محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
مع اللغة العربية.. وعالم من علمائها
[لقاء أجراه الأستاذ عمر المنصور، بجريدة «الندوة»، مكة المكرمة، الأربعاء 7 ربيع الآخر 1409 هـ، صفحة: 15]
لن نقدم الدكتور عبده الراجحى من خلال مؤلفاته التي ذكرها في بطاقته الشخصية، فله من المؤلفات ضعف هذا العدد الذي ذكره، ولا أعلم سر هذا الإضفاء من قبله رغم أن مؤلفاته هي من المراجع الأساسية لطلبة أقسام اللغة والنحو في معظم جامعاتنا العربية.. وضيفنا في هذا اللقاء جمع بين تراث سيبويه وتعمق في كتابه وما خلفته مدارس الكوفة والبصرة.. وقلب نظريات مدارس اللغة الغربية وألم بما عرضه تشومسكي وبلومفيلد ودي سوسير، ولم يجرفه تيار هذه المدارس بل أكد من خلال أبحاثه ومقالاته وعبر كتبه بأن هذه المدارس قد استفاد من مدرسة النحو العربي وخاصة تشومسكي عالم اللغة وحديث هذا العصر ومن أبرز أصحاب المدرسة التحويلية ولم يدع التراث كغيره ممن بهرهم أصحاب الأفكار التغريبية وما نادوا به.وقد جاء هذا الحوار المقتضب مع د. الراجحي من أجل إيضاح بعض المفاهيم وتسليط الضوء على عدد من القضايا اللغوية في هذا الوقت..
س - اللغة العربية هي وعاء الثقافة العربية والإسلامية.. وللغتنا الجميلة تاريخ طويل مرت خلاله بمراحل مختلفة انتهت اليوم إلى أن أصبحت هذه اللغة عدة مستويات للتعبير:(فصحى التراث، الفصحى المعاصرة، اللغة العامية) وأصبح لكل مستوى أنصاره ومؤيدوه والداعون إليه.. ما رؤية د. عبده الراجحي لهذه القضية؟
· اللغة العربية لغة طبيعية مثل اللغات الطبيعية الأخرى، لكنها تختلف عنها اختلافا أساسيا، فهي
لغة ممتدة التاريخ، حياتها موصولة غير منقطعة، ومن ثم فإن ماحدث من تغيير جوهري في الإنجليزية والفرنسية والألمانية لم يحدث في العربية وهذا الاتصال في الحياة جعل الفصحى المعاصرة قريبة جدا من فصحى التراث، وعليه فإن وجود أنصار لهذه أو لتلك إنما هو افتعال لقضية بلا قضية.
س - ما رأي سعادتكم في الدعوة التي نادى ولا زال ينادي لها البعض باستخدام العامية لغة للكتابة بحيث تصبح بديلا للفصحى بدعوى أن العامية أيسر في الفهم وأقرب إلى وجدان الناس من الفصحى..
· أما مسألة العامية والدعوة إلى استعمالها فأمرها معروف وأظن أنه من الخير ألا نلقي إليها بالاً، لأنها دعوة تقتل نفسها بنفسها، ونحن نعرف المحاولات التي بدأت منذ القرن الماضي، انتهت جميعا إلى الفشل، وليس غريبا أن نرى الذين يدعون إلى العامية يستعملون «الفصحى» في دعوتهم، لأنها هي التي ترتبط بعقول الناس ووجدانهم فضلا عن أنك لا تستطيع أن تخاطب العرب في جميع أقطارهم إلا باللغة التي يفهمونها جميعا وهي الفصحى، وأصحاب الدعوة إلى العامية يسعدون حين يجدون من يتصدى لدعوتهم بالنقد لأن هذا وحده يعطي دعوتهم شيئا من الحياة.
س - أصبحت وسائل الإعلام اليوم من المؤثرات الأساسية في لغتنا الجميلة ولعل عقد مجمع اللغة العربية لندوة (لغة الإعلام) في إبريل الماضي خير دليل على ذلك.. ما تقييم د. عبده الراجحي لأثر وسائل الإعلام في اللغة؟
· لا حاجة إلى القول إلى أننا الآن في عصر الإعلام، وهو عصر قد اتخذ من الوسائل مالا سبيل إلى تجنبه، بل لا سبيل إلى الاستغناء عنه. والإعلام الآن يقتحم علينا كل المنافذ، ومن هنا أهميته وخطورته. أما مسألة لغة الإعلام في العالم العربي فهي المسألة التي يجب أن تلقى الاهتمام الخاص، لأن التأثير هنا متواصل ليلا ونهارا وهو يترسب في نفوس الناس دون الإحساس به أو الوعي له، ثم تظهر نتائجه على ألسنتهم وفي كتاباتهم دون أن يسألوا من أين جاء هذا أو ذاك، والوسائل المسموعة والمرئية أبلغ تأثيرا خاصة على الناشئة وليس غريبا أن نعلم أن بعض البلاد يعد لغة الإذاعة عنده هي اللغة المعتمدة كما نعرف عن إنجليزية الإذاعة البريطانية. والحق أننا في أشد الحاجة إلى «رقابة لغوية» حقيقة تتأكد من مستوى الأداء اللغوي في الإعلام العربي خاصة في الإذاعة والتلفاز.
