تقوله أنها تقابل حبيبها فى قهوشية فيمسك يدها ويقبلها "فوق جبينها" ويستمعان إلى معزوفات زامفير وبين أيديهما زهرية فيها وريقات ورد قرمزية، ثم هى تتركه جالسا أمامها وتروح فى ذكريات الجلة رغم أنها ظلت طوال عمرها تنتظر ذلك الحبيب العجيب الذى كانت تشاهده فى المنام من قبل الأوان بأوان كما فى الأفلام الرومانسية.
وتمضى البطلة فتشكو من أن حبيبها جُرْحٌ دامٍ فى حياتها وأنه يهجرها ويؤلمها ولا يستجيب لنداءاتها، ثم تتحدث عن حلوى مما تباع فى الشارع اشترتها لتأكلها، فوجدت أنها بلا علامة تجارية أو تاريخ إنتاج أو ذكر لبلد المنشإ، فتروح فى مندبة أخرى، إذ تجد أن هذه الحلوى تشبهها. وهو تشبيه مضحك، فهل كانت تريد أن يخبطوها خاتما على قفاها مثلا يحدد البلد الذى أتت منه، فيقولون: "Made in Egypt"؟ أم ماذا؟ ألا يرى القارئ مدى السذاجة التى تتمتع بها بطلتنا؟ ثم إنها لا تكتفى بهذا بل تتكلم بهذه المناسبة عن مصر الضائعة وقيمها المنهارة وعمالها البائسين الضائعين فى شوارعها يعانون الفقر والهم والغم. ولكنها للأسف نسيت أن تنوح قليلا على واحد مسكين مثلى كُتِبَ عليه أن يطالع روايتها ويتجرع هذه الغصص.
ويبدأ الفصل السادس بكلام بجح لا ظل له من الحقيقة، فبطلة الرواية تزعم أنها مكشوف عنها الحجاب (مثل الممثلة فلانة الفلانية، التى قالت عن نفسها: "أنا شيخة، ومكشوف عنى الحجاب")، فهى تشعر بالموت قبل وقوعه بزمن بعيد، ذاكرةً كشاهدٍ على ذلك مقتل خالها ومقتل راكبى عبارة السلام وسقوط الطائرة المصرية فى المحيط الأطلسى أمام السواحل الأمريكية، مع أنها، حين سردت هذه المآسى، كان واضحا أنها قد فوجئت بها مثلنا تماما نحن الذين لم نوهب مقدرة الشم على ظهر اليد ومعرفة الغيب قبل الهنا بسنة. كما أنها، حين تناولت موضوع شفافيتها الروحية كرة أخرى فى الفصل الحادى عشر، قد سردت بعض الأعراض التى تقول إنها تنتابها قبيل وقوع الموت من حولها، وهى انقباضةٌ فى القلب وضيقٌ فى التنفس وهَمٌّ يجثم على الصدر، وهو كلام عام نسمعه كثيرا على ألسن العوام، ورغم هذا لم تذكر لنا أنها قد شعرت بشىء من هذه الأعراض فى أية مرة من مرات الموت التى أوردتها. والحمد لله أنْ تواضعت فى ذلك الفصل وقالت إنها، عند موت أمها، لم يعترها أى عرض يدل على اقتراب الموت. وهذا دليل آخر على أن كلام البطلة لا يحكمه ضابط ولا رابط، بل تقول كل ما يخطر على بالها دون تمحيص.
وبعد ميلودراما أخرى من ميلودرامات الرواية التى ليست لها نهاية نفاجأ ببطلتنا (أو بالأحرى: لا أفاجأ بها لأننى حفظت ألاعيبها جيدا) وهى تنتقل دون إحم أودستور إلى مناجاة حبيبها ناسية الميلودراما التى كانت فيها منذ لحيظة، ميلودراما البنت الصغيرة التى انهار عليها وعلى أمها وأخواتها والجيران المنزل، وظلت إلى الصباح حتى أنقذوها، فلما خرجت إلى النور وشمت الهواء النقى ماتت، فتقول بطلتنا لحبيبها: "نفدت زجاجة عطرك القديم، وجاءنى صوتك عبر الهاتف وأنت تهرول فى كل ما تفعل استعدادا للقاء جديد... إلخ". ما هذا الخلط والنط من موضوع إلى موضوع لا تربطه به أية صلة؟
ومن المضحك أن نراها تحكى لنا أن حبيبها كان يلبس جوربه ويزرر قميصه ويدخل قدميه فى سرواله ويغسل أسنانه بالمعجون ويحكم ربطة عنقه ويفتح زجاجة عطر جديده وينثر منها على نفسه، كل ذلك وهو يحدثها فى الهاتف. كيف؟ الله وحده يعلم! والنبى ومَنْ نَبَّا النبى لو كان حبيبها هذا بهلوانا يلعب بالبيضة والحجر ما استطاع ذلك. لكن البطلة التى جعلت بطانية أخيها تتقافز بسبب عفريت الجندى الذى كان يستخدمها فى القشلاق قبل أن يقتل فى الحرب قادرة على أن تجعل لحبيبها الخائن الغادر عشر أذرع كالأخطبوط يستطيع بها أن يفعل كل هذا فى ذات الوقت. ثم إننا لا نعرف كيف صار هذا الحبيب خائنا غدارا ولا السبب فى خيانته وغدره. لقد أرادت البطلة أن يكون خائنا غدارا، فكان. لتكن مشيئتكِ يا بطلتنا!
