أبو تيمية1
New member
- إنضم
- 03/04/2003
- المشاركات
- 71
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
102- بيان معنى ( أحسن القصص ) ، و تخطئة من ظنَّ أنَّ المرادَ بها (قصةُ يوسف ).
مع فوائد أخرى كثيرة منثورة في تضاعيف كلام ابن تيمية رحمه الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله و رضي عنه – و هو يبين أن كلام الله بعضه يفضل بعضا – في كتابه العظيم ( جواب أهل العلم و الإيمان ...) - : ( و من هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله : التوراة و الإنجيل وسائر الكتب ، و أن السلف كلَّهم كانوا مقِرِّين بذلك ، ليس فيهم من يقول : "الجميع كلام الله ، فلا يفضل القرآن على غيره ".
قال الله تعالى :{الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني } فأخبر أنه أحسن الحديث وقال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين }.
و أحسن القصص ، قيل : إنه مصدر ، وقيل : إنه مفعول به ، قيل : المعنى : نحن نقص عليك أحسنَ الاقتصاص ، كما يقال : نكلمك أحسن التكليم ، و نبين لك أحسن البيان.
قال الزجاج : نحن نبين لك أحسن البيان ، و القاصُّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها .
قال : "وقوله {بما أوحينا إليك هذا القرآن} أي بوحينا إليك هذا القرآن.
وعلى هذا القول فهو كقوله : نقرأ عليك أحسن القراءة ، و نتلو عليك أحسن التلاوة .
والثاني: أن المعنى : نقص عليك أحسن ما يُقصُّ أي : أحسن الأخبار المقصوصات ، كما قال في السورة الأخرى : {الله نزل أحسن الحديث }وقال {ومن أصدق من الله قيلا} ، و يدل على ذلك قوله في قصة موسى { فلما جاءه و قص عليه القَصص} وقوله {لقد كان في قَصصهم عبرة لأولي الألباب }المراد : خبرهم ونبأهم وحديثهم ؛ ليس المراد مجرد المصدر، و القولان متلازمان في المعنى - كما سنبينه -.
و لهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به ؛ لأن فيه كلا المعنيين ، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به ؛ فإنه إذا انتصب بهذا المعنى ، امتنع المعنى الآخر .
و من رجح الأول من النحاة - كالزجاج و غيره - قالوا : القصص مصدر ، يقال : قص أثره يقصه قَصصا ، ومنه قوله تعالى {فارتدا على آثارهما قصصا }وكذلك : اقتص أثره وتقصص ، و قد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه ، وقد اقتص عليه الخبر قَصصا.
و ليس القَصص - بالفتح - جمعَ قِصَّة - كما يظنه بعض العامة - ؛ فإن ذلك يقال في قِصص - بالكسر - واحده :قِصة ، والقِصة : هي الأمر والحديث الذي يقص ، فِعلة بمعنى مفعول ، وجمعه قِصص بالكسر .
وقوله{ نحن نقص عليك أحسن القصص }بالفتح ، لم يقل أحسن القِصص - بالكسر - و لكن بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القِصص بالكسر ، وأن تلك القصة قصة يوسف ، وذكر هذا طائفة من المفسرين .
ثم ذكروا : لمَ سمِّيت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة ، وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها ، وقيل : لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو ، و قيل :لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين و الإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن ، وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش ، فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، وقيل : فيه ذكر الحبيب والمحبوب ، وقيل : أحسن بمعنى أعجب .
و الذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص ، منهم مَن يعلم أنَّ القَصص بالفتح : هو النبأ و الخبر ، ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء ، و كثير منهم يظن أن المراد أحسن القِصص بالكسر ، وهؤلاء جهَّال بالعربية ، وكلا القولين خطأ ، وليس المراد بقوله {أحسن القصص } قصة يوسف وحدها ؛ بل هي مما قصه الله ، و مما يدخل في أحسن القصص ، ولهذا قال تعالى في آخر السورة {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ، حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .
فبين أن العبرة في قصص المرسلين ، و أمر بالنظر في عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر .
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ، و لهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ، ثنَّاها الله أكثرَ من غيرها و بسَطها وطوَّلها أكثرَ من غيرها ، بل قصص سائر الأنبياء-كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين - أعظم من قصة يوسف ، و لهذا ثنى الله تلك القصص في القرآن ، ولم يثنِّ قصةَ يوسف ، وذلك لأن الذين عادَوا يوسف لم يعادُوه على الدين ؛بل عادَوه عداوةً دنيوية ، و حسدوه على محبة أبيه له ، و ظلموه فصبر واتقى الله ، وابتلي - صلوات الله عليه - بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر و اتقى الله في هذا وفي هذا .
