بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معركة إدغام "و الحمير لتركبوها" [النحل: 8] (سنة: 714هـ):
وقعت هذه المعركة سنة: 714هـ، وسببها أن بدر الدين محمد بن أحمد بن بصخان الدمشقي (686 - 743هـ)، جوز الإدغام الكبير لأبي عمرو من طريق الشاطبية، في قوله تعالى: "والحمير لتركبوها" وصار يقرأ ويقرئ بذلك، مع أن الشاطبي قد نص على أن الراء إذا كانت مفتوحة وقبلها ساكن لا تدغم في اللام، يقول الشاطبي (البيت: 150 و 151):
وفي اللام راء وهي في الرا وأظهرا إذا انفتحا بعد المسكن منــزلا
سوى قال ثم النون تدغم فيهمـا على إثر تحريك سوى نحن مسجلا
وأقر ابن بصخان بأنه لم يقرأ على أحد من شيوخه بالإدغام هنا، لكنه رأى أن التحريرات تقتضي جواز هذا الإدغام، واحتج بأنه مجاز بطريق الشاطبية؛ فيجوز له أن يقرأ بكل ما يوافق طريقها في رأيه، ولو لم يقرأ به على شيوخه. فعارضه مشايخ الإقراء في عصره، ومنهم المجد التونسي وابن الزملكاني وشكوه إلى قاضي القضاة ابن صصري، وناظروه فلم يرجع عن تحريره هذا، فمنعه القاضي من الإقراء بهذا التحرير، وأمره بموافقة الجمهور، فأضرب ابن بصخان عن الإقراء مطلقا، ثم رجع إليه بعد حين. وأفادنا ابن الجزري أن ابن بصخان قد رجع عن تحريره هذا بعد الضغوط التي مورست عليه، وإن كان الذهبي وابن حجر لم يذكرا هذا الرجوع. ولم يذكر لنا الذهبي ولا ابن الجزري ولا ابن حجر أن أحدا قد انتصر لابن بصخان لا في عصره ولا بعده، ويبدو أن ابن بصخان قد اتهم الذهبي بالانحياز عند حديثه عن هذه المعركة، كما تدل على ذلك حدة ردة الفعل من ابن بصخان تجاه الذهبي، ومن العجيب أن ابن بصخان قد ولي مشيخة تربة أم الصالح بعد وفاة غريمه المجد التونسي مباشرة سنة: 718هـ! (انظر: غاية النهاية: 1/183).
يقول الذهبي عن هذه المعركة: "ثم إنه [يعني: ابن بصخان] أقرأ لأبي عمرو بإدغام "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وبابه ورآه سائغا في العربية والتزم إخراجه من القصيد وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقرأ به وقال: "أنا قد أذن لي أن أقرأ بما في القصيد، وهذا يخرج منها" فقام عليه شيخنا مجد الدين والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وغيرهما فطلبه قاضي القضاة بحضورهم وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء به وأمره بموافقة الجمهور فتألم وامتنع من الإقراء جملة، ثم إنه استخار الله تعالى واستأذن الحاكم في الإقراء بالجامع وجلس للإفادة وازدحم عليه المقرؤون وأخذوا عنه القراءات والعربية". (المعرفة: 2/744).
ويقول ابن الجزري: "واتفق أنه [ابن بصخان] أقرأ "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] بالإدغام لأبي عمرو والتزم إخراجه من القصيد، فلو عزاه إلى كتاب غير الشاطبية ورأى روايته منه لكان قريباً؛ فقام عليه الشيخ مجد الدين التونسي وهو إذ ذاك شيخ الإقراء بدمشق والشيخ كمال الدين بن الزملكاني وغيرهما واجتمعوا بالقاضي، فأخبرني شيخنا شرف الدين أحمد بن الكفري قال: "أنا كنت مع الشيخ التونسي حين دخل إلى قاضي القضاة ابن صصري قال: فطلب ابن بضحان بحضوري وتكلم معه في ذلك فلم يرجع؛ فمنعه من الإقراء حتى يوافق الجمهور، فتألم لذلك وامتنع من الإقراء مطلقاً ولبث مدة، ثم أنه أم بمسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق فكان الناس يقصدونه لسماع تلاوته وحسن أدائه وتجويده، ثم أنه تصدر للإقراء بالجامع عند رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام ورجع عما أخذ عليه فازدحم الخلق عليه وقصده القراء من الآفاق وتنافسوا في الأخذ عنه". (الغاية: 2/57 – 59).