ثم تبدأ البطلة مناحة أخرى لأنها، وهى المرأة الشرقية التى لا تحسن سوى العربية كما تقول، لا تستطيع أن تزاحم عشيقات حبيبها، اللاتى تتحدث إحداهن الإنجليزية، والثانية الفرنسية، والثالثة الألمانية رغم أنهن كلهن مصريات، لكن مصريات خواجايات، ودعنا من زوجته، التى لا ندرى بأية لغة ترطن له بها فى لحظات الانشكاح والليالى الملاح. والواقع أن الواحد لا يدرى أنحن أمام قصة غرامية أم عصبة أمم أم برج بابل. اتركونا من هذا كله، وتعالَوْا إلى ما صدعت به البطلة رؤوسنا عن المجتمع الذكورى الذى يظلم فيه الرجال النساء ظلم الحسن والحسين، فأين كرامتك يا فتاة وأنت تتهافتين هذا التهافت الشائن على رجل يعلق النساء كالمفاتيح فى مُدّلاَّته؟ واضح أن البطلة لا تحسن شيئا سوى الثرثرة والكلام الفاضى!
وهكذا تمضى الرواية حتى ختامها: قصة من الشرق، وأخرى من الغرب، ومشاهد تصادفها البطلة فى طريقها فتترك موضوعها الأصلى بل تنساه تماما وتأخذ فى الثرثرة إلى أن تجد نفسها قد أخرجت كل ما عندها فى ذلك الأمر الطارئ من ثرثرة، فحينئذ تستدير قليلا نحو حبيبها تناجيه فى دخيلة نفسها متناولة من الموضوعات ما يعنّ لها أو ما تصادفه أمامها، إلى أن ينفد ما تقوله فتعود إلى حبيب القلب لحظات قليلة تنتقل بعدها إلى موضوع آخر... وهكذا دواليك. والبطلة، كما تكررت الإشارة، تريد جنازة تشبع فيها لطما، فحكاياتها كلها يسودها الغم والكآبة مهما بدت فى أول الأمر واعدة بالبهجة، إذ لا بد أن يموت الشخص الذى تدور حوله الحكاية، وتكون ميتته مأساوية. كيف؟ هذا سر من أسرار عبقرية البطلة لا يمكننا معرفته. ومن ذلك حكايتها عن ابنة عمتها التى رفضت خطيبها الأول فعوقبت من أهلها، عند زواجها بغيره، بأن تم القران فى صمت، ثم كان الحمل والفرحة به، ولكنها قبيل الولادة تصاب بمرض فى المخ وتموت بسببه.
