عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة
New member
قوله تعالى
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [73] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [74] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [75] ) الأنفال
هذه الآيات وأخواتها تبين لك ركنا عظيما من أركان هذا الدين، به وعليه قام؛ الولاء للإسلام وأهله، والبراء من الشرك وأهله.
فالولاء والبراء جزء من معنى الشهادة ( لا إله إلا الله ).
قال صديق حسن خان: ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به.
قال الواحدي: وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره، أدى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين، فإذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام، وترك الكفر لأقاربه الكفار.
•تنبيه ومدخل؛ ليتضح فهم الآيات ( إن شاء الله ):
تكرر لفظ الهجرة في هاتين الآيتين : الآية رقم: 74، والآية: 75، وسيأتي مزيد تفصيل:
قال الزمخشري: وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم.
قال السمعاني: فإن قيل: أي معنى في هذا التكرار؟
قلنا: المهاجرون كانوا على طبقات، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم أهل الهجرة الثانية، وهم الذين هاجروا بعد الحديبية قبل فتح مكة، وكان بعضهم ذا هجرتين، وهما الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة؛ فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى، والمراد من الثانية الهجرة الثانية.
فقوله تعالى ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ((75 )): قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية، وهي الهجرة الثانية.
قال محمد رشيد رضا: كان المؤمنون في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أصناف: (الأول) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست، (الثاني) الأنصار (الثالث) المؤمنون الذين لم يهاجروا (الرابع) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
قوله «والذين كفروا بعضهم أولياء بعض»: في النصرة والإرث؛ فلا إرث بينكم وبينهم.
قاله السيوطي.
قال أبو بكر الجزائري: يتناصرون ويتوارثون.
قال السمرقندي: يعني: في الميراث، يرث بعضهم من بعض.
قال السمعاني يعني: أن بعضهم أعوان بعض. والقول الثاني: إن بعضهم يرث من البعض.
قلت ( عبدالرحيم ): فإن قلت: ما وجه ذكر الله جل شأنه وإعلامه لنا بأن الكفار بعضهم أولياء بعض؟
قال الزمخشري: ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين أولئك بعضهم أولياء بعض ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا.
قوله «إلا تفعلوه»: أي تولي المسلمين، وقمع الكفار.
قاله السيوطي.
قال الإيجي الشافعي: أي: إن لم تفعلوا ما أمرتم من قطع العلائق حتى في الميراث بينكم وبين الكفار.
قال السمعاني: يعني: إن لم تقبلوا هذا الحكم.
قال مكي في الهداية: " الهاء " في: (تفعلوه ) تعود على التوارث، أو على التناصر.
وقال ابن جريج: إلا تناصروا وتتعاونوا.
حكاه مكي في الهداية.
قال السمرقندي: إن لم تفعلوا، يعني: ولاية المؤمن للمؤمن، والكافر للكافر، تكن فتنة في الأرض يعني: بلية وفساد كبير، يعني: سفك الدماء، فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين.
قوله «تكن فتنة في الأرض»: كفر وفساد كبير في الأرض.
قاله السيوطي.
قال السمعاني: الفتنة في الأرض: قوة الكفر، والفساد الكبير: ضعف الإيمان.
قال الواحدي: يعني: الشرك.
قلت ( عبدالرحيم ): ومنه قوله تعالى( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ): قال ابن قتيبة: أي شرك.
قال مكي في الهداية: أي: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك.
قال مكي في المشكل: أي إلا تفعلوا الموالاة بين المؤمنين بأن يكون بعضهم من بعض، وكذلك المهاجرون أولياء الأنصار كانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال ابن قتيبة: يريد هذه الموالاة أن يكون المؤمنون أولياء المؤمنين. والمهاجرون أولياء الأنصار. وبعضهم من بعض - والكافرون أولياء الكافرين. أي: وإن لم يكن هذا كذا، كانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال ابن زيد: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان، وإن كانا أخوين، فلما كان الفتح انقطعت الهجرة، وتوارثوا حيث ما كانوا بالأرحام. حكاه مكي في الهداية.
