عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة
New member
قوله تعالى
﴿فَليَضحَكوا قَليلًا وَليَبكوا كَثيرًا جَزاءً بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [التوبة: 82]
في الآية؛ ما يسمى بـ " المطابقة ".
تعريف المطابقة: الجمع بين متضادين في الجملة.
ومنه قوله تعالى {لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم}.
ومنه {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا}.
ومنه {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود}.
ومنه {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
ومنه { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ }.
ومنه {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يستوي الأحياء ولا الأموات}.
ومنه {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}.
أنظر: البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي.
*قوله [فليضحكوا قليلاً]:* في الدنيا.
قاله السمعاني، والبغوي، والسيوطي.
وراه عبدالرزاق الصنعاني عن الحسن.
قال النسفي: أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا.
قال البقاعي: أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسيرا، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال.
قال البيضاوي: أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب.
قلت ( عبدالرحيم ): و الأمر هنا بمعنى التهديد؛ وبه قال الفخر الرازي، وابن الجوزي والعز بن عبدالسلام، والماوردي، والقرطبي.
وقيل: للتوبيخ.
قاله السمرقندي.
قال القرطبي: معناه معنى التهديد وليس أمرا بالضحك. والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها.
قال الفخر الرازي: وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك: جزاء بما كانوا يكسبون.
*قوله [وليبكوا كثيراً]:* في الآخرة.
قاله البغوي، والسمعاني، والسيوطي.
قال ابن عطية: وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خثيم وقتادة وابن زيد قوله فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأبيد الخلود في النار.
قال البغوي: تقديره: فليضحكوا قليلا وسيبكون كثيرا.
قال في الوجيز: في النار بكاءً لا ينقطع.
وقال مكي في الهداية: في جهنم.
قال الطبري: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا.
قال الزمخشري: معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا جزاء إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره.
*قوله [كثيراً ]:* في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو في النار أبداً يبكون من ألم العذاب.
قاله العز بن عبدالسلام.
قال أبو حيان في البحر: والظاهر أن قوله: فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم.
*قوله [ جزاءً ]:* مفعول له، المعنى: وليبكوا جزاء لهذا الفعل.
قاله الزجاج.
قال الطبري: ثوابا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوهم، وقعودهم في منازلهم خلاف رسول الله.
*قوله [بما كانوا يكسبون]:* من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصيته.
قاله مكي في الهداية.
قال السمرقندي: يعني: عقوبة لهم بما كانوا يكفرون.
قال الواحدي، وسراج الدين النعماني: في الدنيا من النفاق.
قال الطبري: بما كانوا يجترحون من الذنوب.
قال ابن عطية في المحرر الوجيز: ( يَكسِبونَ ): نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب.
قلت ( عبدالرحيم ): ثَمَ تعليقان:
الأول: ما ذكره صاحب المحرر.
الثاني: ما ذكره الطبري - رحم الله الجميع -.
*أما الأول:* أعني ما ذكره ابن عطية في المحرر بقوله: " نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب".
قلت ( عبدالرحيم ): هذا المتعين علينا اعتقاده؛ ولا ريب.
فكما أن الله لا يعذب حتى يبعث رسولا؛ فكذا لا يؤاخذ إلا بعد الاقتراف ( الكسب )؛ مع علم الله السابق بما سيكون من العبد؛ ولكن من تمام عدله، واحسانه- تعالى - لا يؤاخذ بعلمه؛ ولكن بالتكسب؛ كما أن من محض جوده وكرمه - تبارك وتعالى - من يقترف الحسنة يضاعفها له أضعافا؛ قال الله ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ): يَقْتَرِفْ: يكتسب. قاله ابن قتيبة، وأبو بكر السجستاني، والجلال المحلي.
قال غلام ثعلب: الاقتراف: الاكتساب، يكون خيرا، ويكون شرا.
ولو قال قائل: كيف تقولون أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب؛ فما تقولون في المنافق؟
قلنا: قد اكتسب بقلبه ما أحبط علمه؛ أعني كفره بنفاقه الذي أخرجه من الإسلام؛ وإن لم يظهر منه في ظاهره.
ونصوص القرآن شاهدة؛ أن الله لا يواخذ أحدا حتى يكتسب ما يؤاخذ به، مع علمه السابق - جل شأنه - بأفعال العباد؛ لذا كان معنى قوله تعالى «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا»: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجازه: فليميزنّ الله لأن الله قد علم ذلك من قبل.
وقال الألوسي: ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه، وقال ابن المنير: الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل: فو اللهليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم، وقال محيي السنة: أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار.
انتهى وكلامه.
قلت ومن الأدلة على أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب؛ قوله تعالى ( أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )،
ومنه ( فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا )،
ومنه ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ).
*والتعليق الثاني:* أعني قول الطبري: " بما كانوا يجترحون من الذنوب".