وابتلى أيضا بالملك ، فابتلى بالسراء والضراء فصبر واتقى الله في هذا وهذا = فكانت قصته من أحسن القصص ، وهي أحسن من القِصص التي لم تُقص في القرآن ، فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك ؛ لكن ليس مَن لم يذكر في القرآن ممن اتقى الله و صبر = مثل يوسف ، ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف .
و هذا كما أن قصة أهل الكهف و قصة ذي القرنين كلٌّ منهما هي في جنسها أحسن من غيرها ، فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك ، وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة ، فقوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص } يتناول كلَّ ما قصه في كتابه ، فهو أحسن مما لم يقصه ، ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قُصَّ في القرآن ، وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل ؟؟؟ وأين ما عُودي أولئك مما عودي فيه يوسف ؟؟ وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ؟؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟؟
فإن يوسف كما قال الله تعالى { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } و أذلَّ الله الذين ظلموه ثم تابوا ، فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر و اتقى الله كانت له العاقبة ، و أن الظالم الحاسد قد يتوب الله عليه و يعفو عنه ، و أن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه ، و بهذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة - وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء - فقال : " ماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نقول أخ كريم و ابن عم كريم ؟ فقال : إني قائل لكم كما قال يوسف لأخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }.
و كذلك عائشة لما ظُلمت وافتري عليها ، وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فقالت في كلامها : "أقول كما قال أبو يوسف { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }.
ففي قصة يوسف أنواعٌ من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعي الفواحش و الذنوب وغير ذلك .
لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله و حده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ، فإن هؤلاء أوذوا اختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم ؛فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا ، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره ، كما أخذ يوسف من أبيه بغير اختياره ، ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز واختياره السجن على معصية الله أعظم في إيمانه ودرجته عند الله و أجره من صبره على ظلم إخوته له .
و لهذا يعظَّم يوسف بهذا أعظم مما يُعظَّم بذلك ، ولهذا قال تعالى فيه {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين})المجموع 17/18-24.
ثم قال – بعد استطرادٍ آخر – 17/31: ( و أما قصة نوح و إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم =فتلك أعظم ، و الواقع فيها من الجانبين ؛ فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه و إظهار آياته وأمره و نهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم = هو أعظم عند الله ، ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ، و ما صبروا عليه و عنه = أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه ، و عبادتهم لله وطاعتهم و تقواهم وصبرهم بما فعلوه =أعظم من طاعة يوسف و عبادته وتقواه ؛ أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم }و قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ، و هم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة ، وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدي في الصبر ، فقيل له : {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } = فقصصهم أحسن من قصة يوسف ، ولهذا ثناها الله في القرآن ؛ لا سيما قصة موسى .
قال الإمام أحمد بن حنبل : " أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى .
والمقصود هنا أن قوله :{ أحسن القصص } قد قيل : إنه مصدر و قيل : إنه مفعول به ، و القولان متلازمان ، لكن الصحيح أن القصص مفعول به ، و إن كان أصله مصدرا فقد غلب استعماله في المقصوص ، كما في لفظ الخبر و النبأ .
و الاستعمال يدل على ذلك - كما تقدم ذكره -وقد اعترف بذلك أهل اللغة . قال الجوهري : " وقد قص عليه الخبر قصصا ، والاسم أيضا :القَصص بالفتح وُضع موضع المصدر ، حتى صار أغلب عليه .
فقوله {أحسن القصص }كقوله : نخبرك أحسن الخبر ، و ننبئك أحسن النبأ ، ونحدثك أحسن الحديث ..) في كلام مهم ينبغي الرجوع إليه كاملا .
ثم قال 17/39 : ( و المقصود هنا أن قوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص }المراد : الكلام الذي هو أحسن القصص ، وهو عام في كل ما قصه الله ،لم يخص به سورةَ يوسف ، و لهذا قال { بما أوحينا إليك هذا القرآن } ، و لم يقل : بما أوحينا إليك هذه السورة ، و الآثار المأثورة في ذلك عن السلف تدلُّ كلُّها على ذلك ، و على أنهم كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل من سائر الكتب ، و هو المراد .
والمراد من هذا حاصلٌ على كل تقدير ؛ فسواء كان أحسن القصص مصدر أو مفعولا أو جامعا للأمرين = فهو يدل على أن القرآن وما في القرآن من القصص أحسنُ من غيره ، فإنا قد ذكرنا أنهما متلازمان ، فأيهما كان أحسن =كان الآخر أحسن .
فتبين أن قوله تعالى { أحسن القصص } كقوله { الله نزل أحسن الحديث } .
