معارك التحريرات – 1

أحمد كوري

New member
إنضم
13/06/2008
المشاركات
153
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
موريتانيا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

معركة إدغام "و الحمير لتركبوها" [النحل: 8] (سنة: 714هـ):

وقعت هذه المعركة سنة: 714هـ، وسببها أن بدر الدين محمد بن أحمد بن بصخان الدمشقي (686 - 743هـ)، جوز الإدغام الكبير لأبي عمرو من طريق الشاطبية، في قوله تعالى: "والحمير لتركبوها" وصار يقرأ ويقرئ بذلك، مع أن الشاطبي قد نص على أن الراء إذا كانت مفتوحة وقبلها ساكن لا تدغم في اللام، يقول الشاطبي (البيت: 150 و 151):
وفي اللام راء وهي في الرا وأظهرا إذا انفتحا بعد المسكن منــزلا
سوى قال ثم النون تدغم فيهمـا على إثر تحريك سوى نحن مسجلا
وأقر ابن بصخان بأنه لم يقرأ على أحد من شيوخه بالإدغام هنا، لكنه رأى أن التحريرات تقتضي جواز هذا الإدغام، واحتج بأنه مجاز بطريق الشاطبية؛ فيجوز له أن يقرأ بكل ما يوافق طريقها في رأيه، ولو لم يقرأ به على شيوخه. فعارضه مشايخ الإقراء في عصره، ومنهم المجد التونسي وابن الزملكاني وشكوه إلى قاضي القضاة ابن صصري، وناظروه فلم يرجع عن تحريره هذا، فمنعه القاضي من الإقراء بهذا التحرير، وأمره بموافقة الجمهور، فأضرب ابن بصخان عن الإقراء مطلقا، ثم رجع إليه بعد حين. وأفادنا ابن الجزري أن ابن بصخان قد رجع عن تحريره هذا بعد الضغوط التي مورست عليه، وإن كان الذهبي وابن حجر لم يذكرا هذا الرجوع. ولم يذكر لنا الذهبي ولا ابن الجزري ولا ابن حجر أن أحدا قد انتصر لابن بصخان لا في عصره ولا بعده، ويبدو أن ابن بصخان قد اتهم الذهبي بالانحياز عند حديثه عن هذه المعركة، كما تدل على ذلك حدة ردة الفعل من ابن بصخان تجاه الذهبي، ومن العجيب أن ابن بصخان قد ولي مشيخة تربة أم الصالح بعد وفاة غريمه المجد التونسي مباشرة سنة: 718هـ! (انظر: غاية النهاية: 1/183).
يقول الذهبي عن هذه المعركة: "ثم إنه [يعني: ابن بصخان] أقرأ لأبي عمرو بإدغام "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وبابه ورآه سائغا في العربية والتزم إخراجه من القصيد وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقرأ به وقال: "أنا قد أذن لي أن أقرأ بما في القصيد، وهذا يخرج منها" فقام عليه شيخنا مجد الدين والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وغيرهما فطلبه قاضي القضاة بحضورهم وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء به وأمره بموافقة الجمهور فتألم وامتنع من الإقراء جملة، ثم إنه استخار الله تعالى واستأذن الحاكم في الإقراء بالجامع وجلس للإفادة وازدحم عليه المقرؤون وأخذوا عنه القراءات والعربية". (المعرفة: 2/744).
ويقول ابن الجزري: "واتفق أنه [ابن بصخان] أقرأ "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] بالإدغام لأبي عمرو والتزم إخراجه من القصيد، فلو عزاه إلى كتاب غير الشاطبية ورأى روايته منه لكان قريباً؛ فقام عليه الشيخ مجد الدين التونسي وهو إذ ذاك شيخ الإقراء بدمشق والشيخ كمال الدين بن الزملكاني وغيرهما واجتمعوا بالقاضي، فأخبرني شيخنا شرف الدين أحمد بن الكفري قال: "أنا كنت مع الشيخ التونسي حين دخل إلى قاضي القضاة ابن صصري قال: فطلب ابن بضحان بحضوري وتكلم معه في ذلك فلم يرجع؛ فمنعه من الإقراء حتى يوافق الجمهور، فتألم لذلك وامتنع من الإقراء مطلقاً ولبث مدة، ثم أنه أم بمسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق فكان الناس يقصدونه لسماع تلاوته وحسن أدائه وتجويده، ثم أنه تصدر للإقراء بالجامع عند رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام ورجع عما أخذ عليه فازدحم الخلق عليه وقصده القراء من الآفاق وتنافسوا في الأخذ عنه". (الغاية: 2/57 – 59).
ويقول ابن الجزري أيضا: "ورأيت ترجمته في طبقات الحافظ الذهبي وقد كتب ابن بضحان فوقها بقلم ثخين ما لا ينبغي كتابته، وبالغ في ذلك ونسب الذهبي إلى الكذب فرأيت على هامشي الكتاب بخط الذهبي: "أنا أعلم من أين أتيت؛ فإنني زدته والله ما لا يستحقه وأغضيت عن أمور مكشوفة، فلنا وله وقفة بين يدي رب العالمين" قلت: فأخبرني الشيخ إبراهيم بن أحمد الحريري بالقاهرة قال: "كانت معي نسخة الطبقات بخط أبي عبد الله الذهبي المؤلف وقد استعرتها منه من بيته بتربة أم الصالح وكان شيخ الحديث بها، فخرجت فإذا شيخنا ابن بصخان في مجلس الإقراء بها، فقال: "ما هذا الذي معك؟" فقلت: "طبقات القراء للذهبي" فقال: "أرني حتى أبصر ترجمتي" قال: فأخذه مني فنظر فيه ثم قال: "اجعله عندي إلى غد" فاستحييت منه وقلت: "بسم الله" فأخذه مني فلما كان في اليوم الثاني أخرجه وقد كتب على خط الذهبي ما كتب قال: فكيف بقي حالي مع الذهبي قال: فجئت إلى الذهبي وأنا في حالة من الحياء الله يعلم بها، قال: فسألني فأجتبه وأنا في غاية الانكسار بصورة الحال، فقال: "يا ابني ليس لك ذنب أنت معذور" ثم نظر في خط الشيخ ابن بصخان فلم يغيره وكتب عليه ما تقدم". (الغاية: 2/57 - 59).
ويقول ابن حجر: "ثم تبسط في الإقراء إلى أن اقرأ بإدغام الراء في اللام من قوله: "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وزعم أن ذلك يخرج من الشاطبية مع اعترافه بأنه لم يقله أحد، فقام عليه ابن الزملكاني وساعده المجد التونسي وغيره فطلبه ابن صصرى وعقد له مجلس فباحثوه وحاققوه فلم يرجع فمنعه القاضي من الإقراء بذلك وكان ذلك في سنة 714 فتألم وامتنع من الإقراء جملة ثم عاد واقرأ بالجامع (..) ووقع بينه وبين الذهبي لكونه ذكره في طبقات القراء ببعض ما ذكر فكتب بخط غليظ على الصفحة التي بخط الذهبي كلاما أقذع فيه في حق الذهبي بحيث صار خط الذهبي لا يقرأ غالبه فانتقم الذهبي منه بأن ترجمه في معجم شيوخه ووصف ما وقع إلى أن قال: "فمحي اسمه من ديوان القراء". (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 3/398 - 399).

