مع العشر الأخيرة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
للعشر الأواخر من رمضان فضل على غيرها من الليالي ، ويرجع ذلك لفضل ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر ، إنها ليلة هي خير مما قد يعمره الإنسان من عمر ، فهي خير من ثلاث وثمانين سنة وثلث ليس فيها ليلة القدر، وأعمار الأمة بين الستين والسبعين ، فهي خير من عمرك كله يا ابن آدم . قال ابن عطية - رحمه الله : وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر ، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر ، لأن الأوتار مع كمال الشهر ، ليست الأوتار مع نقصانه ، وقال رسول الله e : " لثالثة تبقى لخامسة تبقى ، لسابعة تبقى " ، وقال : " التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة " ( [1] ) .
قد كان النبي e يخص العشر الأواخر من رمضان بزيادة جهد واجتهاد ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ e يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ( [2] ) . وفي الصحيحين عنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ e إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ( [3] ) . و المئزر بكسر الميم مهموز ، هو الإزار . والمعنى أنه e اجتهد في العبادات زيادة على عادته في غيرها ، يقال : شددت لهذا الأمر مئزري ، أي : تشمرت له وتفرغت ، وقيل : هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات ، ولا يمتنع أن تكون لتأكيد الاجتهاد . وقولها : أَحْيَا اللَّيْلَ : أىاستغرقهبالسهرفيالصلاةوغيرها،ويحتملإحياءغالبه. وقولها : وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ : أي : أيقظهم للصلاة في الليل ، وليجتهدوا في العبادة زيادة على العادة .
فيؤخذ من هذه الأحاديث : استحباب زيادة العبادات في العشر الأواخر من رمضان ، واستحباب إحياء لياليه بأنواع الطاعات ، من اعتكاف وصلاة وتلاوة وذكر ودعاء وغير ذلك تعرضا لما جعله الله تعالى من الرحمة والفضل والخير في هذه العشر ..
ها نحن - أيها القارئ الكريم - قد دخلنا في عشر الجد والاجتهاد ، عشر لو فات المرء ما فيها من الخير فهو المحروم ، فنعوذ بالله من ذلك ، روى أحمد والنسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ U عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ " ( [4] ) . والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين لنيل هذا الفضل ، وأن لا يجعلنا من المحرومين ، آمين .


روى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" ( [5] ) . وتعليم النبي e عائشة - رضي الله عنها - هذا الدعاء ، مع شرف الليلة ، يدل على أن إجابة الدعاء ترجى فيها بإذن الله الكريم .

[1] - انظر المحرر الوجيز : 15 / 521 .

[2] - أحمد : 6 / 82 ، ومسلم ( 1175 ) ، والترمذي ( 796 ) ، وابن ماجة ( 1767 ) .

[3] - البخاري ( 2024 ) ومسلم ( 1174 ) .

[4] - أحمد : 2 / 230 ، والنسائي ( 2106 ) .

[5] - أحمد : 6 / ، والترمذي ( 3513 ) وصححه واللفظ له ، وابن ماجة ( 3850 ) .
 
] إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [ ( سورة القدر ) .
ليلة القدر : اسم جعله الله للَّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن ؛ والقَدْر الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل ، أي : ليلة القدر العظيم والشرف والشأن ، من قولك : رجل له قدر ، وقيل : سميت ليلة القدر لأنها تكسب من أحياها قدرًا عظيمًا لم يكن من قبل ، وترده عظيمًا عند الله تعالى ؛ وقيل ليلة القدر : أي الحكم ؛ لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها .
والمقصود من تشريف الليلة - التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها - تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره ، تنبيهًا على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتًا شريفًا مباركًا . ] وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [ كلمة ( ما أدراك ) تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ؟ إنها ليلة ذات الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعًا ؛ العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري : ] وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [ ثم بين الله تعالى هذا القدر العظيم : ] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ أي ليس فيها ليلة القدر .. ] تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ [ أي : وجبريل ] فِيهَا [ أي : في ليلة القدر ] بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [ أي : بأمره ] مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [ أي : بكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل ؛ ] سَلَامٌ هِيَ [ أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها ] حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [ أي : إلى طلوع الفجر .
 
ليلة القدر

إنما كان الاجتهاد في هذه العشر والاعتكاف فيها قربة إلى الله تعالى، وقيامًا بحقه، وتوديعًا لشهر رمضان، وطلبًا لليلة القدر التي فيها من الفضل والأجر ما ليس في غيرها، بل تفضل العبادة فيها عبادة الإنسان عمره إن عاش ثلاثا وثمانين سنة وثلث .
وسميت ليلة القدر ، لعظم قدرها وشرفها ، لما اختصت به من شرف إنزال القرآن الكريم فيها. قال الله تعالى: ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [ (سورة القدر) ، ووصفها الله بأنها ليلة مباركة فقال سبحانه : ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [ (الدخان: 3) .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: " مَنْ قَامَ ليلة القدر إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
وقد اختلف العلماء في تحديدها ، وذكر الحافظ في ( الفتح ) ثمانية وأربعين قولا ، ثم قال : هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال ، وبعضها يمكن رده إلى بعض ، وإن كان ظاهرها التغاير ، وأرجحها كلها أنها في الوتر من العشر الأخيرة ، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث الباب ، وأرجاها أوتار العشر ؛ وعند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ، على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس ، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين . انتهى المراد منه([1]).
قال العلماء : الحكمة في إخفائها ليحصل الاجتهاد في التماسها ، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها .
قلت : مما ورد فيها من أحاديث واختلاف أهل العلم في اجتهادهم لتعيينها ، يترجح القول بأنها في أوتار العشر الأخيرة كما في الصحيح ، وأما ما ورد من تحديدها فهو اجتهاد سائغ .
وهاهنا نكتة لطيفة : فإن ليالي العشر الأخيرة من رمضان يمكن أن تكون كلها أوتارًا ؛ لأن الشهر يكون إما تسعة وعشرين وإما ثلاثين : فإن كان تسعة وعشرين ، فتبدأ ليالي العشر بليلة العشرين ، فيكون أوتار العشر : ليلة العشرين ، والثاني والعشرين ، والرابع والعشرين ، والسادس والعشرين ، والثامن والعشرين .
وإن كان الشهر ثلاثين يومًا ، فتبدأ ليالي العشر بليلة الواحد والعشرين ، وعليه فأوتار العشر بعدها : الثالث والعشرون ، والخامس والعشرون ، والسابع والعشرون ، والتاسع والعشرون .
وإنما اقتضت الحكمة إبهامها ، لأنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أدعى للاجتهاد في العبادة ، بخلاف ما إذا علموا عينها ، فإن الهمم تتقاصر على قيامها فقط .
وعلى ذلك ، فمن يرد أن يوافقها ، فعليه أن يجتهد في العشر الأخيرة عساه أن يصيبها ، ولذلك كان رسول الله e يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها .


[1] - انظر فتح الباري: 4 / 266، 267.
 
عودة
أعلى