قال الكلبي: كان أناس من المشركين يأتون، فيقولون لا نكون مع المسلمين، ولا مع الكفار فأمرهم الله تعالى إما أن يدخلوا مع المسلمين، وإما أن يلحقوا بالكفار.
رواه عبدالرزاق في تفسيره.
قوله «وفساد كبير»: بقوة الكفر وضعف الإسلام.
قاله السيوطي.
قال الضحاك: والذين كفروا يعني: كفار مكة وكفار ثقيف بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه، يعني: إن لم تطيعوا الله في قتل الفريقين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
حكاه السمرقندي.
قال البغوي: فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإسلام.
قوله «والذين آمنوا وهاجروا»: يعني المهاجرين.
قاله البغوي.
قال السمرقندي: وإنما سمي المهاجرون مهاجرين، لأنهم هجروا قومهم وديارهم.
قوله «والذين آوَوْا»: هم الأنصار؛ آووا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المهاجرين، فأسكنوهم منازلهم ونصروهم.
قال السمعاني: ومعنى الإيواء: ضمهم المهاجرين إلى أنفسهم في الأموال والمساكن.
قال السمرقندي: يعني: أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين.
قوله «ونصروا»: ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم.
قال الواحدي في الوسيط: يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم على أعدائهم.
قوله « أولئك هم المؤمنون حقا»: يعني: صدقا.
قاله السمرقندي.
قال أبو بكر الجزائري: هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده.
قال الزمخشري: لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين.
قال البغوي: لا مرية ولا ريب في إيمانهم. قيل: حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين.
قال الواحدي: أي هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة خلاف من أقام بدار الشرك.
قلت ( عبدالرحيم ): يشير رحمه الله إلى قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ): قال الزجاج: يعنى به المشركون الذين تخلفوا عن الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله « لهم مغفرة»: أي: ستر.
قاله مكي.
قلت ( عبدالرحيم ): ليته- رحمه الله - لم يقتصر على لفظ الستر، فليس الشأن أن يستر الله عبده فحسب، لذا جاءت نصوص القرآن والسنة بطلب المغفرة لا الستر؛ لأن المغفرة: ستر وزيادة. وهو العفو والتجاوز، فكم من عبد ستره الله في الدنيا هو عنده من المعذبين في الآخرة، وإنما الشأن أن يغفر؛ ونحن نسمع كثيرا من يسأل ربه الستر، هذا وإن كان جائزا فلا أعلمه من هديه صلى الله عليه وسلم. اللهم إلا ما جاء مقيدا بستر العورات كما في قوله ( اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي )، إذ الوارد عنه سؤال المغفرة، فهي أجمع عبارة، وقد أوتي جوامع الكلم، وكان يستحب الجوامع من الدعاء. انتهى
قوله « ورزق كريم»: في الجنة.
قاله السيوطي.
وقال السمرقندي: يعني: ثواب حسن في الجنة.
قوله «والذين آمنوا من بعد وهاجروا »: مِن بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، وهاجروا وجاهدوا معكم في سبيل الله.
قال صديق حسن خان: بأن هاجروا بعد عام الحديبية وقبل الفتح.
قال السيوطي: أي بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة.
وقال السمرقندي: من بعد المهاجرين.
قال الزمخشري: يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا.
قال القاسمي: وهل المراد من قوله مِنْ بَعْدُ هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول- واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
قوله « وجاهدوا معكم فأولئك منكم»: يعني: على دينكم.
قاله السمرقندي.
فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى بالسابقين.
قال الإيجي الشافعي: من جملتكم، أيها المهاجرون والأنصار، فإن المهاجرين بعضهم هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم بعد صلحها قبل فتح مكة وهي الهجرة الثانية.
قال البغوي: أي معكم؛ يريد: أنتم منهم، وهم منكم.
قوله «وأولو الأرحام»: ذوو القرابات.
قاله السيوطي.
