معركة الاكتتاب بين التهوين والتخوين!

إنضم
01/07/2013
المشاركات
134
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
السعودية

معركة الاكتتاب بين التهوين والتخوين!

حين طُرح الاكتتابُ في أحد البنوك الربوية الشهيرة في بلادنا هذه الأيام؛ حصل أخذٌ وردٌّ في الموضوع، بلغ المجالسَ الخاصةَ والعامةَ، ومنابرَ الجمعة والإعلام، وهو أمرٌ متوقّع؛ لصلته بشأنٍ عام، إلا أنّ ثمة مفارقات متباينة في تناول بعض الكُتّاب والمغردين لهذا الموضوع، أفرزتْ عدداً من المشاهِد، بيْد أني سأركز على اثنين منهما:

المشهد الأول: مشهد التهوين:
الذي تمثّل في كتابات بعضِهم، ممن يرى أن الاكتتاب في أسهم هذا النوع من البنوك لا حرج فيه إطلاقاً، وأن البنوك عندنا كلَّها سواء، ولا فرق بينها، وإنما الفرق في الاسم والشكل الظاهري!
وأن الذين يُفرِّقون متاجرون بالدين، ولا فهم لديهم... الخ.
وعلى نفس الخطّ مقالاتٌ وتغريداتٌ تجعل الاكتتابَ في هذه البنوك علامةً على صدق المواطنة، وتطورِ البلاد، وتخلصها من أيديولوجية دينية معينّة!

المشهد الثاني: مشهد التخوين:
فحين صدرت الفتاوى المحرَّرة من جهات الإفتاء الرسمية، وحين ظهرت المقالاتُ والتعقيباتُ العلمية الرصينة، المشبعة بلغة العلم والاحترام، والتغريداتُ التي تبيّن حرمةَ الدخول في هذا النوع من الاكتتابات؛ لكونه من ربا القروض المحرّم بالإجماع، حين صدر هذا كله؛ ظهرتْ تغريداتٌ وتعليقاتٌ متفرقة، لبِستْ ثوبَ الغيرة لا العقل والحكمة، وانتقلت من خندق البيان والتبيين إلى خندق السب والتخوين لمن ظهر لهم ترجيحُ الجواز لمسوّغات رأوها مصلحية، ومآلية.

وبغض النظر عن تلك المسوغات المذكورة ومدى اعتبارها من الناحية الشرعية؛ إلا أن المتابع يتساءل بعضَ الأسئلة ـ وهو يشاهد أمثال هذين المشهدين يتكرران كثيراً في أمثال هذه المواقف ـ !

السؤال الأول: ما علاقة المواطنة والأيديولوجيات بقضية شرعية محضة، لا تختلفُ كلمةُ أهل العلم في تحريمها، وأنها مِن أعظم الكبائر والموبقات؟!
ولماذا يحاول بعضُ الكُتّاب تقسيمَ المجتمع بهذه الصورة، والاصطفاف ـ ولو بالإكراه ـ في مقابل كلّ ما هو شرعي، أو ذي صلة بالشرع؟ وجَعْلَ الناس في خندقين: خندق الوطنية والتحرُّر من "الأدلجة"، وخندقِ التمسك بالنصوص، أو ما تمليه النصوصُ الشرعية، وكأننا في بلادٍ غير إسلامية، تعلن التحاكم إلى الشريعة في أنظمتها!

السؤال الثاني: وهو سؤال يتكرر حول احترام التخصص! فالعقل والنقل يتفقان على هذا، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[الأنبياء: 7]، والعاميّ بفطرته إذا أصابه صداعٌ فلن يذهب لسبّاك يسأله عن الدواء! ومع هذا القَدْر المتفق عليه عقلاً ونقلاً؛ إلا أن بعضَ الناس يأبى إلا أن يتكلم في كلّ قضية، حتى وإن كان لم يُحِط بها علماً، فضلا عن قضيةٍ فيها نصوصٌ قطعيةُ الدلالة والثبوت، مدعومة بالإجماع، لا مجال فيها للاجتهاد!
وهذا النوع من الناس، لو سمع متخصصاً في الشريعة يتكلم في الهندسة لمقته وذمّه على حديثه في غير تخصصه ـ وهو مصيب في ذمّه ـ! فلماذا صارت مواردُ الشريعة كَلأً مباحاً يتحدث فيها كلُّ أحد، في مُصادرةٍ مقيتةٍ للتخصص وأهله!

السؤال الثالث: لماذا يُصرُّ بعضُ الغيورين ممن ليس لديهم علمٌ على إصدار عبارات التُّهم والتخوين والطعن في نوايا من اجتهدوا فأخطأوا، ولئن كانت هذه الفتوى أو تلك ـ في نظرنا ـ زلّةً، فهي زلةٌ لعالمٍ لا يجوز أن يُهْدرَ قدرُه، ولا أن يُغْمصَ حقُّه([1])، بل تُغْمرُ في بحر صوابه وفضله.

ولئن كنا نذمُّ اقتحامَ التخصص من غير أهله، فإننا لِذَمِّ التطاول على العلماء والمجتهدين أشدُّ وأكثر وأعظم؛ ذلك أن التطاولَ يترتب عليه ذنبٌ أعظم، وهو النيل من الأعراض المحرّمة تحريماً قطعياً، وهو ذنبٌ قرنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في موضع واحد مع حرمة الربا ووضَعه تحت الأقدام حين خطب الناسَ في حجة الوداع.
إن من المؤكد أن مَشاهِد التهوين والتخوين في أمثال هذه المسائل وغيرها مما اتضحت فيه الحجة وبانت المحجة؛ لا يمكن أن تخدم القضيةَ التي يجري الحديثُ حولها، ولا الأمّةَ التي نسعى لتقليص هوّة الشقاق فيها.

ولا مخرج من هذا الواقع إلا بالاسترشاد بهدي الوحيين والسلف الكرام في التعامل مع هذه الوقائع، وأن يَحترم كلٌّ منا تخصصه، ويَدَع ما لا يحسنه لمن يُحسِنه، ولا يتكلم إلا بعلم وعدل، بعيداً عن حرب الاصطفافات، وخندقة المجتمع إلى فساطيط، ونحن بهذا لن نلغي الخلاف، لكننا نقلل آثارَه، ونخفف من تبعاته.


([1]) الغَمْص: الاحتقار. انظر: مقاييس اللغة (4/ 395).




 
عودة
أعلى