مصطلح الوحي في الفكر العربي المعاصر بين التعالي و المحايثة

إنضم
05/08/2012
المشاركات
21
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
تونس
بسم1​
إ
إلياس قويسم
باحث و جامعي من تونس​
1. توطئة: إرهاصات ولادة الوئام بين النصّ المفارق و التاريخ المحايث
مع إشراقة الأزمنة الحديثة بدأت تتهافت نسبيّا فكرة الحقيقة كمقولة عليا لا يطالها التفكيك والتجاوز نظرا إلى أنّ الميزة الجديدة التي بدأت تسود منطق التعامل مع الأحداث أو مع المدوّنات النصّيّة مهما كانت مصدريّتها هي النسبيّة وإلغاء تعاليها الغيبي،لذلك كان هجر نسق البداهة والبساطة هو قدر كلّ تعامل مع الموضوع،ومن ثمّ كان همّ المراجعة للذاكرة الأهليّة و التراث هو محاولة إخضاعها لهذه المقولات قصد جعلها أكثر واقعيّة و مواكبة للمستجدّ وهذا تطلّب فعلا تأويليّا و نموذجا في القراءة يؤمن بفاعليّة قبليّات القارئ في مجال القراءة قصد محاولة استبدال هويّة المقروء و جذبه نحو أفق القارئ قصد التصرّف فيه باعتباره تملّكه معنويّا،مثل هذا المنهج يشرّع لنموذج حضاري بديل يرنو إلى التموقع بدل المتداول ليعبّر عن معانقة الفكر للتداخل و التنافر القائم بين الأشياء والسعي نحو منطق الاستبدال الدوريّ للهويّات بحسب حاجيّات الواقع و نداءاته،و من ثمّ الدخول في "مبدأ اللايقين" المعبّر عن الهجرة الدائمة والغربة المتكرّرة الرامية إلى الغربة المنتجة بدل الاطمئنان الزائف و الإلفة السلبيّة بمقولات تسكن الذاكرة .أنّها ولادة جديدة للفكر و القيم والمفاهيم من خلال انتقالها من حقل أنطولوجي إلى حقل آخر مغاير وهي سمة هذا العصر الذي نعايشه، حيث آثر الإلفة بقيم لم تكن كذلك في السّابق و لكن غدت كذلك بفعل عقلانيّة الاقتصاد وعقلانيّة الأصلح –الأصلح ثروة وقوّة ونفوذا و مصلحة،أي المجسّد عمليّا للوجه الثاني للفلسفة وهو فلسفة القوّة أو الفلسفة المشرّعة للقوّة.
نعني بذلك محاولة تجاوز نسق فلسفة الحضور- التي لا تقرّ إلاّ بما يحضر في الوعي لديه فيتخذ شكل الدلالة و المعنى والقانون و الهوية فيتطابق هكذا مع مقولاته.و تذهب فلسفة الوعي،أو فلسفة الحضور هذه إلى القول بأن ما هو واقعي لا يمكن إلا أن يكون عقلانيا،أي أن كلّ ما هو واقعي ...لا بد و أن يحضر في الوعي وتتمثله المفاهيم العقلية. - إلى نسق آخر هو فلسفة الغياب أو التيه التي تقطع جزئيّا أو كلّيّا مع كلّ دلالات التطابق ساعية من وراء ذلك إلى خلخلة الاطمئنان أو استبداله عبر جرّ الفكر الإنسانيّ نحو القلق والارتياب والغربة والهجرة و الترحال و كلّ هذا بالإمكان تحصيله عبر فن السؤال و الوعي بلا نّهائيّته هذا السؤال لا ينام على قناعاته ولا يفضي إلى جواب.سيبقى دائما قائما، ماثلا،مسترسلا،متأنيا،وصبورا ،دائما من نص الآخر،نكثّف حضوره فينا،نزرعه في تربة نسيجنا النفسي و خلايا دماغنا ليفضي ذلك إلى مشارفة تخومه.فيكون اختلافنا معه وعنه،اختلافا منه.أي أن هذا المختلف عنه يضل من صلبه و لا يفرض عنه من الخارج بإجراء تعسفي.فهو اختلاف يسكنه.منشأه هو.فنحن لا نطرد الغير لنقيم نحن .
تلك هي الانفلاتة التاريخية للوعي الإنسانيّ التي يبتغي الانخراط فيها الإنسان الغربي بعد أن حسم أمره في مجال الغيبيّات أو المفارق و اعتبارها إيتوبيا أو مجازا يقبل التأويل دون مفارقة عالم الحقيقة الذي هو عالم الإنسان، و تسرّبت مقولات هذا الاتجاه إلى فكرنا الأهلي من زاوية التحديث و إعادة قراءة تراثنا و أصوله قراءة نقديّة واعية ليتسنّى لها الدخول إلى عالم الحداثة عبر مجموعة من الإنتلجنسيا العربيّة ذات التكوين الغربي فكرا ومقولات و مناهج حيث باتت تفكّر في امتلاك التراث الأهلي و أصوله و تحريره من الارتهانات التاريخيّة وإعادة قراءته قراءة واعية ومواكبة ولكن بآليّات الآخر المختلف لعلّها تستطيع تحقيق أمل التنوير المتمثّل في إدخال الذات الثالثيّة في الدورة التاريخيّة عبر جملة من المراجعات"الأليمة"لأصولها قصد تحريرها من ربقة ما تدعوه بالفكر الميتافزيقي-المفارق لنبض الواقع وتاريخيّته، وتعلن عن تأسيس ما يعرف بحداثة الإنسان المعاصر ، أنّها محاولة جريئة منه لتجاوز أطياف الماضي أو ما يمكن تسميته بالقطيعة المعلنة مع الإبستمولوجيا القديمة بعد أنّهيارها أو حضورها اللافاعل في الصيرورة التاريخيّة المعاصرة والمعاكسة للخطّ المعلن من قبل حرّاس الذاكرة الأهليّة.
إنّ هذا الإطلاق ليس مرميّا على عواهنه بل هناك مناويل معرفيّة يمرّرها ليثب أحقيّته في التداول،فطبيعة التأسيس للخطاب الحديث و تطبيقاته العمليّة تعبّران عن نزعة ترمي إلى محاولة تقويض جزء من المنظومة السابقة، باعتبار أنّ المشاريع المقدّمة في فكر الحداثة لم تكن مجرّد اقتراحات لأفكار جديدة أو إدخال بعض التنقيحات أو الاستبدالات العفويّة و السطحيّة على الفكر الكلّاسيكي، بقدر ما هي محاولة جديّة و واعية لتفكيك السابق و إعادة تركيبه، و الانتقال من التنوير إلى التثوير،بحسب تصوّر نصر حامد، قصد التمكّن من الأخذ بنسق الحداثة فـ عقل الحداثة دخل في أزمة حاليّا بسبب انحرافات الحداثة والنقد الذي تعرّضت له سوف يجد حلاّ له في تشكيل عقل جديد يتجاوزه هو عقل ما بعد الحداثة...أو العقل المنبثق الصاعد حديثا،أو العقل الاستطلاعي و المستقبلي الجديد.مهما يكن من أمر فإنّ عقل الحداثة الكلّاسيكيّة ...سوف يتعرّض للتفكيك و النقد مثله في ذلك مثل العقل الديني الذي هيمن قبله طيلة قرون و قرون.  ربّما هذا المنحى الذي انتهجه العقل الحداثي يريد من خلاله إبانة نسبويّة كلّ مقوّمات و مكتسبات الإنسانيّة،ممّا جعله يفكّك الحقائق إلى حزم دلاليّة متعدّدة و متضاربة ممّا ينبئ بنهاية اليقين وحلول عصر الارتياب و الفراغ .
هنا بدأت لحظة البناء لتصوّرات إعادة الوئام بين الأنا و العالم بمفهومه المعاصر و لكن هذا التأسيس الجديد مرّده أنّ أصحاب هذه الأنسقة الفلسفيّة يرون أنّ مثل هذا الانبلاج للجديد المعلن ليس في معظم القديم ما يعضده لذلك اندفع إلى التقويض غير متجانف لإثمّ الإلغاء أو الإنكار حتّى و إن تعلّق الأمر بنصّ تأسيسي للفكر الإسلامي وهو النصّ القرآني فكلّ الأنظمة الفكريّة خاضعة لأثر التاريخ في مجال التعديل أو الإلغاء،ذلك أنّ طبيعة التفكير المقدّمة قد ألغت منطق الفوارق بين النصّوص و اعتبرتها نصوصا ثقافيّة أو منتجا واقعيّا-ثقافيّا،لو استخدمنا مصطلح نصر حامد، ممكنة التحوير و حتّى الإلغاء إن اقتضى الواقع المرجعي ذلك، لأنّ النصّ القرآني قد انتقل من حقل المرسل و تموضع بشريّا ضمن حدود أفق المتلقّي وفعاليّاته وتجاربه و تصوّراته و آليّات فهمه،بمعنى أنّه يسعى إلى التأسيس لمرحلة ما-بعد-توليد النصّوص،أي الانتقال من سلطة النصّ إلى سلطة الواقع،وهذا الانتقال في نظر الإنتلجنسيا العربيّة-الثالثيّة ضروريّ للتخلّص من صرامة النصّوص إلى مرونة القراءة و مواكبة حركة التاريخ المتدوّمة، وهو ما يسفر عن جذب النصّ من علياء المرسل إلى واقع القارئ لدفعه نحو الانخراط في المحايثة بما تعنيه من امتلاك و انتماء لحقل القارئ بعد تسطيح مدلولاته و تنسيبها و إلغاء إلزاميّة مضامينها عبر نافذة التاريخيّة والواقعة الاجتماعيّة لحدث النزول،مثل هذه النزعة التحديثية لم تستهدف المفاهيم فحسب بل طالت فاعليّتها المناهج ثمّ بنية الفكر نفسه و إوالياته، ممّا ولَد تعريفات جديدة تخصّ: "الإنسان" و"الحقيقة" و"الواقع" و"النصّوص" و"الإله"، أنّها محاولات تختزن في جوانيتها هاجس استعادة البعدين المفقودين –المنسييْن في النسق المُقال أو الملغى، الإنسان والتاريخ ،باعتبار أنّ هذين البعدين قد غيّبا في نظريّة المعرفة القروسطيّة المفارقة بسبب اغتراب الإنسان عن ذاته والتفاتته إلى الإلهيات وما حوته من مواضيع ترمي بفكره في ساحة الغيب و ترفعه عن واقعه وإحداثياته،لذلك وجب تجاوز كلّ نسق يغيّب الإنسان عن التاريخ ودينامكيّته عبر تحويل الإلهيّات إلى إنسانيّات و اللاهوت إلى أنثروبولجيا و الانخراط في نسق تأويل العقائد على أساس أنّها جهد من الإنسان لتجاوز اغترابه في هذا العالم فيخلق في شعوره كائنا من داخله لا آتيا من الخارج المتعالي، ويضفي عليه صفات الكمال التي يفتقر إليها،ومن ثمّ يحوّل الإله من ذات مشخّصة لها وجود مفارق للوعي إلى مجرّد حضور معرفي يجسّد جهد الإنسان للوصول إلى النموذج أو المثال الذي يطمح إليه ،و هذا يتطلّب فعلا جريئا، وعبّر عن ذلك نصر حامد في سياق نقده لمشروع حسن حنفي،من خلال ضرورة الانتقال من تنوير التراث وأصوله إلى "التثوير" أي الانتقال من مجرّد التلوين و التغيير السطحي إلى أفق التأويل،بمعنى الدفع بالنصّ القرآني و توابعه إلى الانخراط في موجة المراجعة النقديّة التي طالت الفكر المسيحي من خلال مناهج علميّة صارمة تسعى إلى تتبّع المسكوت عنه في النصّ قصد إبانة ما هو قمين فيه ليكون أكثر حداثة و مواكبة للتاريخ،بمعنى القيام بقلب منهجي يستهدف استعادة المبادرة من قبل الإنسان بعد أن كانت مناطة بإرادة الإله.
إذن،سنحاول ضمن هذا السياق إيقاع قراءة تأليفيّة في بعض تصوّرات النخب الفكريّة العربيّة من أمثال نصر حامد أبو زيد و محمّد أركون و حسن حنفي... في مستوى قراءتهم للنصّ القرآني و نصوصه الثواني قصد تبيّن كيف حاولت تجنيد آليّاتها المعرفيّة الوافدة لتغيير هويّة النصّ القرآني ومن ورائه الحامل له "الإنسان" وتحويله من نصّ مفارق-مقدّس إلى نصّ-تجربة يخضع لسنن التاريخ بمعنى تحويله إلى ظاهرة ثقافيّة مشروطة أو مجرّد ممارسة خطابيّة هي في الأخير ليست إلاّ فعاليّة بشريّة تاريخيّة دنيويّة ذات مسار حلزونيّ لكن دون تجاوز سقف الدنيوة المرتبط بتجربة الذات التاريخيّة و إبداعات المجتمع،بمعنى أنّها تقرأ النصّ المقدّس-التأسيسي المفارق في المنظومة الأشعريّة-الأرثودكسيّة ضمن أرضيّة علميّة رياضيّة خارج الوعي اللاهوتي الرسمي وهي بذلك تحاول نمذجة النصّ القرآني و تصنيفه ضمن الدائرة البراغماتيّة في التعامل مع النماذج النصّيّة من خلال رؤيتها له كمقاربة حياتيّة و حكاية عن مسار تاريخي و ممارسة اجتماعيّة لمرجع من المرجعيّات المتاحة ومحاكاة لنماذج سابقة كإعادة خلق و ابتكار،بمعنى أنّنا نحاول تتبّع معنى شديد الحساسيّة عند هذه النخب وهو "التجديد وإعادة البناء ضمن سياق الدنيوة" لأنّها تعتبره ليس مجرّد طلاء للبناء القديم بقدر ما تقدّمه على اعتباره تفكيك للمنظومات وشبكة المقاربات والسياج الدوغمائي و الخطّ الأرثودكسي-المحافظ الحاضن للنصّ القرآني و لدلالاته و تفرّعاته و علومه التي ارتقت من مجرّد تجربة تاريخيّة إلى نصّ مقدّس-مغلق-مفارق ،يحكم تجربة الإنسان التاريخيّة المتدوّمة، غير قابل للتفكيك أو التعديل أو المراجعة لأنّ في ذلك انتهاك لقداسته،كما أنّ مثل هذه التصوّرات حول النصّ القرآني ستكشف عن حجم المعركة التي تخوضها النخب التي اختارت نهج التحديث العلمي-الواقعي ضدّ أصحاب الخطّ المحافظ في مجال صناعة الذاكرة ومن له أهليّة صياغة الوقائع والنصّوص والتجارب،أنّه صراع بين حماة النصّوص و محرّريه. بين المحافظين الجدد القائلين بالدنيوة و تحرير النصّ من قدسيّته و أصحاب الخطّ الأرثودكسي -المحافظ الذين آثاروا منع تشييئ النصّ لا التعامل معه كنصّ مقدّس،أنّه صراع من أجل المآلات.
2. خلخلة مسلّمات النصّ القرآني في منظومة العقل المنعكس:
2. 1القلب المنهجي في مشكلة البداية
إنّ الذي يهمّنا هنا هو الأزمة التي تفجّرت في أواسط القرن الماضي و مازالت ممتدّة إلى يومنا هذا وتنذر بالاستمرار،و هي تلك التي تميّزت بسقوط العديد من الإيديولوجيّات و المفاهيم، وخصوصا المتعلّقة بإرادات القراءة ونسقها وآفاقها ضمن دائرة "النصّ المقدّس"ممّا يؤكّد أنّ طبيعة الاهتمام تتّجه نحو استبدال هويّة النصّ القرآني،بمعنى أنّ القارئ يوجّه النصّ المقدّس،الذي غدا نصّا "مؤنسنا"لحظة نزوله و حضوره في حلقة التاريخ البشري على اعتبار نزوله بلغة بشريّة وخضوع تلك النصّوص لشروط الوضع الاجتماعي –التاريخي الحاف بولادتها ،و هذا التوجيه نحو الدنيوة كائن عبر "قبليّات القراءة" المضمرة في فكر القارئ،بمعنى أنّه لن يبحث في النصّ إلاّ عن الذي ينتظره هو منه،لذلك سيسعى إلى جعله ناطقا بإجابات بعينها يريدها،وهو ما يجعل النصّ بكلّ أشكال حضوره،نصّا ناطقا بلسان القارئ لا نصّا مغيّرا لقبليّاته،و إن تعذّر مثل ذلك يغدو العيب في النصّ لا في الواقع،مثل هذا القول يقلب المعادلة التراثيّة-الأهليّة القائلة بحاكميّة النصّ إلى سلطة القارئ-المؤوّل، فإرادة النخب الفكريّة ذات الاتجاه الحداثوي تريد الخروج بالنصّ الديني من دائرة الأسطورة إلى دائرة التاريخ و من دائرة الإيمان والتسليم إلى دائرة العلم و المراجعات النقديّة،من خلال جعله قابلا للقراءة ،باعتباره فعلا ينحو ناحية القارئ،فلا يعقل أن تكون الحاكميّة لنصّ ثابت المعاني و الدلالات على واقع القارئ المتشعّب و المتغيّر والمتطوّر والمنخرط ضمن صيرورة تنفر من الحلّ و تميل إلى الترحال،فالتسليم بمثل حاكميّة النصّ إهدار له و للواقع الذي يحكمه لذلك وجب نسخ مقولات الخطاب الديني المحافظ "حرّاس الرأسمال الرمزي" قصد الانخراط في استقطار الدلالات و المفاهيم المعتقلة في جسد النصّ لقرآني والتي تتّفق و اللحظة التاريخيّة المعاشة،عبر هذا الفعل التفكيكي ،أي بواسطة القراءة التأويليّة ،التي تصل إلى المغزى عبر الدلالة لا وثبا عليها ،يمكن أن يستعيد النصّ القرآني أوّلا و نصوصه الثواني ثانيا وضعهما الطبيعييْن بعد أن قلب حرّاس الرأسمال الرمزي النصّ القرآني وأوقفوه على رأسه،هذا العمل التفكيكي لن يحرّر النصّوص فحسب بل يحرّر الذهنيّات و التاريخ. إنّ الكشف عن الخفي لا يتمّ بمجرّد استبدال التسميات بل بالقطيعة المعرفية والكشف عن الإرادات المثبِّتَة لهذه الأنساق، فلا بدّ من إيقاع الترتيب الإبستمولوجي الذي يراجع التولّد التدريجي للأفكار و تجدّدها أو تجاوزها إن اقتضت الضرورة الإنسانيّة ذلك، لكن دون قفزات مراهقة.مثل هذه المراجعات تعبّر عن ميلاد "حداثة العقل المنعكس"،لو استخدمنا مصطلح ميشال فوشو.
بهذا التحديد الإشكالي للتصورات وللمفاهيم يتسنّى تحديد المفارقة بين المنظومتين القديمة-المحافظة والناشئة حديثا ضمن مجال دراسة النصّوص، والمتمثّلة في مشكل البداية باعتبار أنّ هذا التحديد هو الذي يتسنّى بمقتضاه رسم خط سير التفكير للمفاهيم و الإشكالات التي تتحرّك ضمنها و بها هذه المنظومة أو تلك،بهذا المعنى بدأت مرحلة الجزر للفكر الميتافزيقي أمام الدفق الذي غدا يمثّله الفكر الحديث الظهوراتي فكر الواقع في "العالم" والتفكير في الـ"هنا" أي من مرحلة الواقع كفكر أو كأمثولة إلى مرحلة الواقع كعالم حسي له وضعه الزمني في حلقة التاريخ،إنّ هذا التغيّر أنشأ منظومة الحضور القائم"في"العالم و التوق إلى التقدّم "في"ـه وهو معنى الدنيوة ،كلّ هذه التعبيرات عن التوق و التقدّم و تعبيرة ما يجب أن يكون قد انفصلت عن نسق التجريد لتغدو صيرورة وميلا للتعالي المستمر داخل العالم الحسي،عالم الإنسان عالم الـ"هنا"،وهذا ما دفع إلى إقرار حلقة فن التأويلcercle herméneutique ،كما عبّر عن ذلك ميشال فوشو، أين تتأسس حركة الانعطاف المتغيّرة، التي تتراءى جليا في انبجاس مسحة القلق و الحيرة والتوتر العالية على جبين الفكر الحديث،أي العالم الذي هجره الإله،والمعبّرة عن شيء دفين في الفكر و في النفسيّة،أنّه مخاض مأزوم لفكر الحداثة، بعد أن استُبدلت مركزيّة فكرة الإله بمركزيّة الإنسان،الذي يفكّر في ذاته كحلقية،تبعا لمنظوريّة الفهم المعلنة صعدا،من هنا تفقد الحقيقة مشروعيتها تبعا إلى تغيّر نظم الاستدلال بها،أي من الحقيقة إلى حقيقة من جملة حقائق أو لنقل معارف لها إمكانيّة أخذ صفة اليقين،مهما كان مصدر هذه الحقائق،لأنّ طبيعة القادم وحاكميّته سيكون مبنيّا على معيار التوافق مع أقانيم الواقع الإنسانيّ،لذا يغدو الإنسان ماسكا بحلقيّة القبول و الرفض للمقولات ،فلم نعد نقول بحاكميّة صنف فقط من المعارف بقدر ما غدونا نقول بتداخل أصناف المعرفة من دون إقصاء أو حجب و من دون نظر إلى المصدريّة،لأنّ المعيار الناظم ليس النظر في المصدر بقدر النظر في الفاعليّة و النفعيّة أي اكتسابه الأهليّة الفكريّة للتواجد،فالنصّوص في مستوى حداثة العقل المنعكس قد استوت و نُزعت عنها سمة القداسة والتراتبيّة، وغدت نصوصا ذات صلة بالإنسان،لأنّها تحوّلت من دائرة الاعتقاد إلى دائرة التفكير العلمي،أي من دائرة الإله إلى دائرة الإنسان،من فكر ميتافيزيقي إلى فكر فيزيقي-ظهوراتي يبتغي الدنيوة.