قال الإيجي الشافعي: وهذه ناسخة للإرث بالحلف والإخاء الذي كانوا يتوارثون به أولا.
قال الزمخشري: وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة.
قال البغوي: وهذا نسخ التوارث بالهجرة ورد الميراث إلى ذوي الأرحام.
قال مكي في الهداية: هذا نسخ لما تقدم من التوارث بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة.
قال ابن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين المهاجرين إخوانهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم إخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
حكاه الواحدي في الوسيط.
قوله «بعضهم أوْلى ببعض»: في الإرث من التوارث في الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة.
قاله السيوطي.
قال صديق حسن خان: في النصرة والمعونة، وقيل في الميراث وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.
قال السمرقندي: يعني: في الميراث من المهاجرين والأنصار.
وقال الطبري: في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبا وحظا، من الحليف والولي.
قال قتادة: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنـزل الله: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). رواه الطبري.
قوله «في كتاب الله»: اللوح المحفوظ.
قاله السمرقندي، ومكي، والسيوطي، وهو قول الطبري.
قال الطبري: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء.
قال الزمخشري: في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه الله على توريث ذوى الأرحام.
وقال البغوي: أي: في حكم الله عز وجل. وقيل: أراد بكتاب الله القرآن، يعني: القسمة التي بينها في سورة النساء.
وقال الزجاج: في حكم الله.
حكاه الواحدي.
ويجوز أن يعني بالكتاب ههنا القرآن، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم.
قاله الواحدي.
المصدر:
تفسير المشكل من غريب القرآن لمكي القيسي، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، غريب القرآن لابن قتيبة، معاني القرآن للزجاج، جامع البيان للإيجي الشافعي، تفسير عبدالرزاق الصنعاني، تفسير الطبري، الوسيط للواحدي، تفسير السمعاني، تفسير البغوي، الكشاف للزمخشري، فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان، محاسن التأويل للقاسمي، المنار لمحمد رشيد رضا، تفسير الجلالين، أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري.
كتبه: عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي.
للاشتراك أرسل (م ش) إلى:00966509006424
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [73] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [74] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [75] ) الأنفال
هذه الآيات وأخواتها تبين لك ركنا عظيما من أركان هذا الدين، به وعليه قام؛ الولاء للإسلام وأهله، والبراء من الشرك وأهله.
فالولاء والبراء جزء من معنى الشهادة ( لا إله إلا الله ).
قال صديق حسن خان: ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به.
قال الواحدي: وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره، أدى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين، فإذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام، وترك الكفر لأقاربه الكفار.
•تنبيه ومدخل؛ ليتضح فهم الآيات ( إن شاء الله ):
تكرر لفظ الهجرة في هاتين الآيتين : الآية رقم: 74، والآية: 75، وسيأتي مزيد تفصيل:
قال الزمخشري: وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم.
قال السمعاني: فإن قيل: أي معنى في هذا التكرار؟
قلنا: المهاجرون كانوا على طبقات، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم أهل الهجرة الثانية، وهم الذين هاجروا بعد الحديبية قبل فتح مكة، وكان بعضهم ذا هجرتين، وهما الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة؛ فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى، والمراد من الثانية الهجرة الثانية.
فقوله تعالى ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ((75 )): قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية، وهي الهجرة الثانية.
قال محمد رشيد رضا: كان المؤمنون في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أصناف: (الأول) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست، (الثاني) الأنصار (الثالث) المؤمنون الذين لم يهاجروا (الرابع) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
قوله «والذين كفروا بعضهم أولياء بعض»: في النصرة والإرث؛ فلا إرث بينكم وبينهم.
قاله السيوطي.
قال أبو بكر الجزائري: يتناصرون ويتوارثون.
قال السمرقندي: يعني: في الميراث، يرث بعضهم من بعض.
قال السمعاني يعني: أن بعضهم أعوان بعض. والقول الثاني: إن بعضهم يرث من البعض.