ويقول ابن الجزري أيضا: "ورأيت ترجمته في طبقات الحافظ الذهبي وقد كتب ابن بضحان فوقها بقلم ثخين ما لا ينبغي كتابته، وبالغ في ذلك ونسب الذهبي إلى الكذب فرأيت على هامشي الكتاب بخط الذهبي: "أنا أعلم من أين أتيت؛ فإنني زدته والله ما لا يستحقه وأغضيت عن أمور مكشوفة، فلنا وله وقفة بين يدي رب العالمين" قلت: فأخبرني الشيخ إبراهيم بن أحمد الحريري بالقاهرة قال: "كانت معي نسخة الطبقات بخط أبي عبد الله الذهبي المؤلف وقد استعرتها منه من بيته بتربة أم الصالح وكان شيخ الحديث بها، فخرجت فإذا شيخنا ابن بصخان في مجلس الإقراء بها، فقال: "ما هذا الذي معك؟" فقلت: "طبقات القراء للذهبي" فقال: "أرني حتى أبصر ترجمتي" قال: فأخذه مني فنظر فيه ثم قال: "اجعله عندي إلى غد" فاستحييت منه وقلت: "بسم الله" فأخذه مني فلما كان في اليوم الثاني أخرجه وقد كتب على خط الذهبي ما كتب قال: فكيف بقي حالي مع الذهبي قال: فجئت إلى الذهبي وأنا في حالة من الحياء الله يعلم بها، قال: فسألني فأجتبه وأنا في غاية الانكسار بصورة الحال، فقال: "يا ابني ليس لك ذنب أنت معذور" ثم نظر في خط الشيخ ابن بصخان فلم يغيره وكتب عليه ما تقدم". (الغاية: 2/57 - 59).
ويقول ابن حجر: "ثم تبسط في الإقراء إلى أن اقرأ بإدغام الراء في اللام من قوله: "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وزعم أن ذلك يخرج من الشاطبية مع اعترافه بأنه لم يقله أحد، فقام عليه ابن الزملكاني وساعده المجد التونسي وغيره فطلبه ابن صصرى وعقد له مجلس فباحثوه وحاققوه فلم يرجع فمنعه القاضي من الإقراء بذلك وكان ذلك في سنة 714 فتألم وامتنع من الإقراء جملة ثم عاد واقرأ بالجامع (..) ووقع بينه وبين الذهبي لكونه ذكره في طبقات القراء ببعض ما ذكر فكتب بخط غليظ على الصفحة التي بخط الذهبي كلاما أقذع فيه في حق الذهبي بحيث صار خط الذهبي لا يقرأ غالبه فانتقم الذهبي منه بأن ترجمه في معجم شيوخه ووصف ما وقع إلى أن قال: "فمحي اسمه من ديوان القراء". (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 3/398 - 399).
المراجع:
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة – تأليف ابن حجر العسقلاني (شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي) – تحقيق: محمد سيد جاد الحق – دار الكتب الحديثة / مطبعة المدني – مصر – 1966م.