إنّها إرادة جامحة تنتاب الفكر للتغيير و للثورة وللتجديد وللتفكيك وللهدم و للتجاوز ولإعادة الصياغة من خلال طرح كلّ المرجعيات و إسقاط حجب التقديس عنها وتطبيق الصرامة المنهجيّة و النقدية عليها،لأجل فسح المجال أمام تصوّرات جديدة يراد لها أن تكون البديل الفكريّ-الحضاري في هذا الوجود التاريخي-الإنسانيّ حيث كلّ متعال عنه يُعدّ من قبيل المجاز،بالإضافة إلى اعتبار أنّ التعالي و المفارقة من المفاهيم التي تشوّش على المفكّر دراسته العلميّة للنصّ،إن أخذناها من المفهوم السلفي-المحافظ،أمّا إن اتخذنا نهج التعالي المؤنسن ضمن حدود الأفق التاريخي-الإنساني فأنّها تغدو دافعة للتناول العلمي وتنسيب الدلالات المطلقة ومحاولة تدجينها وأنسنتها،ومن ثمّ وجب تحرير الذهنيّات من حصار مفاهيم"المحظور"و"الحرام"المانعة من كلّ تناول ومعالجة "للنصّ -التابو"،فوجب التقحّم والمواجهة لنفي صبغة التقديس والتعالي و المفارقة عبر استبدال هذا الدياليكتيك النازل من المفارق إلى المحايث بديالكتيك صاعد من المحايث إلى المفارق دون هجرة للعالم هنا  لذلك فإنّ هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور" و"المحرم" في الوعي الديني السائد والمسيطر،لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة…أنّه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى…مقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي،أي الثقافي التاريخي . 
تلك هي حقيقة التفكيك التي أريد لها أن تكون صبغة هذا العصر، تفكيك كلّ العقائد والأنظمة اللاهوتية الآتية من العصور الوسطى قصد محاولة تأهيلها من خلال تعديل نسقها من الإطلاقيّة إلى النسبيّة و من الأحاديّة إلى المعيّة المعرفيّة أو التداخل،نظرا إلى الجمود الذي طالها،وقد عبّر هاشم صالح عن هذا التوجّه الحداثوي الغربي الذي يريد خلخلة كلّ الثوابت والأصول المدمجة التي تقوم عليها الذات الإنسانيّة لدى العديد من الثقافات الثالثيّة ومنها الذات الإسلاميّة والعمل على إدخالها ضمن مسار جديد هو مسار العولمة لا الكونية و الفارق ليس هيّنا بين المصطلحيْن عبر فرض نسق التجديد و إيجاد بدائل لنموذج الإيمان القروسطي بنموذج لإيمان يستجيب لمواصفات حداثة الإنسان لا لمواصفات المعبود سبحانه،أي أنّنا مع هذه الحداثة نشهد فاعليّة العقل المنعكس الذي بلور مفهوم تكييف مفهوم الإله بحسب مواصفات الإنسان بدل استجابة الإنسان لمواصفات الله التي أثبتها لأجل أن يكون متماهيا معها أو ساعيا لامتلاكها ولو نسبيّا ،من هنا تحوّلت العقائد التي هي جوهر النصّ القرآني إلى مجرّد تصوّرات ذهنيّة موجّهة للسلوك بعد أن كانت دليلا على وجود إله مفارق-رقيب،بحيث غدت مثل هذه الأنظمة العقائديّة المتعالية،في عرف نصر حامد أبي زيد الآخذ بنسق العقل المنعكس، نظاما واقعيّا هدفها الاستجابة لمصالح الناس أو تبريرها بعدما كانت تسعى إلى إقامة مصالح النّاس وفق نظريّة مقاصد النصّ المقدّس،بصرف النظر عن المصدر ودلالته على وجود مفارق،مثل هذا التوجّه يبرّره نصر حامد بالمراجعة التصحيحيّة التي انخرط فيها عقل الحداثة أو العقل المنعكس عبر اعتبار الوجود الإنسانيّ هو الأصل،أي الوجود الحقيقي"الديالكتيك الصاعد"،وكلّ وجود في الوعي هو وجود بالمجاز،فالإنسان هو مبدع اللغة لذلك فكلّ مفاهيمها تنطبق بالحقيقة على الإنسان لأنّه هو المعنيّ الأوّل بمعانيها ومفاهيمها،أمّا غيره فتطلق عليه مجازا قياسا على إطلاقها على الوجود الإنسانيّ ،وخلاف ذلك يعدّ عائقا أمام التفاعل المثمّر الذي يراد للإنسان أن ينخرط فيه  يدخل هذا التحليل الأنتروبولوجي...في باب الأنسنة الحديثة و ما تفرضه من مراجعات فكريّة و نقد تفكيكي لجميع "القيم"والاعتقادات وأنواع التشريع والسياسات الشرعيّة التي ورثناها عن الماضي البعيد و القريب .والأنسنة إذن نشاط شامل ،بنّاء ، مبدع ،يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلّق بوجود الإنسان و طرق الفهم و التأويل و التجسيد التاريخي لهذا الوجود ،مثل هذا التصوّر في مجال استبدال البدايات،يطرح إشكال "المجاز"في الفكر الإسلامي ،بمعنى أيّ العالميْن "عالم الإله" أو "عالم الإنسان-الهنا" يمثلّ الحقيقة و الآخر يمثّل المجاز،ومن ثمّ يخرج إشكال المجاز من حقله اللغوي إلى حقله الحضاري في مجال "صياغة رؤية للعالم"، وعبر ذلك تتحدّد الرؤى إمّا الهجرة من عالم الهنا-المجازي إلى عالم الحقيقة الفوقي،ممّا يعني انتصارا للموقف السلفي-الأشعري،و إمّا الإقرار بحقيقة الوجود الإنساني-في الهنا و اعتبار العالم الفوقي الكامن في الوعي عالما مجازيّا،وهو ما يعني انتصارا للموقف الحداثي-العلمي،و لعلّ تعبيرات النخب الآخذة بالنموذج الغربي و تحليلاتها تشير بداهة لا إلى انتصارها إلى الموقف الثاني فحسب،بل و تؤكّد سعيها إلى إضعاف حجج الموقف السلفي و سلبه أهليّة حضوره و تداوله عبر القول بتاريخيّة أفكاره و فقدأنّها مشروعيّة التداول.
2. 2 الانخراط في الدنيوة: التسويغ التاريخي لظاهرة الوحي
هذا يؤكّد التصوّر الجديد القاضي بإقرار الوجود في الـ "هنا"لا في عالم آخر غير عالمنا هذا،فـ "أسطورة" العالم الفوقي وجب تجاوزها،فحركة التشخصن...تخوّلنا من التفكير في تعال،دون التجاء إلى عالم الغيبيّات... بهذا نقول أنّ نصر حامد قد اتّجه صوب أنسنة النصّ القرآني من خلال الفصل في مجال البداية،بحيث يغدو نمط التعامل معه على أساس أنّه نصّ لغوي أو منتج ثقافي أو ظاهرة تماما كما فهمه أدونيس،بمعنى التعامل معه خارج كلّ بعد ديني-إيماني،و إخضاعه للصرامة العلميّة من نقد وتفكيك وإعادة بناء و تغيير...التي تخضع لها النتاجات المعرفيّة الأخرى.
إذن، أنّه عمل يستهدف استبدال هويّة النصّ عبر تحويله من ناطق باسم الإله إلى ناطق باسم تأويلات الإنسان وانتظاراته،وهي مغامرة تستهدف تحييد المنظومة العقديّة برمّتها وجهود الأقدمين الذين أصّلوا تلك الحقائق ،عبر إخضاع كلّ الظواهر بما فيها النصّ القرآني إلى مناويل التحليل التاريخي لنشأة الأفكار للتأكيد على تاريخيّة دلالة النصّ،ومن ثمّ العودة إلى القول بفاعليّة الواقع الإنسانيّ في صياغة النصّوص،وبالتالي إلى نسف قول المنظومة الأشعريّة بمفارقة النصّ القرآني و استبداله بمقولة الوجود الإنسانيّ من حيث كونه الوجود الحقيقي و كلّ مفارق له هو مجاز.مثل هذه التأكيد يفضي إلى تغيّر جذري في مستوى التعامل مع موجدات النصّ القرآني نعني بذلك قضيّة مسلّم بها في المنظومة الأرثودكسيّة-الإسلاميّة وهي الوحي،وهو تغيّر يعتبر مدخلا أساسيّا لتحقيق وعي علمي بالنصّ المقدّس وتجاوز الوعي الإيديولوجي الذي تتستّر وراءه الخطابات الأشعريّة أو حرّاس الرأسمال الرمزي.
3. الوحي كظاهرة تاريخيّة ...لها شروط إمكان
3. 1 جدليّة الوحي و قبليّاته التاريخيّة
إنّ المتأمل في ظاهرة الوحي يلاحظ أنّها تمثل فاتحة كلّ ظاهرة دينية عامة,سواء أكانت في أديان الوحي التوحيدي أو في غيرها من التجارب الدينيّة الأخرى,فالوحي يمثل حجر الزاوية في إثبات صدق النبوة,وهي التي أصبحت قناة الوصل بين السماء والأرضأنّه يدعى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت,وهذا المفهوم يشكلّ مجازا مركزيا وأساسيا,يشكلّ النظرة العمودية للإنسان المدعو بدوره للارتفاع إلى الله,أي إلى التعالي 
إنّ هذه المقدّمة ضرورية لأجل بيان أن مسلك دراستنا لظاهرة الوحي يتجاوز معالم التحديدات المدرسيّة للوحي,وهذا بالضبط سبب إحراجها و جدتها في الآن نفسه, فنصر حامد ،مثلا، وإن كان ينطلق في دراسته للوحي من ذلك التراث التوحيدي المثبت بشكلّ تَقوي ورع-لو استخدمنا مصطلح أركون-في المخيال الجمعي إلا أنّه يؤسس نظرة متميزة من خلال مجانبة النتائج المكرورة, فهو يسعى من وراء كلّ هذا إلى فهم و تبيّن المنشأ التاريخي و الثقافي-الواقعي لهذه الظاهرة بعدما استنفد السلف دراسة المنشأ الإلهي لها إلى حد الاحتراق. و في خضمّ هذه الدراسة يحاول تتبّع الوظيفة الإيديولوجية للوحي,و كيفية تسخير مثل هذه الآلية لأجل إضفاء التقديس على بعض التعاليم ذات الأصل التاريخي-الثقافي.وهو في هذا يوظف المفاهيم الجديدة التي أفرزتها الحداثة قصد تعقل ظاهرة الوحي من الناحية المعرفية –العلميّة،لأنّ مثل هذه الدراسة ستمهّد السبيل نحو "دنيوة" النصّ القرآني بمعنى تحويله إلى فعاليّة بشريّة تاريخيّة و ما يعني ذلك من مآلات في مجال مشروعيّة تداوله كشرعة مرجعيّة.
إن الأمر يتعلق بشيء لا يُسأل عنه في المنظومة السلفية/الأشعرية وهو مصدر الوحي,لأنّه شيء ألفه النّاس و اعتادوا قبوله,بحيث لم يفكر أحد داخل الحقل السلفي أن يبضعه موضع تساؤل أو استفهام أو مراجعة,لكن الأمر يختلف إذا ما اختلفنا إلى منظومة نصر حامد التجديديّة,فهو يضع هذه المسلًمة و غيرها موضع السؤال قصد إعادة الإجابة عنها بصورة حداثيّة, بصورة تأمل في أن تنشدّ إلى الحقيقة،بما هي حقيقة،وتتباعد عن الإيديولوجيا التي ينتجها الخطاب السلفي –فيما يزعم هو-,يقول نصر حامد في هذا المجال لذلك فإنّ هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور"و "المحرم" في الوعي الديني السائد و المسيطر,لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة…أنّه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى…مقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي,أي الثقافي التاريخي . ضمن هذه الرؤيا الحديثة للعلوم الإنسانيّة ترى النخب العربيّة ذات النزعة الاستشراقيّة إمكانيّة دمج ما اعتبر "بمعطى الوحي" ضمن التجربة العلمانيّة الغربيّة،هذه التجربة التي سارت ضمن مسار دنيوة المسارات الفكريّة الإنسانيّة و تجاربها عبر رفض المعطى الديني-المفارق،إلاّ أنّ أركون اعتبر أنّها مازالت تميل إلى احتضأنّه لأنّها لم تصل إلى مرحلة الرفض الجذري للبعد الديني و ليس الدين و مجمل عقائده
نتبيّن من خلال ما ورد صعدا أنّ منطلق الدراسة لخصوصيّة النصّ القرآني انبثقت مما هو ثابت متعيّن, وهو الواقع الأرضي لأجل أن ينفتح على المجهول,على الميتافيزيقا,على المتعالي الذهني-الاعتباري بما هو تصوّر بشري, و هذا يثبت لنا منذ البدء أن الحقيقة الثابتة لديه هي الواقع الأرضي-العينيّ-,فهو الشاهد ,أما الغائب أو المجاز أو المجهول فهو كلّ ما وراء ذلك, فالوجود "في"العالم قد أصبح الأساس الذي تقوم عليه فلسفة نصر حامد,فإذا عرفنا أن العالم هو أرضنا ,فمن ثمّ فهو كذلك التربة التي تنمو و تنبجس على سطحها الحقيقة  الواقع إذن هو الأصل و لا سبيل لإهداره,من الواقع تكون النصّ,ومن لغته و ثقافته صيغت مفاهيمه,ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته,فالواقع أولا و الواقع ثانيا و الواقع أخيرا.  ضمن هذا المنظور الواقعي يتحرك الخطاب "العلمي" في معالجة قضية الوحي,فبما أننا نعيش في هذا العالم الأرضي و نجربه,فما الذي يترتب عن القول بأننا قادرون على وضع مشكلّة التعبير عن تجربتنا بالعالم و حقيقتها بهذه الصورة ؟ يرى نصر حامد،مثلا، أن على الوحي بما هو تجربة وتعبير تقديم العبارة الأولى عن العالم, لكن في الوقت ذاته نعرف أنّ هذه العبارة الأولى ذاتها هي في الواقع شيء ثان بالنسبة إلى التجربة العينيّة بالعالم, و تتطلّب هذه المنهجيّة أن تكون كلّ العبارات المعبرة عن التجربة العينيّة و كلّ المفاهيم مستوحاة من التجربة,أي من تجربتنا بالعالم, هكذا يرى نصر حامد تجربة الوحي المحمدي, فهو يرى أنّ المعنى الحقيقيّ كامن في هذه التجربة,و من ثمّ يُطالب بالتخلي عن أي افتراض مسبق أو متعال,أي افتراض يسبق كلّ شيء,وخاصة التجربة في الواقع, أي يكون هو البداية والتبرير .
فالوحي عنده عمليّة اتّصال بين طرفين تتضمّن إعلاما-رسالة- خفيا سريا,و إذا كان الإعلام لا يتحقّق في أيّ عمليّة اتّصال إلا من خلال شفرة خاصة, فمن الضروري أن يكون مفهوم الشفرة متضمنا في مفهوم الوحي,و لابد أن تكون هذه الشفرة المستخدمة في عمليّة الاتّصال و الإعلام شفرة مشتركة بين المرسل و المتقبّل, أي بين طرفي عمليّة الاتّصال/الوحي . إن هذا المفهوم الذي يقدمه نصر حامد,هو مفهوم يستثمّر مفاهيم المنهج السيميوطيقي (علم العلامات) و قد استغل خاصة نموذج رومان ياكبسون لأجل تقديم هذا التعريف للوحي :
السياق –الرسالة
المرسل المتلقي
الصلة -الشفرة
لو ننظر في الكلمة المفتاح في التعريف السابق لوجدناها :الشفرة Code و الشفرة معناها  نظام من الإشارات-أو من العلامات أو الرموز- تستخدم,من خلال عرف مسبق متفق عليه, لنقل معلومة من نقطة-مصدر-إلى نقطة وصول. فعمليّة الاتّصال أيا كان نوعها يجب أن تتم على  أساس تواطؤ ثقافي ما أو تراث ثقافي يوحد بين جماعة من الجماعات الاجتماعية.  من ثمّ تبرز الإحالة دائما إلى الواقع, إلى نظام الثقافة السائد الذي من خلاله تستمد الشفرة قيمتها و مفهومها, بمعنى أن كلّ عمليّة اتّصال لا تنفك تتنزّل ضمن إطار اجتماعي/ثقافي ,تكتسب منه مشروعيتها,وهو العرف, بهذا نعود إلى نقطة البدء و هو النمط الإمبيريقي الذي يجد شرعيته في الواقع,و بذلك ربط نصر حامد الشفرة بعالم الواقع الخارجي
هذا التفسير يشير إلى إمكانيّة عمليّة الاتّصال/الوحي بين المرسل و المتقبّل لاشتراكهما في مرتبة الوجود و في الرابط الثقافي : اللغة و الشفرة المحققة لعمليّة الاتّصال, هذا المستوى الأول من الوحي ممكن الوقوع و نسلّم معه بإمكانيّته و ببداهة وقوعه, لكن إذا انتقلنا من هذا الحقل الواقعي-الإمبيريقي إلى الحقل الديني قصد إبانة مفهوم الوحي النبوي, فإن المهمّة تغدو أعقد ,لأنّها وطء في غابة من الموانع التي تراكمت عبر العصور لاعتبارات دينية/ثقافية حفت بالمصطلح فجعلته ممتنعا عن المراجعة والتغيير,حيث أُلبس رداء القداسة فاكتسب شرعية خفية, وهذا يؤدي بك جبرا أن تقوم بحفرياتك المعرفية وفي أفق منظورك كلّ تلك التصورات الحافة التي لا محيد عنها في الفكر السلفي لأنّها تستند إلى حرفية نصوصية،و خاصة أنّها تتعلّق بشرعيّة النصّ التأسيسي للحضارة الإسلاميّة.
تكمن الإشكاليّة في تلك المعارف الجاهزة التي وفدت علينا من الماضي, فلا نحيد عنها قيد أنملة انصياعا واحتراما لسلطة الدين علينا و التي نقرّ بمشروعيّتها الروحيّة و العقديّة و المعرفيّة, لكن نصر حامد شقّ "عصا الطاعة" معرفيا/إبستمولوجيا في هذا الحقل,من خلال طرح نوع من الأسئلة رآها مفيدة في مجاله هذا, أي مجال معالجة المفاهيم "المقدسة" محاولا النفاذ إلى الجديد من أرضية القديم,لأن التراث الديني ككتلة يختلف عن العلم كأداة-كما يذهب إلى ذلك عبد الهادي عبد الرحمن في كتابه سلطة النصّ- إن هذا يحيلنا إلى تناول مفهوم الوحي في الفكر الحداثي قصد السير قدما في تحرير النصّ القرآني من الارتهانات الطقوسيّة التي تمنعه من الاحتكاك بالواقع الأرضي-الحقيقي, فمعلوم أنّه في المنظومة السلفية/الأشعرية نجد أن مفهوم الوحي هو مفهوم مفارق,أي أنّ  الله يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاس.  لذلك يعتبر الوحي من الله,أي أن حركته كائنة من فوق إلى أسفل, و نزوله كان في معظمه ابتداء و ليس استجابة لواقع فرض هذا النوع من الوحي,من ثمّ فالوحي له وجود خطي/سابق في اللوح المحفوظ ثمّ ابتدأ نزوله عبر ملك الوحي جبريل.قال تعالى  نَزَل بِهِ الرُوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ 
القول الجامع في المنظومة السلفية في ما يتعلق بموضوع الوحي في نظر نصر حامد هو أنّ الوحي في الإسلام يشمل القرآن و السنة, والقرآن هو كلّام الله القديم و صفة ذاته الأزلية القديمة,وهو مدون في اللوح المحفوظ باللغة العربية قبل خلق السماوات و الأرض و قبل خلق البشر وقبل أن يكون هناك واقع فمنذ الأزل تركًب التنزيل على الوقائع في خطة إلهية محكمة معدة سلفا,وعلى ذلك لا أولويّة للواقع على الوحي ,و لا تأثير ولا علاقة ما دام علم الله شاملا للحاضر والماضي و المستقبل,و محيطا بالجزئيات إحاطته بالكلّيات واضح مما تقدم أن نصر حامد يمهد لنظريته الجديدة في الوحي, من خلال اتهام النسق السلفي/الأشعري بالفصل التام بين الواقع والوحي من خلال إهدار البعد الإنسانيّ و التركيز على البعد الغيبي ومن ثمّ التوجّه نحو تثبيت المعاني والدلالات و إضفاء طابع نهائيّ عليها تماشيا و مصدرها الغيبي,فلا يغدو هناك لجدل قائم بينهما نظرا إلى أن هذا الواقع ليس من صنع الإنسان بل هو محدد سلفا من قبل الله ,و ما الإنسان إلا منفّذ لإرادة الله الأزلية القديمة, فلا الإنسان حر و لا الواقع مخلوق بل قديم,و من ثمّ فالتنزيل-كما صرح هو مركب على الوقائع- و كلّ هذا تأكيد منه على جبرية النسق السلفي, وهو نسق مرفوض من قبله نظرا إلى مصادرته فاعلية الإنسان و إهماله للعلاقة الترابطية/التبادلية بين الواقع و الوحي, و تعيينه لأولوية الوحي و أسبقيته على الواقع وهو تأويل مقلوب في نظره لأنّ النسق السلفي يبقي على وضعيّة النصّ القرآني الأولى أي باعتباره كلاما إلهيّا مقدّسا،بمعنى الوقوف عند خصائصه النصّيّة المميّزة المتمثّلة في المرسل/قائل النصّ. وهو إبقاء يعتبره مفكّرو الحداثة لا يعني الكثير لأنّ المطلوب عندهم هو التعامل مع ظاهرة الوحي منذ اللحظة التي تموضع فيها بشريّا،أي لحظة النطق به من قبل محمّد  لأنّه في تلك اللحظة اكتسب مرجعيّته الثقافيّة من خلال السياق الثقافي الذي ظهر فيه و به و له.
بهذا الرفض للنسق السلفي سيأخذ بخُلفه و نعني به النسق الاعتزالي المعاصر في مستواه المنهجي لا المضموني, و الذي ينطلق مما هو كائن, و من ثمّ فمفهوم الوحي سيأخذ بعين الاعتبار مبادئ هذا النسق,ومن ثمّ يقوم بتصحيح هذا المسار وإرجاعه إلى استقامته المصادرة من قبل النسق السلفي.و لكن هل هذا التصحيح سيبقي على جدليّة النصّ مع الوحي المتعالي المنزل من قبل الله أم أنّه سيحول هذا التعالي إلى محايثة و نفقد بذلك الوحي و نبقي على الواقع أو آثار تموضعه البشري،ومن ثمّ نضفي على النصّ القرآني واقعيّة الوجود الإنسانيّ ذي الطابع النسبي الذي ينفر من الأحكام النهائيّة و المطلقة؟
فنصر حامد أبو زيد قد ابتدأ مما هو كائن و شائع في الجزيرة العربية قبل ظهور الوحي المحمدي, أي بدأ بدراسة المهمش في الفكر السلفي وهو واقع ما قبل الوحي,و لعل أهم ظاهرة كانت شائعة آنذاك وتستند إلى فكرة الاتّصال والوحي,هي الشعر و الكهانة لقد كان ارتباط ظاهرتي"الشعر و الكهانة" بالجن في العقل العربي, و ما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانيّة لاتّصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. 
