إن الأحداث الجارية بما فيها من مفاجئات غريبة أصابت كثيراً من الناس باليأس والقنوط ، وأصبح فيها الحليم حيراً ، ، ولقد رأيت مشاهد اليأس تدب في نفوس الكثير من الناس حتى ظهر ذلك في حديثهم في المجالس ، بل في دعائهم وقنوتهم ، ولسان حال بعضهم يقول : أين دعائنا أين قنوتنا ، أين نصر الله للمظلومين وانتقامه من الظالمين ، ولذا كان ولابد أن يكون لنا استلهام للتوجيهات القرآنية في مثل هذا الحدث من أجل تثبيت القلوب وترسيخ المبادئ الشرعية وبيان الحق و الواجب ، ومن هنا جاءت هذه المشاركة وستكون سلسلة متتابعة بإذن الله .
المعلم الأول / قوله تعالى ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لايحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين )
هذه الآيات الكريمة نزلت في غزوة أحد حينما أصاب المسلمين قرح وجرح من أعدائهم فقتل من الصحابة مايزيد على السبعيين ، وأثخن العدو فيهم الجراح ، بعد أن كانت الدائرة لهم على الكفار ، فإذا بالتوجيه الإلهي لهم يتنزل من السماء بهذه الآيات العظيم ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) علق الأمر بالإيمان الإيمان بالله تعالى وبنصره وبمدافعته عن المؤمنين ، وليبن الله تعالى أن من وراء هذه الهزيمة حكمة من الله ليعلم الذين آمنوا ، ويتخذ منهم شهداء ، ويمحصهم ، ويمحق الكافرين، من هنا فإننا نقول يجب ألا نهون ونحزن ونيأس من روح الله ونصره ، فما أصاب المسلمين من جرح فهو بحكمة من الله ، فهل ياترى نأخذ هذا التوجيه الرباني بأن تقوى قلوبنا بالإيمان بالله واليقين بنصره وأن نستمسك بالعروة الوثقى ونعتصم بحبل الله جميعاً ونجتمع على راية الحق والجهاد ، ونلح على الله تعالى ونتضرع ونستمر على مانحن عليه من الدعاء ، ولنظن بربنا خيرا ولا نيأس من روح الله ولا نضعف ونستكين ، وتأمل أيها المسلم أيات جاءت بعد الآيات السابقة ، فقد قال الله تعالى بعدها ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) ، فهل كان حالنا مثل حال الأولين فاستغفرنا الله تعالى من ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وصححنا ما نحن عليه من قصور ، وسألنا الله الثبات والنصر على الأعداء .
أرحب بالشيخ محمد الربيعة وفقه الله وأشكره على هذه الوقفات التي سوف تتالى كما وعدنا جزاه الله خيراً.
وما أحوجنا إلى التمسك بكتاب ربنا ، والعض عليه بالنواجذ ، ولا سيما في غمرة الفتن ، التي عصفت بكثير من الناس. نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الحق حتى نلقاه.
إن المتتبع لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك تماما مدى الواقعية التي يعشها ، وهذه هي السمة المميزة في دعوته وتربيته صلى الله عليه وسلم ، وأحسب أن الشيخ الكريم أباعبدالله قد سار على هذا المنهج الرباني في أطروحته المباركة " معالم قرآنية في التعامل مع الواقع " ، والتي آمل أن تكون بداية الانطلاق في طريق بيان وتوضيح وتفسير المزيد من المعالم القرآنية .