المراجع:
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة – تأليف ابن حجر العسقلاني (شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي) – تحقيق: محمد سيد جاد الحق – دار الكتب الحديثة / مطبعة المدني – مصر – 1966م.
- غاية النهاية في طبقات القراء – تأليف: ابن الجزري ( شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ) - تحقيق: ج. برجستراسر – دار الكتب العلمية – بيروت – ط 2 – 1400هـ / 1980م.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار – تأليف: الذهبي (شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان) – تحقيق: بشار عواد معروف، و/شعيب الأرناؤوط – و/صالح مهدي عباس – مؤسسة الرسالة – بيروت.
 
لكنه رأى أن التحريرات تقتضي جواز هذا الإدغام،

ولم يذكر لنا الذهبي ولا ابن الجزري ولا ابن حجر أن أحدا قد انتصر لابن بصخان لا في عصره ولا بعده،

أخي الشيخ جزاك الله خيراً على هذه الفائدة ، ولكن لا أرى في هذه المسألة علاقة بالتحريرات ، لأنّ المحررين يعتمدون على المصادر لإثبات صحّة ما جنحوا إليه خلافاً لظاهر الشاطبيّة أو النشر ، بينما نجد أنّ بن بصخان ليس له سلف فيما يبدو ، وبالتالي فقد أعمل مجرّد رأيه في المسألة لا أكثر ولا أقلّ.
والعلم عند الله تعالى.