إذن،ينطلق نصر حامد من نقطة أساسية في دراسة الوحي,وهي بيئة ما قبل الوحي avant révélation, وبما أن الوحي نزل في بيئة عربية و بلسان عربي,فأنّه لزم لفهم هذه الظاهرة الحفر في مخزون الثقافة العربية السابق لهذه الظاهرة الناشئة و البحث عن المشابه السابق لها, ومثل هذه الأبحاث التأثيليّة لازمة في نظر دارسي الآثار الأدبية,و لابد منها لفهم النصّوص المدروسة و الاتّصال بها اتّصالا مجديا,و من هنا لزمت المعرفة الكاملة بهذه البيئة العربية, مع ما يتصل بالبيئة من  ماض سحيق,و تاريخ معروف,و نظام أسرة,أو قبيلة,…أو عقيدة بأي لون تلونت  أي هي مغامرة من قبله للكشف عن جملة المرجعيّات المعرفيّة-الثقافيّة –الاجتماعيّة لإمكانيّة التواصل اللغوي ضمن حقل ثقافي،و من ثمّ إبراز الخصائص النصّيّة المميّزة له المصادرة في النسق السلفي-الأشعري،وهي الحقائق البشريّة و الاجتماعيّة و الثقافيّة و اللغويّة.
بهذا يكون نصر حامد و حسن حنفي و أمثالهما قد وظّفوا منهج التفسير الاجتماعي-التاريخي في تفسير ظاهرة الوحي,لذلك وقع عندهم أنّه لفهم ظاهرة جديدة في المجتمع وجب الرجوع إلى الأشكال الأولية للوحي,و بعد ذلك نصعّد السلسلة المنحدرة حتى نصل إلى الشكلّ الحديث المترتب عما قبله, يقول دوركايم  في كلّ مرة نحاول تفسير ظاهرة إنسانية مأخوذة في لحظة محددة من الزمن سواء أكان الأمر متعلقا بمعتقد ديني أو بقاعدة أخلاقية أو بأمر قانوني أو بفن جمالي أو بنظام اقتصادي,فأنّه يجب أن نصعد إلى شكلّه الأكثر بدائية و بساطة و أن نفتش عن الخاصيات التي تتحد بواسطتها الظاهرة في تلك اللحظة من وجودها ثمّ أن تبرر كيف تطورت و تعقدت و أصبحت على ماهي عليه في ذلك الوقت بالذات .  مما ورد صعدا تبرز نتيجة محورية في النهج التفسيري-التاريخي وهي أن الوحي لم يكن ليقع أو يُحترم أو يُتبع,لو لم تكن هناك جذور مثالية مُثبتة في الذهنية العربية,هذا هو الشرط الأساسي لقبول فكرة نزول الوحي على الرسول  ,فالشرط المادي-الاجتماعي أصبح له حضور أساسي في قبول فكرة الوحي, وبدهيّ إذن، أن غياب مثل هذا الشرط يترتب عليه حتما رفض ظاهرة الوحي اعتبارا للجدليّة القائمة بين الواقع والوحي,ولاستحالة قبول الذهن العربي لظواهر لم يجربها أو لم يمارسها أو لم يعهدها في محيطه الثقافي.لذلك يغدو الوحي ظاهرة ثقافية خاضعة لقوانين الواقع باعتبارها أصبحت متخارجة منه لا مفارقة لإحداثيّاته.إن هذا التفسير لظاهرة الوحي هو تفسير ظهوراتي,بمعنى أنّه يقف على أرضية الإمبيريقية وهذا يفضي به إلى الالتحام بالمنهج الديالكتيكي الماركسي, فنصر حامد قد استثمّر هذه المقولات لأجل تفسير ظاهرة كانت تعتبر في الفكر السلفي/المحافظ ظاهرة ميتافيزيقية, تفسيرا ماديا في حركتها و تحولاتها و تغيراتها وفي علاقاتها المتميزة,و هذا التفسير,في نظره,هو الأجدى للكشف عن حركية هذا المفهوم و واقعيّته المهدورة و الإلمام بكلّ ظواهره,دون الالتجاء إلى التجريد والبحث في المجهول عن تفسيرات واهية لا عقلية-في نظره- ترى أن تحقق الوحي متوقف على الشرط المثالي المفارق لا المحايث،ومن ثمّ يكون قد خطى الخطوة الأولى و الأهمّ في مسار دنيوة هويّة النصّ القرآني و تسطيح تعاليه و إدراجه ضمن السيرورة التاريخيّة للفاعل الاجتماعي.
3. 2 علوم القرآن بوّابة الدنيوة
من خلال هذا التأسيس يرى نصر حامد تميزه و تفرده عن غيره,من خلال تمكنه من تخطي الطوق الفكريّ السلفي, وإيجاد "تفسير علمي" للظواهر التي يُظن أنّها ساكنة في الميتافيزيقا,و الحال أن أصلها ثابت في الاجتماعي و الثقافي,و بهذا نصل إلى نتيجة أخرى,وهي أن نصر حامد يريد الكشف عن زيف التعالي الذي أضيف إلى الظواهر المادية.و يترتب عن النتيجة السابقة نتيجة لاحقة, وهي أن الإسلام ليس مسقطا على الواقع العربي في الجزيرة العربية,بل له شروط إمكان فهناك إرهاصات سبقت ظهوره, مما يؤكد فرضية جدليّة الموروث و الجديد الوافد و الاستناد إلى قاعدة توليد النصّوص من نصوص سابقة عبر آليّة التناص،التي تقرّ مبدأ التداخل و الاستيعاب ومن ثمّ تخريج نصّ جديد ليس القرآن بمنقطع الصلة مع الثقافة العربية السابقة لظهوره,وهو لم يتحول إلى حامل إيديولوجي جديد إلا عبر السيرورة الدينيّة التي اكتمل بها تكون الإسلام,وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأصل الاجتماعي السياسي والنفساني لكلّ موروث ثقافي,لتوضح لنا الجديد الذي أتته النبوة المحمدية على صعيد الثقافة العربية عموما 
إذن، يترتّب عن هذا القول أنّ الطريقة التفسيريّة الديالكتيكيّة,لا تختلف من حيث الأساس فحسب عن الطريقة التفسيريّة السلفيّة,بل ضدّها تماما,فحركة الوحي التي يشخصها الفكر السلفي تنحدر من أعلى إلى أسفل,بمعنى أن الغيب أو الميتافيزيقا يصبح هو صانع للواقع,و يغدو الواقع ضمن هذه المنظومة الشكل الحادثي للفكرة ,للوحي,للمثال,للنظام المتعالي,أما في نظر نصر حامد فعلى النقيض من ذلك,فحركة الوحي ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية
بهذا الموقف نتحسّس الجهود المضنية في سبيل إيجاد أسلوب قسري لتطويع النصّ المتعالي لمبادئ الدنيوة القائمة على أساس التاريخيّة و الولوج إليها من علم أسباب النزول من خلال جعل كلّ آية تتوسّل بواقعة اجتماعيّة لتشريع نزولها قصد نقض مبدأ النزول ابتداء و جعل النصّ ينشدّ إلى واقعيّة الوسط الاجتماعي باعتباره الحاضن له و الفاعل الأساسي لبلورة موضوعاته كلّ آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها,ولا توجد آيات أو سور لم تنزل بلا أسباب,و السبب هو الظرف أو الحادثة أو البيئة التي نزلت فيها الآية,و إن كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى إلى أسفل, فلفظ السبب إنما يعني الصعود من أسفل إلى أعلى,و لما كانت الآية لا تنزل إلا بعد وقوع السبب,كان الأدنى شرط الأعلى,و إن كثرة الحديث الخطابي عن واقعية الإسلام إنما نشأ من هذا الموضوع و هو"أسباب النزول"أسبقية الواقع على الفكر, وأولوية الحادثة على الآية,و المجتمع أولا و الوحي ثانيا,النّاس أولا و القرآن ثانيا,الحياة أولا و الفكر ثانيا 
يتضح إذن، الإشكال عند نصر حامد ،مثلا، في محاولته إيجاد المسوغات الاجتماعية-التاريخية للظاهرة الدينيّة,فهو يرفض الاعتراف بوجود ظاهرة مسقطة تفتقر إلى مقدمات اجتماعية,فالواجب الاعتراف بمحورية الواقع و النشاط الاجتماعي-المادي,في ظهور مثل هذه الأنماط من المعرفة,و يمكن أن أستثمّر هذه المقولة قصد التدليل على هذه الفكرة و توضيحها أكثر  قد يكون الدين حجرا مقذوفا في العالم,و لكن لا بد من أن يكون حجرا محسوسا وأن يقذفه شخص ما  إن هذا يذكرنا بالمبدأ العلمي القديم "لا شيء في العقل ما لم يكن من قبل في الحس." بمعنى أن الأشياء المؤلهة ذات أصول واقعية-طبيعية,و النّاس بوهمهم "يُغدقون" عليها صفة التعالي والقداسة,حين تثير فيهم مشاعر غير عادية,إن هذا الذي يفضي إلى إقرار صراع حقيقي بين اتجاه نصر حامد الواقعي-الظهوراتي الجدلي و بين الاتجاه السلفي المحافظ, من ثمّ فالإشكال في نظر باحثنا هو كيف يتسنّى التعامل سوسيولوجيا مع الفكرة أو الحقيقة غير المادية,كفكرة الوحي أو فكرة اللوح المحفوظ و كلّ ما يشكلّ أصول الفكر السلفي ذي الاتجاه المتعالي؟
إن النظرية التقليدية بما هي نظرية تنشد إلى المتعالي, تجعل بعض الظواهر الدينيّة خارج حدود الدراسة العلمية,بدعوى أنّها مواضيع احترقت بحثا من جهة,و أن البشري لا يمكنه الإحاطة المدركة بالمتعالي من جهة أخرى,من ثمّ فالموضوع المحوري في المنظومة التقليدية,هو الإيمان بالله الواحد المتعالي,و يعتبر هذا الاتجاه أن التسليم بتلك الحقيقة جوهري لأنّه يلعب الدور نفسه الذي لعبته الإيديولوجيا الغربية المضادة (الدنيوية) التي وضعت الإنسان في مركز المجتمع و الكون بدلا من الله وفق عقيدة التوحيد الإسلامية .  إن هذه النظرية و بهذه الطريقة تصل إلى الإقرار بأن المجتمع الإسلامي يتميز عن غيره من المجتمعات بأنّه لا يخضع لما تخضع إليه من قوانين التطور,ومثل هذا الفهم يفضي بالمجتمع الإسلامي إلى الارتفاع بظواهره عن مستوى البحث الإنسانيّ,يقول أحد أنصار هذه النزعة إن المجتمع في الإسلام إنما ينبثق من التلازم الوثيق بين التصور الاعتقادي و طبيعة النظام الاجتماعي …ذلك التلازم الذي لا ينفصل و لا يتعلق بملابسات العصر و البيئة …يتميز المجتمع الإسلامي عن المجتمعات الأخرى التي نشأت وفق مقتضيات أرضية و نتيجة صراع داخلي,و مصالح متعارضة …و لذا فليس يندرج تحت تأريخ التطور الاجتماعي ولا تصدق عليه القوانين الاجتماعية التي تصدق على أوروبا.فهو مجتمع شريعة كاملة.  من ثمّ يتّهم الفكر السلفي حينما يتطرق إلى الظاهرة الدينيّة بقصر تدخله على الاتجاه الوظيفي أو الخاص بأثر الدين في بقية الظواهر الاجتماعية أو التغيرات الحادثة,و لا وجود لردة فعل من الواقع تجاه هذه الظاهرة, بمعنى لا وجود لجدليّة بين المقدس و الدنيوي
أما النظرية الخُلف فأنّها تحشر الوحي كظاهرة دينية ضمن البعد التاريخي و الوعاء الاجتماعي الذي تتفاعل فيه وتنمو الظاهرة داخله و بحسب شروطه و معاييره الثقافي,بحيث تعالجه غالبا كموضوع "أنتروبولوجي" لا "تيولوجي",أي كموضوع يخضع للشروط التاريخية المتحكمة في الظواهر الاجتماعية الأخرى,بمعنى أنّها تبحث عن التأثير المتبادل بين الدين و الظواهر الثقافية المحايثة له, و رغم أن المنهج المؤنسن:الاجتماعي-التاريخي يواجه إشكالية المتعالي والأرضي, أو الطبيعي و الميتافيزيقي,أو البشري و الإلهي, إلا أن قول الشهرستاني إن النصّوص متناهية و إن الوقائع غير متناهية,وإن المتناهي لا يحكم غير المتناهي. يعرض إمكانيّة غلبة الواقع على النصّ, ومن ثمّ يمكن تناول الظواهر الدينيّة اجتماعيا, أي البحث في الوشائج الكامنة بين الواقع و النصّ المقدس, وهذا مدخل يتسنّى من خلاله تقليص المسافة بين المطلق و النسبي,و يرى أحد المفكريّن العرب صلاحية هذه الفكرة: أي متانة العلاقة بين النصّ و الواقع ويرى أن أسباب النزول دليل على أسبقية الواقع على النصّ.من هذه النقطة بالذات ينطلق نصر حامد في مقاربة الظاهرة الدينيّة في المجتمع العربي الإسلامي من خلال طرح هذا السؤال :لماذا تظهر أفكار أو عقائد بذاتها في زمان و مكان معيّنين؟ هل أنّ نشوء هذه الظواهر متولد عن فراغ أم أن هناك إرهاصات اجتماعية-تاريخية مهدت انبجاسها في المجتمع بتلك الصفة و بتلك الكيفية؟
إن إجابة نصر حامد كانت مشبعة بالمنهج الواقعي,فآثر عدم التسليم و الإيمان بالمسلّم به,و أكد أن الوحي كظاهرة دينية جاء في بيئة محددة و في زمن تاريخي له شروطه الخاصة,هذا و قد ظهر الإسلام بواسطة آلية الوحي,و الأحوال في مكة و الجزيرة العربية تُنبئ بإمكانيّة قبوله اعتبارا للحاجة إلى منقذ ومخلِّص,و تنجح الظاهرة الدينيّة عندما تكون الظروف مهيأة لقبول و اتّباع ذلك المنقذ و الامتثال لمقولاته و تعاليمها التي جاءت معبرة عن الحاجيات الروحية و المادية المتعطشين لها. وتتساند اللحظة التاريخية مع عوامل ذاتية تكمن في شخصية المنقذ ومضمون تعاليمه و سبل تطبيقها و إبلاغها في عمليّة نجاح الدعوة .
إن أولى المسوغات التي توسل بها نصر حامد لأجل إثبات واقعية الوحي و تاريخيته,هي الأوضاع والمؤثرات الفكريّة و العقدية التي كانت سائدة في مكة قبل الإسلام,من هذه المؤثرات شيوع ظاهرة الكهانة والإيمان بالجن فهذا القول بوجود جدليّة بين آلهة العرب و آلهة القرآن –لو استعملنا مصطلح خليل أحمد خليل- قد اتخذ شكل سيرورة في خط تصاعدي, فليس التالي بناف للسابق,بل على النقيض من ذلك ,فهو يرى وجود ترابط وجدليّة على مستوى المفاهيم,فلولا وجود تصور سابق في الذهنية العربية عن إمكانيّة الاتّصال بين البشر والجن,لا استحال الإيمان بإمكانيّة وقوع الوحي,هكذا نعود إلى المقولة الرئيسية في فكر نصر حامد وهي أولوية الواقع,فالواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا-كما يصرح هو في كتبه-.هنا يكمن المعنى الحقيقي في منظومة نصر حامد حول الوحي,فهو يطالب بالتخلي عن أي افتراض متعال مسبق،ومن ثمّ يدفع بتحليلاته نحو إيقاع تصوّر مناقض للسائد حول النصّ القرآني،أي القول بدنيوته بدل مفارقته.
4. ينبغي أن نهجر ...مفهوم "كلام الله"
4. 1 تشويش مفهوم "كلام الله"
الواقع أنّه حينما يتكلّم المفكّر "الحداثي" عن التخلي عن أي افتراض إنما يقصد في الحقيقة افتراضا يسبق كلّ شيء آخر,أي يكون هو البداية و التبرير.هنا يفترض أننا لا نبلغ المعرفة إلا ابتداء من هذه التجربة –الواقع-. في هذا الافتراض يكمن ما يطالب به أمثال نصر حامد من التخلي عن كلّ افتراض,و معنى هذا أن منظومته تتضمّن افتراضاتها الخاصة بها,و الافتراض الذي يرفضه نصر حامد هو افتراض الخطاب السلفي الذي يفصل بين النصّ القرآني و الواقع الإنسانيّ ومن ثمّ ينخرط في الدعوة إلى تطبيق نصّ مطلق على واقع مطلق وهي دعوة تفترض عنده وجود خلفيّة إيديولوجيّة تدعمه وهو الإبقاء على النموذج المسيطر قصد الحفاظ على مشروعيّتهم الواقعيّة كحرّاس للرأسمال الرمزي ومن ثمّ يغدو فهمه الموضوعي للنصّ القرآني فعلا تحريريّا وتنويريّا للمتحجّب من القضيّة وهو الجانب التوظيفي للنصّ من قبل الفئة المحافظة،أي المؤسّسة الدينيّة و جملة القوى المحافظة التي تعتقد أنّها تقوم بحماية العقيدة ،وفي الوقت ذاته يريد إبانة هذا المنظور الدنيوي-الدهري الذي يصدر عنه مفهوم الوحي ومن ثمّ يحرّر النصّ القرآني من إهابه القديم " التعالي" قصد دفعه إلى الظهور في صفته الجديدة وهي النصّ الدنيوي-الواقعي.
لو نستخدم المنهج السيميوطيقي لفهم ظاهرة الوحي,لتبدى لنا أن سيطرة نص من النصّوص متصل بمرحلة معيّنة من مراحل تطور الثقافة إلا أنّه يجب التأكيد أن مثل هذين الاتجاهين يمكن أن يظهرا متعايشين في نفس الفترة التاريخية ,ويؤسس التوتر أو التفاعل القائم بينهما أحد الآليات الهامة للثقافة ككلّ.و يمكن لأحد الاتجاهين أن يسيطر على الآخر,لا بمعنى أنّه الإزاحة و الإلغاء ,بل بمعنى أن الثقافة تنحو ناحية أبنية نصية معيّنة تكون هي الأبنية المسيطرة. تبعا لضرورة الواقع تبعا لجدليّة الظهور و الخفاء.
من هذا المنطلق يظهر لي أن نصر حامد يدحض مقولة الخطاب السلفي التي تتجه إلى إنكار القاعدة القبلية لظاهرة الوحي و تنفي عنها كلّ تاريخية,لتجعل منها ظاهرة فوقية مفارقة,مُنزّلة من واقع علوي,هو في اعتقاده مصدر الحقيقة,بمعنى أن هناك إنكارا لجدليّة السابق و اللاحق التي بموجبها يتواصل هذا الأخير مع المحدث .من هذا نصل إلى مغزى نصر حامد,وهو نفي التاريخ التقليدي /السلفي الذي يجعل من الوحي حقيقة مطلقة منزلة من خلال إلغاء ذلك التراث قبل-إسلامي الذي تخارج منه,وهو في هذا يتساوق مع التحليل السيميوطيقي الذي يؤمن بفاعليته في مجال تحليل الظواهر و النصّوص,حيث يقول إن التاريخ التقليدي للثقافة يعتد دائما بالنصّوص الجديدة في كلّ فترة تاريخية,النصّوص التي أبدعها ذلك العصر , غير أنّه في الوجود الحقيقي للثقافة تقوم النصّوص المتوارثة من نفس التراث الثقافي بوظيفتها جنبا إلى جنب مع النصّوص الجديدة ..وإذا كانت سرعة التطور الثقافي على المستويات الاجتماعية المختلفة غير متماثلة,فإن حالة الثبات التاريخية للثقافة يمكن أن تتضمّن حركتها التاريخية المتعاقبة و الإنتاج الفعال للنصوص القديمة. 
إذن,نفهم أن الوحي أصبح مرتبطا بالثقافة و بمقتضياتها و تحولاتها,فهو مرتبط بالواقع,خاضع لقواعد التشكيل والتفكير,و أن الخضوع الذي يستسلم له مفهوم الوحي تجاه المتواضع عليه اجتماعيا ليس مرده القوة المادية التي يمتلكها المجتمع لفرض مثل هذه المناهج بقدر ماهي راجعة إلى نوع من الاحترام و الاعتبار لمقاييس الثقافة السائدة بهذا أخلص إلى القول أن نصر حامد يرى أن مفهوم الوحي عند السلف هو فهم غير حداثي,نظرا إلى أنّه انبنى على أرضية ميتافيزيقية,تتعالى على الواقع,إن لم تكن تغيبه تماما,لذلك عمد نصر حامد إلى خلخلة هذا المفهوم قصد استبداله بمفهوم أكثر تنويرا في نظره,من خلال الانخراط في التأكيد على أولوية الواقع الإمبيريقي,و اعتبار العنصر الثقافي في مستوى تشكيل المفاهيم,نظرا إلى أن كلّ مفهوم خرج عن تحديدات الثقافة و الواقع-المادي,لا يمكن الاعتداد به,أو اكتساب شرعية الوجود،فلا بدّ من التموضع البشري له. إن مفهوم الوحي في منظومة نصر حامد التجديديّة,لا يكتسب صفة التعالي والثبات كما في المنظومة السلفية,بل أنّه يكتسب نسقا ديناميكيا,تماهيا مع صورة الواقع الحركي,الذي يرمي إلى إنتاج الأفكار الاجتماعية,ثمّ إعادة صياغتها مع تغير الظروف الاجتماعية,وفق منظور جدلي,أي هناك استمرارية هذا النشاط مع استمرارية تطور الواقع.فالوحي قد غدى ظاهرة اجتماعية خاضع للتغيرات المتحكمة في الوجود البشري.هذا في نظره هو المفهوم الأنواري للوحي،فبالاستناد إلى سلطة العقل يكتسب الحاضر التاريخي المتجدّد له القدرة على صياغة القوانين التي تناسبه و التي لا تهدر خبرة الماضي بقدر ما تستوعبها استيعابا مثمّرا خلاّقا ،عبر جدليّة الظهور و الخفاء و مفهوم النسخ في معناه النسبي "الإلغاء الوظيفي-الوقتي"،و من ثمّ يغدو النصّ القرآني نصّا دنيويّا و ليس ظاهرة غيبيّة مفارقة أو خارقة،بل بصفته ظاهرة مشروطة محايثة،بمعنى جعله ممارسة خطابيّة هي في المنتهى فعاليّة بشريّة تاريخيّة دنيويّة دهريّة تحمل شروط إمكأنّها الثقافيّة و الاجتماعيّة و المعرفيّة،بهذا الاستبدال يتسنّى نقل النصّ من حقل التوجيه الإيديولوجي إلى حقل الوعي العلمي به،بعد أن تبدّدت كلّ مفاهيم التعالي التي تشوّش على هذا الوعي.