والآثار السلفية تدلُّ على ذلك ).
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=138145#post138145
مع فوائد أخرى كثيرة منثورة في تضاعيف كلام ابن تيمية رحمه الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله و رضي عنه – و هو يبين أن كلام الله بعضه يفضل بعضا – في كتابه العظيم ( جواب أهل العلم و الإيمان ...) - : ( و من هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله : التوراة و الإنجيل وسائر الكتب ، و أن السلف كلَّهم كانوا مقِرِّين بذلك ، ليس فيهم من يقول : "الجميع كلام الله ، فلا يفضل القرآن على غيره ".
قال الله تعالى :{الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني } فأخبر أنه أحسن الحديث وقال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين }.
و أحسن القصص ، قيل : إنه مصدر ، وقيل : إنه مفعول به ، قيل : المعنى : نحن نقص عليك أحسنَ الاقتصاص ، كما يقال : نكلمك أحسن التكليم ، و نبين لك أحسن البيان.
قال الزجاج : نحن نبين لك أحسن البيان ، و القاصُّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها .
قال : "وقوله {بما أوحينا إليك هذا القرآن} أي بوحينا إليك هذا القرآن.
وعلى هذا القول فهو كقوله : نقرأ عليك أحسن القراءة ، و نتلو عليك أحسن التلاوة .
والثاني: أن المعنى : نقص عليك أحسن ما يُقصُّ أي : أحسن الأخبار المقصوصات ، كما قال في السورة الأخرى : {الله نزل أحسن الحديث }وقال {ومن أصدق من الله قيلا} ، و يدل على ذلك قوله في قصة موسى { فلما جاءه و قص عليه القَصص} وقوله {لقد كان في قَصصهم عبرة لأولي الألباب }المراد : خبرهم ونبأهم وحديثهم ؛ ليس المراد مجرد المصدر، و القولان متلازمان في المعنى - كما سنبينه -.
و لهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به ؛ لأن فيه كلا المعنيين ، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به ؛ فإنه إذا انتصب بهذا المعنى ، امتنع المعنى الآخر .
و من رجح الأول من النحاة - كالزجاج و غيره - قالوا : القصص مصدر ، يقال : قص أثره يقصه قَصصا ، ومنه قوله تعالى {فارتدا على آثارهما قصصا }وكذلك : اقتص أثره وتقصص ، و قد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه ، وقد اقتص عليه الخبر قَصصا.
و ليس القَصص - بالفتح - جمعَ قِصَّة - كما يظنه بعض العامة - ؛ فإن ذلك يقال في قِصص - بالكسر - واحده :قِصة ، والقِصة : هي الأمر والحديث الذي يقص ، فِعلة بمعنى مفعول ، وجمعه قِصص بالكسر .
وقوله{ نحن نقص عليك أحسن القصص }بالفتح ، لم يقل أحسن القِصص - بالكسر - و لكن بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القِصص بالكسر ، وأن تلك القصة قصة يوسف ، وذكر هذا طائفة من المفسرين .
ثم ذكروا : لمَ سمِّيت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة ، وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها ، وقيل : لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو ، و قيل :لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين و الإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن ، وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش ، فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، وقيل : فيه ذكر الحبيب والمحبوب ، وقيل : أحسن بمعنى أعجب .
و الذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص ، منهم مَن يعلم أنَّ القَصص بالفتح : هو النبأ و الخبر ، ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء ، و كثير منهم يظن أن المراد أحسن القِصص بالكسر ، وهؤلاء جهَّال بالعربية ، وكلا القولين خطأ ، وليس المراد بقوله {أحسن القصص } قصة يوسف وحدها ؛ بل هي مما قصه الله ، و مما يدخل في أحسن القصص ، ولهذا قال تعالى في آخر السورة {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ، حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .
فبين أن العبرة في قصص المرسلين ، و أمر بالنظر في عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر .
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ، و لهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ، ثنَّاها الله أكثرَ من غيرها و بسَطها وطوَّلها أكثرَ من غيرها ، بل قصص سائر الأنبياء-كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين - أعظم من قصة يوسف ، و لهذا ثنى الله تلك القصص في القرآن ، ولم يثنِّ قصةَ يوسف ، وذلك لأن الذين عادَوا يوسف لم يعادُوه على الدين ؛بل عادَوه عداوةً دنيوية ، و حسدوه على محبة أبيه له ، و ظلموه فصبر واتقى الله ، وابتلي - صلوات الله عليه - بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر و اتقى الله في هذا وفي هذا .