قلت: الاجتراح: الاكتساب؛ نص عليه غير واحد من أهل العلم،
ومنه قولهم: امرأة لا جارح لها: أي لا كاسب لها؛ يرزقها.
وسميت الكلاب جوارح: لأنها تكسب الرزق لأربابها.
وكذلك سميت أعضاء الإنسان جوارح: لأنه يكسب بها؛ ماله وما عليه؛ في الدين، والدنيا.
قال ابن قتيبة: وأصل الاجتراح: الاكتساب.
وقال الفراء: الاجتراح: الاقتراف، والاكتساب.
قال النحاس: والجوارح في اللغة الكواسب يقال ما لفلانة جارح أي كاسب.
قلت: ومنه قوله تعالى ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ): «اجْتَرَحُوا»: قال معمر بن المثنى: كسبوا.
وقال السيوطي: اكتسبوا.
وقال ابن قتيبة: أي اكتسبوها. ومنه قيل لكلاب الصيد: جوارح.
وقال الراغب: والاجتراح: اكتساب الإثم، وأصله من الجراحة.
ومنه ( وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ): «جَرَحْتُمْ»:
قال معمر بن المثنى: أي ما كسبتم.
ومنه ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ): «الْجَوَارِح»: قال أبو عبيدة: أي الصوائد، ويقال: فلان جارحة أهله أي كاسبهم... ويقال: امرأة أرملة لا جارح لها، أي لا كاسب لها.
ِقال السيوطي: الكواسب؛ من الكلاب، والسباع، والطير.
____________
المصدر:
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، غريب القرآن لابن قتيبة، ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن لغلام ثعلب، تفسير غريب القرآن لأبي بكر السجستاني، مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تذكرة الأريب في تفسير الغريب لابن الجوزي، معاني القرآن للزجاج، معاني القرآن للنحاس، معاني القرآن للفراء، النكت والعيون للماوردي، البسيط للواحدي، الوجيز للواحدي، تفسير البغوي، تفسير الطبري، تفسير القرطبي، الكشاف للزمخشري، تفسير النسفي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، تفسير السمعاني، المحرر الوجيز لابن عطية، البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، البرهان في علوم القرآن للزركشي، تفسير عبدالرزاق، تفسير البيضاوي، تفسير السمرقندي، تفسير العز بن عبد السلام، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، اللباب لسراج الدين النعماني، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تفسير الألوسي، تفسير الجلالين.
﴿فَليَضحَكوا قَليلًا وَليَبكوا كَثيرًا جَزاءً بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [التوبة: 82]
في الآية؛ ما يسمى بـ " المطابقة ".
تعريف المطابقة: الجمع بين متضادين في الجملة.
ومنه قوله تعالى {لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم}.
ومنه {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا}.
ومنه {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود}.
ومنه {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
ومنه { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ }.
ومنه {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يستوي الأحياء ولا الأموات}.
ومنه {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}.
أنظر: البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي.
*قوله [فليضحكوا قليلاً]:* في الدنيا.
قاله السمعاني، والبغوي، والسيوطي.
وراه عبدالرزاق الصنعاني عن الحسن.
قال النسفي: أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا.
قال البقاعي: أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسيرا، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال.
قال البيضاوي: أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب.
قلت ( عبدالرحيم ): و الأمر هنا بمعنى التهديد؛ وبه قال الفخر الرازي، وابن الجوزي والعز بن عبدالسلام، والماوردي، والقرطبي.
وقيل: للتوبيخ.
قاله السمرقندي.
قال القرطبي: معناه معنى التهديد وليس أمرا بالضحك. والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها.
قال الفخر الرازي: وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك: جزاء بما كانوا يكسبون.
*قوله [وليبكوا كثيراً]:* في الآخرة.
قاله البغوي، والسمعاني، والسيوطي.
قال ابن عطية: وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خثيم وقتادة وابن زيد قوله فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأبيد الخلود في النار.
قال البغوي: تقديره: فليضحكوا قليلا وسيبكون كثيرا.
قال في الوجيز: في النار بكاءً لا ينقطع.
وقال مكي في الهداية: في جهنم.
قال الطبري: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا.
قال الزمخشري: معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا جزاء إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره.
*قوله [كثيراً ]:* في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو في النار أبداً يبكون من ألم العذاب.
قاله العز بن عبدالسلام.
قال أبو حيان في البحر: والظاهر أن قوله: فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم.
*قوله [ جزاءً ]:* مفعول له، المعنى: وليبكوا جزاء لهذا الفعل.
قاله الزجاج.
قال الطبري: ثوابا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوهم، وقعودهم في منازلهم خلاف رسول الله.
*قوله [بما كانوا يكسبون]:* من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصيته.
قاله مكي في الهداية.
قال السمرقندي: يعني: عقوبة لهم بما كانوا يكفرون.