وفى الفصل التاسع نجد مشهدا بارعا أخذتنا البطلة إليه على حين غزة كعادتها. لقد كانت تصف احتفال الأسرة بزواج أختها، وبغتة ألفيناها تتحدث عن أعراض الصداع الذى يصيبها هى بين الحين والحين لينتقل الأمر إلى غرفة واسعة أُلْقِيَتْ عليها فيها ملاءة بيضاء طويلة عريضة بعدما دُلِق عليها أباريق من الماء البارد، ووقف كائنان يرتديان أيضا ملابس بيضاء يسألانها عن سنها وأعمالها فى الدنيا وهل تستحق أن تدخل الجنة أو لا، فتجيبهما بأنها تتمنى ذلك، وإن كانت لا تستطيع أن تعرف هل تستحقها أو لا. وهو مشهد لم أقابل مثله من قبل. والوصف والحوار ممتعان. وفى نهاية المطاف يتضح أنه إغماء، وأنهم أحضروا الطبيب ليفوّقها منه. ولكن رغم ما فى المشهد وطريقة تقديمه للقارئ من إمتاع أحب أن أسأل: هل المغمى عليه يمكن أن يشعر أو يدرك أى شىء مما يقع له أثناء النوبة بحيث يستطيع استعادته بعد النهوض منها؟ بطبيعة الحال لا. فكيف إذن استطاعت البطلة أن تدرك وتتذكر ما اعتراها خلال تلك النوبة؟ ثم إن البطلة لا تنبئ أفكارها ولا تصرفاتها طوال الرواية عن اهتمام بالدين والحياة الأخرى والحساب والثواب والعقاب، اللهم إلا مرة يتيمة حين كانت أمها على وشك الموت، فصلت بطلتنا الفجر ودعت لها، فكيف لم يخطر لها أثناء النوبة، إذا كان لنا أن نقيسها خطأ على النوم والأحلام، إلا مشهد الحساب الذى يشير إلى أن الكائنين اللذين حاسباها هما ملكان من الملائكة؟
كذلك يقابلنا فى هذا الفصل بعض مشاهد الدمار والقتل الذى يوقعه الصهاينة بإخواننا فى فلسطين. وهى مشاهد مؤثرة يمكن أن تكون تقارير صحفية جِدّ ناجحة. لكن البطلة للأسف تفسد كل ذلك بانتقالها فجأة إلى مناجاة حبيبها. وليس العيب فى الانتقال المباغت وحده، بل لا يوجد كذلك أى تناغم بين مناجاتها وبين ما كنا فيه من عرس أختها وما أصابها خلاله من إغماء ولا بينه وبين مشاهد الترويع فى فلسطين. على العكس ثَمَّ تعارض واضح بين الأمرين جدير بإفساد الأمر كله: "مضى فصل الشتاء، فأين أنت الآن؟ أتراك فى رحلة نيلية على ظهر مركب صغير فى فينيسيا تمارس الحب على ضوء الشموع؟ أم إنك الآن فى باريس تعيش حكاية جديدة تبدؤها من حيث نهاية غير سعيدة لامرأة مثلى؟...". إلى مثل هذه المناجاة تقفز البطلة بغتة من المشاهد الفلسطينية المأساوية دون تمهيد أو تدريج، وقد تكرر مثله كثيرا، وهو دليل على ضعف الصنعة الروائية عند البطلة، فهى تفعل الشىء بمجرد ما يعن لها أن تفعله دون التفات إلى أصول الفن.
كما أن قولها: "رحلة نيلية" عن رحلة الجندول فى البندقية سهوة فيها من الظرافة ما فيها. وتذكرنى بما قاله موظف ريفى الأصل قابلته بالقاهرة أواخر ستينات القرن المنصرم، وكنا فى مجلس يضم بعضا من المصريين المتعلمين وصديقا يابانيا كان يدرس معنا أيامها بجامعة القاهرة، فتطرق الحديث إلى الزراعة والرى، فما كان من الموظف ذى الأصل الريفى إلا أن انبرى يسأل محسن يوشيهارو أوجاساورا قائلا: "وهل تستخدمون فى زراعتكم باليابان الماء النيلى يا أستاذ محسن؟"، فكانت طرفة.
ويحتوى الفصل العاشر على حادثتين: الأولى إحياء الذكرى الثالثة لغرق عبارة السلام حيث تحدث بعض أهالى الضحايا وسردوا مآسيهم، وبكت البطلة بكاء حارا تعاطفا مع هؤلاء المساكين وتألما لمعاناة الغارقين رحمهم الله واستنكارا للامبالاة الوحشية التى تعاملت بها الدولة مع الفاجعة. والثانية مقتل السادات فى أكتوبر 1981م وبكاء أبيها العنيف رغم رفضه ما فعله رئيس مصر من التصالح مع إسرائيل والانحياز إلى الولايات المتحدة ورغم حب الأب الجارف لجمال عبد الناصر مع تحفظه على سجن الإخوان كما تقول البطلة. وليس بين الأمرين صلة كما هو بين. إنما هو أمرٌ عَنَّ للبطلة فسجلته وكتبت عنه، والسلام. وهو عيب ملازم للرواية كما وضحنا مرارا. لكن يحمد لها هذه المرة أنها لم تفرض علينا مناجاتها مع حبيبها، ذلك الذى لا نعرف عنه شيئا سوى أنه قابلها فى مطار بيروت وتعارفا هناك قبيل إقلاع الطائرة، ثم اتصلت به فى القاهرة مرات وتعددت لقاءاتهما فى إحدى القهوشيات، وتسابقا جريا فى الشارع مرة، ثم سمعناها تتكلم عن هجره وخيانته لها دون أن نعرف طبيعة ذلك الهجر ولا تلك الخيانة، بل دون أن نعرف شيئا عن المدى الذى بلغته علاقتهما غير لقاءات القهوشية والاستماع هناك لموسيقى زامفير وتلامس أيديهما وقُبْلَته لها على جبينها، وكان الله يحب المحسنين!
