مع العلم وأحكامة في آيةٍ

إنضم
06/03/2015
المشاركات
51
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد
إن القرآن العظيم لهو بحرٌ مترامى الأطراف في أقصر آيةٍ من آياته، وما زالت سفن العلماء تجول في أعماق الآيات لتستخرج علما طريا غضا وحليةً تبهج قلوب المؤمنين. وإنني قد شرعت منذ سنوات في تحليل شيق للآيات في سورة البقرة فهالني كثرة ما رأيت من بديع المعاني وعميق الفكر وعبقرية المنهج- لو جاز لنا التعبير- وهذه إحدى الآيات التي أرجو أن تكون في ميزان حسناتي وحسنات القارئ الكريم.
يقول تعالى:
قال تعالى: [FONT=arabswell_1][FONT=arabswell_1]{
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​​
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)[FONT=arabswell_1]}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​​
[/FONT]
[/FONT] [البقرة: 159، 160][/FONT]


مستويات الخطاب القرآني

من جماليات الخطاب القرآني أنه خطابٌ متعددُ المستويات، فلربما بان لمخصوصٍ منه توجهٌ كما يظهر للعموم توجهٌ آخرٌ في وقت نزوله، ثم ينثني له الزمن فيكون لقومٍ آخرين على خصوصٍ فيهم وعلى عمومٍ-أيضاً-ما يخاطبهم به من المعاني. وبذلك فالخطابُ القرآني متجددٌ دائماً لا يحده الزمان، بل تتسع دلالاته لتمتد في الزمان والأحداث على تجددها ما يلائمها بلا تنطُّعٍ في التوجيه، ولا ترددٍ في إنزال القرآن على ما يتجدد من الواقع. وكذلك يعبر علماء القرآن عن هذا ببحث (العِبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب) والتحقيق في المسألة أن العبرة بكليهما على اجتماعٍ وعلى تفريقٍ؛ في تفصيلٍ يطول به الكلام، ويكفينا منه الآن الإشارةُ. وهذه نقطةٌ مفيدةٌ جداً في تناول النص الحكيم يجب أن يتوخاها الدارسون.
وبالمثال هنا: فهذا خطابٌ ربما جاء لأهل الكتاب الذين يعلمون أنَّ محمدا -صلى الله عليه وسلم
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​-وما جاء به هو الحق المذكور عندهم ثم ينكرون ويكتمون ويكذبون؛ فجاء الخطاب القرآني تبكيتا لهم على كتمانهم الحق. ثم يتسع ذات الخطاب ليشمل كل من عرف الحق وأنكره وكتمه ولو في نفسه في زمن الرسالة الأول من المنافقين والمشركين، ثم يتسع الخطاب ليخاطب أهل العلم على مر العصور بالوعيد لأجل كتمان الحق والعلم وعدم بثه لما يستحقه من الظهور والدعوة إليه. فتأمل-رحمك الله-كيف اتسع الخطاب القرآني في مستوياته ليتسع المعنى والعِبرة، والنموذج الإصلاحي لينثني له الزمن.

فهذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ وصفاته، فإن حكمها عامٌ لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله
[FONT=arabswell_1]{
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
[FONT=arabswell_1]مَا أَنْزَلْنَا[/FONT] [FONT=arabswell_1]مِنَ الْبَيِّنَاتِ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
[/FONT]الدالات على الحق المظهرات له، [FONT=arabswell_1]{
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَالْهُدَى}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
[/FONT] وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما مَنّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه كما قال: [FONT=arabswell_1]{
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
[/FONT][SUP]([1])[/SUP][/FONT]
[ وقد كَانَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ بَعْضَ مَا فِي كُتُبِهِمْ بِعَدَمِ ذِكْرِ نُصُوصِهِ لِلنَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَوِ السُّؤَالِ عَنْهُ كَالْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ وَكَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الَّذِي وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَيَكْتُمُونَ بَعْضَهُ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالتَّرْجَمَةِ أَوِ النُّطْقِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهِ بِالتَّأْوِيلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ (كَمَا فَعَلُوا بِلَفْظِ الْفَارِقْلِيطَ) فَفَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمُ اللَّعْنَةَ الْعَامَّةَ الدَّائِمَةَ.
فهَذِهِ الْآيَةُ عَوْدٌ إِلَى أَصْلِ السِّيَاقِ وَهُوَ مُعَادَاةُ النَّبِيِّ وَمُعَانَدَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَمِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَالْكَلَامُ فِي الْقِبْلَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ جُحُودِهِمْ وَعَدَائِهِمْ أَيْضًا، وَجَاءَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ وَعِيدَ هَؤُلَاءِ الْكَاتِمِينَ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْكِتْمَانِ وَرَدَ مَوْرِدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، وَتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيذَائِهِمْ، ثُمَّ عَادَ هُنَا فَذَكَرَهُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْكَارِهِمْ أَخْبَارَ أَنْبِيَائِهِمْ عَنْهُ وَبِشَارَتِهِمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِهِمْ ذَلِكَ حُجَّةً سَلْبِيَّةً عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ ; إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُبَشِّرُوا بِأَنْ سَيُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَجِئْ بَيَانٌ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ دِينِهِ وَكِتَابِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّأْوِيلِ بَلْ كَتَمُوا مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ أَيْضًا حَتَّى أَفْسَدُوا الدِّينَ وَانْحَرَفُوا بِالنَّاسِ عَنْ صِرَاطِهِ، وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ فَقَالَ: [FONT=arabswell_1](أُولَئِكَ) أَيِ: الَّذِينَ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَحُرِمُوا النُّورَ السَّابِقَ وَالنُّورَ اللَّاحِقَ، أَوِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ هَذَا الْكِتْمَانُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ [FONT=arabswell_1](يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [/FONT]أَمَّا لَعْنُ اللهِ لَهُمْ فَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا لَعْنُ اللَّاعِنِينَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ لَعْنُهُمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِفِعْلَتِهِمْ هَذِهِ مَوْضِعُ لَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ الْآتِي ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ [FONT=arabswell_1](إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) [/FONT]عَنِ الْكِتْمَانِ [FONT=arabswell_1](وَأَصْلَحُوا)[/FONT] عَمَلَهُمْ بِالْأَخْذِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَاتِ عَنِ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ [FONT=arabswell_1](وَبَيَّنُوا)[/FONT] مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ أَوْ بَيَّنُوا إِصْلَاحَهُمْ، وَجَاهَرُوا بِعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَأَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُ عَمَلَهُ وَيُسِرُّهُ مُوَافَقَةً لِلنَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ لِئَلَّا يَعِيبُوهُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَإِيثَارِ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ ; لِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ إِظْهَارَ إِصْلَاحِهِمْ وَالْمُجَاهَرَةَ بِأَعْمَالِهِمْ ; لِيَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِضُعَفَاءِ التَّائِبِينَ.[/FONT]
[FONT=arabswell_1](فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَرْجِعُ وَأَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بَعْدَ الْحِرْمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّعْنَةِ.[/FONT]
قَالَ الْأُسْتَاذُ محمد عبده-رحمه الله
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​-:

وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَلْ أَسْنَدَ إِلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِعْلَ التَّوْبَةِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيسِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ أَنْ قَالَ: [FONT=arabswell_1](وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يَصِفُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَثْرَةِ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ، لِلْإِيذَانِ بِالتَّكْرَارِ، كُلَّمَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ وَتَابَ، حَتَّى لَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِذَا هُوَ عَادَ إِلَى ذَنْبِهِ. فَأَيُّ تَرْغِيبٍ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ لِمَنْ يَشْعُرُ وَيَعْقِلُ؟[/FONT]
ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا، فَكُلُّ مَنْ يَكْتُمُ آيَاتِ اللهِ وَهِدَايَتَهُ عَنِ النَّاسِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ اللَّعْنَةِ.[SUP]([SUP][2][/SUP])[/SUP]
حكم اللعن العام منه والمعين.

و (اللعن) الطرد والإبعاد عن الخير، هذا من الله تعالى.
ومن الخلق: السبّ، والشتم، والدعاء على الملعون، ومشاقّته، ومخالفته، مع السخط عليه، والبراءة منه. والمراد بقوله: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​اللَّاعِنُونَ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ كلّ من يصح منه لعنٌ، من الملائكة والصالحين. وعلى ظاهر هذه الآية فإنه يجوز لعن الذين أجاز القرآن لعنهم على العموم لا على وجه التعيين، فمثلا يلعن المؤمنُ الذين يكتمون البينات – كما في الآية-ولا يلعن أشخاصاً بعينهم. وعلى هذا حمل المحققون التوفيق بين إجازة اللعن العام الذي في بعض الآيات كما في قوله تعالى: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ [البقرة: 162]، وبين الأحاديث الصحاح في وصف المؤمن بقوله عليه الصلاة والسلام: «
ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء» [SUP]([3])[/SUP]