الإشارة الثانية / في قول الله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ويقول سبحانه ( إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)
إننا يجب أن نرسّخ في قلوبنا في كل وقت وفي هذا الوقت خاصة ونحن نرى تسلط أعدائنا ونصرهم الظاهر ـ يجب أن نرسخ في قلوبنا ـ أن قوة الله تعالى فوق كل قوة ، وأن قهره فوق كل قهر ، وأن كيده فوق كل كيد ، وأن أخذه للظلم أليم شديد ، يجب أن نستيقن بأن مايقع لأعدائنا من التمكين إنما هو إملاء وإمهال واستدراج من الله تعالى، ( وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ، والله إننا لنظن بربنا عز وجل خيرا وهو حسبنا وناصرنا وحده ، ونعلم أن ماتفعله دولة الكفر والصليب أمريكا اليوم من تسلط وهيمنة واستكبار في الأرض إنما هو سنة الله في استدراج الأمم الكافرة الظالمة ، وأن مكرهم يقابله مكر الله ، وأن كل مايقع لهم بعلم الله تعالى وأمره . فإذا أيقنا ذلك فلماذا تعظم في نفوسنا قوة الكفر ، لماذا نرهب تلك الدولة الصاغرة الذلية عند الله ، ونحن نؤمن بقوة الله تعالى وجبروته وقهره ، لماذا نغفل عن سنة الله في الكيد والمكر والإمهال ، لماذا ننسى أخذ الله للظالمين المستكبرين في الأرض ، ( حق على الله ماارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه )
جزاك الله خيرا على هذه اللفتات الطيبة في وقتها المناسب
ولدي اقتراح أسوقه لك : أن تكون هذه المعالم في حلقات مفردة بمعنى أن تفرد كل تعليق بمشاركة خاصة مستقلة وهذا أجدى في متابعتها وعلم القراء بها ، فتكون حلقات مرقمة : الحلقة الأولى مع قوله تعالى .. ثم الثانية والثالثة ..وهكذا .
والسلام عليكم
جزاكم الله خيراً على إثارة هذا الموضوع، وأحب أن أضيف هذه المشاركة المتواضعة؛ عسى أن يكون فيها ما ينفع.
قواعد قرآنية في فقه الواقع
يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي -مشخصاً الداء الذي تعاني منه الأمة الإسلامية-: " إن مشكلتنا ليست في الاستعمار، وإنما في قابليتنا للاستعمار". وهذا الأمر ما زال يَصْدُقُ على أمتنا في هذا الزمن، رغم المدة الطويلة التي مرت على هذه الكلمات؛ فالهزيمة والتمزق والضعف الذي نعيشه ليس هو المشكلة الحقيقية... مشكلتنا ليست الهزيمة، وإنما الانهزامية.
وإن ما نسمعه اليوم على لسان كثير من الناس من دعوة إلى الذل والخنوع والخضوع سببه عدم فقههم بالقواعد والسنن التي ينبغي أن نفهمها ونعتقدها حتى يَحْسُنَ تعامُلُنا مع الواقع الذي نعيش، وحتى نكون إيجابيين في عملنا لتغيير هذا الواقع، ومن هذه القواعد:
أولاً: أن نوقن بأن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي للأشياء ... كل شيء بقدر الله، وكل شيء بإرادة الله. وفي قصة موسى وفرعون تحدٍّ للمنطق العقلي... تأملوا معي: عَلِمَ فرعون أن هلاكه سوف يكون على يد مولود من بني إسرائيل؛ فأمر بأن يُقتل كلُّ مولود، أراد فرعون أن لا يعيش، وأراد الله أن يعيش، بل كان قَدَرُهُ سبحانه أن يعيش موسى عليه السلام في قصر فرعون، وأن يتولى فرعون بنفسه تربيته! خرج موسى غريباً مطارداً فأَمّنهُ الله وزوَّجه، عاد نبيًّا وداعياً إلى الله وهو مطلوب الدم، ويدخل على أعظم ملوك الأرض، ثم يخرج بعد ذلك منتصراً. خرج بقومه بني إسرائيل، فأتبعه فرعون بجنوده، وكل قوانين الأرض تحكم أنه هالك لا محالة؛ فخلْفه جيش مدجج بالأسلحة، وليس معه سوى مجموعة لا تملك إلا إيماناً ضعيفاً مهزوزاً، وعصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى، ولكن... كيف كان موقفه وقد أيقن أن كل شيء بقدر الله: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلاّ إن معي ربي سيهدين) [الشعراء: 61-62]. فكانت النجاة لموسى ومن معه، وكانت الهلكة لفرعون وجنوده.
ثانياً: أن نزن الأمور بحقائقها لا بظواهرها: المسلمون في غزوة حنين قاسوا الأمور بالظواهر فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فأنزل الله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) [التوبة: 25]. وأما في بدر: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) [آل عمران: 123] فليست العبرة بالعدد هذه قلة وهذه كثرة، بل قلة معها الله، وكثرة معها الشيطان، وما ينطبق على العدد ينطبق على العُدَّة .. واللبيب من يعتبر بما حصل سابقاً ليُسْقِطَه على الواقع.