لكن إذا كانت البطلة فى الفصل الماضى قد خيبت توقعنا فى مناجاة حبيبها فى عز المصيبة التى تحكيها لنا فقد رجعت إلى قواعدها سالمة فى الفصل الحادى عشر، الذى خصصته لموت أمها بعد توقف كليتيها عن العمل ورفضها إجراء غسيل لهما. ففى غمرة أحزانها على موت أمها وتألمها الشديد بسبب تخيلها للدود يأكل عينيها ووجهها وسائر جثتها تحت التراب نراها قد جاءتها النوبة بغتة كما عودتنا، فتقول دون أية مقدمات مناجية له: "ما أحوجنى اليوم إليكَ! وما أبخلكَ! فكم نحن بحاجة إلى الحب حينما تقسو الحياة ويشتد الألم. ما أحوجنى إليك، وما أقساك أنت!... كم أنت قاس قسوة الزمن، وكم أنت موجع وجع مرض أمى!"، لتنتقل عقب هذا مباشرة إلى الحديث عن رفض أمها طوال ثلاثة أيام بلياليها لعمل غسيل كلوى إلى أن انتقلت إلى عفو الله ورحمته. كما نراها تقول وهى تتلقى عزاء أمها فى قريتهم بعد أن دفنوها هناك: "اليوم أنظر حولى: جميع الناس معى جاؤوا من بعيد ومن قريب، إلا أنت الغائب الحاضر دائما. لا أعرف إذا كنت قد علمت بموت أمى أم إنك تتجاهل حزنى كما كنت دوما تتجاهل حبى. ترى أين أنت الآن؟ وماذا تفعل بالزمن؟". ولا شك أن هذا تصرف غريب: غريب من الناحية الإنسانية، وغريب أيضا من الناحية الفنية، ولا يصدق عليه إلا أنه "سمك، لبن، تمر هندى".
إن هذه الميوعة العاطفية لا تعجبنى لا من الناحية الإنسانية المحضة ولا من ناحية الإبداع الأدبى. هذا كلام قد يعجب السطحيين السذج الذين لا يشجيهم غير النهنهة وعبارات المراهقين الإنشائية. ثم إن الحبيب الموهوم لم يعد له وجود فى حياتها منذ زمن طويل وصارت تنعته بالهاجر والخائن والقاسى، فما معنى استنجادها به فى مثل ذلك الموقف، الذى هو فوق ذلك آخر ما يصلح فيه مثل تلك المناجاة؟ ثم كيف كانت تريده أن يأتى لتعزيتها والوقوف إلى جانبها؟ ترى ماذا كانت ستقوله عند ذاك لأهلها؟ أتقول لهم إنه حبيبى جاء يعزينى ويخفف عنى؟ إلا أن البطلة التى لا يحلو لها الكلام عن الجلّة إلا فى سياق اللقاءات العاطفية مع حبيبها لا يستغرب منها شىء. وعلاوة على ذلك فإن البطلة لا تحسن ربط موضوعاتها بعضها ببعض ولا تعرف أن هناك شيئا اسمه البناء الروائى، وهو أمر يحتاج إلى تصميم مسبق، ولو فى خطوطه العامة. أما أن تترك نفسها هكذا للمصادفات والخواطر التى تنبت فى رأسها بغتة دون خارطة طريق فهذا برهان على التهافت الفنى.