4. 2 تجديد الهويّة: تحويل النصّ القرآني من التوجيه الإيديولوجي إلى الوعي العلمي
من هذا المنطلق رأى نصر حامد أنّ النصّ القرآني يحمل تاريخ ميلاده و إشكالية عالمه الذي ولّى لذلك فإن الفهم الداخلي له لا يكفي, بل لا بد من الاستعانة بالحاضر من حيث هو إنتاج لمناهج و نظريات تفيد في دراسة النصّ القرآني وإعادة قراءته قراءة معاصرة,و بما أن الحاضر قد هيأ مداخل لدراسة النصّوص فإن نصر حامد قد ارتأى ركوب المنهج الأدبي غايته من ذلك تحقيق وعي علمي بالنصّ,نظرا لأن هذا المنهج هو الوحيد القادر-في نظره- على تحقيق مثل هذه الأهداف المرجوة،حيث يؤكّد أنّ الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني, من دون اعتبار ديني,هو ما يعتده و تعتده الأمم العربية أصلا,العربية اختلاطا,مقصدا أولا,وغرضا أبعد,يجب أن يسبق كلّ غرض و يتقدم كلّ مقصد. فالدراسة الأدبية –ومحورها مفهوم النصّ- هي الكفيلة بتحقيق "وعي علمي" نتجاوز به موقف "التوجيه الإيديولوجي" السائد في ثقافتنا وفكرنا.
من خلال هذا ندرك هذا النفس الصارم و الحاسم للمفكّر الحداثي في ما يخص منهج تناول النصّ القرآني,حيث اعتبر أن المدخل الأدبي هو الأساس في تناول النصّ,لأنّه يريد تحقيق طفرة منهجية نتجاوز بها المماحكات الجدالية التي التصقت بالنصّ القرآني,وهذا بدى جليا في عباراته المتواترة في كتاباته :هو ما نعتده, مقصدا أولا, أن يسبق كلّ غرض, بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي,نتجاوز به موقف التوجيه الإيديولوجي.أول شيء يمكن تدوينه أن النفس العلمي الذي يؤكد عليه باحثنا قد خأنّه من الوهلة الأولى,نظرا إلى أن العبارات المستعملة فيها نفس الحسم و الإقصاء فلا تدع مجالا أرحب للمناهج الأخرى حتى تسود, بل سلبها كلّ فاعلية,و اتهم النهج السائد بالإيديولوجيا و خيانة النصّ تحقيقا لمصالحه,من هنا أؤكد أن الطريق العلمي الذي يسلكه المفكّر الحداثي هو طريق ضبابيّ لأنّه يوقعه في الإيديولوجيا التي يحاول هو إقصاءها,وهذا يعود إلى تداخل الهمّ المعرفي مع الهمّ الإيديولوجي عبر تطويع الكلام الإلهي لمفهوم الدنيوة عبر نفي التعالي عنه والقداسة قصد التصرّف فيه بالإلغاء أو التعديل أو التأويل الذوقي-الذاتي-النفعي و اعتباره نصّا مساويا لبقيّة النصّوص دون اعتبار للمصدريّة.
إذن الحقيقة الأولى التي ينطق بها نص نصر حامد هي أن القرآن نص لغوي-مُنْتَج ثقافي ,وهذا ما يجعل نصر يبتعد بالنصّ عن مناطق التقديس و الأسطرة,فالنصّ القرآني له مدلول لغوي-ثقافي و بذلك يستبعد كلّ المصطلحات المشحونة بالتقديس و التعالي:الوحي الإلهي,أو القدسي,أو النبوي. فالمتتبّع لكتب نصر حامد يجد أن المتداول لديه مصطلحات تحيل إلى الواقع,إلى الآن,إلى الأرض,ولا وجود لمصطلحات دالة على التعالي و الإلهي إلاّ في سياق النقد أو إعادة تأويلها لجعلها محاولة من الإنسان لتجاوز اغترابه في هذا الوجود،ومن ثمّ تحويل اللاهوت إلى أنثروبولوجيا و الإلهيّات إلى إنسانيّات,وهذا دليل منه على تبني النظرة الحديثة في التعامل مع النصّوص التي هجرت الطريقة التقليدية الملتصقة بالقدسي و بالحقيقة والملتفتة إلى المرسل,و هي محاولة من المحدثين للخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي يسجن المعنى في الواحد و يلغي كلّ إمكانيّة للتعدّد والاختلاف,لكن هذا النزوع نحو الاختلاف لا يتم  دون عمل نقدي يطال بالتحليل و التفكيك الخطاب القرآني والممارسة النبوية.  و محاولة "التيه"هذه خارج أطر السائد يقف وراءها سؤال مركزي:كيف نفهم النصّ القرآني فهما تنويريا؟ في هذا المجال يقول نصر حامد  البحث عن هذا المفهوم و بلورته و صياغته لا يمكن أن تتم بمعزل عن إعادة قراءة"علوم القرآن" قراءة جديدة باحثة منقبة  بهذا يصل كلّ مفكّر ينهج نهجه إلى موقف خطير يخص تراث الحضارة الإسلامية المتعلق بعلوم القرآن و علوم الحديث,ومحاولات السلف في استنباط آليات مساعدة لفهم النصّ بأنّها  محاولة لجمع هذا التراث المتنوع في مجال "النصّ"… و لم تكن هذه العمليّة في حقيقتها سوى استجابة حضارية لموقف فرض على العقل العربي الانسحاب إلى الداخل و الاعتصام داخل حدود علوم "النصّ" و العكوف على الثقافة و الفكر يحميهما من الضياع ويحافظ عليهما من التشتت. لكن أي تراث وقع جمعه-في نظره- أنّه التراث الرجعي على هذا الأساس تغدو مصنفات"الزركشي "-البرهان في علوم القرآن-و "السيوطي "-الإتقان في علوم القرآن-تراثا رجعيا في نظر داعية الوعي العلمي,أنّها مصنفات جمع و حفظ و هو حفظ رجعي-سلبيّ في نظره، وهذا الرأي الذي يصدره نصر حامد يرتدّ إلى اعتداده الأعمى بالمنهج السيميوطيقي دون أن تكون له القدرة على التفريق بين ما يمكن تطبيقه على التراث الإسلامي وبين ما لا يمكن التوسل به منه  أنّه لأمر يستحق الذكر أن أحد أشكال الصراع الاجتماعي في مجال الثقافة هو الطلب الملزم بإغفال جوانب معيّنة من الخبرة التاريخية.إن عهود النكوص التاريخي…عندما تفرض على الجماعة خططا من التاريخ ذات طابع أسطوري طاغ,تنتهي بأن تطلب إلى الجماعة أن تغفل النصّوص التي لا تندرج في مثل هذا التخطيط,هذا بينما تنتج التكوينات الاجتماعية-إبان عهد التقدّم-نماذج مرنة وفعالة,تزود الذاكرة الجمعية بإمكانات عريضة,و تساعد على تمددها و اتساعها. 
4. 3 من اللغة الدينيّة إلى الحاجة إلى ألسنيّة خاصة و تيولوجيا جديدة
إنّ الناظر في هذه المصنّفات يجد خلاف ذلك فهؤلاء قد أسّسوا علوما وابتكروا مصطلحات ووظّفوا أساليب وأجهزة مفاهيميّة قصد تحليل النصّ القرآني و فهمه فإذا كان هذا التمشّي المعرفي الذي سلكه السلف في نظر باحثنا يشكلّ مجرد حفظ رجعي وجمع سلبيّ,فما الشيء الذي أنجزه هو في مجال قراءته للنص.؟ أقول بداية أن نصر حامد قد سلك النهج الحديث لللسانيات التي ظهرت في هذا القرن, التي أكدت ضرورة خضوع المعنى للتهدم والتفكيك و الانتقال من نص الفقهاء القديم إلى نص جديد,من فكر ماورائي إلى فكر واقعي,من ثمّ يمكن التأكيد أن هذا الهجوم على السلف هو هجوم على النزعة الميتافيزيقية التي تنبعث من كتاباتهم.
من المؤكد أن لدراسات أمين الخولي الأدبية و المتعلقة بأنماط التفسير,أثر كبير في بلورة منهج نصر حامد في"مفهوم النصّ" وهذا المنهج الأدبي يقوم على التمشي التالي:  إذا كان وجه الرأي أن هذا التفسير الأدبي ينبغي أن يتناول القرآن موضوعا موضوعا,لا قطعة قطعة,فعلى هذا الأساس يكون منهج التفسير الأدبي إذن صنفين من الدراسة,كما هي الخطة المثلى في درس النصّ الأدبي وهذان الصنفان هما:1 دراسة ما حول القرآن 2 دراسة في القرآن
كما سبق و أن ذكرنا فإن نصر حامد يصف النصّ القرآني بأنّه نص لغوي,و لننظر في هذا المصطلح"لغوي" إننا نجده أنّه وصف عام-مطلق,يمكن أن ينسحب على أي نص,وهذا الوصف بالتالي لا يبرز خصوصيات هذا النصّ المراد تناوله,فكلّ نص يستعمل اللغة,لأن اللغة هي جسد النصّ وهي الحاملة للمضامين,وهي واحدة في كلّ النصّوص  نعم إن النصّ واحد من حيث انتسابه إلى مؤلفه ,وهو أيضا وخاصة,واحدا بصورته الصوتية و الكتابية ,أي من حيث كونه أصواتا مسموعة و كلّمات مرئية …لنقل أن النصّ متماثل في الأعيان,مختلف في الأذهان… من ثمّ يغدو مصطلح"لغوي" غير دقيق وفي غير محله,فنصر حامد أراد من خلال هذا المصطلح تنزيل القرآن ضمن الدرس الأدبي أي إدراجه ضمن تصنيف وضعي,يبتعد به عن كلّ التصنيفات السالفة,لكن العبارة الدقيقة قد خانته,أنّه يريد الابتعاد عن كلّ مصطلح مشحون بلغة دينية كـ:ديني,مقدس,لاهوتي…يقول نصر حامد وفي أقسام اللغة العربية لا مدخل لدراسة النصّ القرآني إلا من أحد جانبين الجانب اللغوي أو الجانب الأدبي,وهذان الجانبان ليسا منفصلين في مناهج الدرس الأدبي المعاصر لكن كان بالإمكان الإبقاء على وصف ديني لأن هذا الوصف لا يعد حاجزا أمام دراسة القرآن من وجهة نظر أدبية أو لغوية كما يحبذ هو أن يقول.فالقدماء لم تمنعهم الصفة القدسية أو الدينيّة للنص من جعله  مادة للبحث العلمي و اللغوي أو الدراسة الأدبية و البلاغية,فضلا عن المباحث الفقهية والكلّامية و الفلسفية أو العرفانية
لكن الغريب أن يصدر عن داعية التجديد و الوعي العلمي بالنصّ,قولا يؤكد فيه أن المنهج اللغوي هو المنهج الأوحد القادر على تحقيق هذه الغاية المرجوة لأنّ  المفتاح الوحيد أمام الدرس العلمي هو درس "الكلّام" الإلهي من خلال تحليل معطياته في إطار النظام الثقافي الذي تجلى من خلاله,و لذلك يكون منهج التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد الإنسانيّ الممكن لفهم الرسالة و لفهم الإسلام من ثمّ. إنّ هذا القول له مأزقه الخاص به و الذي يتجلى في السؤال التالي الذي نطرحه:هل كون النصّ القرآني تشكلّ ضمن منظومة ثقافية عربية يجعل من المنهج اللغوي هو المنهج الأوحد للدراسة؟من المستهجن أن تقتصر دراسته للنص القرآني على المنهج اللغوي دون غيره,خاصة و أن القرآن نص واسع يفيض عن كونه نصا أدبيا,ليشكلّ فضاء تأويليا و حدثا ثقافيا-كونيّا هائلا ترك تأثيره في الثقافة العربية و في الثقافة الإنسانيّة قاطبة
إن التشبث بمنهج واحد و الامتناع عن قبول فاعلية المناهج الأخرى يفضي إلى قصور منهجي ومعرفي,ذلك أن كلّ منهج مهما كانت درجة فاعليته يتجه رأسا إلى كلّ ما يتماثل مع مقدماته و يهمل البقية إما لعجز في المنهج أو قفزا على الحقائق بصورة مراهقة التي لا تتوافق و مسلماته,من ثمّ فأنّه سيترك فراغات و مناطق دون تحليل ودراسة,ذلك هو عيب المنهج الأحادي أنّه الاختزالية,بهذا تبرز أهمية التعدّدية المنهجيّة في دراسة النصّوص التأسيسية/القوية حتى يتسنّى لنا استخراج المعاني والتوغل فيها إلى المناطق الغائمة.
فهذا محمد أركون مثلا يوظف "ترسانة" من المناهج تعد ضرورية في نظره لأجل التصدي للنص القرآني,وهو دائم البحث في الفتوحات العلمية عن الجديد الذي قد يساعده على النفاذ إلى المناطق العصية  إذ نستعين بالعديد من العلوم و المناهج القديمة و الحديثة معا فإننا نهدف إلى تجاوز الصرامة النظرية و النزعة الاختزالية التي تلام عليها علوم الإنسان و المجتمع. فمحمد أركون يوظف مثلا المنهجيّة الألسنية والاجتماعية-النقدية Sociocritique و التحليلات البسيكولوجية-النقدية psychocritique و المنهج التاريخي-الأنثروبولوجي كذلك المنهج الفلسفي النقدي حيث يستعين بحفريات ميشال فوكو: المنهج الأركيولوجي,المنهج التفكيكي لجاك دريدا " من ثمّ فهذه التعدّدية المنهجيّة لها أهميتها في فتح آفاق معتمة في النصّ و تفجير إمكانيّاته  فلا مجال للحصر في عصر تتداخل فيه العلوم و تنفتح الميادين المعرفية بعضها على بعض,خاصة و أننا نشهد اليوم نشوء ميدان معرفي موضوعه الخطابات و النصّوص ذاتها,سماه الغربيون "نظام الخطاب" أو"نظرية" النصّ و أخذ بعضنا,نحن العرب يسميه "علم النصّ"  من ثمّ نقول أن الدراسة الأدبيّة وحدها قاصرة عن الإلمام بكلّ جوانب النصّ القرآني المعلنة والخفية اعتبارا للفروق الآنفة الذكر,لا يمكن حصر تعاملنا مع النصّ القرآني في مستوى الطابع الأدبي,بمعنى وجوب توظيف آليات أخرى نتوسل بها لفهم النصّ,نظرا إلى أن القرآن ينفتح على عدة ميادين,ينفتح على السماء كما ينفتح على الأرض, من ثمّ وجب هجر النسق الأحادي و مجاورة النسق التعدّدي حتى نحقق الوعي العلمي بالنصّ و الفهم الموضوعي له التي ينادي بها نصر حامد و كثيرا ما يتنكب الطريق نظرا إلى تعلقه بالمنهج الأحادي. لهذا إن تعاملْنا مع النصّ الديني باعتباره نصا أدبيا واستخدمنا مناهج اللغة وفقهها…سيظل هذا التعامل قاصرا و يحتاج إلى البحث في بنية الاعتقاد الإنسانيّ من الناحية التاريخية أو ذلك الجانب الأسطوري التخيلي الذي يصبغ كلّ العقائد الدينيّة بصبغة اليقين المطلق.  فرغم كلّ المحاولات لتنزيل الظاهرة القرآنية منزلة الظاهرة التجريبية فإن هذه المحاولات لا تشفي غليلنا عند التصدي للنصوص الدينيّة,وخصوصا للجانب الميتافيزيقي أو الغيبي و الذي يميز عمليّة التراكم التاريخي (الطولي) في ما يخص النصّ الديني.  لذلك يمكنني القول أنّه لا يرجى فهم النصّ القرآني ومن وراءه التراث الإسلامي إلا بالانفتاح المنهجي,فليست الإلفة بالمنهج سوى فاتحة للقراءة الميتة-المؤدلجة التي لا ترى إلا نفسها في النصّ.بهذا يمكن القول أن النصّ و ليس الواقع هو الذي يراودنا على قراءته قراءة منتجة لأن النصّوص التي تحيل دائما إلى الواقع لا تمثل سوى مرآة عاكسة,وهذه النصّوص الملتصقة بالوقائع تنتهي بتغير الوقائع,وتغدو وثائق مُتحفية,تعبر عن ماض سالف مات وانتهى,و لا تستطيع تجديد إهابها نظرا لصلتها الحميمية بالواقع الذي أنتجها.لذلك وجب تحويل القراءة للنصّ القرآني من القراءة التأريخيّة –قراءة نصر حامد- إلى القراءة التآريخيّة Historicité و الفارق ليس هيّنا بين القراءتين،فالأولى تحيل إلى التثبيت ومن ثمّ التقويض،في حين أنّ الثانية تطمح إلى القراءة الوظيفيّة و التجديديّة للنصّ.
ندرك من خلال ما تقدّم،أنّ الجهد الوظيفي الذي بذله نصر حامد قد أفضى به إلى السقوط في الزمن التأريخي بصورة سلبيّة-ساذجة،لأنّه لم يحاول استبدال العلاقة مع النصّ القرآني الحاضر من علاقة خضوع التي تفضي إلى حاكميّة التكرار والاسترجاع السلبييْن لحدث الأصل السابق وهو ما يعني جمود الفكر عند حدث اللحظة الأولى ووحدانيّتها وسلامتها من التأويل أو التفكيك،إلى علاقة تآريخيّة قائمة على أساس الحوار و التبادل و التجاوز إن اقتضت الضرورة التاريخيّة ذلك،ومن هنا كان بإمكأنّه أن يصوّب جهده لا إلى الفهم التزامني للآيات و ما ارتبط بها من أسباب نزول بل إلى الفهم المقاصدي-التأويلي،لذا تتحوّل العلاقة مع الأثر و مع المرجعيّة الأهليّة أو الغربيّة من مفهوم التكراريّة السلبيّة إلى مفهوم القابليّة للتكرار والاسترجاع بمفهوم الاختلاف و التغيير و المضاعفة،بما يعني قراءة ما لم يقرأ والتفكير في اللامفكّر فيه والمستحيل التفكير فيه،وهذا يسمح بإقامة مسافة بين زمن الحدث الأصل و زمن الاسترجاع و الاختلاف ويسمح كذلك، بالمضاعفة بما يعني التحوير أو الزحزحة أو الإضافة،أي اختراق للدائرة التقليديّة للحدث أو للمعنى قصد التمكّن من تأسيس عنوان جديد و إعادة الإنتاج و التمثيل والاقتباس، ويعطي هذا دلالة واضحة بأن لا إمكانيّة لاستنساخ الحلول من المدوّنة التراثيّة دون تعقيب أو تأويل أو قراءة واعية،بل تتطلّب عمليّة التواصل مع هذه المدوّنة بأصولها و نصوصها الثواني استيعابا واعيا لتلك المنظومة بما يتيح إنتاج حلول لم يعرفها الماضي الخاص ضرورة.يؤسّس هذا القول لإمكانيّة المساهمة في التنمية والاستجابة لمطلب العصر،ويفتح هذا القول المجال لأفق التراكم دون أن يعني هدما للنصّ أو لقدسيّته و هويّته المفارقة،بما يعني الابتعاد عما يقوم بتكراره،ومن ثمّ يغدو التكرار ليس سطحيّا أو مبتذلا بقدر ما يعني فعل التغيير بإحداث شيء جديد أو إثبات معنى مختلف يساعد على فهم النصّ بصورة أكثر تطوّرا أو تثبيت قيم و معايير لها إمكانيّة الصمود والتكيّف مع دورانيّة التاريخ،و يختلف هذا عما يقوم به نصر حامد عبر الاقتصار على فعل الاستحضار السلبي لجهود السابقين قصد تبرير الإزاحة و التجاوز،تتعلّق المسألة باختصار، بتبيان أنّ التآريخيّة تمثّل نسقا حضاريّا نريد من خلالها التأكيد على أن لا فاعليّة لتاريخ النصّوص سوى في الحالة التي يوفّق فيها القارئ إلى تبيّن مقاصدها ضمن سياق انعكاسها وحلقيّتها و تدوّمها،أي عندما يكشف عن الفوارق القائمة بين وصف أصل ولحظة نشأة الفكرة و بين لحظة التلقّي وحركة إبداع الفكر،وهو ما غيبّة نصر حامد حينما حاول حجب النصّ عندما يفقد شرعيّة تبريره للواقع الإنسانيّ.
4. 4 لعبة المحاكاة و النفي...طريق إلى الدنيوة
والمتتبّع لنصر حامد يجده يركز على القارئ و الواقع و يغيب في معظم الأحيان المتكلّم , فهو يحصر اهتمامه في دراسة الواقع, الثقافة, نظرا لأن أواليات نظريته لا تتسع لما هو متعالي,غائب,وهو بهذا التمشي يستقيم و قولة رولان بارت  ميلاد القارئ رهين بموت المؤلّف  بذلك نعود إلى منطق الصراع بين القطبين.فكلّ فريق يريد الانتصار لمقولاته, نصر حامد وإن كان يسعى للخروج من منطق السلف,من خلال إهدار الكينونة الروحية للنص,فأنّه في سياق ذلك قد نسي,أو تناسى,وظيفة النصّ التي هي  كشف الحجب عن الدلالات و المعاني دون القضاء على المجهول أو الغيب أو الصفة الفائقة و الرائعة لما هو مكشوف,إنما تعني أيضا:الإبانة بلا إبانة أو تحييد وسائل المعرفة,باختصار:فأنّها تعني إقامة علاقة بين الإنسان و الله.  بعبارة مختصرة نصر حامد :يغيّب الإلهي في خضم انشغاله بما هو إنساني من ثمّ فهو يقضي على كلّ وجود مفارق للنص و يقر بالنصّ المُنْتَجْ وفق آليات الواقع .