نستفيد من هذا النقل المبارك ، أنّ الأئمّة ما كانوا يتساهلون في جزئيّة أدائيّة ولو كان ظاهرها هيّن عند البعض ما دام لم ينقل بالأداء والنصّ. أمّا الآن فحدّث ولا حرج ، إذ الأداء يتغيّر بمجرّد اجتهاد يطرأ على الذهن ، وبعدها يُتجاوز عن ذلك بمجرّد التلقّي من الشيخ. فقارن بين الجيلين بارك الله فيك.
 
شكرا لكم فضيلة الشيخ على الاهتمام والمشاركة والتعليق القيم المفيد، وفقكم الله.
التحريرات تشمل تحرير المسائل وتحرير الطرق؛ ولذلك نرى كثيرا من المحررين كالجمزوري والمتولي يذكرون في كتب التحريرات بعض المسائل المتفق عليها والتي لا تتعلق بتحرير الطرق. ومسألة "الحمير لتركبوها" هي من تحرير الطرق؛ فتحرير الطرق باختصار هو عرض متن كالشاطبية على أصوله؛ لنعرف هل هو مخالف لها أم لا؛ ومن ثم نعرف ما هو من طريقها وما هو خارج عن طريقها من مضمنه، وهذا هو ما قام به ابن بصخان، فقد رأى أن إدغام "والحمير لتركبوها" هو من طريق الشاطبية وألزم به الشاطبي "والتزم إخراجه من القصيد" حسب عبارة الذهبي وابن الجزري، "وزعم أن ذلك يخرج من الشاطبية"، حسب عبارة ابن حجر، فكل هذه العبارات تدل على أن ابن بصخان كان يرى أن هذا الوجه جائز من طريق الشاطبية، ولو أنه لم يلزم الشاطبي بهذا الوجه لما قامت المعركة أصلا، كما يقول ابن الجزري: "فلو عزاه إلى كتاب غير الشاطبية ورأى روايته منه لكان قريباً"، وقد رأى ابن بصخان أيضا أنه مجاز بطريق الشاطبية ويجوز له أن يقرأ بكل ما كان من طريقها.
وليس المقصود هنا بحث مسألة إصابة ابن بصخان أو خطئه في هذه المسألة (فمن الواضح أن الصواب مع الجمهور)، لكن المهم هو المنهج الذي سلكه بغض النظر عن صواب أو خطإ النتيجة التي توصل إليها، وهذا المنهج هو منهج تحريري صرف؛ لأن ابن بصخان، رأى أن هذا الوجه الذي لم يذكره الشاطبي هو لازم له لأنه موافق لطريقه في رأي ابن بصخان، وهذا ما يفعله كل المحررين.
فإذا قارنا مثلا بين هذا التحرير الذي قام به ابن بصخان هنا، وبين تحرير الإمام المتولي لسكت إدريس، نجد أن كل واحد من الرجلين ألزم صاحب المتن بوجه نفاه صاحب المتن؛ فالشاطبي نص على إظهار الراء المفتوحة التي قبلها ساكن في قوله (البيت: 150):
وفي اللام راء وهي في الرا وأظهرا إذا انفتحا بعد المسكن منــزلا
وابن الجزري في الدرة نص على عدم السكت لخلف من روايتيه في قوله (البيت: 37):
من استبرق طيب وسل مع فسل فشا وحقق همز الوقف والسكت أهملا
وكلا الرجلين خالف جميع معاصريه ومن قبلهم في المسألة، كما يقول الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى (تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة: 47): "وجميع شراح الدرة القدامى فسروا النظم على ظاهره بدون تحقيق الرواية الصحيحة (..) حتى جاء ابن الجزري الصغير وخاتمة المحققين محمد المتولي وأثبت في الروض النضير (مخطوط) ما معناه: أن ابن الجزري لا وجه له في منعه السكت".
الفرق الوحيد بين هذين المحررين هو أننا نعرف الحجج التي اعتمد عليها المتولي في تحريره؛ لأنه كتبها هو بنفسه، وأخذها عنه أتباعه، أما ابن بصخان فلم يكتب هو نفسه رسالة خاصة في الموضوع، وإن كان من الجائز أن يكون قد عالجه في شرحه على الشاطبية، وقد ذكر هذا الشرح ابن الجزري في ترجمة ابن بصخان في الغاية، ولكني لم أقف على ذكر لهذا الشرح في عصرنا لا في عالم المطبوعات ولا في عالم المخطوطات. ولم يذكر المؤرخون الذين كتبوا في الموضوع (الذهبي وابن الجزري وابن حجر) ما يمكن أن يستشف منه الدليل الذي اعتمده ابن بصخان، ولم يذكروا وقائع هذه المناظرة، مع الأسف الشديد، ولم يهتم أحد من المتأخرين بخلاف ابن بصخان في هذه المسألة، وكأنهم رأوا أنه خلاف ليس له حظ من النظر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
وفي ظل هذه الظروف لا يمكن أن نعرف الدليل الذي اعتمده ابن بصخان في تحريره هذا، ولكن لا أظن أن إماما من أئمة القراءات كابن بصخان يمكن أن يقدم على القول في كتاب الله بغير علم، أو يعتمد على مجرد رأيه في إثبات القراءات، بل لا بد أن يكون قد اعتمد على شبهة قوية عنده, وابن بصخان إمام من كبار أئمة هذا الشأن، وقد أثنى عليه ابن الجزري في ترجمته في غاية النهاية، ومن ما قال في ترجمته: "ولما خلت المشيخة الكبرى بتربة أم الصالح عن الشيخ التونسي، وليها من غير طلب منه، بل لكونه أعلم أهل البلد بالقراءات عملاً بشرط الواقف"، وأثنى عليه في النشر وامتدح تجويده وحسن صوته (انظر: النشر: 1/213)، واعتمد تحقيقه في مسألة تفخيم الألف بعد حروف التفخيم، وذكر ثناء أبي حيان عليه (انظر: النشر: 1/215 - 216).