وابتلى أيضا بالملك ، فابتلى بالسراء والضراء فصبر واتقى الله في هذا وهذا = فكانت قصته من أحسن القصص ، وهي أحسن من القِصص التي لم تُقص في القرآن ، فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك ؛ لكن ليس مَن لم يذكر في القرآن ممن اتقى الله و صبر = مثل يوسف ، ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف .
و هذا كما أن قصة أهل الكهف و قصة ذي القرنين كلٌّ منهما هي في جنسها أحسن من غيرها ، فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك ، وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة ، فقوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص } يتناول كلَّ ما قصه في كتابه ، فهو أحسن مما لم يقصه ، ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قُصَّ في القرآن ، وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل ؟؟؟ وأين ما عُودي أولئك مما عودي فيه يوسف ؟؟ وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ؟؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟؟
فإن يوسف كما قال الله تعالى { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } و أذلَّ الله الذين ظلموه ثم تابوا ، فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر و اتقى الله كانت له العاقبة ، و أن الظالم الحاسد قد يتوب الله عليه و يعفو عنه ، و أن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه ، و بهذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة - وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء - فقال : " ماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نقول أخ كريم و ابن عم كريم ؟ فقال : إني قائل لكم كما قال يوسف لأخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }.
و كذلك عائشة لما ظُلمت وافتري عليها ، وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فقالت في كلامها : "أقول كما قال أبو يوسف { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }.
ففي قصة يوسف أنواعٌ من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعي الفواحش و الذنوب وغير ذلك .
لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله و حده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ، فإن هؤلاء أوذوا اختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم ؛فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا ، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره ، كما أخذ يوسف من أبيه بغير اختياره ، ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز واختياره السجن على معصية الله أعظم في إيمانه ودرجته عند الله و أجره من صبره على ظلم إخوته له .
و لهذا يعظَّم يوسف بهذا أعظم مما يُعظَّم بذلك ، ولهذا قال تعالى فيه {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين})المجموع 17/18-24.
ثم قال – بعد استطرادٍ آخر – 17/31: ( و أما قصة نوح و إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم =فتلك أعظم ، و الواقع فيها من الجانبين ؛ فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه و إظهار آياته وأمره و نهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم = هو أعظم عند الله ، ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ، و ما صبروا عليه و عنه = أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه ، و عبادتهم لله وطاعتهم و تقواهم وصبرهم بما فعلوه =أعظم من طاعة يوسف و عبادته وتقواه ؛ أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم }و قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ، و هم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة ، وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدي في الصبر ، فقيل له : {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } = فقصصهم أحسن من قصة يوسف ، ولهذا ثناها الله في القرآن ؛ لا سيما قصة موسى .
قال الإمام أحمد بن حنبل : " أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى .
والمقصود هنا أن قوله :{ أحسن القصص } قد قيل : إنه مصدر و قيل : إنه مفعول به ، و القولان متلازمان ، لكن الصحيح أن القصص مفعول به ، و إن كان أصله مصدرا فقد غلب استعماله في المقصوص ، كما في لفظ الخبر و النبأ .
و الاستعمال يدل على ذلك - كما تقدم ذكره -وقد اعترف بذلك أهل اللغة . قال الجوهري : " وقد قص عليه الخبر قصصا ، والاسم أيضا :القَصص بالفتح وُضع موضع المصدر ، حتى صار أغلب عليه .
فقوله {أحسن القصص }كقوله : نخبرك أحسن الخبر ، و ننبئك أحسن النبأ ، ونحدثك أحسن الحديث ..) في كلام مهم ينبغي الرجوع إليه كاملا .
ثم قال 17/39 : ( و المقصود هنا أن قوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص }المراد : الكلام الذي هو أحسن القصص ، وهو عام في كل ما قصه الله ،لم يخص به سورةَ يوسف ، و لهذا قال { بما أوحينا إليك هذا القرآن } ، و لم يقل : بما أوحينا إليك هذه السورة ، و الآثار المأثورة في ذلك عن السلف تدلُّ كلُّها على ذلك ، و على أنهم كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل من سائر الكتب ، و هو المراد .
والمراد من هذا حاصلٌ على كل تقدير ؛ فسواء كان أحسن القصص مصدر أو مفعولا أو جامعا للأمرين = فهو يدل على أن القرآن وما في القرآن من القصص أحسنُ من غيره ، فإنا قد ذكرنا أنهما متلازمان ، فأيهما كان أحسن =كان الآخر أحسن .
فتبين أن قوله تعالى { أحسن القصص } كقوله { الله نزل أحسن الحديث } .
والآثار السلفية تدلُّ على ذلك ).
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=138145#post138145