فالثقافة من هذه الناحية هي النظام أو المحيط العام الذي تنصهر فيه جملة من الأنظمة الفرعية,وباجتماعها وتفاعلها تتكون الثقافة,من ثمّ فكلّ نتاج يولد داخل هذه المنظومة لا يكون بمعزل عن دائرة تأثيرها,بل عن الثقافة هي الممهد الأول له,ومن منتجات الثقافة نجد النصّ بجميع أشكاله:النصّ الديني,الأدبي,الفلسفي,الأسطوري, ويترتب على ما سبق أن المفهوم السيميوطيقي للثقافة ينشأ من النظر إليها على أنّها مجموع أنظمة من العلامات متنوعة و متعدّدة و أيضا مندرجة و متداخلة,ومن ثمّ فلا بد من دراسة هذه الأنظمة من مناحي مختلفة منها التقني و الاجتماعي و الاقتصادي و السلوكي و الإيديولوجي  من ثمّ فميلاد النصّ نابع من الثقافة,بذلك يمكن الاصطلاح عليه بالنصّ الثقافي,بذلك يتغير مفهوم الثقافة من حيث هي مستودع لذاكرة المجتمع إلى آلية لتوليد النصّوص,ومن مفهوم الثقافة نخلص إلى مفهوم النصّ: فالنصّ من وجهة نظر سيميوطيقية هو الوحدة الصغرى التي تتكون من مجموعها الثقافة نفسها كبنية كبرى.و يعرف المؤلفون النصّ الثقافي بأنّه الوحدة الدالة التي تتشكلّ منها الثقافة. 
بذلك أصل إلى أنّ عنونة نصر حامد لكتابه بـ"مفهوم النصّ" هي رغبة منه في البحث عن مفهوم للقرآن يستجيب لمتطلّبات الوعي العلمي-الحداثي ضمن مرجعيّة بعينها تحمل خلفيّة فكريّة-إيديولوجيّة محدّدة,هذا المفهوم الغائم و الغائب في الثقافة الكلّاسيكية,فالنصّ القرآني بقي في موضع إشكال لم يحسم بعد,وهو من ثمّ يتوجه بالاتهام إلى الشق المقابل,الذي اطمأنّ إلى مفهومه للنص القرآني من حيث هو نص إلهي منزّل من عنده ابتداء لهداية البشر,وهذا النصّ له وجود سابق في اللوح المحفوظ,من ثمّ اكتسب شرعيته من دليل خارجي.في حين أن نصر حامد يشكك في هذا المفهوم و يسعى إلى تقويضه تماهيا مع نسقه المنهجي لأنّ  البحث عن مفهوم "النصّ"ليس في حقيقته إلا بحثا عن ماهية"القرآن" وطبيعته بوصفه نصا لغويا.  
إن نصر حامد من خلال هذا الجهد يسعى إلى التأكيد على الهوية الثقافية-الواقعية للنص قصد تأصيل معنى آخر مرتبط ماهويا بهذا الأخير,هذا المفهوم هو القراءة المتجددة عبر الزمن و ضمن السياق الثقافي التي تعطي للقارئ حرية أكبر في التصرف في النصّ تماشيا ومقتضيات الواقع,بمعنى أنّ النصّ القرآني باعتبار انتماءه إلى الثقافة قد أصبح قابلا للنقض والتحوير حتى يكون مواكبا للمتغيرات و حتى تقبله الثقافة,على عكس النهج السلفي الذي يتهمه بتعطيل النصّ,وهذا الرأي في نظري غير صحيح لأن النهج السلفي-المعتدل الواعي بمقاصد النصّ وآفاقه قد أدرك سنة التطور التي تحكم الواقع فكيّف النصّ بحسب ذلك لكن دون أن يهدر كينونته,أو يتعسف ويتجاوز الصبغة الدينيّة للنص,أنّه هاجس يحكم نصر حامد وهو التخلص من سلطة النصّ حتى يكون حداثيا,لكن هل يكفي للمرء الجهر بذلك حتى يكون كما يدعي؟,لابد من التطبيق,ونصر حامد يفتقر إلى ذلك لأنّه يتعامل مع مقولاته التطورية بمنطق دوغمائي,يكشف عن أصوليته,لأنّه قد جعل من قواعده المعرفية صنما مقدسا عوض بها غيبة الإله عنده.فهو يريد التشبث بشرعية الواقع و حاكميته على النصّ,لذلك فهو يريد استفزاز كلّ العناصر ذات الجذر الواقعي قصد تثوير المنظومة السلفية, وفي منهج تحليل النصّوص تنبع مصداقية النصّ من دوره في الثقافة,فما ترفضه الثقافة و تنفيه لا يقع في دائرة النصّوص,وما تتلقاه الثقافة بوصفه نصا دالا فهو كذلك. 
من هنا نستنتج أن النصّ في منظومة الحداثي لا يغدو مقبولا إلا إذا استجاب لقانون الثقافة وإلا عد من قبيل اللاثقافي  و قد يختلف اتجاه الثقافة في اختيار النصّوص من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى,فتنفي ما سبق لها أن تقبلته,و تتقبل ما سبق أن نفته من النصّوص…و إذا كنا نعتد المعيار الثقافي في تحديد مصداقية النصّ,فمن قبيل تحصيل الحاصل القول بأن مصداقية هذا النصّ –القرآن-لا تنبع من كثرة المؤمنين به. أنّها تنبع من تقبل الثقافة له ,بذلك يمكن القول أن كلّ المعاني متحولة استنادا إلى منطق الجدل ومبدأ التناقض الذي أوقعه هيجل و من وراءه ماركس فالتناقض هو أساس الحركة والتطور,لذلك تكون العقلانية في حداثتها عقلانية متطورة,من ثمّ يتغير شكلّ تفاعلها مع الأشياء,وهذا اتهام ضمني من نصر حامد لأصحاب النظرة السلفية بـ"تثبيت" النصّ و تحويله من نصّ إلى مصحف إلى أداة للزينة نظرا إلى تمسكهم بعقلانية التقليد.
فالقرآن يمثل منظومة متقدمة بالمقارنة مع السابق: منظومة عصر الجاهلية-ما قبل الإسلام-,لكن لا يجب أن نقف عند هذا الحد لأن النموذج الإسلامي في تلك الفترة ليس إلا مرحلة انتقالية,فهو لا يمثل الكمال, و توافقا مع مبدأ الجدل والتناقض يؤكد على مواصلة التغيير و البحث لا في الماضي بل في المستقبل فالحركة لها اتجاه مستقبلي اتجاه نحو "الـ هناك" و ليس حركة ارتدادية إلى الوراء. من ثمّ أخلص إلى رأي أن نصر حامد يجرّم أنصار العودة إلى التراث إلى الماضي,نظرا لأنّه يعتبر أن الحركة دائمة إلى الأمام,فالبحث عن النموذج يكون في حقل المستقبل لا في رفوف الماضي,وهذا تشريع منه لنفي الثوابت و التيه في مناكب المستقبل,  و يمثل هذا المجال حقلا ثريا لدراسة الصراع الذي يقوم بين ثقافات التغيير و سلوك الإنسان الذي يحاول تغييرها رغم مقاومتها و يتم هذا من أجل ما أسماه لوتمان "خلق سلوك مستقبلي مغاير للتراث" بذلك نعود ونقول أن نصر حامد قد شرع لفلسفة الضياع تحديا لمشروع السلف القائم على ثوابت مرجعية,أنّها إرادة منه قصد التحلل من كلّ الضوابط ومن ثمّ التصرف في النصّ بحسب مستجدات الثقافة,تحرر من سلطة الفقيه:نزوع نحو التحرر من قيد الأحكام و الأوامر المنزلة,فالثقافة هي الحكم,فلها أن ترفض,أن تغير,أن تحور,و من منظور جدلي نقول إن تغير البنى التحتية يفرض حتما تغيرا في مستوى البنى الفوقية,و يمكن التوغل أكثر و نقول من منطلق فلسفي,إن العقلانية الدينيّة-الميتافيزيقية مثلت تجاوزا لمنطق الأسطورة و الخرافة السائدين في التاريخ قبل انبجاس الظاهرة الدينيّة,لكن الوضعية الغربية تعتبر تتويجا لسيرورة العقل الذي تعدى مرحلة الطفولة –فترة النصّوص الدينيّة ذات الطابع المتعالي-أما الوضعية الغربية-تأليه العقل- فهي فترة الرشد و الاكتمال,بذلك شكلّت الوضعية "التنويرية" قطيعة مع عقلانية العصور الوسطى"الدينيّة-الأسطورية،ومحاولة منها نحو الانطلاق لسدّ فراغ المعنى الناتج عن عالم هجره الإله،عبر آليّة التأويل للإحالة على فكر القارئ بمواصفات الحداثة،فوراء هذه الأشكال الحديثة للثقافة و المعرفة و الممارسة والتفكير تكمن حلقيّة المحاكاة التي تربطنا بإله منافس و متشابه و مختلف،حيث يسعى الإنسان إلى إيقاع نسق تاريخه خارج إطار الإنسان المتديّن،عبر الاختلاف عنه من خلال إزالة وهم العالم العلوي و علمنة أنماط الحياة والمعارف.
بهذا يغدو النصّ القرآني نموذجا متطورا عن النصّوص السابقة له,انطلاقا من قانون التطور والجدل, فهو-أي النصّ القرآني- قد هضم النصّوص السابقة وأعاد صياغتها بطريقة تستجيب لمعايير الثقافة السائدة و ملبية لرغبات المجتمع,أي أن النصّ ,من هذه الوجهة قد أصبح إيديولوجيا,بمعنى أنّه قد استجاب لمتطلبات عصره,وقد تولد النصّ القرآني بحسب ذلك نتيجة أزمة واقعية سادت المجتمع بحيث لم تعد المعايير السائدة كافية لتجاوز الأزمة لذلك وجب التفكير في البديل,و بما أن محمدا  كان ابن واقعه,أي عارفا بما يختلج في نفوس قبيلته,تمكن من صياغة الحلول التي مكنت من تخطي الأزمة باستبدال نمط قيمي بنمط آخر بديل قادر على الاستجابة لمتطلبات أبناء قومه,فالقرآن قد غدى بهذا المعنى جملة من الاستجابات,من الحلول لقضايا مستجدة خادمة لواقعها,بمعنى أنّها غير ملزمة للسلف,أي أنّهم قادرون على الاحتفاظ بها أو تغييرها,انطلاقا من مبدأ جدل البنى.
نستنتج أن القرآن نص ينطق بمطالب القوى المضطهدة: نص يدعو إلى قلب نمط القيم لصالحه,أي أن الرسول قد أصبح صاحب حركة ثورية تطالب بقلب نمط القيم,وفرض قيمها التي ترفعها كشعار,أنّه تفسر مادي/ماركسي للقرآن ذلك هو تصور نصر حامد للنص القرآني أنّه حامل لإيديولوجيا تهدف إلى الاستجابة لمتطلبات الواقع قصد تغييره,لكن الانطلاقة دائما تكون من الواقع,أنّها مناهضة لتصور السلف الذي يقر بأن النصّ جاء لتغيير الواقع و ليس استجابة له,أنّه صراع من أجل إثبات الذات,فكان مصير النصّ أن أُهْدِرت كينونته,بأن غدى مجرد أجزاء ضمت إلى بعضها لا كلّا متجانسا,و عدم التجانس يرجعه نصر حامد إلى طبيعة الواقع-الثقافة السائدة-  و نقصد هنا بطرق التجزؤ والتعدّدية و الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر على نمط التأليف العربي في النصّوص الأدبية  لكن هذا الرأي ليس مجديا,فصحيح أن القرآن عالج عدة قضايا و وقائع و أصدر فيها أحكاما,اعتبارا لاختلاف الوضع المكاني:مكة و المدينة,و الوضع الزماني النزول في فترة تزيد عن عشرين سنة,لكن رغم هذا التجزؤ الظاهري,فإن النصّ يحمل في طياته نواة توحده و تماسكه وهذا يعود إلى البنية اللغوية للنص القرآني  كانت البنية القرآنية متسعة الموضوعات حافزا للأخذ و العطاء, وكانت قابلية البنية اللغوية للقرآن الكريم لأكبر قدر من المرونة بحكم عمومية الأحكام وطبيعة اللغة في طرح قضايا تلك الأحكام,قادرة على التوافق والانسجام مع الظروف الجديدة,و قابلة لأكبر قدر من التأويل و الفهم الخاص لكلّ إشكالية كان يواجهها المسلم في لحظة المواجهة مع الآخر.
إن هذه النتيجة تدفعني إلى القول إن نصر حامد,قد استخدم منهجا ألسنيا يتوافق و مراميه الإيديولوجية,فالسيميوطيقية تخفي وراءها قراءتها الإيديولوجية المتجسدة في الماركسية/ المادية,لذلك أعيد القول إن نصر حامد قد وظف آليات هذا المنهج قصد تقويض النظرة الدينيّة-السلفية من خلال التشكيك في الروايات والأسانيد,بذلك انشد بأصولية مفرطة إلى الواقع و تناسى "وجود النصّ" حيث عمد إلى تغييبه في غمرة إعلائه لشأن الواقع و دفاعا عن موقفه الإيديولوجي المتيم باكتشاف الواقع المقصى –في نظره-في المنظومة السلفية,أنّها رغبة في تحرير الواقع من وصاية الحكم الإلهي و تأكيد فكرة التقدّم الإنسانيّ,و تمكين الإنسان من صناعة تاريخه ومنحه تأشيرة حرية البحث و الاكتشاف. بذلك أراد نصر حامد بمنهجه السيميوطيقي,الأدبي,الواقعي, البحث عن القانون العلمي الذي يحكم الظواهر خارج إطار التقديس و التعالي أنّه القانون الإمبيريقي الذي لا يقر إلا بالدليل المادي/المرئي,وهذا القانون العلمي لا يحكم الظواهر بل كذلك ينسحب على الإنتاج الفكريّ على إنتاج النصّوص بجميع أنواعها,أنّه يسعى إلى ترييض النصّ القرآني من خلال تصنيفه طبقا لقواعد رياضية,و طرح أنساق مجردة تحكم العلاقات التي تربط النصّ ببقية العناصر الثقافية الأخرى.أي أنّه لا يريد إخراج النصّ من حقله المرئي-الواقعي,لأن في المفارقة فقدان للعلمية و دخول في متاهات ميتافيزيقية-أسطورية لا تجدي نفعا.
5. في طريق الختام : قراءة في المآلات الإجرائيّة لبعض النظريّات الحداثيّة.
النتيجة التي نصل إليها بعد هذه الدراسة هي"الأصولية المنهجيّة"للمفكّر الحداثي من خلال تمسكه الدوغمائي بالمنهج الأدبي في تعامله مع النصّ القرآني, فهو يتعامل مع أصوله ومناهجه كأقانيم معرفية أزلية لا يطالها التغيير أو التحوير, فغدت أصناما لها قداستها,وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعفه, لأنّ مع توظيف منهج واحد في دراسة ظاهرة متشعبة, ستتراءى لنا العديد من الفراغات والنتوءات في نتائج الدراسة, فهذا المنهج قد برز بعيدا عن منطقة النصّ الديني,فهو قد أُسس لدراسة النصّ الأدبي من وجهة نظر معيّنة ونتيجة لرغبة ملحة في القرن الحالي على تجاوز المنطق القروسطي في دراسته للنصوص, ومن وراءه تصوره للكون, ونعني بذلك وحدة المعنى المعبرة عن وحدة الإله, لكن المنطق الحديث قد آثر القطيعة مع كلّ هذه التصورات الأدبية والدينيّة, وعمد إلى قلب الموازين لصالح الواقع ومن وراءه لصالح المتلقي, من خلال تغييب المرسل و اعتباره ميتا منذ لحظة تلقي القارئ للنص. هذا يفترض أن مثل هذه المناهج الدخيلة قد لا تستجيب تماما لطبيعة النصّ ولا يمكن من ثمّ توظيفها لفهم النصّ, لذلك كان من واجب نصر حامد أن يعتبر جهوده هذه مجرد اجتهاد تدخل ضمن منظومة تجديد الرؤية للنص الديني, وأن هذه الرؤية لها إمكانيّة النجاح كما الإخفاق, نظرا لأن مساحة الضوء التي يلقيها منهجه لا تضيء كلّ المناطق المعتمة في النصّ, ولا تتوغل في كلّ تضاريسه وطبقاته. بهذه النظرة النسبية يمكن أن تصبح مقولة نصر حامد قابلة للتوظيف"الوعي العلمي بالنصّ القرآني,و الفهم الموضوعي له" وإن استحالة تطبيق هذه المقولة كان مرده تلك الأصولية, بحيث لا يمكن أن تتواءم العلمية بالإيديولوجيا.
فنصر حامد،مثلا، قد عمد إلى استبدال خصوصية النصّ القرآني و هويّته بأن ألحقه بالنصّ الأدبي وتعامل معه بنفس الطريقة, والحال أن لكلّ نص هويته, فإنزال النصّ الإلهي منزلة النصّ البشري, له غاياته, لأن نصر حامد بتطبيقه منطق الجدل و التناقض, يسعى إلى طمس معالم الإلهي وأنسنة النصّ, من خلال إفقاده صفة الثبات, الفاتحة لمنطق التحلل من الأحكام نظرا إلى طبيعة التغير التي تحكم العالم, وهو تشريع من قبله للهروب, و لحرب إيديولوجية فاستعمال منطق الغائب من طرف السلفي قابله استخدام منطق الشاهد, وتوظيف القدسي والإلهي, قابله بالدنيوي والإنسانيّ, أنّها معركة من أجل كسب معركة الحقيقة, فهو رفض للتعايش المختلف, والحال أنّه داعية للحرية, للعدل, للفهم العلمي, لكن الإعلان عن ذلك لا يكفي, فلا بد من التجسيد العمليّ لهذه المقولات, وإلا وقع في تناقض مع ذاته, وهو ما سقط فيه بالفعل.
و لعلّ النتيجة الأكثر بروزا في مجال الجهد التنظيري لدنيوة النصّ القرآني تلك متعلّقة بتحويله من ممارسة طقوسيّة-إيمانيّة إلى وضعيّة اجتماعيّة،و عليه فإنّ النصّ القرآني بما هو مرجع لإنتاج الممارسة الدينيّة لا يمكن إلاّ أن يرتبط بعلاقة تاريخيّة و موضوعيّة مع المجتمع،على اعتبار وضعيّة المحاكاة و النفي التي مارسها الإنسان " الحديث" في مستوى علاقته بالإله من خلال تلك المحاولة التي أوقعها الفكر حين حاول تأسيس نموذج الإنسان الحديث خارج نطاق الإنسان المتديّن متأوّلا العبارة الإنجليّة " مملكتي ليست في هذا العالم"،و انطلاقا من الوضع الجديد يغدو العقل سابقا للدين و تبعيّة هذا الأخير له،و من ثمّ يكون التعامل مع المنتج الديني بخلفيّة وظفيّته للمجتمع و لوضعيّاته الطارئة و كلّ ما عدا ذلك لا يشكّل أثرا أو وزنا معرفيّا-روحيّا،لأنّ المعتمد هنا النصّوص في سياقاتها و ليس النصّ في كليّته،ومن ثمّ يفقد النصّ مشروعيّته من حيث هو نسق تحديثي قابل للممارسة التاريخيّة،و يتحوّل إلى وضعيّة متحفيّة محيّدة قابلة للتوظيف و للتفعيل في حال ارتأى حرّاس الرأسمال الرمزي الاحتكام إليه أو الارتقاء ببعض مقولاته إلى وضع الإدراج و الإدماج ضمن الحراك الاجتماعي.
إنّ مثل هذه القراءات المعاصرة في نطاق انخراطها لدراسة النصّ القرآني من خلال المناهج الجديدة ترى أنّ ممارستها هذه لها مشروعيّة كمشروعيّة التفسير والتأويل لدى السلف،على اعتبار المسافة الفاصلة بين النصّ المرجعي و النصوص الثواني المفسّرة فلا يمكن بأيّ حال القول بالتطابق التام،لأنّ القراءة أو خطاب التفسير متولّد عن حاجة ثقافيّة تاريخيّة و قائم على النسبي و الممكن ،فهو رهن بشروطنا التاريخيّة و بظروف ذاتيّة و إنسانيّة ممّا يعني القول بتاريخيّة القراءة باعتبارها خطابا أو منتجا ثقافيّا فأدواتها المعتمدة بالضرورة ثقافيّة و تاريخيّة ،أي ممكنة التجاوز نظرا إلى نسبيّتها نسبيّة منتج القراءة.من هنا تأخذ القراءة المعاصرة مشروعيّتها حيث الحركة الدورانيّة للفهم و القراءة،التي تحاول إيجاد دورة تأويليّة تحاول التكييف بين حداثة القراءة و تراثيّة المقروء أو ما فوق التراثي إن رمنا مزيد التدقيق و الخروج من دائرة الخلاف،و إقامة جسر تواصل بين وعي المطلق و وعي التاريخ كما عبّر عن ذلك وليد منير في كتابه النصّ القرآني من الجملة إلى العالم.
لكن تبقى عيوب مثل هذه القراءات،تجاهلها للنزعة الوضعيّة التي ألحّت عليها تلك المناهج،تلك النزعة التي تناقض بشكل صارخ خصائص النصّ القرآني و تصطدم مع البعد الأهمّ وهو المصدريّة الإلهيّة،الذي يشرّع لإطلاقيّة الأحكام.
العيب الثاني لهذه القراءات هو تعاملها مع هذه الأدوات و المناهج و كأنّها حقائق ثابتة و ليست كنظريّات لم تستقرّ،من ثمّ فالناقلون لمثل هذه المناهج دعوا إلى تنسيب دلالات الفهم و نزعة القداسة على النصّ تشريعا لدراسة علميّة،لكنّهم وقعوا في الإشكال الذي أرادوا تحييده،ألا وهو القداسة،التي تحوّلت من النصّ إلى المناهج،حيث نجد أنّ المحاولات التي قصرت عن إدراك غاياتها تعيب النصّ لا الأداة،ومن ثمّ فهو خطاب يناهض الأصوليّة و لكنّه يقف على أرضها،نظرا إلى بعده عن الروح العلميّة و وظّف البعد الإيديولوجي الموجّه للأدوات.
انطلاقا من هذا التشخيص لواقع القراءات المعاصرة و أدواتها التفسيريّة يبدو أنّ توجيهها إلى إعادة قراءة النصّ القرآني قراءة معاصرة تستبطن مرامي غير تلك المعلنة،بحيث تتبدّى لنا جملة من مآلات فعل الدنيوة أو أنسنة النصّ:
• لم نعد نقول بحاكميّة صنف فقط من المعارف بقدر ما غدونا نقول بتداخل أصناف المعرفة من دون إقصاء أو حجب و من دون نظر إلى المصدريّة،لأنّ المعيار الناظم ليس النظر في المصدر بقدر النظر في الفاعليّة و النفعيّة أي اكتسابه الأهليّة الفكريّة للتواجد،فالنصّوص في مستوى حداثة العقل المنعكس قد استوت ونُزعت عنها سمة القداسة والتراتبيّة،وغدت نصوصا ذات صلة بالإنسان،لأنّها تحوّلت من دائرة الاعتقاد إلى دائرة التفكير العلمي،أي من دائرة الإله إلى دائرة الإنسان، بحيث يروم بانتقاء النصوص بطريقة نفعيّة بحسب وضعيّاته وخصوصيّاته،أي أنّنا نشهد تاريخ هدم للنصوص و بناء نموذج لنصّ متداخل بعيد عن مقولات الاعتقاد الأخروي والمقدّس.