ولكن ما هي هذه الشبهة التي اعتمد عليها ابن بصخان في هذه المسألة؟ هنا تتعدد الاحتمالات ولا يملك الباحث إلا الظن والتخمين؛ فقد يكون لابن بصخان مذهب خاص به في التحريرات، والمحررون ليس لهم منهج موحد كما هو معروف، ولذلك يختلفون فيمنع هذا ما يجيزه ذلك، وقد يكون ابن بصخان رأى أن الداني والشاطبي قد نسبا الإدغام الكبير إلى أبي عمرو بكماله لا إلى رواية بعينها ولا إلى طريق بعينها من رواياته وطرقه، فربما رأى ابن بصخان أنه يجوز في هذا الباب خاصة لأبي عمرو أن يقرأ بكل ما ورد عنه سواء أكان عن الدوري أم السوسي أم غيرهما من رواة أبي عمرو، وسواء أكان من طرق الداني أم من غيرها. وإدغام هذا الحرف قد ورد عن أبي عمرو، قال ابن الجزري (النشر: 1/292): "وأجمعوا على إظهارها إذا فتحت وسكن ما قبلها نحو: "الحمير لتركبوها"، و"البحر لتأكلوا" و"الخير لعلكم" "إن الأبرار لفي نعيم" إلا ما روي عن شجاع ومدين من إدغام الثلاثة الأول". ولا ننس أن بعض المحررين أباح لنفسه الخروج عن الطريق في بعض الحالات، كمسألة التكبير مثلا، يقول النوري (غيث النفع: 386): "جرى عمل شيوخنا وشيوخهم في هذا التكبير بقراءة ما صح فيه، وإن لم يكن من طرق الكتاب الذي قرؤوا فيه، وتبعناهم على ذلك؛ لأن المحل محل إطناب للتلذذ بذكر الله تعالى عند ختم كتابه، فلا يرد علينا ما خرجنا فيه عن طرق كتابنا". ويقول الضباع (القول المعتبر: 207): "ويجوز أيضا الأخذ بالتحميد للبزي وكذا لقنبل بل أجازه بعضهم لجميع القراء؛ لأن حالة ختم القرآن استثنائية تقتضي التعظيم والتبجيل فيجوز فيها الخروج عن طريق الكتاب إلى غيرها من ما هو وارد ويؤدي إلى تعظيم الله وكتابه".
ثم إن مفهوم الطريق غير واضح عند بعض المحررين، وبعضهم يوسعه كثيرا، وقد يكون ابن بصخان من هؤلاء فربما كان يرى أن كل ما في كتب الداني أو في كتب غيره من من قرأ عليهم الداني أو اتصلت بهم أسانيده، وكل ما رواه الشاطبي من غير طرق الداني هو من طريق الشاطبية، ونحن نجد موقفا مشابها لهذا عند سلطان المزاحي فهو يرى أن كل ما ورد في أي كتاب من كتب الداني هو من طريق الشاطبية، كما يقول في أجوبته (نسخة محفوظة بمجموع رقم : (1532 د) – الخزانة العامة بالرباط, اللوحة: 175أ): "فإن قلت: من أين تعلم أن مكيا وابن بليمة ليسا من طريق الشاطبية؟ قلت: لأن الشاطبي ينتهي سنده للداني؛ لأنه أخذ القراءة عن أبي الحسن علي بن هذيل عن أبي داوود الأموي عن الداني، وعن محمد بن أبي العاصي النفزي عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي داوود الأموي عن الداني، وكل ما كان من طريق الداني سواء كان في التيسير أم جامع البيان أم المفردات فهو طريق له وما خرج عن ذلك ليس من طريقه". أما المنصوري فقد زاد في توسيع دائرة طريق الشاطبية فأضاف إلى كتب الداني كتب مكي وابن بليمة فكل ما في جميع هذه الكتب لا يصح أن يقال إنه خارج عن طريق الحرز في رأيه، وكل الزيادات التي زادها الشاطبي على التيسير أو على طرق الداني هي من صميم طريق الحرز في رأيه، وذلك ما دفع المتولي إلى القول: إن التحريرات إذا كانت كما يراها المنصوري فهي من باب العبث! كما يقول المتولي (الروض النضير: 111): " .. وإن لا لكان تحرير الطرق عبثا"، يقول المنصوري (إرشاد الطلبة : 11- 15 ): "لقالون من طريق التيسير والشاطبية والتقريب أربعة أوجه قرأنا بها على مشايخنا كل من وجهي القصر والمد عليه الإسكان والصلة، وقد رأيت قراء بعض المدن يقرؤون له من طريق الشاطبية بوجهين فقط القصر مع الصلة والمد مع الإسكان، ويمنعون غيرهما من طريقها ويعللون بأن الداني قرأ بالقصر والصلة على أبي الفتح فارس وبالمد والإسكان على طاهر بن غلبون، نقل عنه ذلك ابن الجزري. وهذ خطأ من جهة المعقول والمنقول، أما المعقول فلأن العلامة ابن الجزري لم يقل لم يقرأ الداني بالقصر إلا على فارس وبالإسكان إلا على طاهر بن غلبون بصيغة الحصر، وشيوخ الداني كثيرون، وقال في التيسير: "وأما رواية قالون فحدثنا بها أحمد بن عمرو بن محمد الجيزي" إلى أن قال: "وقرأت بها القرآن كله على شيخي أبي الفتح" ولم يذكر طاهر بن غلبون، فكان عليهم التزام طريق فارس دون ابن غلبون، فنقول: طريق الشاطبية والتيسير عن أبي نشيط عن قالون وأبو الفتح له الوجوه الأربعة: القصر مع الإسكان من الكافي ولجمهور العراقيين القصر مع الصلة لأبي الفتح فارس وجمهور العراقيين، والمد مع الإسكان من التذكرة والهداية وغيرهما، والمد مع الصلة من تلخيص ابن بليمة والتبصرة وغاية أبي العلاء والتذكار والكل عن أبي نشيط فتجوز الأربعة من الشاطبية والتيسير بلا نكير. وعلى تسليم أن الداني لم يقرأ إلا بوجهين لا يمتنع الوجهان الآخران إذا صحا من طريقه ألا ترى أن نحو آتى قرئ فيه لورش بأربعة أوجه مع أن الداني قرأ فيه بالقصر والفتح على ابن غلبون وبالتوسط والتقليل على فارس وأمثاله كثير. ولو سلم امتناع الوجهين من التيسير لا يسلم امتناعهما من الشاطبية لقوله:
وألفافها زادت بنشر فوائد .........................
ولأن الشاطبي كما أخذ رواية قالون من طريق ابن بويان عن شيخه محمد بن علي بن أبي العاص النفزي وعلي بن محمد بن هذيل بسندهما إلى الداني، أخذها أيضا من طريق القزاز عن أبي نشيط قرأ بها على النفزي على ابن غلام الفرس على عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع على عبد الله بن سهل على ابن غصن على عبد المنعم بن غلبون على صالح بن إدريس على القزاز، وشارك الشاطبي في هذه الطريق ابن بليمة ومكي وغيرهما، وابن بليمة ومكي لهما المد والصلة".
وسلطان وتلميذه المنصوري علمان كبيران من أعلام المحررين، ولا يمكن إخراجهما من دائرة المحررين بسهولة، فسلطان أخذ بطريقته أغلب المتأخرين، والمنصوري تمر به كل الأسانيد الموجودة حاليا في المشرق، ومنها سند المتولي.
أما كون ابن بصخان لا سلف له في هذه المسألة وقد خالف كل شيوخه ومعاصريه فيها؛ فهذا أيضا لا يخرجه من دائرة المحررين، بل على العكس يدل على أنه من الملتزمين بمنهج التحريرات؛ فأكثر المحررين إذا رأوا أنهم قد توصلوا إلى تحرير صحيح لا يبالون بمخالفة كافة الناس؛ فالشبراملسي والنوري مثلا قد خالفا جميع شيوخهما، فقد أسقط الشبراملي وجها من ما قرأ به على شيوخه، ثم أسقط تلميذه النوري وجها آخر من ما قرأ به على الشبراملسي وغيره من شيوخه، كما يقول النوري (غيث النفع : 107): "ويأتي فيها [فتلقى آدم] على ما يقتضيه الضرب على رواية ورش ستة أوجه: فتح وتقليل فتلقى مضروبان في ثلاثة آدم، وذكره غير واحد من شراح الحرز كالجعبري وابن القاصح ذكره عند قوله:
وراء تراءى فاز .......... ...................... إلخ
وكان شيخنا العلامة علي الشبراملسي يخبر أن مشايخه يقرؤون بها وقرؤوا بها على مشايخهم، وأمعن هو رحمه الله النظر فأسقط منها واحدا وهو القصر على التقليل، فكان يقرأ بخمسة. والصحيح أنه لا يصح منها من طريق الشاطبية إلا أربعة، وهي القصر والطويل على الفتح والتوسط والطويل على التقليل". وكذلك المتولي إمام المحررين المتأخرين، فهو يلزم ابن الجزري ببعض الوجوه التي منعها (مع أن سند المتولي يمر بابن الجزري)؛ لأن ابن الجزري لو تيقظ – في رأي المتولي – لما منعها، كما يقول المتولي (الروض النضير: 164): "قال [الأزميري]: ولكن لا نأخذ بهذا الوجه [السكت في المد المنفصل مع السكت في الأرض والتحقيق في سائر الباب] لما منعه ابن الجزري اهـ ولكن لقائل أن يقول : كيف لا يؤخذ بوجه مسند مع أن مانعه لو تيقظ لحكاه ولم يجد له عذرا في عدم تجويزه". وكان المتولي يرى أن الوجه إذا كان ثابتا فلا يقدح فيه تضعيف ابن الجزري له، كما يقول (الروض النضير: 177 - 178): "فمن ثم ضعف هذا الوجه [مد الألف الأول وقصر الألف الثاني من هؤلاء إن لقالون] عند ابن الجزري ولا يقدح هذا في جواز الأخذ به بعد ثبوته كما قد يتوهم". ولا يحفل المتولي بمخالفة الناس جميعا له إذا رأى أنه أصاب التحرير الصحيح، لأنه يقدم الدراية على الرواية، كما يقول (الروض النضير: 81):
"وذا ما عليه الناس والحق تركه فلا تسكتن واستوف نشرا تأملا
(..) وهذا ما عليه الناس من شيوخ الأزميري كما نقله عنهم من طريق المبهج من قراءته على الشريف الكازريني عن الشذائي ولم يسند في النشر المبهج من طريق الشذائي إلى رواية خلف بل لم يسند في المبهج طريق الشذائي إلى خلف؛ فحينئذ لا يكون السكت وجها لخلف كخلاد، وإن قرأ به الأزميري؛ لأنه خلاف الدراية"، ويطعن أحيانا في ما أجمع عليه الناس ويرى أنه "فيه نظر"، كما يقول (الروض النضير: 88): "تنبيه: ما ذكرناه من اختصاص الغنة له [حفص] بالمد هو ما عليه عمل أهل الأداء اليوم ولم يبلغنا عن أحد خلافه اعتمادا على ما في النشر من أن الهذلي لم يذكر القصر المحض، وفيه نظر؛ لأن الهذلي ذكر المد للتعظيم وهو مخصوص بالقصر المحض"، ويقول (الروض النضير: 94 - 95): "ثم اعلم أن ما ذكرناه من منع إظهار الغنة على وجه الإدغام الكبير لأبي عمرو ويعقوب هو ما عليه شيوخنا وسائر من علمناهم والآن قد ظهر لنا من كلام النشر أن الأمر بخلافه ولذلك قلت:
ومـا قـلته مـن منع إظهار غنة
عـلى وجـه إدغام لدى ولد العلا
تـوهـمه قـومـي وإنـي أجيزه
له وهو عن روح من الكامل اعتلى".
وليس هذا مجال مناقشة صواب هذه الاجتهادات أو خطئها، وإنما المقصود أن ابن بصخان لم يكن بدعا من المحررين في المنهج الذي اعتمد.
 