- غاية النهاية في طبقات القراء – تأليف: ابن الجزري ( شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ) - تحقيق: ج. برجستراسر – دار الكتب العلمية – بيروت – ط 2 – 1400هـ / 1980م.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار – تأليف: الذهبي (شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان) – تحقيق: بشار عواد معروف، و/شعيب الأرناؤوط – و/صالح مهدي عباس – مؤسسة الرسالة – بيروت.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معركة إدغام "و الحمير لتركبوها" [النحل: 8] (سنة: 714هـ):
وقعت هذه المعركة سنة: 714هـ، وسببها أن بدر الدين محمد بن أحمد بن بصخان الدمشقي (686 - 743هـ)، جوز الإدغام الكبير لأبي عمرو من طريق الشاطبية، في قوله تعالى: "والحمير لتركبوها" وصار يقرأ ويقرئ بذلك، مع أن الشاطبي قد نص على أن الراء إذا كانت مفتوحة وقبلها ساكن لا تدغم في اللام، يقول الشاطبي (البيت: 150 و 151):
وفي اللام راء وهي في الرا وأظهرا إذا انفتحا بعد المسكن منــزلا
سوى قال ثم النون تدغم فيهمـا على إثر تحريك سوى نحن مسجلا
وأقر ابن بصخان بأنه لم يقرأ على أحد من شيوخه بالإدغام هنا، لكنه رأى أن التحريرات تقتضي جواز هذا الإدغام، واحتج بأنه مجاز بطريق الشاطبية؛ فيجوز له أن يقرأ بكل ما يوافق طريقها في رأيه، ولو لم يقرأ به على شيوخه. فعارضه مشايخ الإقراء في عصره، ومنهم المجد التونسي وابن الزملكاني وشكوه إلى قاضي القضاة ابن صصري، وناظروه فلم يرجع عن تحريره هذا، فمنعه القاضي من الإقراء بهذا التحرير، وأمره بموافقة الجمهور، فأضرب ابن بصخان عن الإقراء مطلقا، ثم رجع إليه بعد حين. وأفادنا ابن الجزري أن ابن بصخان قد رجع عن تحريره هذا بعد الضغوط التي مورست عليه، وإن كان الذهبي وابن حجر لم يذكرا هذا الرجوع. ولم يذكر لنا الذهبي ولا ابن الجزري ولا ابن حجر أن أحدا قد انتصر لابن بصخان لا في عصره ولا بعده، ويبدو أن ابن بصخان قد اتهم الذهبي بالانحياز عند حديثه عن هذه المعركة، كما تدل على ذلك حدة ردة الفعل من ابن بصخان تجاه الذهبي، ومن العجيب أن ابن بصخان قد ولي مشيخة تربة أم الصالح بعد وفاة غريمه المجد التونسي مباشرة سنة: 718هـ! (انظر: غاية النهاية: 1/183).
يقول الذهبي عن هذه المعركة: "ثم إنه [يعني: ابن بصخان] أقرأ لأبي عمرو بإدغام "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وبابه ورآه سائغا في العربية والتزم إخراجه من القصيد وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقرأ به وقال: "أنا قد أذن لي أن أقرأ بما في القصيد، وهذا يخرج منها" فقام عليه شيخنا مجد الدين والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وغيرهما فطلبه قاضي القضاة بحضورهم وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء به وأمره بموافقة الجمهور فتألم وامتنع من الإقراء جملة، ثم إنه استخار الله تعالى واستأذن الحاكم في الإقراء بالجامع وجلس للإفادة وازدحم عليه المقرؤون وأخذوا عنه القراءات والعربية". (المعرفة: 2/744).
ويقول ابن الجزري: "واتفق أنه [ابن بصخان] أقرأ "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] بالإدغام لأبي عمرو والتزم إخراجه من القصيد، فلو عزاه إلى كتاب غير الشاطبية ورأى روايته منه لكان قريباً؛ فقام عليه الشيخ مجد الدين التونسي وهو إذ ذاك شيخ الإقراء بدمشق والشيخ كمال الدين بن الزملكاني وغيرهما واجتمعوا بالقاضي، فأخبرني شيخنا شرف الدين أحمد بن الكفري قال: "أنا كنت مع الشيخ التونسي حين دخل إلى قاضي القضاة ابن صصري قال: فطلب ابن بضحان بحضوري وتكلم معه في ذلك فلم يرجع؛ فمنعه من الإقراء حتى يوافق الجمهور، فتألم لذلك وامتنع من الإقراء مطلقاً ولبث مدة، ثم أنه أم بمسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق فكان الناس يقصدونه لسماع تلاوته وحسن أدائه وتجويده، ثم أنه تصدر للإقراء بالجامع عند رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام ورجع عما أخذ عليه فازدحم الخلق عليه وقصده القراء من الآفاق وتنافسوا في الأخذ عنه". (الغاية: 2/57 – 59).