ثالثاً: أن نراعي السنن الكونية في فهم الواقع: فهناك سنن كونية لا بد من الأخذ بها، وأي تغافل عنها هو هروب من فهم الواقع وحقيقته. وهذه السنن لا تتغير ولا تحابي أحداً (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) (الأحزاب: 62) (دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها) (محمد: 10). وإنما الذي يكسبها هو الذي يستطيع أن يغير في حياته وواقعه.
ولعل من فقه الواقع والعمل لتغييره اصطحاب تغير الأنفس وما جبلت عليه من الوهن والضعف (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد: 11) فإذا أردنا تغيير واقعنا ينبغي علينا – أولاً – أن نغير أنفسنا.
وقد جعل الله عز وجل سنة للنصر لا تتخلف إلى يوم القيامة فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (محمد: 7). فلما لم نراع هذه السنة أصبح حالنا كما نرى.
وجعل الله عز وجل للبركة والغنى وسعة الرزق سنة كريمة: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الأعراف: 96). وأمتنا اليوم تعيش أزمة الفقر والجوع والجهل والمرض رغم الثروات الهائلة التي تملكها.
رابعاً: أن لا نكون رهناً لظروفنا وأوضاعنا: وهذا ما ألمح إليه مالك بن بني عندما حلّل ظاهرة استعمار البلاد الإسلامية؛ فجعل من أسباب ذلك (قابلية) هذه الأمة للاستعمار. وهذا لا يعني أن نغفل مواطن الضعف في مجتمعنا، وإنما – أولاً – قراءة الواقع بـ(روح الإقدام)، ثم حسن التعامل معه والإيجابية في العمل لتغييره؛ للوصول إلى مستقبل أفضل (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) (محمد: 35)، فإذا اجتمعت معية الله مع العمل فالمستقبل لنا ولن يضيع الله أعمالنا.
أما التخاذل والانهزامية بحجة (الوضع الراهن) وقوة العدو فنتيجته الضياع والتيه حتى يأتي الجيل الذي يستحق الفتح (قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) (المائدة: 22) فماذا كان حكم الله فيهم؟! (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) (المائدة: 26).
خامساً: أن نقرأ الواقع قراءة شمولية لا تجزيئية، جماعية لا فردية، والابتعاد عن ظاهرة (الشخصنة)؛ فالكثير منا عندما ينظر إلى حال المسلمين يعود به الحنين إلى شخص صلاح الدين - رحمه الله، علماً بأنه كان ثمرة من ثمرات عمل جماعي متراكم، بل وأصبحت بعض الفرق ترى في ظاهرة (الشخصنة) سبيل النجاة من أوضاعنا وظروفنا الصعبة، كفكرة المهدي في الفكر الشيعي.
أما منهج القرآن فهو: (وقل اعملوا ...) (التوبة: 105) فالخطاب موجه إلى مجموع الأمة لا لفرد منها.
سادساً: أن نعلم بأنه لا تمكين إلا بعد ابتلاء: وهذه إحدى العبر المستفادة من سورة يوسف؛ فيوسف عليه السلام ابتلي بفراق الأهل وفتنة النساء والسجن وفتنة المُلك والحُكم، ولكن ماذا كانت النتيجة: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) [يوسف: 56].
ولذلك -أيها الإخوة- لا تحزنوا لفرحة ظالم ولا لغلبة باطل؛ فإن للباطل جولة وللحق جولات. وكثير من الآيات ختمت بقوله تعالى: (حَبِطَت أعمالهم) في شأن الكافرين، ومعنى (حبط) في أصل وضعها اللغوي: هو أن تأكلَ الدابة نباتاً سامًّا فتنتفخ ثم تموت، فيظن قصار النظر أن انتفاخها دليلُ عافيتها وقوتها. وهذا الأمر ينطبق على اليهود والأمريكان، فإنهم يعيشون الآن في مرحلة الانتفاخ والعلو والطغيان، ولكن من آتاه الله بُعْدًا في النظر، وصدقًا في اليقين، يعلم أن الله تعالى يأبى إلا أن ينصر دينه (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلّين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) [المجادلة: 20-21]. النصر قادم بإذن الله، ولكن بعد أن نقوم بواجبنا (إن تنصروا الله ينصركم) [محمد: 7]، وبعد أن ندفع ضريبة النصر... (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) (البقرة: 214).