قال الواحدي، وسراج الدين النعماني: في الدنيا من النفاق.
قال الطبري: بما كانوا يجترحون من الذنوب.
قال ابن عطية في المحرر الوجيز: ( يَكسِبونَ ): نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب.
قلت ( عبدالرحيم ): ثَمَ تعليقان:
الأول: ما ذكره صاحب المحرر.
الثاني: ما ذكره الطبري - رحم الله الجميع -.
*أما الأول:* أعني ما ذكره ابن عطية في المحرر بقوله: " نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب".
قلت ( عبدالرحيم ): هذا المتعين علينا اعتقاده؛ ولا ريب.
فكما أن الله لا يعذب حتى يبعث رسولا؛ فكذا لا يؤاخذ إلا بعد الاقتراف ( الكسب )؛ مع علم الله السابق بما سيكون من العبد؛ ولكن من تمام عدله، واحسانه- تعالى - لا يؤاخذ بعلمه؛ ولكن بالتكسب؛ كما أن من محض جوده وكرمه - تبارك وتعالى - من يقترف الحسنة يضاعفها له أضعافا؛ قال الله ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ): يَقْتَرِفْ: يكتسب. قاله ابن قتيبة، وأبو بكر السجستاني، والجلال المحلي.
قال غلام ثعلب: الاقتراف: الاكتساب، يكون خيرا، ويكون شرا.
ولو قال قائل: كيف تقولون أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب؛ فما تقولون في المنافق؟
قلنا: قد اكتسب بقلبه ما أحبط علمه؛ أعني كفره بنفاقه الذي أخرجه من الإسلام؛ وإن لم يظهر منه في ظاهره.
ونصوص القرآن شاهدة؛ أن الله لا يواخذ أحدا حتى يكتسب ما يؤاخذ به، مع علمه السابق - جل شأنه - بأفعال العباد؛ لذا كان معنى قوله تعالى «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا»: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجازه: فليميزنّ الله لأن الله قد علم ذلك من قبل.
وقال الألوسي: ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه، وقال ابن المنير: الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل: فو اللهليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم، وقال محيي السنة: أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار.
انتهى وكلامه.
قلت ومن الأدلة على أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب؛ قوله تعالى ( أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )،
ومنه ( فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا )،
ومنه ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )،
ومنه ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ).
*والتعليق الثاني:* أعني قول الطبري: " بما كانوا يجترحون من الذنوب".
قلت: الاجتراح: الاكتساب؛ نص عليه غير واحد من أهل العلم،
ومنه قولهم: امرأة لا جارح لها: أي لا كاسب لها؛ يرزقها.
وسميت الكلاب جوارح: لأنها تكسب الرزق لأربابها.
وكذلك سميت أعضاء الإنسان جوارح: لأنه يكسب بها؛ ماله وما عليه؛ في الدين، والدنيا.
قال ابن قتيبة: وأصل الاجتراح: الاكتساب.
وقال الفراء: الاجتراح: الاقتراف، والاكتساب.
قال النحاس: والجوارح في اللغة الكواسب يقال ما لفلانة جارح أي كاسب.
قلت: ومنه قوله تعالى ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ): «اجْتَرَحُوا»: قال معمر بن المثنى: كسبوا.
وقال السيوطي: اكتسبوا.
وقال ابن قتيبة: أي اكتسبوها. ومنه قيل لكلاب الصيد: جوارح.
وقال الراغب: والاجتراح: اكتساب الإثم، وأصله من الجراحة.
ومنه ( وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ): «جَرَحْتُمْ»:
قال معمر بن المثنى: أي ما كسبتم.
ومنه ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ): «الْجَوَارِح»: قال أبو عبيدة: أي الصوائد، ويقال: فلان جارحة أهله أي كاسبهم... ويقال: امرأة أرملة لا جارح لها، أي لا كاسب لها.
ِقال السيوطي: الكواسب؛ من الكلاب، والسباع، والطير.
____________
المصدر:
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، غريب القرآن لابن قتيبة، ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن لغلام ثعلب، تفسير غريب القرآن لأبي بكر السجستاني، مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تذكرة الأريب في تفسير الغريب لابن الجوزي، معاني القرآن للزجاج، معاني القرآن للنحاس، معاني القرآن للفراء، النكت والعيون للماوردي، البسيط للواحدي، الوجيز للواحدي، تفسير البغوي، تفسير الطبري، تفسير القرطبي، الكشاف للزمخشري، تفسير النسفي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، تفسير السمعاني، المحرر الوجيز لابن عطية، البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، البرهان في علوم القرآن للزركشي، تفسير عبدالرزاق، تفسير البيضاوي، تفسير السمرقندي، تفسير العز بن عبد السلام، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، اللباب لسراج الدين النعماني، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تفسير الألوسي، تفسير الجلالين.