بشير عبدالعال
Member
بسم1
قال صاحبُ تَفسيرِ المنارِ رحمه الله :لِلتَّفْسِيرِ مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا: أَنْ يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَالِ مَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ عَظَمَةَ اللهِ وَتَنْزِيهَهُ، وَيَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيَجْذِبُهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ:
(أَحَدُهَا) : فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ؟ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ. فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى.
فَعَلَى الْمُدَقِّقِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " - وَغَيْرِهِ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ.
(ثَانِيهَا) : الْأَسَالِيبُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهَا مَا يَفْهَمُ بِهِ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الرَّفِيعَةَ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمُزَاوَلَتِهِ، مَعَ التَّفَطُّنِ لِنُكَتِهِ وَمَحَاسِنِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. نَعَمْ إِنَّنَا لَا نَتَسَامَى إِلَى فَهْمِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَلَكِنْ يُمْكِنُنَا فَهْمُ مَا نَهْتَدِي بِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَعِلْمِ الْأَسَالِيبِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْفُنُونِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا وَحِفْظِ أَحْكَامِهَا لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
(ثَالِثُهَا) : عِلْمُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ. بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا. فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَمِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَيُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهَمِّهَا التَّارِيخُ بِأَنْوَاعِهِ.
(رَابِعُهَا) : الْعِلْمُ بِوَجْهِ هِدَايَةِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ الْقَائِمِ بِهَذَا الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُنَادِي بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا فِي شَقَاءٍ وَضَلَالٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ بِهِ لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ. وَكَيْفَ يَفْهَمُ الْمُفَسِّرُ مَا قَبَّحَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ؟ هَلْ يَكْتَفِي مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ دُعَاةِ الدِّينِ وَالْمُنَاضِلِينَ عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ بِأَنْ يَقُولُوا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ دَحَضَ أَبَاطِيلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ كَلَّا.
وَأَقُولُ الْآنَ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ النَّاسِ قَبْلَهُ يَجْهَلُ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ وَعِنَايَةَ اللهِ بِجَعْلِهِ مُغَيِّرًا لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ وَمُخْرِجًا لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا يَظُنُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْرٌ عَادِيٌّ. كَمَا تَرَى بَعْضَ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ فِي النَّظَافَةِ وَالنَّعِيمِ يَعُدُّونَ التَّشْدِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ وَالسِّوَاكِ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَوِ اخْتَبَرُوا غَيْرَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ لَعَرَفُوا الْحِكْمَةَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ وَتَأْثِيرَ تِلْكَ الْآدَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟
(خَامِسُهَا) : الْعِلْمُ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الشُّئُونِ دُنْيَوِيِّهَا وَأُخْرَوِيِّهَا.
فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ قِسْمَانِ:
(أَحَدُهَمَا) : جَافٌّ مُبْعِدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ حَلُّ الْأَلْفَاظِ وَإِعْرَابُ الْجُمَلِ وَبَيَانُ مَا تَرْمِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ مِنَ النُّكَتِ الْفَنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِينِ فِي الْفُنُونِ كَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَغَيْرِهِمَا.
(ثَانِيهُمَا) : وَهُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ - عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ - هُوَ الَّذِي يَسْتَجْمِعُ تِلْكَ الشُّرُوطَ لِأَجْلِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِغَايَتِهَا، وَهُوَ ذَهَابُ الْمُفَسِّرِ إِلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْذِبُ الْأَرْوَاحَ، وَيَسُوقُهَا إِلَى الْعَمَلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُودَعَةِ فِي الْكَلَامِ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُدًى وَرَحْمَةً) وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ. فَالْمَقْصِدُ الْحَقِيقِيُّ وَرَاءَ كُلِّ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَالْفُنُونِ هُوَ الِاهْتِدَاءُ بِالْقُرْآنِ.