• حصر النصّ القرآني ضمن دائرة الدراسات التفكيكيّة و غيرها في غياب تام للبعد القيمي-الأخلاقي-التشريعي الذي تضمّنه النصّ،على اعتبار انضمامها إلى المصلحة،و من ثمّ تتلاشى خصوصيّة النصّ القرآني،باعتباره نصّ حياة وآخرة، ومن ثمّ تكون المناهج آسرة لذات القارئ لا ضمن حدودها المعرفيّة بل ضمن حدودها الكبرى الحضاريّة،فيكون الناقل العربي،ناقلا للمناهج و القيم المتعلّقة بها،وهذا ما يجعل حدود الحداثة العربيّة أو الثالثيّة مرتهنة بالمركزيّة الغربيّة،ممّا يسمح بالقول التحوّل من وضع الكونيّة إلى وضع العولمة،أي من الحوار من خلال الخصوصيّة وخطاب الذات،إلى تعميم نموذج الغالب:مناهج و قيم و قواعد.
• هناك إرادة جامحة تنتاب الفكر للتغيير و للثورة وللتجديد وللتفكيك وللهدم و للتجاوز ولإعادة الصياغة من خلال طرح كلّ المرجعيات و إسقاط حجب التقديس عنها وتطبيق الصرامة المنهجيّة و النقدية عليها،لأجل فسح المجال أمام تصوّرات جديدة يراد لها أن تكون البديل الفكريّ-الحضاري في هذا الوجود التاريخي-الإنسانيّ حيث كلّ متعال عنه يُعدّ من قبيل المجاز،بالإضافة إلى اعتبار أنّ التعالي و المفارقة من المفاهيم التي تشوّش على المفكّر دراسته العلميّة للنصّ،إن أخذناها من المفهوم السلفي-المحافظ،أمّا إن اتخذنا نهج التعالي المؤنسن ضمن حدود الأفق التاريخي-الإنساني فأنّها تغدو دافعة للتناول العلمي وتنسيب الدلالات المطلقة ومحاولة تدجينها وأنسنتها،ومن ثمّ وجب تحرير الذهنيّات من حصار مفاهيم"المحظور"و"الحرام"المانعة من كلّ تناول ومعالجة "للنصّ -التابو"،فوجب التقحّم والمواجهة لنفي صبغة التقديس والتعالي و المفارقة عبر استبدال هذا الدياليكتيك النازل من المفارق إلى المحايث بديالكتيك صاعد من المحايث إلى المفارق دون هجرة للعالم هنا.
• استبدال البدايات،يطرح إشكال "المجاز"في الفكر الإسلامي ،بمعنى أيّ العالميْن"عالم الإله" أو "عالم الإنسان-الهنا" يمثلّ الحقيقة والآخر يمثّل المجاز،ومن ثمّ يخرج إشكال المجاز من حقله اللغوي إلى حقله الحضاري في مجال "صياغة رؤية للعالم"، وعبر ذلك تتحدّد الرؤى إمّا الهجرة من عالم الهنا-المجازي إلى عالم الحقيقة الفوقي،ممّا يعني انتصارا للموقف المتداول الرسمي،و إمّا الإقرار بحقيقة الوجود الإنساني-في الهنا و اعتبار العالم الفوقي الكامن في الوعي عالما مجازيّا،وهو ما يعني انتصارا للموقف الحداثي-العلمي،و لعلّ تعبيرات النخب الآخذة بالنموذج الغربي و تحليلاتها تشير بداهة لا إلى انتصارها إلى الموقف الثاني فحسب،بل و تؤكّد سعيها إلى إضعاف حجج الموقف السلفي و سلبه أهليّة حضوره وتداوله عبر القول بتاريخيّة أفكاره و فقدانها مشروعيّة التداول.
• استبدال هويّة النصّ عبر تحويله من ناطق باسم الإله إلى ناطق باسم تأويلات الإنسان وانتظاراته،وهي مغامرة تستهدف تحييد المنظومة العقديّة برمّتها وجهود الأقدمين الذين أصّلوا تلك الحقائق ،عبر إخضاع كلّ الظواهر بما فيها النصّ القرآني إلى مناويل التحليل التاريخي لنشأة الأفكار للتأكيد على تاريخيّة دلالة النصّ،ومن ثمّ العودة إلى القول بفاعليّة الواقع الإنسانيّ في صياغة النصّوص ،وبالتالي إلى نسف قول المنظومة الأشعريّة بمفارقة النصّ القرآني واستبداله بمقولة الوجود الإنسانيّ من حيث كونه الوجود الحقيقي و كلّ مفارق له هو مجاز.مثل هذه التأكيد يفضي إلى تغيّر جذري في مستوى التعامل مع موجدات النصّ القرآني نعني بذلك قضيّة مسلّم بها في المنظومة الأرثودكسيّة-الإسلاميّة وهي الوحي،وهو تغيّر يعتبر مدخلا أساسيّا لتحقيق وعي علمي بالنصّ المقدّس وتجاوز الوعي الإيديولوجي الذي تتستّر وراءه الخطابات الأشعريّة أو حرّاس الرأسمال الرمزي.
• لتطويع النصّ المتعالي لمبادئ الدنيوة القائمة على أساس التاريخيّة كان الولوج إليه من علم أسباب النزول من خلال جعل كلّ آية تتوسّل بواقعة اجتماعيّة لتشريع نزولها قصد نقض مبدأ النزول ابتداء و جعل النصّ ينشدّ إلى واقعيّة الوسط الاجتماعي باعتباره الحاضن له و الفاعل الأساسي لبلورة موضوعاته،و هنا يطرح إشكال تبدّل وظيفيّة علوم القرآن في الفكر المعاصر من وسيلة مساعدة على فهم النصّ إلى آليّة من آليّات تشريع القول بالتاريخيّة و الخصوصيّة الاجتماعيّة،تشريعا للاجتهاد فيه ابتداء من خلال تجاوزه،نظرا إلى أنّ العقل المنعكس يؤمن بأنّ النصّ ينتمي إلى البنى الفوقيّة المتولّدة عن بنى تحتيّة مؤسّسّة،ممّا يعني أنّ كلّ تغيّر يطال الثانية يلحق بالأولى ضرورة،سواء في مستوى الإلغاء أو التبديل أو التحوير،و هذا ما يحيل إلى حاكميّة القارئ و الواقع و المصلحة الماديّة لا حاكميّة النصّ الذي غدا تابعا.
• يترتّب عن هذا الرأي نتيجة أخرى وهو القول بأنّ القرآن خطاب تاريخي لا يتضمّن معنى مفارقا جوهريّا ثابتا،و ليس ثمّة عناصر جوهريّة ثابتة في النصوص،بل لكلّ قراءة بالمعنى التاريخي الاجتماعي، و إذا انتفى أيّ ثبات عن أيّة معان أو مفاهيم أو أحكام للقرآن و جعلنا لكلّ قراءة و لكلّ قارئ الحريّة في كشف جوهر قراءته،و إذا علمنا مع ألتوسير بأنّه لا توجد ثمّة قراءة بريئة،فهل يبقى من قدسيّة النصّ القرآني شيء،و الهدف من ذلك التخلّص من فاعليّة أحكام النصّ على واقع الإنسان الذي يريد التحرّر و التخلّص من المرجعيّة الدينيّة و من ثمّ تشريع منطق التحرّر من كلّ الضوابط المحيلة على الديني-الإلهي و القول بمشروعيّة أحكام الإنسان المتجدّدة،ممّا يعني تحوّل كثير من الأحكام إلى مقولات تاريخيّة متحفيّة سواء في مستوى العبادة أو العقائد أو غيرها،فلكلّ جيل فهومه لمثل هذه المقولات.
• إنّ مثل هذه القراءات و الجهود في تطويع النصّ القرآني لمثل هذه المناهج و النظريّات التي أنتجت لنصوص بشريّة تريد إضاعة هويّة النصّ القرآني وما إضاعة هذه الهويّة و الخصوصيّة إلاّ إضاعة لخصوصيّة الذات المسلمة و تميّزها و من ثمّ حشرها ضمن الذوات التابعة المنبهرة بكلّ جديد و حديث من دون نظر وتفكير في تكييفها مع خصوصيّة المرجع المتداول لديها،و هذا يعود بالأساس إلى الرغبة في التجديد و الانبهار بالغرب ومحاولة تقليده للظفر بالحداثة و التقدّم حتى وإن كان ذلك على حساب تشخصن الذات و تراثها و قيمها ومرجعيّاته.
الهوامش:
نقصد بذلك أنّ الاكتمال مع فعل التلازم المنطقي يعني بروز النهاية،فالحقيقة كماهية و كمفهوم تحولت في الطور الحديث إلى إشكالية،فقانون التسليم أو الطرح الإطلاقي للحقيقة قد تصدع ليفسح المجال أمام آفاق أكثر رحابة،و إن هذا الفتح يعني السماح بدخول كلّ المنظومات ومعاودة ترتيب سلم الحقيقة داخلها، بمعنى آخر أنّه الإقرار بتحول الحقيقة إلى إشكال، فالنموذج الميتافزيقي للحقيقة و فهم الأشياء قد ولى، و مفاد ذلك أن التوجه الجديد هو التفكير "بـ" و "في" مشكلّة الحقيقة بعد أن كانت المساءلة تنطوي على سؤال الماهية، ومن هنا تخرج أطروحة أخرى هي "إرادة الحقيقة" لا "ماهيتها" كما يقرر ذلك نيتشه،  فالفلسفة التي توجه كامل انشغالها إلى ضرورة تجديد جوهر الحقيقة هي فلسفة لا يسعها البتة أن تفكر بمشكلّة الحقيقة التي تظل كمشكلّة تخترق بعمق و في صمت تام تاريخها بجملته و تتردد بالتالي على خطابها الحقيقي كشيء مطرود ...و لا مفكر فيه.و لكن في النهاية سيفرض حتما ذاك الشيء حقه في القول و على التفكير حين يبلغ فعلا خطاب الحقيقة نهايته مع لحظة المعرفة المطلقة لـ"هيغل"،بمعنى النهاية بما هي الاكتمال لتفعيل ولتحقيق جملة الإمكانيّات الفلسفية الجوهرية ... و بناء على ذلك،يصح القول إذن أن معرفة الحقيقة تنتسب إجمالا إلى حقبة الميتافزيقا التي تشرع مع أفلاطون لتشرف على نهايتها مع هيغل، بينما تنتمي مشكلّة الحقيقة إلى التفكير الآخر الذي هو تفكير يسعى إلى القطع مع نمط التمثل الميتافزيقي للحقيقة فيراهن أساسا على قلب الفلسفة رجاء فتح أفق جديد... لمزيد التوسع انظر، بن أحمد (يوسف)، منظوريّة الحقيقة عند نيتشه مجلّة الفكر العربي المعاصر،مركز الإنماء العربي،عـ102-103ـدد، 1988.، ص50 .بمعنى أنّ الفكر الحديث قد أصبح يتحدّث عن مشروع حداثي لم يكتمل،أي قابليّته للتطوّر و التغيّر عبر فعل التفكيك و التركيب،ومن ثمّ الإبقاء على المكتسبات الدافعة و التخلذص من كلّ العوائق،حتّى و لو كانت ثوابت دينيّة،لأنّ طبيعة التفكير في العصر الحديث قد آثارت هجر الحقل الغيبي-المتعالي و التفكير في الأرض في الحقل المنظور،ومن ثمّ لم تعد الشروط الدينيّة هي التي تقرّر تشكيل الذات البشريّة بحسب مقاييسها،بل غدت شرطا من جملة شروط،تعمل في شكلّ جدلي و تفاعلي.
بن عرفة (عبد العزيز)،جاك دريدا،التفكيك و الاختلاف المرجأ، مجلة الفكر العربي المعاصر،عـ 48-49 ـدد / 1988، ص 71 .
المرجع نفسه ،ص 72
الحداثة كما يقول هابرماز لم تع ذاتها فلسفيا و بشكلّ صريح و واضح إلا مع هيغل،إذ استعمل هذا الأخير مصطلح "العصور الحديثة" استعمالا خاصا يتميز عن المفهوم الزمني المتداول لدى المؤرخين،والذي يشير إلى مجرد حقبة أخرى من حقب التاريخ...فالعصور الحديثة من منظور هيغل هي عصور جديدة كلّ الجدة مختلفة نوعيا عما سبقها و بالإمكان سرد أهم مميزاتها في النقاط التالية و المعبّرة حقيقة عن هذا الواقع العاري الذي أضحت تحياه الإنسانيّة و بدأ يشكلّ نسيج أزمتها الحديثة،
1. فترة انتقال تستنفد ذاتها في الوعي بالتسارع من جهة.
2. انتظار و توقع مستقبل مختلف نوعيا عن الحاضر و جذريا عن المستقبل.
3. زمن ميلاد و انتقال نحو حقبة جديدة .
4. هذا الزمن هو في طور إغراق الغائب في الماضي.
5. إن القلق الذي يداهم ما ظل باقيا إلى حد الآن و الإحساس الغامض (بقدوم)شيء مجهول هي العلامات المبشّرة بأن شيئا آخر مختلفا (يتهيّأ).
6. الحداثة تبحث عن ذاتها بذاتها نظرا لغياب نماذج سابقة جاهزة / زمن التعارض بين العقل و الحياة.
7. الحداثة هي زمن غياب الوحدة الروحية التي كان يؤمنها الوعي الديني.
8. الحداثة هي زمن استقلال دائرة المعرفة عن دائرة الإيمان.
9. الحداثة هي عصر دخلت فيها هي مع قطيعة مع كلّ النماذج المستوحاة من الماضي.
10. أنّه عصر يستمد مشروعيته من ذاته و لا يستطيع أن يستمد توجهاته المستقبلية إلا من عندياته الفكريّة،هذه العلاقة المتوترة مع الماضي هي إرث أنواري تعكسه المصطلحات المتداولة في القرن التاسع عشر و التي داولتها فلسفة الأنوار مثل، الأزمة،التطور،التحرر،الثورة،أنّها فترة تحاول أن تستمد مشروعيتها من ذاتها عبر تأكيدها على القطيعة التي تفصلها جذريا عن الماضي. لمزيد التوسع انظر، سبيلا (محمد)، الوعي الفلسفي بالحداثة بين هيغل و هيدغر ،مجلة الفكر العربي المعاصر، عــ 116-117ـدد، سنــ 2000-2001ـة،ص 25-26 .
أركون (محمّد)،الفكر الأصولي واستحالة التأصيل،تر،هاشم صالح،ط1-1999،دار الساقي،بيروت-لبنان،ص87.(في الهامش)
نجد عبارة شديدة الدلالة عند نصر حامد و دائمة التكرار عنده وهي "الواقع" و حاكميّته في مجال تشكيل النصّوص و بلورة دلالاته و معانيه و من ثمّ مغازيه، " الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره،من الواقع تكوّن النصّ،ومن لغته و ثقافته صيغت مفاهيمه،ومن خلال حركته بفاعليّة البشر تتجدّد دلالته،فالواقع أوّلا والواقع ثانيا ،و الواقع أخيرا ." انظر أبو زيد (نصر حامد)،الخطاب الديني،رؤية نقديّة، رؤية نقديّة،دار المنتخب العربي، بيروت-لبنان،ط1 ،1992،ص 68.
المرجع السابق،ص 120-121.
المرجع السابق ،ص 127.
انظر أبو زيد (نصر حامد)،النصّ،السلطة،الحقيقة،المركز الثقافي العربي،بيروت،لبنان،ط2، 1997، ص 18.
انظر أبو زيد (نصر حامد)، المرجع السابق، ص 68-69.
المرجع السابق،ص 109.
إن مقولات الميتافزيقا عند نيتشه ليست رموزا تعبر وإنما هي معان تحيل و تدل.كلّ ما يعني و يدل على معنى فهو عبارة عن قناع يغلف تأويلات سابقة .الجنيالوجيا تتعارض مع القول بالشيء المحال إليه.فكلّ ما يدل،في نظرها،سواء أكان كلّاما أم شيئا آخر.كلّ ما يعني لا يفترض مطلقا موضوعات تعرض نفسها للتأويل إلا و قد أوُل من قبل .يقول نيتشه "ليس هناك حادث في ذاته فكلّ ما يحصل ويتم ليس إلا مجموعة من الظواهر التي انتقاها و اختارها كائن مؤول" و عيب الميتافيزيقا أنّها افترضت تأويلا واحدا وقفت عنده و اعتبرت أنّه التأويل الحق.باستطاعتنا أن نحدد ما هو صادق،إن الجنيالوجي بما هو فقيه لغة يردد على الدوام:ليس هناك من تأويل مطمئن .ذلك أن التأويل،كما قلنا،مفاضلة و إعطاء أولويات لمعنى على آخر،تلك الأولويات التي ترجع لإرادات القوى وللسلطات التي توجد من وراء كلّ تأويل بن عبد العالي (عبد السلام )، أسس الفكر الفلسفي المعاصر،مجاوزة الميتافيزيقا،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء-المغرب،ط2، 2000.،ص 31.
أبو زيد (نصر حامد)،مفهوم النصّ،ص 26.
أبو زيد ( نصر حامد ) ،النصّ و السلطة و الحقيقة،ص 9.
انظر مثلا قول محمّد أركون:"بمعنى أنّ ارتدادات الأصولييّن إلى الماضي و مبالغاتهم و الأعمال التي يرتكبونها باسم لاهوت قروسطي عفا عليه الزمن سوف تدفع بالنّاس يوما إلى الكفر بهذا اللاهوت العتيق،و فتح المجال لتشكيل لاهوت آخر أكثر تحرّرا واحتراما لكرامة الإنسان.وكذلك فإنّ قوى العولمة الزاحفة على العالم الإسلامي سوف تساهم في تفكيك هذا اللاهوت القروسطي القمعي و الظلامي". أركون(محمّد)،الفكر الأصولي و استحالة التأصيل،مرجع سبق ذكره،ص 115 (في الهامش رقم 2).
أبو زيد (نصر حامد)،الخطاب الديني،رؤية نقديّة،ص 121.
أركون (محمّد)، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلاميّة، تر، هاشم صالح،دار السّاقي،بيروت لبنان ، ط1/2001،ص 19.
أبو زيد (نصر حامد)،النصّ،السلطة،الحقيقة،ص 175 و ما بعدها.
الحبابي (محمد العزيز )،من الكائن إلى الشخص ،د/ط، 1962، دار المعارف ،مصر،ص 78-79 .
أبو زيد (نصر حامد)، مفهوم النصّ، المركز الثقافي العربي،ط1، 1990،بيروت-لبنان ، ص11 .
أركون (محمد ) ،الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد .دار الساقي.لندن-ط2/1992.تر:هاشم صالح. ص 78.
أبو زيد ( نصر حامد ) ،النصّ و السلطة و الحقيقة، ص 9 .
أركون (محمّد)،العلمنة و الدين، تر:هاشم صالح،دار الساقي،لندن،ط2-1993،ص 78-79.
أبو زيد ( نصر حامد )،الخطاب الديني ،ص 68 .
المصدر السابق،ص 31-32 .
السيميوطيقا :هو علم العلامات,وهو منهج لتحليل النصّوص من خلال بنيتها اللغوية,كما تركز على نظرية الثقافة و محوريتها في تشكيل النصّ,فكلّ ثقافة لها خصوصيات معيّنة,بمعيتها يتسنّى إنتاج نص,و النصّ لا يكون نصا جديرا بالقراءة إلا إذا التزم بالمعايير الثقافية السائدة,هذا ما تعتمده الآلية السيميوطيقية في تحليلها للنصوص الثقافية,وقد اقتبسه نصر حامد قصد توظيفه في مجال تحليله للنص القرآني باعتباره نصا-منتجا ثقافيا-يخضع لذات المعايير التي تخضع لها النصّوص الثقافية.
أخذنا هذا النموذج من كتاب مدخل إلى السيميوطيقا ،إشراف سيزا قاسم و نصر حامد أبو زيد ، 1/59 .
المرجع السابق ،ص1/174.
المرجع السابق، 1/59 .
إن هذا التمشي لنصر حامد لا يعدم أن يكون متأثرا بالنهج الاعتزالي الذي يؤكد دائما على المواضعة الثقافية لللغة لأنّه دائم البحث عن كلّ فكر ,تراثي كان أو تقدمي, لدعم نهجه التحليلي الملتصق بالواقع المفارق للغيب.
الحج : 75/ 22 .
الشعراء : 193/ 26
راجع في ذلك كتب نصر حامد خصوصا : مفهوم النصّ و الخطاب الديني .
أبو زيد (نصر حامد)، النصّ،السلطة، الحقيقة،ص 97.
أبو زيد ( نصر حامد ) : مفهوم النصّ : 33-34 .
الخولي ( أمين ) : مناهج التجديد في النحو و البلاغة و التفسير و الأدب .دار المعرفة.ط1/1961 ،ص310
Durkheim ( Emile ):Les formes elementaires de la vie Religieuse.FELIX ALCAN.3 EDITION . PARIS 1973,p4-5
أبو زيد ( نصر حامد ) ،مفهوم النصّ،ص 34 .
إن هذا الموقف لنصر حامد تجاه التيار السلفي,يشبه إلى حد كبير موقف ماركس من هيغل,فالأول يدعي أن منهجيته ديالكتيك صاعد,ويصف الثاني بأنّه ديالكتيك نازل ,و الفرق بين الاثنين هو كالفرق بين الإيمان بالميتافيزيقا و الإيمان بالواقع المادي,فالموقف إما أن يكون علمانيا ماديا,و إما أن يكون موقفا إيمانيا. فالجمع بين المتناقضات في هذه المسائل لا يمكن.
حنفي (حسن ) : الوحي و الواقع : دراسة في أسباب النزول ،ضمن ندوة مواقف الإسلام و الحداثة : دار الساقي.لندن.ط1/1990 ،ص135-136.
مقولة لعالم الاجتماع Clifford Geertz نقلا عن حيدر ( إبراهيم علي ) ،الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينيّة : ندوة الدين في المجتمع العربي .مركز دراسات الوحدة العربية.لبنان.ط1/1990 ،ص 57.
حسين (عادل) : النظريات الاجتماعية الغربية (قاصرة و معادية ) ورقة قدمت إلى ندوة إشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي .القاهرة.المركز القومي للبحوث.1983،ص 269.
عودة الخطيب (عمر) ،المسألة الاجتماعية بين الإسلام و النظم البشرية .ندوة الدين في المجتمع العربي.،ص 192.