وغريب جد غريب أن تظل بطلتنا تتهافت على خالد الراوى ولم يبق إلا أن تبوس جزمته كى يبادلها ولو كلمة واحدة، وهى الثائرة المتمردة على جنس الرجال المستبدين الطغاة الذين لا يعرفون الرحمة ولا العطف ولا يفهمون سوى ظلم المرأة والجور على حقوقها وإنسانيتها. كنت أتصور أن تكون على مستوى هذه الاستنارة اللفظية ولو مرة واحدة، بيد أنها قد خذلتنا. أذكر فى هذا السياق كيف أن صديقا لى كتب ذات يوم بحثا علميا يثبت فيه ما تقوله بطلتنا من أن مجتمعنا بل أمتنا كلها فى ماضيها وحاضرها تظلم النساء وتحتقرهن ولا تقيم لهن وزنا حتى إن بلاغتها لتشبّه المرأة بالدابة عند الجماع فيقال: "ركب فلان فلانة". وبغض النظر عن أنهم فى الإنجليزية والفرنسية، كما بينت عند مناقشتى لكلامه فى أحد كتبى، يستخدمون الفعل ذاته: "to ride, to mount- monter " وعن أن الرجال فى مجتمعاتنا يعطفون على بناتهم حتى لو بدا أنهم قساة عليهن، وينظرون إلى نسائهم بوصفهن شرفهم وعرضهم وكرامتهم، ويحترمون أمهاتهم... إلخ، فقد هالنى، حينما كان عندى فى مكتبى بالجامعة ذات يوم، هجومه على المرأة هجوما شنيعا مقللا من قدرها وعقلها وفهمها، فقلت ضاحكا: الله أكبر! أين انحيازك الظالم لها ضد الرجال؟ إننى لا يمكن أن أقول عشر معشار ما تقوله الآن فى المرأة، ولا أرى أنها تقل فى الإنسانية عنا نحن الرجال، ولا ينبغى أبدا الحط من شأنها. فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة المحرج وسكت ثم حول دفة الحديث إلى موضوع آخر.
ومن ذلك أيضا أننى، فى تسعينات القرن المنصرم، كنت أحضر مجلسا أدبيا فى عيادة أحد الشعراء، وتعرفت هناك إلى مهندس يسارى تقدمى مستنير فوجئت به ذات ليلة، بعد أن انصرفت امرأة خليجية كانت موجودة معنا فى الصالون، وكانت زوجة سابقة لكويتب وقح مثير للجدل والقرف، فوجئت به يهاجمها ويصفها بأحط الصفات الخلقية. لماذا؟ لأنها تحضر مجلسا رجاليا كمجلسنا. فأعربت عن تعجبى من موقفه هذا، وهو اليسارى التقدمى المستنير. فأجابنى أن هذا مجرد كلام يقال باللسان، وأنه لا يمكن أن يسيغ مثل تلك التصرفات. ومن البين أن بطلتنا من هذا النوع: جعجعة ولا طِحْن. تهاجم الرجل كلاما، وتتهافت عليه واقعا وسلوكا، وتنسى فى تهافتها أن ثم شيئا اسمه الكرامة والخلق وعزة النفس، وبخاصة أن الرجل الذى تحبه لا يلتفت إليها ولا يبالى بها، وأنه قد رماها خارج نطاق وعيه تماما كما هو واضح من كلامه هى ذاتها. وقد رأيناها تنتقد بعض المذيعين والصحفيين فى سلوكهم مع الفتيات من أمثالها على نحو يناقض ما يدعون إليه فى العلن. فهل تراها أفضل منهم؟
ومن هنا أستغرب دهشتها من أن أباها، بعد موت أمها، أعلن عن رغبته فى الزواج، متسائلة كيف ينسى الناس زوجاتهم بهذه السرعة؟ ناسية أنها، فى عز مرض أمها وآلامها وتوقعهم لموتها بين آونة وأخرى، كانت تناجى حبيبها المتزوج الفلتان الذى يعلق النساء كالمفاتيح فى مدلاته والذى لا يسأل عن صحتها ولا يبالى بها. وهكذا تكون التقدمية والاستنارة من بطلتنا، تلك الاستنارة التى لا تكف عن إزعاجنا بمقولات الحنجوريين والحنجوريات عن المجتمع الذكورى المتخلف. بالله ما وجه الخطإ فى أن يتزوج الرجل بعد موت زوجته أو أن تتزوج المرأة بعد موت زوجها ما داما يشعران بالحاجة إلى الزواج ولا يقدران على العيش دون قرين؟ أليس تنطعا من بطلتنا أن تقف من أبيها هذا الموقف السخيف الخالى من العقل والإنسانية؟ بالله من الذى يريد مصادرة حرية الآخر: الأب، الذى نزل على رغبة ابنته فى كل شىء كما رأينا أَمْ الابنة، التى تنكر عليه حريته فى الزواج بمن نؤنس وحدته؟ ثم جاءت صديقة لبطلتنا فزادت الطين بلة، إذ قالت لها متعجبة من موقفها هذا: "هل تنبت لك فى ذقنك لحية؟" (قالتها بالعامية)، فأجابتها وهى لا تفهم مغزى السؤال: "طبعا لا". فقالت الشملولة: "إذن فلن تستطيعى أن تعرفى كيف يفكر الرجال". بارك الله فيك يا شملولتنا، فقد جئت بالتائهة!