وفي ظل هذه الظروف لا يمكن أن نعرف الدليل الذي اعتمده ابن بصخان في تحريره هذا، ولكن لا أظن أن إماما من أئمة القراءات كابن بصخان يمكن أن يقدم على القول في كتاب الله بغير علم، أو يعتمد على مجرد رأيه في إثبات القراءات، بل لا بد أن يكون قد اعتمد على شبهة قوية عنده, وابن بصخان إمام من كبار أئمة هذا الشأن، وقد أثنى عليه ابن الجزري في ترجمته في غاية النهاية، ومن ما قال في ترجمته: "ولما خلت المشيخة الكبرى بتربة أم الصالح عن الشيخ التونسي، وليها من غير طلب منه، بل لكونه أعلم أهل البلد بالقراءات عملاً بشرط الواقف"، وأثنى عليه في النشر وامتدح تجويده وحسن صوته (انظر: النشر: 1/213)، واعتمد تحقيقه في مسألة تفخيم الألف بعد حروف التفخيم، وذكر ثناء أبي حيان عليه (انظر: النشر: 1/215 - 216).
ولكن ما هي هذه الشبهة التي اعتمد عليها ابن بصخان في هذه المسألة؟ هنا تتعدد الاحتمالات ولا يملك الباحث إلا الظن والتخمين؛ فقد يكون لابن بصخان مذهب خاص به في التحريرات،
إنّ العبرة في تحرير المسألة هو ثبوت الوجه بالنصّ والأداء عند المتقدّمين ، فإن انتفى ذلك فالوجه فهو مردود مهما كانت حجّته من جهة القياس ، ولا أرى حجّة له في ذلك إلاّ القياس والرأي ، بدليل أنّ ما ذهب إليه لم يسبقه في ذلك أحد. ولايمكنه في هذه الحالة الاعتماد على النصّ والأداء لعدم ثبوبهما قطعاً ، فلم يبق له إلاّ إعمال الرأي والقياس ، وهذا ليس طعناً فيه حاش لله ، فهو مجتهد ومأجور بإذن الله تعالى وقد وقع مثل هذا للكثير من الجهابذة. خلافاً للمحرّرين فإنّ لهم في الجملة مصدراً ملموساً يرجعون إليه
 
