معتكفون ربانيون

إنضم
01/07/2013
المشاركات
134
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
السعودية
[align=justify]
معتكفون ربانيون

كنت في صباي أسمع عن الاعتكاف، وأقرأ آية الاعتكاف في سورة البقرة، ولا أراه في محيط بلدتي الصغيرة! فكان أشبه بالمعلومة النظرية.
ولم يمض على ذلك سوى سنوات معدودة حتى رأى الناس المعتكفين - كباراً وصغاراً - يعمرون بيوت الله تعالى في الجوامع، وفي المساجد الصغيرة، حتى ظهرت هذه السنة ـ التي أجمع عليها المسلمون ـ ولله الحمد والمنة.
بيد أن المتابع لتطبيق هذه الشعيرة العظيمة؛ يلحظ أنه دخلها بعضُ ما كدّر صفاءها، وأذهب بعض رونقها، ومقصدها الذي شرعت من أجله؛ وهو الانقطاع عن الخلائق، والخلوة بالله، والإقبال عليه.
ولكي يكون الاعتكاف ربانياً على الجادة؛ فلا بد أن يكون موافقاً للشريعة ظاهراً وباطناً، وذلك بأن يراعي المعتكفُ أموراً، من أهمها ما يلي:
أولاً: الإخلاص لله تعالى عندما ينوي الاعتكاف، فلا يقصد - حين يخرج من بيته ويتفرغ من أشغاله - إلا وجه الله تعالى، والأُنْسَ بالخلوة به، والرغبةَ في مناجاته، وتربيةَ النفس على مراقبته، فاستحضار هذا المقصد يزهّد في الرغبة في الحديث مع فلان وفلان، وإضاعة الوقت في غير مقصود الاعتكاف الذي شرع من أجله، ويقوّي التلذذ بهذه العبادة.
ثانياً: مراعاة الهدي النبوي في الاعتكاف، من حيث الوقت - بدءاً وانتهاءً - وأدباً وتعاملاً، وهذا لا يتأتى إلا بمعرفة فقه الاعتكاف وأدبه، وهو مبثوث في كلام أهل العلم في باب الاعتكاف، فضلاً عن المصنفات المستقلة فيه.
ثالثاً: زاد المعتكف هي العبادات الخاصة: من صلاة، وقراءة قرآن، وذكر، ومناجاة، ومحاسبة للنفس، ولهج بالدعاء والثناء على مستحق الحمد والثناء.
وعليه؛ فوقت الاعتكاف ليس وقتاً مفضلاً للانشغال بالأعمال المتعدي نفعها - من طلب العلم، وقضاء حوائج الناس - فهذا زمان الانكفاء على النفس، وتصفيتها، وتهذيبها.
ومن تحقق أن الناس بحاجته، ولا يستغنون عنه؛ فلعل انشغاله بقضاء حوائجهم أحسن من اعتكافه.
رابعاً: حريٌّ بالمعتكف - وقد حبس نفسه في بيت مولاه - أن يتذكر ذنوبه التي سلفت بينه وبين سيده وخالقه ورازقه، فكم عصاه، وقصّر في جانبه؛ فستره ولم يفضحه بمعصيته بين الخلائق! وكم أخطأ ولم يأخذه! وكم تمادى ولم يعاجله! فإن تذكر هذه المعاني يحمل النفس على الانكسار والحياء من الله، وتلك ـ لعمر الله ـ من أحسن حالات العبد بين يدي سيده ومولاه.
كما أن تذكرها يبعث على الجدّ في العمل، وتجديد التوبة، وقطْعِ علائق العجب بالنفس، خاصةً حين يتذكر أن هناك عُبّاداً أتقى منه، وأكثر إخلاصاً، وأقلّ تقصيراً منه، بل يوقن أنه لولا توفيق الله وفضلُه لما تيسر له هذا الاعتكاف.
خامساً: التوازن مع النفس مطلب مهم؛ ليحقق الاعتكافُ مقصودَه، فبعض المعتكفين يُرْهق نفسه أول الليالي إرهاقاً لم يعتده طيلة السنة، فيقلل النوم عن المعتاد، أو يجوّع نفسه جوعاً لم تألفه نفسه، حتى إذا مضت ليلتان أو ثلاث فتَرَ وضعف!
وكلُّ إنسان يعرف نفسه، وما الذي يصلحها، والموفق من تدرّج معها حتى يحقق مراد الله من الاعتكاف.
سادساً: الاعتكاف ـ باتفاق أهل العلم ـ سنة، فلا يجوز أن يترتب على تطبيق هذه السنة التفريطُ في واجب، أو التقصير في حق ذي حق، كالوالدين والزوجة والأولاد، فلا يليق بالمسلم العاقل أن يقدِّم سُنة على واجب.
سابعاً: إذا وُفِّقت ـ أيها المعتكف ـ للاعتكاف، وعشت معه أحوالاً قلبية، ولحظاتٍ فتح الله بها عليك، ودمعات جرت خشية لله، وشوقاً إلى لقائه، وغير ذلك من الأحوال الإيمانية؛ فاكتمها، واحذر من التحدث بها، فإن "أعظم النعم: الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه، والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسدٌ على قدرها ـ دقّت أو جلّت ـ ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فأنفُسُ الحاسدين المنقطعين متعلقةٌ بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وقد قال يعقوب ليوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف: 5].
وكم من صاحب قلب، وجمعيّةٍ وحالٍ مع الله، قد تحدث بها، وأخبر بها؛ فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه، ولهذا يوصي الشيوخ بحفظ السر مع الله، وأن لا يُطلِعوا عليه أحداً، ويتكتمون به غاية التكتم.
والقومُ([1]) أعظمُ شيء كتماناً لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبته والأنس به، وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدىء والسالك، فإذا تمكّن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة - التي أصلها ثابت وفرعها في السماء - في قلبه، بحيث لا يخشى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله؛ ليُقتدى به ويؤتم به؛ لم يبال، وهذا باب عظيم النفع، وإنما يعرفه أهله"([2]).
ومن وراء كتمان العمل مصلحة أكبر: وهي الإخلاص لله تعالى، وتربية القلب على ذلك.
ثامناً: إياك والعُجب:
والعُجْبَ فاحْذَرْهُ إنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ ** أعْمالَ صاحِبِهِ في سَيْلِهِ العَرِمِ
وتذكّر أن كلّ لحظة قضيتها في هذه العبادة ـ وغيرها ـ وكلّ عملٍ صالح توفق إليه، إنما هو محض فضل الله تعالى عليك، فضع هذا نصب عينيك، ولا يغب عن بالك، وتذكر دوماً أمثال هذه الآيات:
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }[النساء: 83]،
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[النور: 21]، وغيرها كثير.

[line]-[/line]
([1]) يعني: السلف الصالح.
([2]) بدائع الفوائد (3/847).
[/align]
 
عودة
أعلى