س - الذين يعملون على النَيْل من اللسان العربي ومحاولة القضاء عليه وتبني معاداته وحربه هم يريدون بذلك الحرب على لغة القرآن والسنة النبوية وبالتالى الحرب على المصادر الأساسية لشريعتنا.. ما تصوراتكم لهذه القضية؟
· أود أن أؤكد أن الحرب على العربية ليس مقصورا على الدعوة إلى استخدام العامية أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية أو فينيقية أو غيرها. فهاتان دعوتان تحملان الموت الذاتي منذ البداية، لكن الحرب الحقيقية الآن فيمن يستعمل العربية في أنماط غير عربية، بحيث نجد كلاما عربيا من حيث الأصوات لكنه موضوع في قوالب تعبيرية لا تمت إلى «الثقافة» العربية ولا إلى «المعرفة» العربية.. هو ما نلحظه في كثير جدا في بعض كتابات الخارجين على التقاليد اللغوية العربية خاصة عند بعض من جرى الاتفاق على إطلاق مصطلح أهل التغريب عليهم.. نعم، إن اللغة لا تنتهي عند حد، لكنها تكتسب «قبولها» داخل المجتمع بما تحمله من تمثيل للطبيعة الداخلية والعامة لهذا المجتمع، أما حين تقتلع اللغة نفسها من جذورها وترتمي في أحضان بيئة غريبة فهنا نعرف معنى «الخروج» وإن كانت تحمل الخصائص الصوتية للعربية، وأحسب أن هذه هي الحرب الحقيقية على لغة القرآن الكريم، وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن أهل الكتاب رفضوا أن يترجموا كتابهم إلى عربية مستوية خشية أن تسيطر عليهم «الجملة القرآنية» وهذه حقيقة من الحقائق المهمة في حياة «العربية».
س- كانت الرؤية والنظرية لدى معظم الدارسين للنحو العربي أنه قام على يد العلماء والنحاة في السابق لمحاربة اللحن ولكن الأمر في الحقيقة خلاف ذلك.. ما تعليقكم على هذا الموضوع؟
· شاع في كثير من الكتب أن النحو العربي نشأ لمواجهة «اللحن» الذي بدأ يتفشى في المجتمع الإسلامي بعد اتساع الفتوح، وأعتقد اعتقادا قويا أن هذا يجافي الحقيقة، لأن النحو نشأ مع العلوم الإسلامية الأخرى لهدف محدد هو محاولة «فهم» النص القرآني ومسألة «الفهم» مسألة لا نهاية لها، إذ لا يقال إن نصا ما قد فُهِم الفهم الأكمل الذي لا محاولة بعده، ومن هنا كان لابد من الأخذ بالأدوات التي تعين على فهم نص القرآن الكريم. وانظر إلى كتاب سيبويه وهو أول كتاب وصل إلينا، وهو الكتاب الذي فرض سيادته على التحليل النحوي للعربية منذ اثنتي عشر قرنا إلى الآن، فإنك واجده متوجها إلى فهم أعماق العربية مما لا يمكن أن يكون هدفه مواجهة اللحن الذي كان يكفيه وضع عدد من المعايير لضبط اللسان. أما أن يأتي الكتاب على هذا الحجم وعلى هذا العمق وبهذا النوع من القضايا فإن ذلك لابد أن يلفت إلى حقيقة ما قلناه.. وهنا أيضا نلفت إلى أن نقد النحو العربي قد يحمل شبهة تحطيم أداة من أدوات فهم عربية القرآن، وهي أداة أثبتت صلاحيتها من قدرتها على البقاءوالحياة طوال هذه القرون.
س- يرى العديد من الدارسين في هذا الوقت أن الدراسات اللغوية والأدبية يجب أن تعرض للدراسة والبحث والنقد بعيدا عن التراث وبمعزل عنه كيف ترى هذه النظرية ومدى صحتها؟
· لا يقول أحد بسد النوافذ، فليس ثمة أنفع للصحة من الهواء الطلق النظيف الخالي من التلوث وكل دعوة إلى الإفادة من الهواء الطلق لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مرتبطة بالجذور، فما فائدة الهواء إذاكنت قد أقتلعت القلب وألقيته جانبا وليس ثمة نمو ولا تجديد إلا إذا كان نابعا من «الداخل» ونحن حين ندعو إلى ملاحقة ما عند الآخرين فإننا نؤكد أن الأخذ لابد أن يخضع لعملية «تمثيل» غذائي داخلي تحول المأخوذ إلى عناصر ذاتية لا عناصر مستوردة، أي عملية تهضم ما تنتفع به وتتخلص من كل ماعداه.