جزى الله الشيخ أحمد الكوري خيرًا على هذه الفوائد الرائعة التي تبين لنا عظمة القرآن وقيمة القراءات ومكانة القراء وغيرتهم على كتاب الله
ومما يتعلق بهذه المعركة ( على تحفظ مني على كلمة المعركة ) من الطرائف ما رواه لي شيخنا العلامة المقرئ الشيخ الأمين محمد إبراهيم المصري قال : كنا في مجلس مع الشيخ عبد الفتاح القاضي وجمع من القراء وكل واحد يقرا ربعاً فوصل الدور في القراءة على الشيخ القاضي فقرأ للسوسي ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا .. ) فأدغم راء البحر في لام لتأكلوا ... فسكت القوم لعلمهم بمكانة الشيخ ، ولكنني لم أسكت فقلت يا مولانا :
وفي اللام راء وهي في الرا وأظهرا إذا انفتحا بعد المسكن منــزلا
سوى قال ثم النون تدغم فيهمـا على إثر تحريك سوى نحن مسجلا
فتبسم الشيخ القاضي وقال يابني أنا مثل الحمير لتركبوها
فضحك الشيخ الأمين وقال لا يا مولانا أنت مثل الخير لعلكم تفلحون
 
شكرا جزيلا لكم فضيلة الشيخ الدكتور على الاهتمام والمشاركة والتعليق القيم المفيد، وفقكم الله وجزاكم خيرا.
 
عودة
أعلى