لقد أنكرت بطلتنا أن يتخذ الصحفى الذى سبق ذكره آنفا زوجة أخرى إلى جانب زوجته التى ما زالت على قيد الحياة، وأنكرت أن يكون لأبيها زوجة أخرى بعد أمها، التى ماتت، وأنكرت أن يكون لحبيبِها المفدَّى زوجة أصلا لأنها تريده أن يكون لها عاشقا، وتنكر أن ينساها ولا يبالى بها رغم أنها ليست بزوجته ولا لها عليه أى حق، علاوة على أنه لا يشعر نحوها بحب، وله من العشيقات طابور طويل يغنينه عنها وعن ألفٍ مثلها. بالله أليس هذا أمرا مضحكا؟ إننى مثلا لا أحبذ الزواج بأكثر من واحدة، لكنى لا أنكره على من يفعله. ولى صديق ماتت زوجته من مدة، ويريد أن يتزوج، ويطلب منى المساعدة، فأضحك قائلا له: "يا ابن الحلال، ارض بما أنت فيه من سكنية وراحة بال، والتمس السعادة باللعب مع أحفادك، ولا تدخل فى تجارب لا تدرى فى هذا العمر المتأخر شيئا عن طبيعتها، ولا تتعرضْ من البلاء لما لا تطيق كما قال سيدنا النبى". ورغم ذلك فلو علمت أنه قد تزوج ما أنكرت عليه.
ومن ثم لست أفهم فيم كل هذه الهيصة والزمبليطة من بطلتنا الهمامة وكلامها الحنجورى عن المجتمع الذكورى بينما تريد أن تقمع أباها الذكر بنسوية ظالمة مجحفة! والسخيف أنها تنكر على الرجال تشبثهم، كما تقول، "بقول الرجال قوامون على النساء" محيلة الآية الكريمة، كما يرى القارئ، إلى مجرد قول فى الوقت الذى تقدم فيه كلام المسيح عليه السلام بعبارة "يقول الرب". ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟ من الآخر: الست البطلة تريد أن تعشق وتذوب وتمارس الغرام بكل حرية مع رجل ليس زوجها ولا يفكر فيها وله زوجة وعشيقات متعددات يرطنّ بالإنجليزى والفرنسى والألمانى وبكل الألسنة الأخرى التى كلم بها أدهم الشرقاوى مأمور إيتاى البارود، وكالمغنى الخليجى الذى لا أعرف اسمه والذى يقول إنه يحب حبيبته بكل لغات العالم، وكالأغنية التى كنا نحفظها ونحن شبان صغار من فلم "سانجام" حيث يردد المغنى جملة "أحبك" هكذا: "I love you- Je vous aime- Ich liebe dish، هُمَّه يحِبُّوا بعض"، لكنها فى ذات الوقت ترفض أن يتزوج أبوها بعد وفاة أمها. إنها لا تجد حرجا فى تذكر حبيبها خلال غمرات الموت التى كانت أمها تخوضها وعقب موتها وبعد موتها بعامين وأكثر من عامين، وتصيع فى الشوارع والكافيهات وقد انتفضت ذكرياته فى كيانها كله فتتنهد وتشهق وتزفر مسكونة به لا تستطيع أن تنسى ذوبانها فيه (وخذ بالك من "حتة الذوبان" هذه. وهو كلامها لا كلامى أنا)، لكنها لا تسمح لأبيها أن يتزوج على سنة الله ورسوله.
وهنا، على عادة بطلتنا التى لن تشتريها من الخارج لأنها طبع، والطبع غلاب كما تعرفون، تسرح بطلتنا فى مناجاة حارة مع حبيبها الذى لا نعرف عنه شيئا يذكر، فتقول فى آخر الرواية إنها لم تكن سعيدة بحبه، بل كانت تستدعى السعادة حتى تسعد به. يعنى أن كل الرواية طلعت فاشوشا، وكل ما قالته عنه وعن حبها له هو كلام هجاصين. ثم تترك نفسها للشارع والمترو متنقلة من موضوع إلى موضوع ومن مشهد إلى مشهد لا تكف عن انتقاد كل شىء ولا عن استعراض وطنيتها وإنسانيتها واستنارتها وكرهها الحنجورى للمجتمع الذكورى إلى أن تنتهى الرواية دون أن تستطيع التخلص من ذكريات حبيب القلب الذى لا يبالى بها والذى لا تدرى، كما تقول، مع أية امرأة هو الآن ولا ماذا يفعل معها، وإن كان الجواب هو أنه يفعل معها ما كان يفعل معك يا ذكية.