يقول حسن حنفي في هذه النقطة مؤكدا على ضرورة احترام الواقع واعتباره في مجال دراسة الظواهر الدينيّة : و مقياس صحة العقائد ليس صدقها أو كذبها من الناحية النظرية بل مقدار فاعليتها من الناحية العمليّة,فلا يهم إثبات خلود النفس أو إنكارها بقدر ما يهم هذا الإثبات أو هذا الإنكار في حياة النّاس العمليّة … انظر سلسلة قضايا معاصرة.دار التنوير للطباعة.بيروت.ط2/1983 ،1/93.
أنظر خلف الله (محمد أحمد) ،إشكالية التراث و العلوم الاجتماعية.ندوة الدين في المجتمع العربي،ص 347-354.
إن هذا التغير في طرق المعالجة منشؤه تطور الذهنية العربية –الإسلامية ,حيث هجرت مقاعد الإلفة و التأنس بالمقولات إلى منطق النقد, يقول هشام جعيط في هذا المجال : لكن بما أن الدين مرتبط بالماضي, فإن عناصر كثيرة تضمنها أو يتشكلّ منها لا يقبلها العقل إطلاقا, و لا الفكر و حتى ذهنية الإنسان الحديث.فقد أبرز العلم و الفلسفة و النقد التاريخي, بديهيات تهاجم النواة الدينيّة ذاتها أو على الأقل كساءها الأسطوري .انظر جعيط (هشام)،الشخصية العربية الإسلامية و المصير العربي .دار الطليعة.بيروت:ط2/1990 ،ص 123.
 إن العربي الذي يدرك أن الجني يخاطب الشاعر و يلهمه شعره,و يدرك أن العرّاف و الكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن لا يستحيل عليه أن يصّدق بملك ينزل بكلّام على بشر.لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحي ذاتها,و إنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلّام الوحي أو على شخص المُوحى إليه.ولذلك أيضا يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النصّ الجديد-القرآن-إلى آفاق النصّوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعرا أم كهانة.  أبو زيد، ( نصر حامد)، مفهوم النصّ ،ص34 .
المصدر السابق،ص 15 .
لوتمان (يوري) ،نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات : تر :نصر حامد أبو زيد. ضمن كتاب مدخل إلى السيميوطيقا :2/163
أبو زيد (نصر حامد) ،لمصدر السابق، 2/ 167 . لعل أهم دليل على ما نقوله هو ما وجدناه في كتابات نصر حامد حيث يقول في بعض المواضع: إن الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة الواقع السائد المسيطر,فالواقع-أي واقع كان-يحتوي في داخله وفي بنائه الثقافي نمطين من القيم :النمط السائد المسيطر ,و نمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفا خافت الصوت ,لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد. انظر مفهوم النصّ : 60
 في هذا المجال يظهر أثر فكر أستاذه حسن حنفي عليه ,في مجال الاعتداد بالواقع و إيلائه الأهمية ,يقول حسن حنفي في هذا مجال أولوية الواقع على الوحي: و الإسلام ليس وحيا أعطي مرة واحدة كما أعطيت غيره من الرسالات بل أعي خلال ثلاثة وعشرين عاما.و نزل الوحي حسي متطلبات الواقع …و كثيرا ما كان الوحي يعدل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ …فالوحي يسير طبقا لمتطلبات كلّ عصر …(و) إذا كان الإسلام على ما يقول المعتزلة يقوم على العقل و أن الشرع تابع للعقل,يثبت تطور الوحي,إذن إن الحقيقة موجودة إلى الأمام لا إلى الوراء.لذلك يكون غريبا حقا أن يقف النّاس عند النموذج الأول في تطبيق الوحي. انظر سلسلة قضايا معاصرة : 1/92
انظر: أبو زيد (نصر حامد)، النصّ،السلطة،الحقيقة،ص 18.
حرب (علي) ، نقد النصّ ،المركز الثقافي العربي،بيروت-لبنان،ط1، 1993، ص207 .
أبو زيد (نصر حامد )، مفهوم النصّ ، 11
المصدر السابق ، ص 11-12 .
المصدر السابق ،ص 14.
الزركشي(بدر الدين)،745هـ/794هـ،انظر ترجمته في مقدّمة كتابه البرهان في علوم القرآن،1/11-12-13-14-15.
السيوطي (جلال الدين)، 849هـ/911هـ
أرى أن نصر حامد من خلال هجومه هذا على التراث الإسلامي ووسمه بالرجعية إن هو إلا موقف يعبر عن نزعة قومية اصطفائية,وهذا يظهر من خلال تحميله العناصر غير العربية مسؤولية التخلف و الانحطاط الذي أصاب جسد الأمة وجعلها تنغلق على نفسها و تنتج مثل هذا التراث الرجعي يقول في هذا المجال، لقد كانت هذه السيطرة للعسكر(و يعني بهم السلاجقة والترك والديلم …)بكلّ ما يمثلون من استناد إلى القوة وحدها كفيلة بالقضاء على حركة التفاعل الحية النشيطة بين النصّوص والواقع,وكان هذا الوضع أشد تأثيرا على علاقة النصّ القرآني بالواقع و تفاعله معه.انظر مفهوم النصّ ،ص12-13 .
لوتمان (يوري)، حول الآلية السيميوطيقية للثقافة، تر، عبد المنعم تليمة .ضمن،مدخل إلى السيميوطيقا، منشورات عيون،الدار البضاء-المغرب،ط2، 1986 1/139.
المرجع السابق ،ص 307 .
حرب (علي) ، نقد الحقيقة،المركز الثقافي العربي،بيروت-لبنان،ط1، 1993 ،ص 25 .
أبو زيد (نصر حامد ) ، مفهوم النصّ ،ص 19 .
حرب (علي) ، نقد النصّ ،ص 208 .
أبو زيد (نصر حامد )، مفهوم النصّ ،ص 27 .
حرب (علي) ، نقد النصّ ،ص 208 .
أركون (محمد)، الفكر الإسلامي قراءة علمية ،ص 273 .
لمزيد التوسع انظر ، السعيداني (خالد)، إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، نتاج محمد أركون أنموذجا، (م)، بحث لنيل شهادة الدراسات المعمّقة ، جامعة الزيتونة-المعهد الأعلى لأصول الدين-1418-1419هـ/1997-1998 م ،ص 105-144 وكذلك من ص 192 إلى255 .
حرب (علي)، المرجع السابق نفسه،ص 209 .
عبد الهادي (عبد الرحمن)، سلطة النصّ ،ص 23 .
المرجع السابق، ص،23 .
يطبق نصر حامد أبحاث "يوري لوتمان" في مجال السيميوطيقية الثقافية على النصّ القرآني اعتبارا لأن مصدره الثقافة-وهو بنفسه الذي ترجم هذه الدراسات-نظرا لأنّها تخدم اتجاهه الأدبي-الواقعي، و أعلى القيم بالنسبة للثقافة التي تنحو ناحية المتكلّم تكمن في مجال النصّوص المغلقة التي يصعب الوصول إلى معناها أو التي يستحيل تماما فهمها,أنّها ثقافة من نمط باطني,تحتل فيها النصّوص الدينيّة و التنبؤية و الشروح و التفسيرات و الشعر المكانة الأعلى,و يتضح ما إذا كانت الثقافة تنحو ناحية المتكلّم أو تنحو ناحية المخاطب,في أن المخاطب-في الحالة الأولى-يكيف نفسه طبقا لنموذج مبدع النصّ,(حيث يحاول أن يلج عي عالم الشاعر).بينما في الحالة الثانية يوائم المرسل نفسه طبقا لنموذج المتلقي…و يمكن اعتبار التطور التاريخي للثقافة-أيضا حركة في نفس مجال الاتّصال (مجال المرسل-المتقبّل)، انظر مدخل إلى السيميوطيقا،2/164 بذلك نفهم كيف حول نصر حامد النصّ إلى نص متمحور حول القارئ حتى يخرجه من الانغلاق حسب زعمه,فأصبح المرسل يكيف نفسه طبقا لمتطلبات المتقبّل مستجيبا له استجابة سلبية,لأن المخالفة تفضي بالنصّ إلى الرفض,إن نصر حامد يرفض التمشي السلفي لأنّه في نظره"اغتيال لعقل القارئ" لذلك قلب المعادلة لصالحه,من خلال تحويل النصّ من انتماءه الديني إلى انتماءه الأدبي,حيث يغدو النصّ "مشروع نص" قابل للتحويل والتأويل,فهو ملك للقارئ,وهو مشروع لأنّه يتضمن معرفة لا حقيقة.وهذا التصور دليل على تشبث نصر حامد بالأسماء و سعي منه إلى التمسك بالحداثة الغربية و إن كان على حساب النصّ.
بارت (رولان)، درس السيميولوجيا (موت المؤلف)، تر،عبد السلام بن عبد العالي، ط2/ 1986-دار توبقال،ص 87 .
أركون (محمد)، الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد ، دار الساقي،لندن، ط2،1992 ،ص 94 -95 .
قاسم (سيزا) ، مدخل إلى السيميوطيقا ،1/40
المرجع السابق، 1/42
أبو زيد (نصر حامد)، مفهوم النصّ،ص 10 .
المصدر السابق نفسه ،ص 27 .
المصدر السابق نفسه،ص 27-28 .
استمد نصر حامد هذا المفهوم من جماعة موسكو-تارتو –وهي مجموعة من العلماء ذات التوجه الماركسي اهتمت بسيميوطيقا الثقافة ،تقول هذه المجموعة،ولا تعتبر الثقافة جميع الوسائل المبثوثة نصوصا, فلكي تصبح الرسالة نصا في إطار الثقافة يجب أن تتميز ببعض الصفات منها أن تكون حاملة لمعنى متكامل و أن تؤدي وظيفة تشاركها فيها نصوص أخرى مشابهة لها,و أن تكون ذات قيمة و تستحق البقاء و الاحتفاظ بها.و أن تنتظم طبقا لمجموعة من القواعد بشرط أن تستطيع هذه القواعد أن تولد نصوصا مشابهة لها. انظر قاسم (سيزا)، مدخل إلى السيميوطيقا،1/42.
انظر مفهوم النصّ ،ص 12-13.
رشيد(أمينة)، مدخل إلى السيميوطيقا، 1/61 .
أبو زيد (نصر حامد)، النصّ,السلطة, الحقيقة،ص 105 .
عبد الرحمن (عبد الهادي) سلطة النصّ، ص50 .
لا نقصد بالأصولية علم الأصول سواء في الحقل الإسلامي"أصول الفقه" أو في الحقل الغربي"علم تكون الأشياء" بل نقصد بها المعنى التالي، شبه دعوة دينية, وموقف إيديولوجي ومشروع سياسي, ولنقل بالأحرى أنّها نزعة قد تتجلى في نموذج ثقافي أو في نظام كلّياني ولكن قوامها الاعتقاد بالتطابق مع الذات, والتماهي مع أصل مفترض, والبحث عن أصالة مفقودة. انظر حرب(علي)، نقد الحقيقة، ص28 (في الهامش) .
 
تقول سيد إلياس
فإرادة النخب الفكريّة ذات الاتجاه الحداثوي تريد الخروج بالنصّ الديني من دائرة الأسطورة إلى دائرة التاريخ و من دائرة الإيمان والتسليم إلى دائرة العلم و المراجعات النقديّة،من خلال جعله قابلا للقراءة ،باعتباره فعلا ينحو ناحية القارئ،فلا يعقل أن تكون الحاكميّة لنصّ ثابت المعاني و الدلالات على واقع القارئ المتشعّب و المتغيّر والمتطوّر والمنخرط ضمن صيرورة تنفر من الحلّ و تميل إلى الترحال،فالتسليم بمثل حاكميّة النصّ إهدار له و للواقع الذي يحكمه لذلك وجب نسخ مقولات الخطاب الديني المحافظ "حرّاس الرأسمال الرمزي" قصد الانخراط في استقطار الدلالات و المفاهيم المعتقلة في جسد النصّ لقرآني والتي تتّفق و اللحظة التاريخيّة المعاشة،عبر هذا الفعل التفكيكي ،أي بواسطة القراءة التأويليّة ،التي تصل إلى المغزى عبر الدلالة لا وثبا عليها ،يمكن أن يستعيد النصّ القرآني أوّلا و نصوصه الثواني ثانيا وضعهما الطبيعييْن بعد أن قلب حرّاس الرأسمال الرمزي النصّ القرآني وأوقفوه على رأسه،هذا العمل التفكيكي لن يحرّر النصّوص فحسب بل يحرّر الذهنيّات و التاريخ.
إن هذا التعالي العلماني المستعبد لتصور الغرب الحديث للنصوص المقدسة أيا كانت، ومحاولته تطبيق تلك المناهج الكاسدة ، لهذا التصور المادي ، المنبثقة من ظروف شائهة، على القرآن بإعتباره نصا، مع أنه ليس كذلك، فالقرآن هو كلام الله المنزل، وهو آيات شاملة في تفسير الوجود والحياة والإنسان والعلم والعقل، إن هذا التعالى العلماني ومحاولة فرض تصوراته على القرآن، إنما هو محاولة مردودة لسبب خلل النظرة وضعف المنهج باعتباره محصورا في الدائرة المادية وقصوره وأحادية كل خطاب من خطاباته أو رؤية من أساطيره الروائية الحداثية. تلك الأساطير المنتشرة من علم النفس الغربي إلى علم الاجتماع الغربي
إن القرآن ليس نصا يمكن للباحث المادي أن يخضعه لأدواته القاصرة وشروطه اليتيمة في القراءة واستخلاص الرؤية ،وإنما هو علم شامل لمفهوم الحياة والوحي، العقل والروح، العلم والفقه،فقه الكون والحياة، الحكمة والآية
إن الوحي القرآني أعلى سلطانا من المناهج المادية التي تفسر الحقائق التي جاء بها الوحي بأدوات دنيوية أفرزتها ظروف الوعي العقلي الغربي، في القرون الأخيرة.
وان دليل انهيار هذا العقل المادي المنبثق في ظروف ترديه هو اضطرابه وتناقضه وتهافت نظرياته وأدواته وتطبيقاته، في تفسير معنى وحقيقة الحياة، ماهو الإنسان؟، ماهي غايته وإمكاناته.
أما أعظم أمر أصاب هذا العقل بالخلل فهو إنغلاقه داخل الحيز المادي، حتى إنه فسر وجود الإنسان تفسيرا يخضعه لظواهر احادية سواء كانت نفسية ام اجتماعية ام اقتصادية وهو بذلك قد نزع الحقيقة من وثاقها الاصيل فجعل الانسان بدون موجد، وزعم أن الإنسان وجد بدون مبدع، على الرغم من كل دلائل ابداعه وحسن خلقه فرد الأمر إلى خبط عشواء، في حين أن الدلائل المادية العلمية نفسها تدل على الإتقان في الإنسان المخلوق ولابد أن يكون وراء ذلك بديع له وخالق مدبر يقوم الإنسان به وتقوم به حياته ،مبدع قيوم ،كل شي قائم به ....
ناهيك عن تفاصيل الدقة والإحكام في كافة عملياته الداخلية، الجسدية والعقلية.
فكان أول خطأ وأفحش خطا، هو التفسير العدمي للانسان ورده اللي صدفة عبثية ذلك على الرغم من قرب العلم من تلك العمليات الدقيقة التي تجري داخل جسد وعقل وروح هذا الإنسان، فإذا كانت هذه هي سقطة العلم الفلسفي المادي الغربي في تفسير الإنسان بالصدفة والعشوائية، مع مشاهدة الدقة والإتقان في كافة العمليات الجسدية والنفسية، العقلية والعاطفية، خصوصا في حالات الصحة والإستواء، ..إذا كانت السقطة والإنسان بين يديها مكشوفا في أدق عملياته الجسدية، وحركاته العضوية، فكيف بما هو أعظم
خلق الإنسان، الا وهو خلق السموات والأرض؟ ..
فإنك إذا صعدت النظر في هيكل وثبات تلك التفسيرات المادية الأحادية، المبتسرة ، والملغية لكثير من عناصر التحليل والتفسير، وظواهر الوقائع ومظاهرها الحقيقية، وشاهدتها وهي بذلك القصور والعبث بالحقيقة الواضحة ،تحاول أن تتجاوز في تفسيرها (الفلسفي) لحقيقة الإنسان وطبيعته الكلية على الصورة الخاطئة التي انتهت إليها حداثتها الفلسفية ،تتجاوز ذلك إلى آماد أبعد ،إلى تفسير الكون والحياة، وتفسير تلك الآفاق الكونية الشاسعة ، فإنها ولاشك ستضع، وفقا لنموذجها المادي، ستضع تفسيرا تضيع فيه ، أو بالأحرى(تطيش فيه!) كافة المشاهد والتجارب التي تثبت الحكمة من وراء الدقة والتناسق العجيب وإتقان الكون وأفلاكه ومداراته، وإرتباطاته وإنسجامه ....على الأقل داخل مدار الكوكب الواحد ومايدور حوله من أقمار أو أحجار، نعم تضيع فيه أكتشافات العلم والعلماء داخل هذه النظرة المادية اللاعقلانية والتي تكتم تلك الحقائق أو تلغيها أو تصغر من عظمتها وعلميتها وظاهريتها المدهشة لصالح نظرة ظرفية وقتية نشأت في ظل عالم أصابه الإختلال في الموقف من الدين والوحي، الحقيقة والإنسان، الروح وغاية الوجود.
لاشك أن نظرة لم تُرد أن تُحط بالإنسان علما،وفهما ، لاتستطيع وهي بهذا الحجب المتعمد للنتيجة العلمية من أن الإنسان متقن الصنعة متقن في ملايين العمليات الجسدية والعضوية ، لاتستطيع بهذا الحذف لأعظم أكتشافات العلم وتجريبيته ومعطياته وتعاملاته اليومية في المعامل والمختبرات، المستشفيات وعالم الطب والجراحة والتشريح.. أن تفسر ، بالحق والعدل والعلم، ماهو أعلى من الإنسان قيمة ودقة، إتقانا وتناسقا، عظمة وإتساعا!
وستكون مضادة في نتائجها لما أثبته القرآن من أن إتقان الحياة وتناسق الكون وإبداع الإنسان ودقة وحسن خلقه، هو الحقيقة الكلية الشاملة التي لايردها إلا زائغ الفكر والنظر..وزيادة على ذلك يثبت ذلك الوحي الكريم نفسه،لكل منصف، أنه -كدلاله على الإعجاز والتناسق ، والترابط والحكمة، متناسق ،في آياته وعلومه، أخباره وغيوبه، إعلاناته وبلاغاته..ولو توغلنا قليلا في البحث لأكتشفنا أن هذا الوحي نفسه عرض حقائق كونية ، إحتاجت من البشرية بذلا وجهدا، وزمنا ووقتا، للوصول إليها، بينما كانت معروضة في القرآن عرضا دقيقا ولطيفا.. ولو ذهبنا لأمد أبعد كثيرا من ذلك لوجدنا هذا الوحي القرآني، رسالة، علمية ربانية، متكاملة العناصر والإشارات، والدلالات والعلامات، حققت في الواقع المادي حضارة عظيمة الإنتاج والإتقان في فنونها، وكأنها من الناحية العلمية التجريبية قطعة من السماء، بديعة نافعة للناس ، والمدهش أن الفلاسفة المنكرون للوحي تمتعوا بمنجزاتها بل أشاد بعضهم بها، بل لعن بعضهم الكنيسة لحجبها عن عالمه(نيتشه مثالا!)ولكن العلمانيون لايفقهون وهم عن دروسها وفنونها لغافلون.
إن القصور الفلسفي المادي العلماني للعقول المتعددة المنبثقة في الغرب ، بنظرياتها المتضاربة، لهو قصور واضح المعالم ، تراه في أحادية كل موضة فلسفية فيه، وهي سرعان ماتتهافت أمام تفسير أخر قام بتأويل يناقض الأول ، يتخذ نظرته الأحادية -ايضا-تفسيرا لهذا الكون الشامل فضلا عن الوحي الرباني الكامل.
إن ردي هذا هو على كامل المنظومة ويمكن إتخاذه ردا على تنظيرية نصر حامد ابو زيد(التالية) التي عرضتها انت وكأنها مسلمة من المسلمات كبقية الفلسفات والنسبيات الفكرية المنبثقة من العقل الغربي المادي الحديث
تقول​
نتبيّن من خلال ما ورد صعدا أنّ منطلق الدراسة لخصوصيّة النصّ القرآني انبثقت مما هو ثابت متعيّن, وهو الواقع الأرضي لأجل أن ينفتح على المجهول,على الميتافيزيقا,على المتعالي الذهني-الاعتباري بما هو تصوّر بشري, و هذا يثبت لنا منذ البدء أن الحقيقة الثابتة لديه هي الواقع الأرضي-العينيّ-,فهو الشاهد ,أما الغائب أو المجاز أو المجهول فهو كلّ ما وراء ذلك, فالوجود "في"العالم قد أصبح الأساس الذي تقوم عليه فلسفة نصر حامد,فإذا عرفنا أن العالم هو أرضنا ,فمن ثمّ فهو كذلك التربة التي تنمو و تنبجس على سطحها الحقيقة  الواقع إذن هو الأصل و لا سبيل لإهداره,من الواقع تكون النصّ,ومن لغته و ثقافته صيغت مفاهيمه,ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته,فالواقع أولا و الواقع ثانيا و الواقع أخيرا.  ضمن هذا المنظور الواقعي يتحرك الخطاب "العلمي" في معالجة قضية الوحي,فبما أننا نعيش في هذا العالم الأرضي و نجربه,فما الذي يترتب عن القول بأننا قادرون على وضع مشكلّة التعبير عن تجربتنا بالعالم و حقيقتها بهذه الصورة ؟ يرى نصر حامد،مثلا، أن على الوحي بما هو تجربة وتعبير تقديم العبارة الأولى عن العالم, لكن في الوقت ذاته نعرف أنّ هذه العبارة الأولى ذاتها هي في الواقع شيء ثان بالنسبة إلى التجربة العينيّة بالعالم, و تتطلّب هذه المنهجيّة أن تكون كلّ العبارات المعبرة عن التجربة العينيّة و كلّ المفاهيم مستوحاة من التجربة,أي من تجربتنا بالعالم, هكذا يرى نصر حامد تجربة الوحي المحمدي, فهو يرى أنّ المعنى الحقيقيّ كامن في هذه التجربة,و من ثمّ يُطالب بالتخلي عن أي افتراض مسبق أو متعال,أي افتراض يسبق كلّ شيء,وخاصة التجربة في الواقع, أي يكون هو البداية والتبرير .​
 
مع إشراقة الأزمنة الحديثة بدأت تتهافت نسبيّا فكرة الحقيقة كمقولة عليا لا يطالها التفكيك والتجاوز نظرا إلى أنّ الميزة الجديدة التي بدأت تسود منطق التعامل مع الأحداث أو مع المدوّنات النصّيّة مهما كانت مصدريّتها هي النسبيّة وإلغاء تعاليها الغيبي،لذلك كان هجر نسق البداهة والبساطة هو قدر كلّ تعامل مع الموضوع،ومن ثمّ كان همّ المراجعة للذاكرة الأهليّة و التراث هو محاولة إخضاعها لهذه المقولات قصد جعلها أكثر واقعيّة و مواكبة للمستجدّ وهذا تطلّب فعلا تأويليّا و نموذجا في القراءة يؤمن بفاعليّة قبليّات القارئ في مجال القراءة قصد محاولة استبدال هويّة المقروء و جذبه نحو أفق القارئ قصد التصرّف فيه باعتباره تملّكه معنويّا
إن الحقيقة العلمية والكونية والحقيقة القرآنية تبقى شامخة أمام محاولات الهدم والتخريب، ذلك أنها حقائق ثابتة في ذاتها ، فموضوع خلق الإنسان هو موضوع الحقيقة الحقيقية التي يمكن لأي إنسان أن يراها في نفسه، وفي ذاته، وفي أعضائه، في صحته ومرضه، في ضحكه وبكائه،في فقره وغناه، في حبه وكرهه، ولكن العلمانيون ناكرون منكرون للحقيقة الساكنة بين ضلوعهم وفي ضلوعهم وعروقهم ودماءهم وجلودهم وجيناتهم فهم قوم بهت.