والإسلام منهجٌ إصلاحيٌ يعنَى دائماً بقضية إصلاح الأفكار والعقائد والأفعال، ولا يتصاغر ليقع في الأشخاص وهكذا يعلم المسلمين أنَّ قضيتنا في محاربة الفاسد في الأفكار والأفعال وليست قضيتنا مع الأشخاص لأنهم مقصودون بالإصلاح وإن أجرموا.
فلَعْن الفعل لا يدل على لعن الفاعل؛ وإن كان فهو لعنٌ عامٌ يُصلِح ولا ينفِّر.
والمؤمن حين ينزِّه نفسه عن اللعن والشتم وغيره إنما يحكي عن أخلاقه وإن كان مَن نزَّه نفسه عنه يستحق كل قبيح.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل –رحمه الله
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​-لأبيه كما في الأحكام السلطانية وغيرها: "ما تقول في يزيد -الذي استباح المدينة، وأهان الصحابة، وقتل بعضهم تكلم فيه بكلامٍ شديدٍ جداً-قال له عبد الله: "لماذا لا تلعنه؟ قال: وهل رأيت أباك لعاناً؟ .

ولهذا جاء النهي عن اللعن حتى في حق إبليس، يقول صلى الله عليه وسلم
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​: (لا تلعنوا الشيطان واستعيذوا بالله منه؛ لأنكم إذا لعنتموه تعاظم في نفسه) يعني: أنه صار خطيراً عليهم حتى ناصبوه العداء باللعان.

وأما (لعن اليهود والنصارى غير المعينين (أي على الجملة) فهو إجماعٌ سواءٌ أكان لهم ذمةٌ أم لم يكن لجحودهم الحق وعداوتهم الدين وأهله.
واختلفوا في لعن المعين منهم والجمهور على المنع لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، وقد شرط الله في ذلك الوفاة على الكفر بقوله: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ (البقرة/ 161)، وأما ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام-لعن قوماً بأعيانهم من الكفار إنما كان ذلك لعلمه بمآلهم.

ويباحُ لعن كل مَن جاهر بالمعاصي على العموم كمدمن الخمر وأكلة الربا والظلمة والسراق والمصورين والزناة، ومن يتشبه من النساء بالرجال وعكسه إلى غيرذلك مما ورد في الحديث لعنه.
لأنه -عليه الصلاة والسلام-قال: "لعن الله السارق يسرق البيضةَ فتُقطَع فيها يده" (رواه البخاري وسلم).
وأما لعن العاصي المعيَّن فادعى ابن العربي: أنه لا يجوز لعنه اتفاقاً للحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام-أتي بشارب مراراً فقال بعض من حضر: "لعنه الله ما أكثر ما يؤتَى به. فقال -عليه الصلاة والسلام-: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم". [SUP]([SUP][4][/SUP])[/SUP] فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة.
وأما القرطبي: فحكى خلافاً فيه في "جامعه" [SUP]([SUP][5][/SUP])[/SUP] قال: وإنما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" في حق هذا الرجل بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله فلا ينبغي لعنه، ومن لم يُقَم عليه فلعنه جائز، سواء سُمِي أو عُيِّن أم لا، لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يلعن إلَّا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنة، وإذا تاب منها وأقلع وطهَّره الحد فلا لعنة تتوجه عليه، ومن هذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب" (رواه البخاري ومسلم)، فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكونا قبل أخذ الحد وقبل التوبة.
فائدة: حكى أبو جعفر النحاس عن بعض العلماء أنه قال: إذا لعن الإِنسان مَن لا يستحق اللعن، فليبادر بقوله إلَّا أن يكون لا يستحق. [SUP]([6])[/SUP]


فرض بيان العلم وتحريم كتمانه.

وهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: " لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا".
قال القرطبي: وَتَحْقِيقُ الْآيَةِ هُوَ: أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَصَدَ كِتْمَانَ الْعِلْمِ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ. انتهى كلامه.
قال الشيخ العلامة محمد عبده-رحمه الله
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​-هنا كلاما نفيساً:

إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا، فَكُلُّ مَنْ يَكْتُمُ آيَاتِ اللهِ وَهِدَايَتَهُ عَنِ النَّاسِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ اللَّعْنَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ وَأَشْبَاهُهُ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ لَبِسُوا لِبَاسَ الدِّينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْتَحَلُوا الرِّيَاسَةَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِ، حَاوَلُوا التَّحيُّل مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا سُئِلَ الْعَالِمُ عَنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فَكَتَمَهُ.
وَأَخَذُوا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ قَاعِدَةً؛ هِيَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَشْرُ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَيَانُهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا يَعْلَمُهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَالِمٌ غَيْرُهُ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يُحِيلَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَدَّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فَقَالُوا:
إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكِتْمَانِ، بَلْ أَمَرَ بِبَيَانِ هُدَاهُ لِلنَّاسِ، وَبِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْعَدَ مَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ، وَذَكَرَ لَهُمُ الْعِبَرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الَّذِينَ قَصَّرُوا فِيهَا مِنْ قَبْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ (آل عمران: 187) إِلَخْ...