ويقول ابن الجزري أيضا: "ورأيت ترجمته في طبقات الحافظ الذهبي وقد كتب ابن بضحان فوقها بقلم ثخين ما لا ينبغي كتابته، وبالغ في ذلك ونسب الذهبي إلى الكذب فرأيت على هامشي الكتاب بخط الذهبي: "أنا أعلم من أين أتيت؛ فإنني زدته والله ما لا يستحقه وأغضيت عن أمور مكشوفة، فلنا وله وقفة بين يدي رب العالمين" قلت: فأخبرني الشيخ إبراهيم بن أحمد الحريري بالقاهرة قال: "كانت معي نسخة الطبقات بخط أبي عبد الله الذهبي المؤلف وقد استعرتها منه من بيته بتربة أم الصالح وكان شيخ الحديث بها، فخرجت فإذا شيخنا ابن بصخان في مجلس الإقراء بها، فقال: "ما هذا الذي معك؟" فقلت: "طبقات القراء للذهبي" فقال: "أرني حتى أبصر ترجمتي" قال: فأخذه مني فنظر فيه ثم قال: "اجعله عندي إلى غد" فاستحييت منه وقلت: "بسم الله" فأخذه مني فلما كان في اليوم الثاني أخرجه وقد كتب على خط الذهبي ما كتب قال: فكيف بقي حالي مع الذهبي قال: فجئت إلى الذهبي وأنا في حالة من الحياء الله يعلم بها، قال: فسألني فأجتبه وأنا في غاية الانكسار بصورة الحال، فقال: "يا ابني ليس لك ذنب أنت معذور" ثم نظر في خط الشيخ ابن بصخان فلم يغيره وكتب عليه ما تقدم". (الغاية: 2/57 - 59).
ويقول ابن حجر: "ثم تبسط في الإقراء إلى أن اقرأ بإدغام الراء في اللام من قوله: "والحمير لتركبوها" [النحل: 8] وزعم أن ذلك يخرج من الشاطبية مع اعترافه بأنه لم يقله أحد، فقام عليه ابن الزملكاني وساعده المجد التونسي وغيره فطلبه ابن صصرى وعقد له مجلس فباحثوه وحاققوه فلم يرجع فمنعه القاضي من الإقراء بذلك وكان ذلك في سنة 714 فتألم وامتنع من الإقراء جملة ثم عاد واقرأ بالجامع (..) ووقع بينه وبين الذهبي لكونه ذكره في طبقات القراء ببعض ما ذكر فكتب بخط غليظ على الصفحة التي بخط الذهبي كلاما أقذع فيه في حق الذهبي بحيث صار خط الذهبي لا يقرأ غالبه فانتقم الذهبي منه بأن ترجمه في معجم شيوخه ووصف ما وقع إلى أن قال: "فمحي اسمه من ديوان القراء". (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 3/398 - 399).
المراجع:
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة – تأليف ابن حجر العسقلاني (شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي) – تحقيق: محمد سيد جاد الحق – دار الكتب الحديثة / مطبعة المدني – مصر – 1966م.
- غاية النهاية في طبقات القراء – تأليف: ابن الجزري ( شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ) - تحقيق: ج. برجستراسر – دار الكتب العلمية – بيروت – ط 2 – 1400هـ / 1980م.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار – تأليف: الذهبي (شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان) – تحقيق: بشار عواد معروف، و/شعيب الأرناؤوط – و/صالح مهدي عباس – مؤسسة الرسالة – بيروت.