وفى ختام الرواية تقول البطلة إنها قد تلاشت بين البضائع المنثورة على الرصيف غير المعروفة الهوية أو تاريخ الصنع. وهو الختام الطبيعى لمثيلاتها ممن يَلُكْن مصطلحات ومفاهيم لا يحققنها ولا يفهمنها الفهم الصحيح، ورغم ذلك يُفْتَنّ بترديدها على السماع، فيضيعن أنفسهن ويهلكنها ولا يستفدن من النعم التى يفيضها الله عليهن بشىء، ويذهبن يتصايحن بإدانة المجتمع الذكورى المتخلف الغاشم قامع النساء ومحيل حياتهن إلى جحيم لا يطاق، ذلك الجحيم الذى لا وجود له فى الغالب خارج أذهانهن المضطربة.
والمضحك، بعد كل الذى قالته بطلتنا عن أبيها واستبداده وتصلبه وقسوته مع أمها ومعها ومع أختها، أنها فى الفصل التاسع تصف هذا الأب المرعب بأنه عاش طول عمره خائفا يرفع شعار "طُوبَى للخائفين!". إذن فالخوف ليس من نصيب نساء أسرتها وحدهن، بل للأب كِقْل كبير منه، بل الكفل الأكبر، فقد رأينا البطلة لا تضع شيئا فى ذهنها إلا حققته ضاربة عرض الحائط بكل اعتبار آخر. صحيح أنها كثيرة الثرثرة عن الذكورية المصرية والعربية، لكنها مجرد ثرثرة. أما الأب فمسكين عاش طول عمره خوافا يردد دائما: "طوبى للخائفين" كما تقول هى بعظمة لسانها، إن كان للألسنة عظم. وقد وردت عبارة "طُوبَى لـ..." فى الكتاب المقدس 74 مرة، وهذه بعض شواهدها فى الإنجيل المنسوب لمتى: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"، "طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ"، "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ"، "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ"، "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُون"، "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ"، "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ"، "طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ".
لكن هل الكتاب يخلو من أية ميزة؟ الحق أن فيه بعض المزايا التى لا يمكن نكرانها، لكن مستواه كروايةٍ ضعيفٌ جدا رغم ذلك. كيف؟ أول مزايا الكتاب الأسلوب المستقيم السلس. وهى مزية نفتقدها هذه الأيام لدى الأدباء الشبان بوجه عام بل لدى كثير جدا من المشاهير فى عالم الكتابة والأدب، وهم فى الواقع لا يساوون شيئا يذكر. وحتى لو كانت أقلام المراجعين قد أجيلت فى النص الذى بين أيدنيا، وذلك أمر غير مستبعد، فيُشْكَر لصاحبة العمل أَنْ فكرت فى إخراج كتابها مبرأ من الأخطاء البشعة الكثيرة التى تعج بها كثير من النصوص هذه الأيام، وإن لم يخل تماما من الأغاليط اللغوية، فلا شك أن الحرص على الصحة ميزة فى حد ذاته حتى لو استعان الواحد منا بالآخرين.
لكن العاطفية المسرفة والكلام الإنشائى الطنان فى كثير جدا من صفحات الرواية، والإلحاح على المعنى الواحد بجمل متعددة، يفسد متعة القراءة. كذلك كنت أحب لو اصطنعت صاحبة الكتاب اللغة الفصحى فى كل أنحاء القصة ولم تقصرها على السرد والوصف، بل استعملتها فى الحوار أيضا. ولا يحتج أحد بأن حوارات الناس فى الحياة إنما تجرى باللهجة العامية، إذ الرد على ذلك سهل جدا، وهو أن الناس أيضا فى الحياة لا يحكون قصصهم ولا يصفون ما يقع أمامهم بالفصحى، ومع ذلك فها هى ذى البطلة تستعملها فى سردها ووصفها واستبطاناتها الذاتية ومناجياتها الداخلية. إن الأدب إيهام بالحياة، وليس هو الحياة. وعملاق الرواية العربية كان يكتب كل شىء فى رواياته بالفصحى، وكثير منها يجرى فى الأحياء المغرقة فى الشعبية وعلى ألسن الأوباش، ومع هذا لا يحس القارئ بأية مفارقة أو نشاز فى حواراتها الفصحوية.