وَقَوْلِهِ: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ -إِلَى قَوْلِهِ فِي الْمُتَفَرِّقِينَ عَنِ الْحَقِّ – {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ (أل عمران: 104، 105).

وَقَوْلِهِ: {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ إِلَى قَوْلِهِ فِي عِصْيَانِهِمُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ لَعْنَتِهِمْ {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ (المائدة: 78، 79) إِلَخْ.

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَعَنَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا لِتَرْكِهِمُ التَّنَاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِي فِي كُلِّ قُطْرٍ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ ; كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِتَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلِنَهْيِهِمْ وَأَمْرِهِمْ تَأْثِيرٌ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ {
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ (أل عمران: 104) إِلَخْ.

قال: وَمَا وَرَدَ مِنْ تَدَافُعِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي الْفَتْوَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ، لَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ وَسِيَاجِهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ المؤولين مَذْهَبًا آخَرَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ، فَتَرْكُ الْمُؤْمِنِ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَحِقُّ
بِهِ وَعِيدَ الْكَافِرِينَ فَيُلْحِقُهُ بِالْكُفَّارِ. وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ أَلِفَتْهُ الْأَسْمَاعُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى اللهِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى كِتَابِهِ فِي الدُّنْيَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِذَا بَحَثْتَ فِيهِ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الَّذِي يَرَى حُرُمَاتِ اللهِ تُنْتَهَكُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَدِينَ اللهِ يُدَاسُ جِهَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرَى الْبِدَعَ تَمْحُو السُّنَنَ، وَالضَّلَالَ يَغْشَى الْهُدَى، وَلَا يَنْبِضُ لَهُ عِرْقٌ وَلَا يَنْفَعِلُ لَهُ وِجْدَانٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ لِنُصْرَتِهِ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ، هُوَ هَذَا الَّذِي إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يُصَادِرَكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِزْقِكَ أَوْ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، تَجِيشُ فِي صَدْرِهِ الْمَرَاجِلُ وَيَضْطَرِبُ بَالُهُ وَيَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ، وَرُبَّمَا تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، وَهَجَرَ الرُّقَادُ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ وَيُعْمِلُ الْفِكْرَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ وَإِحْكَامِ التَّدْبِيرِ لِمُدَافَعَةِ ذَلِكَ الْخَصْمِ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِ، فَهَلْ يَكُونُ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ مِثْلِ هَذَا قِيمَتُهُ؟
وَهَلْ يُصَدَّقُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مَنْ قَلْبِهِ، وَالْبُرْهَانَ عَلَيْهِ قَدْ حَكَمَ عَقْلَهُ، وَالْإِذْعَانَ إِلَيْهِ قَدْ ثَلَّجَ صَدْرَهُ؟
سْهُلُ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ الْجَدَلِ أَنْ يُجَادِلَ نَفْسَهُ وَيَغُشَّهَا بِمَا يُسَلِّيهَا بِهِ مِنَ الْأَمَانِي الَّتِي يُسَمِّيهَا إِيمَانًا، وَلَكِنَّهُ لَوْ حَاسَبَهَا فَنَاقَشَهَا الْحِسَابَ وَرَجَعَ إِلَى عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ لَعَلِمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَنَّهُ يَعْبُدُ شَهْوَتَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي سَرَدَهَا الْكِتَابُ سَرْدًا، وَأَحْصَاهَا عَدًّا - وَأَظْهَرُهَا بَذْلُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ - كُلُّهَا بَرِيئَةٌ مِنْهُ، وَأَنَّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ كُلَّهَا رَاسِخَةٌ فِيهِ.
فَلْيُحَاسِبِ امْرُؤٌ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. [SUP]([7])[/SUP]
قلتُ: وفي ذلك يقول عبد الله بن المبارك-رحمه الله
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​-:

وهل أفسد الدين إلا الملوكُ .... وأحبارُ سَوْءٍ ورهبانُها.
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ...ولم تغْلُ في البَيْعِ أثْمَانُهَا.
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ ........يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا.
حرمانُ العلمِ مَن لا يستحقه أو يفسد به واجبٌ.

