مصطفى شيخون
New member
[h=2]مع الكليم في القرآن الكريم (2)[/h]
أما بعد: ما زلنا مع الكليم في القرآن الكريمكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية أن نبي الله موسى عليه السلام احتفى بذكره القرآن أيما احتفاء، فلقد ذُكر موسى عليه السلام في أكثر من عشرين سورة قرآنية، علاوة على أن اسمه عليه السلام ذكر أكثر من مائة وعشرين مرة. لماذا تتعدد سور وقصص سيدنا موسى عليه السلام في القرآن بهذه الكمية؟ إلا أن هناك حكمة بل حِكَم باهرة من الله لهذه الأمة خصيصًا لهذا الشبه العظيم الذي بين بني إسرائيل وبين أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه الإيذاء ويكثر كان يسلي نفسه صلى الله عليه وسلم بذكر أخيه موسى عليه السلام، بل كان يقول: رحم الله أخي موسى فلقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر. يسلي نفسه لكي يصبر صلى الله عليه وسلم على إيذاء القوم والأعداء، لذا فقد اخترنا لكم سورة القصص لأنها الصورة الوحيدة التي بدأت بذكر ميلاد موسى عليه السلام وانفردت هذه السورة بهذا الأسلوب الرائع في عرض الظروف التي ولد فيها موسى عليه السلام، قبل أن أحدثك عن مولده وعن رضاعته وعن أخذ فرعون له؛ بدأ لك بتشبيه صورة رائعة للأحداث التي تدور في الوقت الذي ولد فيه موسى عليه السلام. قلنا ونذكر أن سورة القصص هي سورة مكية، نزلت في مكة والمسلمون قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الجاه والسلطان، والمؤمنون القلة المستضعفة هم المضطهدون والمعذبون والمعتقلون والمشردون والمطرودون من بلادهم. فنزلت هذه السورة المكية لكي ترسخ في قلوب المؤمنين بأن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، ألا وهي قوة ربنا المعبود جل في علاه، وأن أي قوة أخرى بشرية لن تستطيع أن تصمد أمام قوة القوي المتين. وأن هذه السورة نزلت لكي تقول للمؤمنين أن معكم قيمة ليست مع أي أحد، ألا وهي قيمة الإيمان بالله، الإيمان الذي إن وُلد في قلوب المؤمنين حقيقة كانوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، ولكن بني إسرائيل حينذاك لم يكونوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، لذا تدخل الله تبارك وتعالى بمنه وفضله لكي ينهي هذا الصراع وهذا الاستضعاف لقوم أوذوا كثيرًا ومرارًا وتكرارًا وقُتل منهم الكثير، فأتت إرادة الله تبارك وتعالى لكي تنتشل هؤلاء القلة المستضعفة من براثين القتل والدماء والجاهلية، لكي تخرجهم إلى النور والحرية والكرامة، لكي يعلموا أن لهم وزنًا عند الله ابتداءً، فقال ربنا: ﴿ وَنُرِيدُ ﴾ إرادة.. إرادة الله نافذة، فرعون يريد؛ يريد تقتيل ويريد تشريد ويريد أن يجعل الشعب طوائف ومللًا، هو يريد ذلك ولكن الله يريد عكس ذلك. فأي الإرادتين ستنفذ؟ إرادة الله جل في علاه أم إرادة عبد من طين لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟! فإرادة الله نافذة. وهذا كان تحديًا من الله عز وجل لكل طاغوت وكل فرعون بأن أمر الله نافذ، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5]، منٌّ وفضل مِن الله، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ يملكون أمر أنفسهم ويتحكمون في كل شيء، أئمة، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ يرثون الملك والحكم والبلاد، وفوق ذلك.. قد تكون وارثًا للحكم ولكن لست ممكنًا. خذ هذه؛ قد تكون صاحب ملك وصاحب سلطان ولكنك لست ممكنًا، انظروا إلى الشرق! من الناس من يظن أن الدول المترفة التي عندها الراحة والدعة والأموال يحكمون شرع الله، بل في البلد الذي نزلت فيها رسالة الله، ولكن أين؟! أين شرع الله؟ لا يوجد، المسلمون ليسوا ممكنين في الأرض، شرع الله ليس ممكنًا في الأرض، حتى ولو قالت إن هذا البلد بلد الحرمين أو بلد فلان أو البلد الإسلامي العلاني الفلاني، لا, كل هذا هراء، فقال ربنا تبارك وتعالى بعد هذا المن: ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5-6] فلا بد أن تجمع بين الملك والحكم والتمكين. وبعد ذلك لا بد من إنفاذ الإرادة الإلهية، هل يترك ربنا الظالم على ظلمه؟ وهل يترك ربنا حق المقتول ولا يأخذه من القاتل؟ حاشاه جل في علاه، فهو الذي سيرد الحقوق إلى أهلها في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم ﴾ مِنْ مَنْ؟ مِن المستضعفين مِن المؤمنين من المعتقلين المشردين ﴿ مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ يحذرون هلاكهم يحذرون زوال ملكهم يحذرون كل ذلك، فلا بد من أن يري الله عز وجل الطواغيت ما كانوا يحذرون.. إرادة الله، هل تصدق ربك؟ أتصدق الله أنه سيري الظالمين عاقبة ظلمهم. بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ثم وقفنا عند هذه الرواية كيف يحدث ذلك؟ كيف سيمكن للقلة المستضعفة؟ كيف وليس معهم أي شيء؟! تبدأ السورة في مشهد آخر عجيب، في أسلحة التمكين الخفية التي لا تُرى بالعين، التي لا يراها الناس، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ من هنا يبدأ التمكين من هنا يبدأ النصر، ومتى سيكبر هذا المولود الصغير الطفل الرضيع متى؟ حتى يبلغ أشده ثلاثين أربعين عامًا، وهل نصبر على كل ذلك؟ نعم. ليست العبرة بأن نصل إلى نهاية الطريق ولكن العبرة أن نموت على الطريق، أن يقبض الله أرواحنا ونحن مسلمون مصدقون بوعيده ووعده سبحانه، فليست العبرة بمن سبق ولكن العبرة بمن صدق، اصدق الله يصدقك الله. ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ وقيل: إنه وحي إلهام لا وحي كلام، كما قال ربنا العلام: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [النحل: 68] هو وحي إلهام، ﴿ أنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ رضعات مشبعات حتى يستطيع أن يكمل هذه الأيام الخوالي وهو في النهر نهر النيل وحينما يأخذه آل فرعون؛ لأنه لن يستطيع أن يقبل ثدي امرأة إلى ثدي أمه، فأرضعيه.. أرضعيه رضعات مشبعات، قالوا: أرضعته أم موسى ثلاثة أشهر، وكانت في هذه الثلاثة أشهر تضعه في التابوت وتربط التابوت بالبيت، لأن بيتها على الساحل على النهر، فتضعه في التابوت وحينما يأتي أحد تضع التابوت في الماء مربوطًا بالبيت كما جاء هذه إرادة الله سبحانه وتعالى. وقيل: لما كثر القتل، الملك الطاغية فرعون حينما أعلمه ساحروه بأن ملكه سيزول على ولد ذكر من ولد إسرائيل جعل يقتل فيهم حتى لم يبقى شيء إلا عددًا منهم فأصبح القبطيون غير الإسرائيليين يتولون هم الأعمال الشاقة لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل في أعمالهم وخدمتهم فقالوا: لن يبقى رجال يتولون هذه الأعمال الشاقة سوف نتولاها نحن، فقال فرعون: عام وعام؛ عام نُقتِّل وعام نعفو. وولد هارون عليه السلام لكي يعلم السائل متى ولد هارون؟ ولد في العام الذي يعفو فيه عن القتل، قيل: قتل سبعون وليدًا وقيل تسعون وليدًا، انظر إلى هذا العدد! خائف على زوال ملكه، جعل -كما يقول ابن كثير في تفسيره- جيشًا من القابلات اللواتي يستقبلن الرضيع، كل امرأة تكون في بيت المرأة التي ستضع وتتابعها إلى أن تضع وليدها وتستقبله القابلة وتأخذه إلى فرعون أو تبلغ جيش فرعون أن يأتوا بالشفرة ويذبحوه. ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7] خفت عليه من هذا القتل وهذا الظلم، ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ قيل: أن هذه الآية الوحيدة في القرآن التي جمعت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا... ﴾ الخبران اللذان يحملان البشارتين ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ وعد من الله ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] يخفف من روعها وخوفها على وليدها. هذه اللطيفة الرائعة أن القرآن يحدثنا في كل وقت وآن ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ حينما ترجع إلى آخر صفحة في سورة القصص، يقول ربنا لنبيه محمد: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85] كما رددنا موسى إلى أمه وأنفذنا وعدنا، سنردك يا محمد ناصرً منتصرًا على أعدائك في فتح مكة، أتصدقون الله؟ ﴿ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]. يأتي مشهد آخر ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [القصص: 8] انظر إلى هذا التدبير الإلهي، ألم أقل لكم أن هذه السورة تحدٍّ من الله.. تحدٍّ.؟! كيف سار التابوت في النهر؟! كيف لم تأخذه الأمواج؟! ونحن الآن وقبل الآن من قرن من الزمان يقولون: إن نهر النيل في مرحلة الشيخوخة، فكيف من قبل أيام الفرعون يمشي في هذه الأمواج العاتية؟ لم يأخذ التابوت شيئًا من الماء، أو أي ظرف يطرأ عليه؟ لا، لأن النهر جند من الله مأمور بأن يأخذ موسى عليه السلام وهو في التابوت وأن يأتي به ويقف عند قصر فرعون، القصر الرئاسي الفرعوني. وفي هذه اللحظة وانظر إلى التدبير الإلهي تخرج امرأة فرعون لكي تنظر إلى النهر فتجد تابوتًا فتأخذه، من أخرجها في هذه الساعة أليس الله؟! أليس هو التدبير الإلهي؟! فأخذته فتحت التابوت.. رأت ما لم تره من قبل؛ طفل جميل ما أحسنه وما أجمله وما أروعه ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ من الله ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾. ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8] أخذته، فحينما رآه فرعون: ذكر طفل ما الذي جاء به إلى قصري، إني أذبح الأطفال إني أذبح الذكور، أقْتُله. انظر إلى هذا الفزع! خاف على ملكه وعلى سلطانه وجاهه وحياته، اقتلوه. قالت: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ ليس عندنا مولود ذكر، ولدن كلهن بنات. انظر إلى حكمة رب الأرض والسموات، لم يولد لم مولود ذكر، فقرة عين لي ولك، فقالت كما يقول ابن عباس: قالت قرة عين لي ولك، فقال فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا. ونفذت الإرادة كان موسى الرضيع سببًا في هداية امرأة فرعون فأصبحت من النساء الكُمَّل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ». سلاح موسى عليه السلام حب الناس له، محبة الله التي ألقاها عليه، يراه كل أحد يعجب به ويصاب بفرحة هائلة بهذه المحبة التي قذفها الله في قلوب الخلق، لذا إذا أحبك الله حبب فيه خلقه، ولكن إذا سخط عليك ربك أسخط عليك كل شيء.. أسخط عليك كل شيء، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ [مريم: 96] آمن واعمل صالحًا يجعل لك الله ودًّا. ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [القصص: 8] هذا سيكون من أعجب الأعداء يا فرعون، والتحدي أنك أنت الذي ستشرف على تربيته وغذائه وطعامه وشرابه ولباسه وفي قصرك. ﴿ وَحَزَناً ﴾ حزنًا تحزنون: يا ليتنا قتلناه. هذا تدبير، ولد صغير جاء من نهر النيل لم يفكر منهم أحد أن هذا الولد فيه شيء ما لعله حقًّا الذي قاله الساحر أن ملك فرعون سيزول على يديه، وقد كان، لكن أعماهم الله عن كل هذا.. أمر الله عز وجل، التدبير الإلهي المحكم، ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾. انظر إلى التعبير الإلهي: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8] انظر إلى التعبير، لم يقل: مجرمين أو سفاحين أو قتالين مع أن هذه أوصاف حقيقية لهم، ولكن قال: ﴿ خَاطِئِينَ ﴾ لم يصيبوا جهال حمقى، أحمق يظن أنه على صواب وهو مخطئ، سلك الطريق الخطأ، ﴿ كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ في فهم الناس وفي فهم الواقع وفي فهم عواقب الأمور.. خاطئين. ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ ﴾ وحده؟ ﴿ وَهَامَانَ ﴾ الوزراء ﴿ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ لأنه نظام متكامل مجرم لم يستأصله الناس من جذوره.
___ ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9] وهم لا يدرون أن هذا الرضيع وهذا الطفل سبب هلاك ملكهم وزواله، ولكن الله عز وجل صور مشهدا آخر في هذا المشهد العجيب، امرأة فرعون فرحت به، ولكن أمه التي وضعته ما حالها؟ أن ربنا تبارك وتعالى الحديث وأن يعطينا الصورة والمشهد لهذه المرأة الملهوفة الحزينة الخائفة على وليدها، يصور ربنا تبارك وتعالى حديثًا عن أم موسى قائلًا: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً ﴾ [القصص: 10] فارغ عن كل شيء إلا عن موسى عليه السلام. أنت يا عبدالله.. حينما يكون عندك هم في العمل أو مع الأولاد أو مع الجيران أو في البيت أو في الولد أو في أي شيء، هذا كله يسمى هموم صغيرة، ولكن حينما تضع رأسك على الوسادة ليلًا يجتمع إليك الهم الأكبر الذي يجعلك تنسى أي هم وغم إلا هذا الهم، فكل هم زائل إلا همّا واحدًا تجعله أكبر همومك. أم موسى كان أكبر همها وليدها ابنها التي كيف استطاعت أن تلقيه في اليم دون أي ترديد، لعلها تقول في نفسها: أنا لا أعلم عنه شيئًا الآن، إن كان قتل اعرف وسوف يرتاح قلبي سوف أدفنه بيدي، ولكني لا أعلم أين هو الآن، أقتلوه؟ أم غرق؟ أم ماذا حدث له؟ يصور ربنا هذا المشهد الذي يخلع القلوب ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ ستخرج إلى الشارع وتقول: وا ولداه.. وا ابناه.. قتلت ولدي، لقد وضعته في الماء دون أي ترديد، سوف تصبح كالمجنونة تحدث نفسها وتكشف أمرها للناس ﴿ لَوْلَا.. ﴾لولا ماذا؟ لولا شجاعتها؟ لولا صبرها؟ ليس عندها صبر ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾. اللهم اربط على قلوب أمهات المسلمين، اللهم اربط على قلوب أمهات المعتقلين، اللهم اربط على قلوب أمهات الشهداء الثكالى! ﴿ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ لماذا؟ إن لم يكن هذا الربط من الله على القلب لن تكون مؤمنة، لذا حينما تأتيك مصيبة ما؛ فقد حبيب أو موت قريب أو مرض صديق لا بد أن يكون الصبر عند الصدمة الأولى، إن تحدثت وشكوت وجزعت لم تكن مؤمنًا، «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس هذا إلا للمؤمن»، لذا ﴿ وْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ [القصص: 10] هنا لطيفة رائعة وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، ما الفارق بين الفؤاد والقلب؟ الله جمع بين الاثنين في آية واحدة، ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ [القصص: 10] ما الفارق؟ يقول العلماء: إن الفؤاد هو محل الخوف والجزع، أما القلب فهو محل الاطمئنان والسكينة والخشوع، لذا يحتاج الفؤاد إلى تثبيت لأنه خائف لأنه جزع، لذا ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32] يقول الله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي أنزلناه مفرقًا، لماذا يا رب؟ ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ لأنه فيه الخوف وفيه الجزع فيحتاج إلى تثبيت، فثبت الله فؤاد أم موسى، والقلب يحتاج إلى سكينة إلى اطمئنان إلى هدوء ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ [القصص: 10]. قال الله للخليل: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260] قلبي هو الذي يحتاج إلى اطمئنان، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28] القلب يحتاج إلى اطمئنان، فاللهم طمئن قلوب المؤمنين يا رب العالين بذكرك وبقرآنك وبكتابك وبكلامك يا أرحم الراحمين. أرى الوقت يمر سريعًا ولكن أختم لكم بهذا المشهد الرائع التي قالت فيه أم موسى: ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [القصص: 11] ليس أنا، ألقت ولدها تريد أن تطمئن، قصيه تتبعيه وتتبعي أثره إلى أين سيستقر به الماء، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ) تسير ولا تريد أن يُعرَف أنها تراقب هذا التابوت، حتى استقر به التابوت عند القصر كما قلنا، فعلمت أين ذهب به التابوت. ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11] لا يشعرون أن هذه أخته تتبع أثره وتريد أن تطمئن قلب أمها عليه. وما الذي يحدث حينما يجدوا هذا الرضيع ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ﴾ [القصص: 12] ، حرام أن موسى عليه السلام يرضع من ثدي غير ثدي أمه لا يجوز، ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل أن نرده إلى أمه مرة أخرى، لأن وعدنا آتي ووعدنا حق، ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ ﴾ أخته ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12] لماذا؟ حينما حرم ربنا المراضع ولم يقبل موسى عليه السلام بأي ثدي خرجوا به في الأسواق، انظر أصبح همهم هذا الرضيع بعد أن كان همهم قتل الرضع وقتل الأطفال، أصبح الهم العكس عندهم شيء يريدون أن يطعمونه خائفون عليه، لأن الله ألقى المحبة في قلوبهم، فيحبه كل من يره، يذهبون به في لهفة نريد أن نطعمه، الطفل يبكي لا يقبل أي ثدي غير ثدي أمه، نريد أن نرضعه بأي شكل من الأشكال، فذهبوا به في الأسواق فلم يجدوا أحد يقبل ثديه. فقالت لهم أخته: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ [القصص: 12] بالله عليك هذا سؤال؟! أليس هذا يعلمهم أن في هذا الطفل شك وأن هذه المرأة التي هي أخته بينه وبينها أي شيء؟ لم تسألين؟ لماذا أنت مهتمة؟ أكيد ومؤكد أن هذا الطفل هو الذي سيزول ملك فرعون على يديه؟ لكنه التدبير، ومن يدبر الأمر؟ الله يدبر الأمر. قال ابن عباس ترجمان القرآن معلقًا على هذه الآية، قال: فشكوا في أمرها وقالوا لها: كيف عرفت أنهم سيكفلونه وأنهم له ناصحون، هنا زكاء المؤمن وفراسة المؤمن، فقالت: هم ناصحون لفرعون للملك لأنهم يبتغوا منه العطاء. هذا كلام ابن عباس ترجمان القرآن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما وضع يده على صدره: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» يعلم السورة فيمن نزلت وأين نزلت وسبب نزولها. فشكوا في أمرها، ولكنه التدبير سبحان الملك القدير. فقالت هذه الإجابة فصمتوا وسكتوا: هم ناصحون لفرعون ويرجون منه العطاء، فرد الله عز وجل موسى إلى أمه بعد أن كانت سترضعه مجانًا سترضعه الآن بأجر. قل: الله أكبر..
يرد الله عز وجل إليها رضيعها لأنه وَعَد، وتأخذ على الرضاعة أجر، سبحان الله، فيقول الله عز وجل: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ [القصص: 13] انظر إلى اهتمام القرآن بقلب هذه المرأة، وانظر إلى تسخير ربنا للنساء لسيدنا موسى، أولهن أمه، ثانيهن أخته، ثالثهن امرأة فرعون عدوه وعدو الله، من غيرهن؟ عندما نقرأ في سورة القصص نجد ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ [القصص: 23] سيتزوج إحداهن، وهكذا يسخِّر الله عز وجل من يعينه على هم الرسالة وحمل الرسالة، دور رائع للمرأة في قصة موسى عليه السلام. لذا؛ ينفذ الله وعده ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ [القصص: 13]، من الناس ما لم يعلم أن وعد الله حق إلا حينما يرى بنفسه فلا يؤمن بالغيبيات وإنما يؤمن بالمحسوسات بالماديات كبني إسرائيل قالوا: أرنا الله جهرة، نريد أن نرى من نعبده، انظر. لكن المؤمن الحق الصادق في إيمانه لا يحتاج إلى ذلك هو رأى الجنة والنار بعيني رسول الله فلا يحتاج إلى ذلك، هو يؤمن بالغيب ويؤمن بوعود الله عز وجل. وسوف نقف عند هذه الآية ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ونستكملها الخطبة القادمة بمشيئة الله تبارك وتعالى.