قلت ( عبدالرحيم ): فإن قلت: ما وجه ذكر الله جل شأنه وإعلامه لنا بأن الكفار بعضهم أولياء بعض؟
قال الزمخشري: ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين أولئك بعضهم أولياء بعض ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا.
قوله «إلا تفعلوه»: أي تولي المسلمين، وقمع الكفار.
قاله السيوطي.
قال الإيجي الشافعي: أي: إن لم تفعلوا ما أمرتم من قطع العلائق حتى في الميراث بينكم وبين الكفار.
قال السمعاني: يعني: إن لم تقبلوا هذا الحكم.
قال مكي في الهداية: " الهاء " في: (تفعلوه ) تعود على التوارث، أو على التناصر.
وقال ابن جريج: إلا تناصروا وتتعاونوا.
حكاه مكي في الهداية.
قال السمرقندي: إن لم تفعلوا، يعني: ولاية المؤمن للمؤمن، والكافر للكافر، تكن فتنة في الأرض يعني: بلية وفساد كبير، يعني: سفك الدماء، فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين.
قوله «تكن فتنة في الأرض»: كفر وفساد كبير في الأرض.
قاله السيوطي.
قال السمعاني: الفتنة في الأرض: قوة الكفر، والفساد الكبير: ضعف الإيمان.
قال الواحدي: يعني: الشرك.
قلت ( عبدالرحيم ): ومنه قوله تعالى( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ): قال ابن قتيبة: أي شرك.
قال مكي في الهداية: أي: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك.
قال مكي في المشكل: أي إلا تفعلوا الموالاة بين المؤمنين بأن يكون بعضهم من بعض، وكذلك المهاجرون أولياء الأنصار كانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال ابن قتيبة: يريد هذه الموالاة أن يكون المؤمنون أولياء المؤمنين. والمهاجرون أولياء الأنصار. وبعضهم من بعض - والكافرون أولياء الكافرين. أي: وإن لم يكن هذا كذا، كانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال ابن زيد: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان، وإن كانا أخوين، فلما كان الفتح انقطعت الهجرة، وتوارثوا حيث ما كانوا بالأرحام. حكاه مكي في الهداية.
قال الكلبي: كان أناس من المشركين يأتون، فيقولون لا نكون مع المسلمين، ولا مع الكفار فأمرهم الله تعالى إما أن يدخلوا مع المسلمين، وإما أن يلحقوا بالكفار.
رواه عبدالرزاق في تفسيره.
قوله «وفساد كبير»: بقوة الكفر وضعف الإسلام.
قاله السيوطي.
قال الضحاك: والذين كفروا يعني: كفار مكة وكفار ثقيف بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه، يعني: إن لم تطيعوا الله في قتل الفريقين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
حكاه السمرقندي.
قال البغوي: فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإسلام.
قوله «والذين آمنوا وهاجروا»: يعني المهاجرين.
قاله البغوي.
قال السمرقندي: وإنما سمي المهاجرون مهاجرين، لأنهم هجروا قومهم وديارهم.
قوله «والذين آوَوْا»: هم الأنصار؛ آووا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المهاجرين، فأسكنوهم منازلهم ونصروهم.
قال السمعاني: ومعنى الإيواء: ضمهم المهاجرين إلى أنفسهم في الأموال والمساكن.
قال السمرقندي: يعني: أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين.
قوله «ونصروا»: ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم.
قال الواحدي في الوسيط: يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم على أعدائهم.
قوله « أولئك هم المؤمنون حقا»: يعني: صدقا.
قاله السمرقندي.
قال أبو بكر الجزائري: هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده.
قال الزمخشري: لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين.
قال البغوي: لا مرية ولا ريب في إيمانهم. قيل: حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين.
قال الواحدي: أي هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة خلاف من أقام بدار الشرك.
قلت ( عبدالرحيم ): يشير رحمه الله إلى قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ): قال الزجاج: يعنى به المشركون الذين تخلفوا عن الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله « لهم مغفرة»: أي: ستر.
قاله مكي.