قال العلامةُ الراغب:
وليس ذلك (أي الحث على بيان الهدى والعلم) بمنافٍ منع حقائق الحكمة عمن لا يستحقها، فإن ذلك دعاء له أن يترشح لقبولها وحسن سماعها وحفظها لئلا يستعين بها في طريق الشر، فليس العلم بأهون على الله-عز وجل
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​- من المال الذي هو عَرَض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وقد منع أن يمكن منه السفيه الذي لا يحسن مراعاته، فقال:
{
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​. [SUP]([8])[/SUP]

ومنه: قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ. [SUP]([9])[/SUP]
وَقَالَ علي بن أبي طالبٍ -رضى الله عنه-: (حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أن يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ). [SUP]([10])[/SUP]
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْعُلُومِ، كَعِلْمِ الْكَلَامِ أَوْ مَا لَا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ جَمِيعُ الْعَوَامِّ، فَحُكْمُ الْعَالِمِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ، وَيُنْزِلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ الْمُبْتَدِعِ الْجِدَالَ وَالْحِجَاجَ لِيُجَادِلَ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ.
وَلَا يُعَلَّمُ الْخَصْمُ عَلَى خَصْمِهِ حُجَّةً يَقْطَعُ بِهَا مَالَهُ.
وَلَا السُّلْطَانُ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إِلَى مَكَارِهَ الرَّعِيَّةِ.
وَلَا يَنْشُرُ العلماءُ الرُّخَصَ فِي السُّفَهَاءِ فَيَجْعَلُوا ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا). ولا يصح مرفوعاً.
ومثله ما َرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُعَلِّقُوا الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ)؛ يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ). إِنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ) وَلَمْ يَقُلْ عَنْ شَهَادَةٍ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا يُزِيلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [SUP]([SUP][11][/SUP])[/SUP]

مَن احتج بالآية على قبول خبر الواحد، وعدم جواز اخذ الأجرة على التعليم.

ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ...
يقولون: إن الله تعالى أوجب على العلماء بيان أحكام الحق والهدى للناس، وجعلهم الطريق إلى معرفة الدين، وبذلك فقد أوجب العمل على مَن بلغه الدين عن طريقهم، وإنْ لم يبلغوا مبلغ التواتر. فدلَّ ذلك على قبول خبرهم.
فإذا اعترض معترضٌ وقال: إنما القصد أنْ يكثروا الرواية للأحكام حتى تتواتر في نقلها، قلنا له: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُمْ مَا نُهُوا عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ وَمَنْ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْوَضْعِ وَالِافْتِرَاءِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ.
وحجية خبر الواحد وإفادته للعلم مُقَرَّرةٌ تمامَ التقريرِ في كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" للعلامة ابن حزمٍ رحمه الله
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​. وهو من أعمدة كتب الأصول.

وكذا احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ كَانَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَخْذًا لِلْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَهو غَيْرُ جَائِزٍ.[SUP]([12])[/SUP]


([1]) انظر تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 77)

([2])تفسير المنار (2/ 40) باختصار.

([3])أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) والترمذي في (جامعه)، والبخاري في الأدب المفرد. بأسانيد صحاح.

([4])) البخاري (6777، 6781)، وأبو داود (4477) في الحدود، باب: الحد في الخمر، ومطولاً (4478)، والنسائي في "الكبرى"، وكما في التحفة (10/ 474)، وابن حبان (5730)، وأحمد (2/ 299، 300)، والبيهقي (8/ 312)، والبغوي (2607).

([5])الجامع لأحكام القرآن (2/ 189).

([6]) انظر لهذه الفوائد الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (4/ 508)

([7])نقله تلميذه محمد رشيد رضا في تفسير المنار (2/ 42)

([8])تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 356)

([9]) هو عند مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع عن ابن مسعود موقوفاً: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. بإسناد مرسل أو منقطع. وهو صحيح.

([10]) وهو من أفراد البخاري عَن أبي الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة قَالَ: سَمِعت علياًّ يَقُول: حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ، أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله. رواه في كتاب العلم، باب من خص قوماً دون قوم في العلم، ذكره البخاري تعليقاً في أول الباب ثم عقبه بالإسناد. ولم يصح في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​.

وانظر " المقاصد الحسنة " للسخاوي صفحة 93.

([11])انظر تفسير القرطبي (2/ 184).

([12]) انظر أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 124)، وانظر تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (4/ 141).
 
عودة
أعلى