س- للتغريبية أفكار خاطئة ونظريات هدامة في مجال اللغة والأدب وقد انساق وراءها عدد من المفكرين والأدباء العرب متى ابتدأ هذا الانسياق وهذه التبعية كفكرة ودراسة؟
· التغريبية لم تعد كلمة عامة تطلق على تيارات متعددة من «التجديد» بل هي الآن في العالم العربي مصطلح خاص يشير إلى اتجاه يكاد يكون واحدا في الإبداع الأدبي وفي النقد، وهو اتجاه يتبع في الأغلب ما كان متبعا في فرنسا عند أصحاب البنيوية الأدبية خاصة رولان بارت ولوسيان جولد مان. وهو اتجاه ربما كان طبيعيا في بيئته، لكنه -بكل تأكيد- لا ينتمي إلى تربتنا الثقافية، وهو يرتبط بنظريات معرفية تصطدم مع المعرفة الإسلامية. ولا مجال للقول بأن «استيراد» المنهج لا يعني استيراد«الفكر» وتلك مسألة لا يكفي فيها القول السريع.
س - ألا تعتقد بأن قلة المهتمين بالتراث ودراساته في هذا الوقت قد أتاح للتغريبيين بالعبث في الساحة الأدبية واللغوية؟
· لاشك أننا مقصرون جدا في تقديم التراث؛ لأننا مقصرون في درسه وفي فهمه. وقد استمعت إلى أحد أصحاب التغريب يؤكد أنه رجل تراثي مستشهدا بأنه حقق مخطوطة قديمة وهذه إحدى عوارض العلة، حين نتصور التراث مجرد «تحقيق» لمخطوط وبخاصة في المنهج المتداول بين أصحابه من مقارنة النسخ المخطوطة دون محاولة فهم النصوص ووضعها في سياقها المعرفي. ولا شك أن «الخطاب» التراثي باهت اللون وضعيف الصوت لأنه لا يضع يده -إلا في النادر- على شرايين الحياة التراثية، وإنما يقدم نفسه على شكل معالجات جزئية وسطحية في كثير من الأحيان، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى «فراغ»، وأي فراغ يستدعي من يملؤه. لذلك فإن علينا أن نلوم أنفسنا قبل أن نلوم الأخرين.
س- كثر الحديث والجدل حول موضوع الاستشراق ودراسات المستشرقين بين مؤيد ومعارض..كيف ترى هذه الدراسات في مجالات اللغة والنحو؟
· لا شك أننا أفدنا كثيرا من المستشرقين، ويجب ألا ننسى أنهم علمونا فن تحقيق التراث، بل إنهم علمونا الإحساس بقيمته مما بذلوه في نشرة ولفت الأنظار إليه، ويكفي أن نعلم أن أهم المصادر العربية والإسلامية كانت موضع عناية الباحثين في النحو والبلاغة والأدب والتاريخ والجغرافيا وعلوم القرآن والحديث والفقه وغيرها. إن علم القراءات القرآنية -مثلا- لقي من عناية المستشرقين فوق ما لقيه منا.. ومع ذلك فقد كان للمستشرقين دوافعهم التي وجهت طريقة الدرس وطريقة التناول ولا حرج عليهم في ذلك من ناحيتهم هم، إنما الحرج كله علينا حين نتبنى طريقتهم، ولقد رأينا عددا من الدارسين يسعون إلى الحصول على رضا أساتذتهم من المستشرقين بأن يكونوا أكثر غلوا منهم كمثل أولئك الذين يتصورون أنهم لابد أن يجرحوا الفكر الإسلامى كي يصفوا بأنهم «موضوعيون» ومن هنا رأينا طريقتهم في التناول كتلك التي عهدناها عند أحدهم حين درس غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام فقدمها على أنها صراع اقتصادي بين مكة والمدينة، إذ كانت المدينة تخطط -في زعمه- باستقبال النبي صلى الله عليه وسلم إلى نقل الثقل التجاري الذي كانت تتمتع به مكة إليها. ولقد رأينا بلاشير يشير في استحياء إلى فكرة خطيرة حين قال في كتابه عن القرآن إن المسلمين أسسوا «نظرية» القراءة بالمعنى، ثم جاء أحد تلاميذه ليكتب رسالة كاملة يؤكد فيها هذا الرأي.. وهكذا إننا لا ننكر إفادتنا من جهود الاستشراق لكن علينا أن ننبه إلى اختلاف الغايات واختلاف المناهج.