قلت ( عبدالرحيم ): ليته- رحمه الله - لم يقتصر على لفظ الستر، فليس الشأن أن يستر الله عبده فحسب، لذا جاءت نصوص القرآن والسنة بطلب المغفرة لا الستر؛ لأن المغفرة: ستر وزيادة. وهو العفو والتجاوز، فكم من عبد ستره الله في الدنيا هو عنده من المعذبين في الآخرة، وإنما الشأن أن يغفر؛ ونحن نسمع كثيرا من يسأل ربه الستر، هذا وإن كان جائزا فلا أعلمه من هديه صلى الله عليه وسلم. اللهم إلا ما جاء مقيدا بستر العورات كما في قوله ( اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي )، إذ الوارد عنه سؤال المغفرة، فهي أجمع عبارة، وقد أوتي جوامع الكلم، وكان يستحب الجوامع من الدعاء. انتهى
قوله « ورزق كريم»: في الجنة.
قاله السيوطي.
وقال السمرقندي: يعني: ثواب حسن في الجنة.
قوله «والذين آمنوا من بعد وهاجروا »: مِن بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، وهاجروا وجاهدوا معكم في سبيل الله.
قال صديق حسن خان: بأن هاجروا بعد عام الحديبية وقبل الفتح.
قال السيوطي: أي بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة.
وقال السمرقندي: من بعد المهاجرين.
قال الزمخشري: يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا.
قال القاسمي: وهل المراد من قوله مِنْ بَعْدُ هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول- واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
قوله « وجاهدوا معكم فأولئك منكم»: يعني: على دينكم.
قاله السمرقندي.
فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى بالسابقين.
قال الإيجي الشافعي: من جملتكم، أيها المهاجرون والأنصار، فإن المهاجرين بعضهم هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم بعد صلحها قبل فتح مكة وهي الهجرة الثانية.
قال البغوي: أي معكم؛ يريد: أنتم منهم، وهم منكم.
قوله «وأولو الأرحام»: ذوو القرابات.
قاله السيوطي.
قال الإيجي الشافعي: وهذه ناسخة للإرث بالحلف والإخاء الذي كانوا يتوارثون به أولا.
قال الزمخشري: وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة.
قال البغوي: وهذا نسخ التوارث بالهجرة ورد الميراث إلى ذوي الأرحام.
قال مكي في الهداية: هذا نسخ لما تقدم من التوارث بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة.
قال ابن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين المهاجرين إخوانهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم إخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
حكاه الواحدي في الوسيط.
قوله «بعضهم أوْلى ببعض»: في الإرث من التوارث في الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة.
قاله السيوطي.
قال صديق حسن خان: في النصرة والمعونة، وقيل في الميراث وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.
قال السمرقندي: يعني: في الميراث من المهاجرين والأنصار.
وقال الطبري: في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبا وحظا، من الحليف والولي.
قال قتادة: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنـزل الله: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). رواه الطبري.
قوله «في كتاب الله»: اللوح المحفوظ.
قاله السمرقندي، ومكي، والسيوطي، وهو قول الطبري.
قال الطبري: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء.
قال الزمخشري: في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه الله على توريث ذوى الأرحام.
وقال البغوي: أي: في حكم الله عز وجل. وقيل: أراد بكتاب الله القرآن، يعني: القسمة التي بينها في سورة النساء.
وقال الزجاج: في حكم الله.
حكاه الواحدي.
ويجوز أن يعني بالكتاب ههنا القرآن، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم.
قاله الواحدي.
المصدر:
تفسير المشكل من غريب القرآن لمكي القيسي، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، غريب القرآن لابن قتيبة، معاني القرآن للزجاج، جامع البيان للإيجي الشافعي، تفسير عبدالرزاق الصنعاني، تفسير الطبري، الوسيط للواحدي، تفسير السمعاني، تفسير البغوي، الكشاف للزمخشري، فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان، محاسن التأويل للقاسمي، المنار لمحمد رشيد رضا، تفسير الجلالين، أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري.
كتبه: عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي.
للاشتراك أرسل (م ش) إلى:00966509006424