ويحتوى الكتاب كذلك على مشاهد أكثر من جيدة، كمشهد الحساب الذى ضم بطلة الرواية وكائنين يفترض أنهما ملاكان، وكمشاهد الدمار والتقتيل فى جنوب لبنان وفى فلسطين. لكن هذه المشاهد وغيرها فى الرواية ظلت مفككة لا يربطها بعضها ببعض رابط، أو لا يربطها رابط قوى. فمحور الرواية، وهو حبيب البطلة، التى لا تنفك تعود إليه دائما وتناجيه، ظل طوال الوقت شاحب الوجه، بل ضائع الملامح، ولا نعرف عنه شيئا ذا بال، ولا يظهر بنفسه فى الرواية رغم أنه هو كل شىء فى حياة البطلة. ولا تقول البطلة عنه إلا جملا مهوشة فى الغالب تعجب المراهقات، لكنها لا ترضى الفن الروائى. إن فصول "امرأة خائفة" لا ترتبط فيما بينها إلا بكونها متتابعة يقفو بعضها بعضا دون أن يكون هناك رابط سببى بينها. وقد وضحتُ مرارا وتكرارا أن البطلة كانت كلما عن فى بالها أو رأت فى طريقها مثلا شيئا أدخلته فى عملها. ولعلها تستفيد من هذه الملاحظات وتراجع فى ضوئها ما تكتب ولا تنصت إلى المبالغات السخيفة التى من شأنها، لو صدقتها وتصرفت بمقتضاها، أن تفسد مستقبلها الأدبى. إن العمل الذى أخرجتْه لنا يحتوى على عدد من المشاهد والتقارير الصحفية الجيدة، كما أن هناك بعض الحكايات الصغيرة التى استطاعت الكاتبة تقديمها بمهارة طيبة. لكن ذلك كله لا يصنع من العمل رواية جيدة، إذ الرواية الجيدة تحتاج إلى أشياء أخرى متعددة غير المشاهد والتقارير الجيدة.
إن شخصيات الرواية مثلا، وبخاصة شخصية البطلة، غير متسقة مع نفسها.فبطلتنا تقول كلاما كبيرا ضخما، لكنها عند التصرف تتصرف تصرفات صغيرة سخيفة. وهى تقول الشىء ونقيضه، وفى مساحة ضيقة جدا بحيث لا أدرى كيف عميت عنه فلم تلحظه، ومن ثم لم تصلحه. وهى مغرمة بالثرثرة، وتبدو فى تصرفاتها وكأنها مصرة على تدمير نفسها بالشعارات الخادعة والتمرد الطائش، والجرى وراء ما يضرها ويؤذيها كالفراش الذى يلقى بنفسه فى النار، حتى انتهى أمرها إلى التلاشى بعدما تمردت على زواجها وألقت بنفسها وكرامتها وعرضها تحت قدمى رجل سخيف تافه يحتقر جنس النساء ويلهو بهن كما يعبث الطفل بلعبه ويحطمها متى أراد دون أن يحسب للعواقب حسابا، رجل لا يقدرها ولا يبالى بها ولا يحترمها، ومع ذلك نراها ذائبة فيه، ولا تستطيع أن تطرحه من ذهنها حتى فى أشد لحظات حياتها تنافرا مع ذكراه كما هو الحال حين راحت تناجيه أثناء أخذ العزاء فى أمها، رجل من الذين يلعبون الثلاث ورقات ويلبسون لبوس المدافعين عن حقوق الإنسان، كسر الله حُقَّه، وهو ما يكشف عن خواء شخصيتها وتفاهتها رغم كل الشعارات الصاخبة التى تخدع نفسها وتحاول أيضا أن تخدعنا نحن القراء بها.
وهناك إسهال كلامى شديد فى كثير من صفحات الكتاب تروح البطلة خلاله فى نوبات من التطوح اللغوى يذكرنا بالدراويش حين يأخذهم الوجد، بل التواجد بالأحرى، فينخرطون فى التمايل يمينا وشمالا صارخين ضائعين. فكذلك بطلتنا حين تمسك قلمها وتصف مشاعرها أو تناجى حبيبها. إنها ساعتئذ تمطر القارئ بالعبارات المهوشة المائعة التى تفتتن هى بها وبما فيها من طنطنات قبل أى شخص آخر، ولا تبالى بخوائها من المعنى المفيد. إن العبارات تصبح هدفا فى حد ذاتها، ولا يهم المعنى، بل المهم الكلام الإنشائى المعسول. وهذا الكلام الفارغ من المضامين ذات القيمة هو السبب فى ذلك التلاشى الذى انتهى أمرها إليه فى نهاية الرواية، إن جاز أن نسمى ذلك العمل: رواية.