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وحده وليس معه شريك، ورزق الخلق وحده وليس معه شريك، فينبغي أن يُعبَد وحده وليس معه شريك. أما بعد: ما زلنا مع الكليم في القرآن الكريمكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية أن نبي الله موسى عليه السلام احتفى بذكره القرآن أيما احتفاء، فلقد ذُكر موسى عليه السلام في أكثر من عشرين سورة قرآنية، علاوة على أن اسمه عليه السلام ذكر أكثر من مائة وعشرين مرة. لماذا تتعدد سور وقصص سيدنا موسى عليه السلام في القرآن بهذه الكمية؟ إلا أن هناك حكمة بل حِكَم باهرة من الله لهذه الأمة خصيصًا لهذا الشبه العظيم الذي بين بني إسرائيل وبين أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه الإيذاء ويكثر كان يسلي نفسه صلى الله عليه وسلم بذكر أخيه موسى عليه السلام، بل كان يقول: رحم الله أخي موسى فلقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر. يسلي نفسه لكي يصبر صلى الله عليه وسلم على إيذاء القوم والأعداء، لذا فقد اخترنا لكم سورة القصص لأنها الصورة الوحيدة التي بدأت بذكر ميلاد موسى عليه السلام وانفردت هذه السورة بهذا الأسلوب الرائع في عرض الظروف التي ولد فيها موسى عليه السلام، قبل أن أحدثك عن مولده وعن رضاعته وعن أخذ فرعون له؛ بدأ لك بتشبيه صورة رائعة للأحداث التي تدور في الوقت الذي ولد فيه موسى عليه السلام. قلنا ونذكر أن سورة القصص هي سورة مكية، نزلت في مكة والمسلمون قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الجاه والسلطان، والمؤمنون القلة المستضعفة هم المضطهدون والمعذبون والمعتقلون والمشردون والمطرودون من بلادهم. فنزلت هذه السورة المكية لكي ترسخ في قلوب المؤمنين بأن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، ألا وهي قوة ربنا المعبود جل في علاه، وأن أي قوة أخرى بشرية لن تستطيع أن تصمد أمام قوة القوي المتين. وأن هذه السورة نزلت لكي تقول للمؤمنين أن معكم قيمة ليست مع أي أحد، ألا وهي قيمة الإيمان بالله، الإيمان الذي إن وُلد في قلوب المؤمنين حقيقة كانوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، ولكن بني إسرائيل حينذاك لم يكونوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، لذا تدخل الله تبارك وتعالى بمنه وفضله لكي ينهي هذا الصراع وهذا الاستضعاف لقوم أوذوا كثيرًا ومرارًا وتكرارًا وقُتل منهم الكثير، فأتت إرادة الله تبارك وتعالى لكي تنتشل هؤلاء القلة المستضعفة من براثين القتل والدماء والجاهلية، لكي تخرجهم إلى النور والحرية والكرامة، لكي يعلموا أن لهم وزنًا عند الله ابتداءً، فقال ربنا: ﴿ وَنُرِيدُ ﴾ إرادة.. إرادة الله نافذة، فرعون يريد؛ يريد تقتيل ويريد تشريد ويريد أن يجعل الشعب طوائف ومللًا، هو يريد ذلك ولكن الله يريد عكس ذلك. فأي الإرادتين ستنفذ؟ إرادة الله جل في علاه أم إرادة عبد من طين لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟! فإرادة الله نافذة. وهذا كان تحديًا من الله عز وجل لكل طاغوت وكل فرعون بأن أمر الله نافذ، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5]، منٌّ وفضل مِن الله، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ يملكون أمر أنفسهم ويتحكمون في كل شيء، أئمة، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ يرثون الملك والحكم والبلاد، وفوق ذلك.. قد تكون وارثًا للحكم ولكن لست ممكنًا. خذ هذه؛ قد تكون صاحب ملك وصاحب سلطان ولكنك لست ممكنًا، انظروا إلى الشرق! من الناس من يظن أن الدول المترفة التي عندها الراحة والدعة والأموال يحكمون شرع الله، بل في البلد الذي نزلت فيها رسالة الله، ولكن أين؟! أين شرع الله؟ لا يوجد، المسلمون ليسوا ممكنين في الأرض، شرع الله ليس ممكنًا في الأرض، حتى ولو قالت إن هذا البلد بلد الحرمين أو بلد فلان أو البلد الإسلامي العلاني الفلاني، لا, كل هذا هراء، فقال ربنا تبارك وتعالى بعد هذا المن: ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5-6] فلا بد أن تجمع بين الملك والحكم والتمكين. وبعد ذلك لا بد من إنفاذ الإرادة الإلهية، هل يترك ربنا الظالم على ظلمه؟ وهل يترك ربنا حق المقتول ولا يأخذه من القاتل؟ حاشاه جل في علاه، فهو الذي سيرد الحقوق إلى أهلها في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم ﴾ مِنْ مَنْ؟ مِن المستضعفين مِن المؤمنين من المعتقلين المشردين ﴿ مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ يحذرون هلاكهم يحذرون زوال ملكهم يحذرون كل ذلك، فلا بد من أن يري الله عز وجل الطواغيت ما كانوا يحذرون.. إرادة الله، هل تصدق ربك؟ أتصدق الله أنه سيري الظالمين عاقبة ظلمهم. بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ثم وقفنا عند هذه الرواية كيف يحدث ذلك؟ كيف سيمكن للقلة المستضعفة؟ كيف وليس معهم أي شيء؟! تبدأ السورة في مشهد آخر عجيب، في أسلحة التمكين الخفية التي لا تُرى بالعين، التي لا يراها الناس، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ من هنا يبدأ التمكين من هنا يبدأ النصر، ومتى سيكبر هذا المولود الصغير الطفل الرضيع متى؟ حتى يبلغ أشده ثلاثين أربعين عامًا، وهل نصبر على كل ذلك؟ نعم. ليست العبرة بأن نصل إلى نهاية الطريق ولكن العبرة أن نموت على الطريق، أن يقبض الله أرواحنا ونحن مسلمون مصدقون بوعيده ووعده سبحانه، فليست العبرة بمن سبق ولكن العبرة بمن صدق، اصدق الله يصدقك الله. ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ وقيل: إنه وحي إلهام لا وحي كلام، كما قال ربنا العلام: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [النحل: 68] هو وحي إلهام، ﴿ أنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ رضعات مشبعات حتى يستطيع أن يكمل هذه الأيام الخوالي وهو في النهر نهر النيل وحينما يأخذه آل فرعون؛ لأنه لن يستطيع أن يقبل ثدي امرأة إلى ثدي أمه، فأرضعيه.. أرضعيه رضعات مشبعات، قالوا: أرضعته أم موسى ثلاثة أشهر، وكانت في هذه الثلاثة أشهر تضعه في التابوت وتربط التابوت بالبيت، لأن بيتها على الساحل على النهر، فتضعه في التابوت وحينما يأتي أحد تضع التابوت في الماء مربوطًا بالبيت كما جاء هذه إرادة الله سبحانه وتعالى. وقيل: لما كثر القتل، الملك الطاغية فرعون حينما أعلمه ساحروه بأن ملكه سيزول على ولد ذكر من ولد إسرائيل جعل يقتل فيهم حتى لم يبقى شيء إلا عددًا منهم فأصبح القبطيون غير الإسرائيليين يتولون هم الأعمال الشاقة لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل في أعمالهم وخدمتهم فقالوا: لن يبقى رجال يتولون هذه الأعمال الشاقة سوف نتولاها نحن، فقال فرعون: عام وعام؛ عام نُقتِّل وعام نعفو. وولد هارون عليه السلام لكي يعلم السائل متى ولد هارون؟ ولد في العام الذي يعفو فيه عن القتل، قيل: قتل سبعون وليدًا وقيل تسعون وليدًا، انظر إلى هذا العدد! خائف على زوال ملكه، جعل -كما يقول ابن كثير في تفسيره- جيشًا من القابلات اللواتي يستقبلن الرضيع، كل امرأة تكون في بيت المرأة التي ستضع وتتابعها إلى أن تضع وليدها وتستقبله القابلة وتأخذه إلى فرعون أو تبلغ جيش فرعون أن يأتوا بالشفرة ويذبحوه. ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7] خفت عليه من هذا القتل وهذا الظلم، ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ قيل: أن هذه الآية الوحيدة في القرآن التي جمعت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا... ﴾ الخبران اللذان يحملان البشارتين ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ وعد من الله ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] يخفف من روعها وخوفها على وليدها. هذه اللطيفة الرائعة أن القرآن يحدثنا في كل وقت وآن ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ حينما ترجع إلى آخر صفحة في سورة القصص، يقول ربنا لنبيه محمد: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85] كما رددنا موسى إلى أمه وأنفذنا وعدنا، سنردك يا محمد ناصرً منتصرًا على أعدائك في فتح مكة، أتصدقون الله؟ ﴿ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]. يأتي مشهد آخر ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [القصص: 8] انظر إلى هذا التدبير الإلهي، ألم أقل لكم أن هذه السورة تحدٍّ من الله.. تحدٍّ.؟! كيف سار التابوت في النهر؟! كيف لم تأخذه الأمواج؟! ونحن الآن وقبل الآن من قرن من الزمان يقولون: إن نهر النيل في مرحلة الشيخوخة، فكيف من قبل أيام الفرعون يمشي في هذه الأمواج العاتية؟ لم يأخذ التابوت شيئًا من الماء، أو أي ظرف يطرأ عليه؟ لا، لأن النهر جند من الله مأمور بأن يأخذ موسى عليه السلام وهو في التابوت وأن يأتي به ويقف عند قصر فرعون، القصر الرئاسي الفرعوني. وفي هذه اللحظة وانظر إلى التدبير الإلهي تخرج امرأة فرعون لكي تنظر إلى النهر فتجد تابوتًا فتأخذه، من أخرجها في هذه الساعة أليس الله؟! أليس هو التدبير الإلهي؟! فأخذته فتحت التابوت.. رأت ما لم تره من قبل؛ طفل جميل ما أحسنه وما أجمله وما أروعه ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ من الله ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾. ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8] أخذته، فحينما رآه فرعون: ذكر طفل ما الذي جاء به إلى قصري، إني أذبح الأطفال إني أذبح الذكور، أقْتُله. انظر إلى هذا الفزع! خاف على ملكه وعلى سلطانه وجاهه وحياته، اقتلوه. قالت: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ ليس عندنا مولود ذكر، ولدن كلهن بنات. انظر إلى حكمة رب الأرض والسموات، لم يولد لم مولود ذكر، فقرة عين لي ولك، فقالت كما يقول ابن عباس: قالت قرة عين لي ولك، فقال فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا. ونفذت الإرادة كان موسى الرضيع سببًا في هداية امرأة فرعون فأصبحت من النساء الكُمَّل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ». سلاح موسى عليه السلام حب الناس له، محبة الله التي ألقاها عليه، يراه كل أحد يعجب به ويصاب بفرحة هائلة بهذه المحبة التي قذفها الله في قلوب الخلق، لذا إذا أحبك الله حبب فيه خلقه، ولكن إذا سخط عليك ربك أسخط عليك كل شيء.. أسخط عليك كل شيء، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ [مريم: 96] آمن واعمل صالحًا يجعل لك الله ودًّا. ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [القصص: 8] هذا سيكون من أعجب الأعداء يا فرعون، والتحدي أنك أنت الذي ستشرف على تربيته وغذائه وطعامه وشرابه ولباسه وفي قصرك. ﴿ وَحَزَناً ﴾ حزنًا تحزنون: يا ليتنا قتلناه. هذا تدبير، ولد صغير جاء من نهر النيل لم يفكر منهم أحد أن هذا الولد فيه شيء ما لعله حقًّا الذي قاله الساحر أن ملك فرعون سيزول على يديه، وقد كان، لكن أعماهم الله عن كل هذا.. أمر الله عز وجل، التدبير الإلهي المحكم، ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾. انظر إلى التعبير الإلهي: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8] انظر إلى التعبير، لم يقل: مجرمين أو سفاحين أو قتالين مع أن هذه أوصاف حقيقية لهم، ولكن قال: ﴿ خَاطِئِينَ ﴾ لم يصيبوا جهال حمقى، أحمق يظن أنه على صواب وهو مخطئ، سلك الطريق الخطأ، ﴿ كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ في فهم الناس وفي فهم الواقع وفي فهم عواقب الأمور.. خاطئين. ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ ﴾ وحده؟ ﴿ وَهَامَانَ ﴾ الوزراء ﴿ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ لأنه نظام متكامل مجرم لم يستأصله الناس من جذوره.
___
يرد الله عز وجل إليها رضيعها لأنه وَعَد، وتأخذ على الرضاعة أجر، سبحان الله، فيقول الله عز وجل: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ [القصص: 13] انظر إلى اهتمام القرآن بقلب هذه المرأة، وانظر إلى تسخير ربنا للنساء لسيدنا موسى، أولهن أمه، ثانيهن أخته، ثالثهن امرأة فرعون عدوه وعدو الله، من غيرهن؟ عندما نقرأ في سورة القصص نجد ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ [القصص: 23] سيتزوج إحداهن، وهكذا يسخِّر الله عز وجل من يعينه على هم الرسالة وحمل الرسالة، دور رائع للمرأة في قصة موسى عليه السلام. لذا؛ ينفذ الله وعده ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ [القصص: 13]، من الناس ما لم يعلم أن وعد الله حق إلا حينما يرى بنفسه فلا يؤمن بالغيبيات وإنما يؤمن بالمحسوسات بالماديات كبني إسرائيل قالوا: أرنا الله جهرة، نريد أن نرى من نعبده، انظر. لكن المؤمن الحق الصادق في إيمانه لا يحتاج إلى ذلك هو رأى الجنة والنار بعيني رسول الله فلا يحتاج إلى ذلك، هو يؤمن بالغيب ويؤمن بوعود الله عز وجل. وسوف نقف عند هذه الآية ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ونستكملها الخطبة القادمة بمشيئة الله تبارك وتعالى.