أنا هنا لاأتكلم عن بساطة وبديهة وإنما عن علم دقيق وثيق يعلمه عالم الطبيعة الغربي قبل غيره من الأحياء، وهناك كتابات في هذا كثيرة وباهرة.
وكما تلك الحقيقة موجودة يحكيها جسد الإنسان وتدل عليها روحه فكذلك تحكيها المخلوقات الجميلة الدقيقة الصنعة والدالة على الحكمة.
هذه هي القراءة الأولية لعالم الإنسان العضوي وعالم الحيوان وعالم الأكوان.
تناسق وترتيب.. إتقان وإبداع.. رحمة ونعمة..
إنها قصة تحكيها بداية سورة الأنعام فما من قانون في عالم السموات المحيطة بالإنسان إلا وهو مسخر لهذا الإنسان رحمة ونعمة.
فهذا الحقيقة ليست نسبية إنها حقيقة الحقائق..أن الإنسان مخلوق بديع الصنعة عظيم القيمة مع أنه ضعيف الذاتية وفقير في نفسه... غير أن الله جعله قادر على صنع المعجزات وتعمير الآفاق وتحرير الكلمات وتحقيق الإنجازات.
فإعطاء الكمال لله لاينفي أن الإنسان عنده القدره على الفعل والقدرة على البحث والتفكير والقدرة على الإنطلاق في آفاق السموات والأرض.. فكل كمال في الإنسان هو من الله.. فالمخلوق يستمد كماله من خالقه والصنعة البديعة هي بديعة قبل أن فعل لها في الوجود وهذا دليل الإستمداد ومصدر الخلقة والصنعة.أن الإنسان هو بديع صنع الله.
هذه حقيقة تأبى التفكيك والتهميش ، والتهافت والتجاوز.
وأي قراءة تخطئ القراءة عن هذا الكائن الفريد إنما تبني قراءاتها كلها على أساس هش، لأنها تحذف أهم عناصر التفكير والتقويم.. وتخطئ البداية والنهاية.
فالإنسان هو النص القريب الأول للقراءة القريبة فمن أخطئ فيها أخطى فيما هو أعظم منه وأعظم منها.
 
مبدأ اللايقين" المعبّر عن الهجرة الدائمة والغربة المتكرّرة الرامية إلى الغربة المنتجة بدل الاطمئنان الزائف و الإلفة السلبيّة بمقولات تسكن الذاكرة .أنّها ولادة جديدة للفكر و القيم والمفاهيم من خلال انتقالها من حقل أنطولوجي إلى حقل آخر مغاير وهي سمة هذا العصر الذي نعايشه، حيث آثر الإلفة بقيم لم تكن كذلك في السّابق و لكن غدت كذلك بفعل عقلانيّة الاقتصاد وعقلانيّة الأصلح –الأصلح ثروة وقوّة ونفوذا و مصلحة،أي المجسّد عمليّا للوجه الثاني للفلسفة وهو فلسفة القوّة أو الفلسفة المشرّعة للقوّة
إنها ليست ولادة حقيقية للفكر ولكنها ولادة للإنغلاق الفكري والتحيز الظاهراتي اليتيم عند مخترعيه
قال تعالى(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ )
نعم سمة العصر الذي يعيشه الغرب هي سمة إغتراب الإنسان عن جميع الحقائق التي عزلها هذا المنهج المادي الغائر في المادية وانحطاط تصوراتها عن الكون والحياة والإنسان.
ان الإنسان في هذا المجتمع الجديد إنما هو في غربة شديدة وكثير من المدارس الفلسفية الغربية كتبت في هذا ومنها مدرسة فرانكفورت بأجيالها الثلاثة..إنها تحكي معاناة الإنسان وتشيؤه في عالم نفر من جملة حقائق ثمينة وتعالى عليها وانطلق لايلوي على شيء حتى كانت آخر نظرياته هي تفكيك الإنسان وتفكيك القارئ وتفكيك كل شيء ورده كله إلى لاشيء..إلى حتميات غير مقبوض عليها.. وعبث النظريات وفوضوية الموضات الفكرية.
حتميات اللغة عند دوسوسير -فرديناند دوسوسير 1913-1857ودريدا وغيرهما من اصحاب تقديس اللغة وحتميات العقل الجمعي عند دوركاييم وجمعه الذين يقدسون المجتمع وكأنه خالق فالفرد لامعنى له في مجتمع دوركاييم وكأن تصرفات البشر هي صنيعة المجتمع كما قال احدهم كما ان اي بنية خارج اللغة لامعنى لها عند دوسوسير !، وحتميات اقتصادية عند الماركسيين وعبيد فكرة الطبقات وحتميات النفس كما عند فرويد وتلاميذه..وغير ذلك كثير .
لقد وقع العلمانيون العرب في أسر تلك النظريات والحتميات المنغلقة على نفسها، بنحو مفرط ومغال، والمفسرة لعالم الإنسان في سياق حقير وبظاهرة خانفة إما اللغة وإما المجتمع وإما الإقتصاد وإما النفس وإما العقل الجمعي وإما الحس وإما التجربة ، هذا يرجع الأمر إلى تضامن إجتماعي وآخر يرجعه إلى صراع إجتماعي، وآخر يرجعه إلى الصراع الطبقي، وآخر يرجعه إلى وعي محرك لكل شيء اسمه الوعي الجمعي في لاشعور الإنسان!!..كل يجعل ظاهرته هي المصدر الوحيد للمعرفة ..راح أحدهم يفكك المجتمع (ماكس فيبر) ويعتبره ظاهرة صوتية لأفراد مستقلين ومنعزلين وابنية لما لانظام له ولابنية كما عبر احدهم، وراح آخر يؤله المجتمع،ويعتبره الكل في الكل .. وفي ظل تلك الفوارغ-التي يجري اليوم تجميعها معا لتوجيه ضربة فموية للوحي القرآني!!- في ظل تلك المخازي الصوتية تم عزل ظواهر الكون الكبرى فكيف يمكن قبول هذه الصغائر في تفسير كبريات الأحداث وعظائم السنن وآيات الآفاق والدقة الباهرة من وراء سنن التسخير في الكون؟
 
يبدو أن هذا المقال الطويل هو كتاب كامل كما أشرتم إلى ذلك بقولكم التالي ،وفيه تشرحون مهمة الكتاب وخرقه لمايسميه العلمانيون بالمحظورات!:" فإنّ هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور" و"المحرم" في الوعي الديني السائد والمسيطر،لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة…أنّه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرىمقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي،أي الثقافي التاريخي .تلك هي حقيقة التفكيك، التي أريد لها أن تكون صبغة هذا العصر، تفكيك كلّ العقائد والأنظمة اللاهوتية الآتية من العصور الوسطى قصد محاولة تأهيلها من خلال تعديل نسقها من الإطلاقيّة إلى النسبيّة و من الأحاديّة إلى المعيّة المعرفيّة أو التداخل،نظرا إلى الجمود الذي طالها،وقد عبّر هاشم صالح عن هذا التوجّه الحداثوي الغربي الذي يريد خلخلة كلّ الثوابت والأصول المدمجة التي تقوم عليها الذات الإنسانيّة لدى العديد من الثقافات الثالثيّة ومنها الذات الإسلاميّة والعمل على إدخالها ضمن مسار جديد هو مسار العولمة لا الكونية"،انتهى كلامكم

إن هذا المسار العلماني (الحديث جدا بخلاف ماتوحي أدبياته ومقولاته)، يلغي التاريخ والحقائق المبثوثة فيه محاولا الإدعاء بفخر كاذب أنه قادر بعد التنحية للتاريخ على إختراق حجبه والوصول إلى حقائقه، (يكذب ذلك طبعا أساطير فرويد ودارون عن البشرية الأولى وغيرهم من أصحاب الأساطير العلمانية عن البشرية الأولى كمثال) ومن ثم القيام، بعد إلغاء التاريخ، بتأويل ينطلق من القراءة المعاصرة للفكر المادي الكسيح، مع الزعم ان القراءة المغيبة للحقيقة التاريخية الثابتة إنما تضع الإنسان على رؤية علمية تطور من آفاقه الفكرية وعلاقاته بالأشياء..وتجعله أكثر وعيا بالماضي.. وهي نتيجة لم نرى مآلاتها المزعومة حتى اليوم في عالم الفلسفات والأفكار الوضعية ومارأيناه في تلك الفلسفات الأخيرة فعلا هو رفض كل حقيقة والرسو بسفينة الإنسان على شاطئ العدم ونهايات مأساوية عبرت عنها بعض تلك الفلسفات وكتبت في كشفها بعض تلك المدارس والإتجاهات.
إن تطبيق نفس هذه المعارف العقلية الغربية التي تنشأت في عالم المادة ،على القرآن ونصوصه، يدفع بأقطاب هذه الحداثة المستورده، من المثقفين العرب، إلى سلوك طرق حلزونية فيها من الإلتواء والثغرات مايجعل تطبيقاتهم ومحاولاتهم التأويلية الضالة ساقطة لاتؤدي إلى شيء ولاتفتح الطريق إلى معرفة ثرية في عالم الإنسان، وفي تعليقي على كلامهم سأحاول أن أضرب الأمثلة على ذلك من خلال تحريفات نصر حامد أبو زيد-وغيره- للتاريخ والنصوص، وأستبق الأمر هنا فأقول إنه راح ، وهو في محاولة ضعيفة لإرجاع نصوص القرآن لمنتجات الواقع الأسطوري-راح يضع الإتهام أولا بأن سورة الجن تنفي وجود الجن!، وذلك بالنظر إلى مستويات النص،بزعمه، فالعرب كانوا-بزعمه -يؤمنون بأن الجن كافر مارد ثم جاء الإسلام وجعل من الجن مسلم وكافر، هذا ويرجع نصر ابو زيد أولا حقيقة الجن إلى الأسطورة وليس إلى حقيقة كونية وجودية حقيقية وينسب ذلك الإيمان بالجن للعرب فقط!، مع أن الفحص التاريخي يؤكد أن الإيمان بوجود الجن موجود في كل الأمم ، وحتى اليوم فإن كثير من الأمم العلمانية تعرض البرامج التلفزيونية للتأكيد على وجود هذا الشيء المفارق للإنسان.. ببث مشاهد مؤكدة بل انهم يستعينون بالسحرة والجن التي تعينهم في فك شفرات بعض قضايا الموت والقتل والمخدرات وغير ذلك ونحن نقول أن محاولة أسطرة الجن تلغيها حقيقة (خبرة البشرية) كلها مؤمنها وكافرها، عبر الزمان، بوجود تلك الكائنات ، فالعرب لم تخترع شيء ليبني عليه الإسلام ويطور فماكان عند العرب تعرفه الأمم وتختبره في حياتها وفي كل أمة خيارها وأشرارها، مؤمنيها وكافريها..
لقد أتى القرآن بالحقائق الموجودة أصلا والتي لايماري فيها إلا كل جاحد يزيد على حجوده الأساطير المستحدثة، وكثير منها ظهر في عالم العلمانية التي تدعي الفحص العلمي والتاريخي!​
ومن المعلوم ان القرآن كتاب مفتوح للعالم البشري للفهم والعظة، والعلم والتشريع، والحكم والتبيين،لمعرفة الرب تعالى وماأودعه في عالم البشر من طاقات وفهوم ،وإمكانات وآلات وآليات، وفي عالم الآفاق الكونية من نعم وعلوم، وخيرات وكواكب ونجوم ،ومدارات وأفلاك تدور وتحوم وتنفع الناس في الأرض، فليس فيه أمور غامضة او مؤسطرة كما أنه ليس طلسمات صوفية أو ألغاز سحرية،إنه كتاب فهمه المؤمنون به ومن خلال فهمه على ماأنزل له بألفاظه ومعانيه، وحقائقه وتعاليمه، أقاموا أعظم مدنية علمية وأخلاقية في التاريخ، تمنح فوائدها ومنجزاتها مجانا لكل أحد، وهذه خاصية لم توجه في الحضارات الوثنية التي إختلطت فيها بعض العلوم بأسرار وطلاسم، وتحكم في بدايتها ونهايتها كهنة أسرار وعبيد فراعنة وملوك.
وقد حددت نصوص القرآن والسنة تخوم الثوابت والمتغيرات في هذا الدين وهذا ماجعل حركة الحياة واسعة فوارة، وعمل العقل كبير ونشيط، واسع النظر والتجوال في عالم الأسباب والعلل، في الآفاق والأرض ومافيها..والسموات وماتحويها ..ففتح القرآن بذلك المجالات المعرفية واسعة أمام العقل مبينا نسبية العقل لكن جدارته في الخلافة الأرضية مع مايعنيه ذلك من مدح للعقل الصحيح وفائدته في حياة الناس، ودعوته لإعماله وفتح مجاله الطليق، ودعوته إلى فهم طلاقة الوحي وثبات عقائده ومبادئه،والعمل بها وهو أمر جعل المسلمين يفتحون المجالات العلمية على مصراعيتها لأن القرآن لم يحجر على العقل التفكير في هذا الملكوت الواسع بل دعاه إلى تسخير أسبابه وقوانينه والإطلاع على آفاقه ومواده، وسمواته وأرضه.
فإتهام القرآن بأنه أغلق المجال العقلي وصنع أمة لم تتطور إلا بفلسفات خارجية هو كذب على هذا الدين وتلبيس على الناس في فقه آياته ونصوصه.
أما التوجه الحداثي الذي راح يخلخل كل الثوابت فأنا أرى أنه خلخل ثوابته هو من ثوابت الأديان المنحرفة التي آمن بها من قبل، والفلسفات الوضعية المختلفة التي فيها من النقص والجهل اعظم مما فيها من العلم والنور، وقد استفادت تلك الفلسفات من علوم النقد المقارن في عوالم الإسلام الزاهرة-فهو قد خلخل فلسفاته وناقض ادبياته ووضعياته- حتى صار إلى عبثية فوضوية تنتهك كل المعاني والمحرمات حتى إنه لم يبق له معنى صحيح للحياة للقبض عليه والثبات عليه وجعله إنطلاقة إلى المستقبل..
وهذا سبب سقوطه في العدمية.. وهو يحاول أن يفعل ذلك في عالم الإسلام.. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره العابثون اللاعبون بالحياة والإنسان ومقدرات الأرض ومنجزات الحضارات والمدنيات ومنها منجرات أعظم ديانة بعث بها نبي في تاريخ العالم.​
 
المجاز وتغيير وعي الإنسان في عالم المادية الحديثة
تقول في كتابكم هذا:" ،وكلّ وجود في الوعي هو وجود بالمجاز،فالإنسان هو مبدع اللغة لذلك فكلّ مفاهيمها تنطبق بالحقيقة على الإنسان لأنّه هو المعنيّ الأوّل بمعانيها ومفاهيمها،أمّا غيره فتطلق عليه مجازا قياسا على إطلاقها على الوجود الإنسانيّ ،وخلاف ذلك يعدّ عائقا أمام التفاعل المثمّر الذي يراد للإنسان أن ينخرط فيه ) يدخل هذا التحليل الأنتروبولوجي...في باب الأنسنة الحديثة و ما تفرضه من مراجعات فكريّة و نقد تفكيكي لجميع "القيم"والاعتقادات وأنواع التشريع والسياسات الشرعيّة التي ورثناها عن الماضي البعيد و القريب .والأنسنة إذن نشاط شامل ،بنّاء ، مبدع ،يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلّق بوجود الإنسان و طرق الفهم و التأويل و التجسيد التاريخي لهذا الوجود"​

على العكس من ذلك فالأنسنة (الغربية المادية الحداثية)إغتراب عن الوعي الحقيقي بترميز كل حقيقة(غيبية) ووضعها في عالم الخيال وذهنية الأساطير، ولايمكن أن يقول هذا إنسان على وعي بالحقيقة ، إنسان عالم بوجوده الإنساني المحسوس والحقيقي والمرتبط بوجود عوالم الأجرام السماوية المدبرة التي لولا قيام الإنسان، والمسلم على وجه الخصوص، بدراستها وإدخالها في مجاله الحيوي والتجريبي ، العلمي والعقلي، لما كانت التجارب والنتائج الحسية،فالتناسق الكوني المسخر يدفع بعقلاء الناس إلى الإستفادة العمرانية الكونية منه، فالتسخير مهمة إنسانية ، دعا إليها القرآن المجيد، كما أن التدبير مهمة ملائكية ، يمكن مشاهدة آثارها في التناسق والحكمة من وجودها جميعا،أما رمي كل شيء إلى الداخل النفسي،في ثقب النفس والخيال (الأسود في الضلال العلماني)، بحيث يبتلع الحقائق نفسيا فلا يعود لها وجود في خياله إلا في صورة الباطل الإسطوري!، فهو من العبث بالحقيقة والخيال نفسه، فالخيال البشري لايسرح وحده طليقا في المجال الكوني بدون دعائم عقلية وتجريبية، نفسية وعلمية وجدلية ، برهانية وتفكيرية، أما ماهو من الغيب مما جاء القرآن به داعيا إلى جعله إعتقادا ثابتا فالعقل يدل عليه فإن لم يدل عليه فهو لاينفيه، والفطرة لاتنكره بالضرورة والبديهة وهذا لاينكره عاقل، يعلم ذلك من نفسه فالخيال الذي يجعل كل ماهو خارج الإنسان (مجاز لاحقيقة له إلا في الأذهان) هو خيال مقطوع عن خيوط النفس الإنسانية الفاعلة في عالم النفس والحس بما تنطوي عليه من إدراكات وآلات عقلية وفكرية ،حسية ووجدانية.
إن الذين يصممون على وضع الحقائق المقبولة عقلا وفكرا في عالم المخيلة التي تدخلها في الأساطير والخيال الرطب الذي لاحقيقة وجودية له خارج الذهن ،إنما هم واهمون، قد لُبس عليهم بجعل ماهو حقيقي من الخيال وجعل ماهو من خيال إخترعوه ، من عالم الحقيقة ، تلبيسا وتضليلا، فليس هناك علم حقيقي أدى بهم إلى نتائجهم المتخيلة بلا دعائم عقلية او دلائل حسية تاريخية، ودليلنا على هذه الأخيرة هو أن علماء النفس والإجتماع الغربيين جعلوا ماهو خيال إخترعوه هم ، جعلوه من الواقع وصنفوه في عالم الحقيقة وهو غريب عنها مثل إدعاء فرويد عن البشرية الأولى وخرافته العلمانية عن قتل الآب الأول بأيد أولاده ماجعلهم يندمون ومن هذه العقدة تولدت في النفس فكرة (...) الضمير والدين، فتمت زحزحة الحقائق من عالم الحقائق إلى عالم الخيال وتم إدخال عناصر ونتف الخيال العلماني إلى عالم الحقائق والوقائع ولابد للإنسان من تاريخ يقبض عليه فإن أنكر الأصل فلابد له من بديل متخيل، اسطوري وخرافي، وهذا هو مافعلته العلمانية فعلى الرغم من ادعاءها المادية التامة راحت تستشرف بخيالها الرطب العوالم القديمة وكان لابد لها من أصول ولو متخيلة فإدعى فرويد أن البشرية الأولى كانت على مثال عالم البقر الدارويني، وانها قتلت الآب الأول ليتسنى لها حيازة النساء كما حازها الآب الأول وحده!، ومثل ذلك يمكن ان تقول عن حيونة الإنسان وإنبثاقه عن جنس حيواني لاعقل له وأن اللغة تطورت من الإشارات والرموز إلى الكلمات والحروف!، وهناك خيالات علمانية كثيرة جعلوها حقائق تاريخية ، ويكفينا مثال فرويد المتقدم في عالم الحس وهو ماجعل تلميذه يونج يخترع تصورا عن اللاشعور الجمعي فألقى الفرد في أتون الحتمية الجماعية(لكن في وطأة لاشعورية متمكنة!) أي كما زعم عن اسطورته عن اللاشعور الجمعي وكأن الجماعة متجمعة في أهاب تراثها داخل النفس (اللاشعور عند يونج) تقوده إلى حتمياتها القديمة او موروثاتها السابقة بلا إختيار ولا وعي من الإنسان وكأنه بات أو أصبح مسلوب الإرادة في عالم الحتميات والتخيلات الغربية عن الإنسان والحياة والنفس..لقد ألقى بهم الباطل في حمأة المخيلة الأسطورية بينما كانوا يحاولون التخلص منها بزعمهم وقد ألقاهم في وادي الحيرة وضلالات التصورات بعدهم عن حقيقة الغيب المقبول عقلا والتي لاينفيها حس ولافكر صحيح وقد ظنوا أن نفي تلك الحقائق الحقيقية المقبولة عقلا مع نفيهم لصور الباطل -الذي تعلموا نقده من الإسلام في الأندلس- يعني إستعادة الوعي البشري كما عبرت أنت عن موقفهم هذا بالقول بأنه :" الإقرار بحقيقة الوجود الإنساني-في الهنا و اعتبار العالم الفوقي الكامن في الوعي عالما مجازيّا،وهو ما يعني انتصارا للموقف الحداثي-العلمي"!!
وينسى هذا الموقف المادي أن آباؤنا عاشوا وعيا إنسانيا راقيا وواعيا بالتاريخ والإنسان والغيب الحقيقي المقبول عقلا وغير مخالف للفطرة بل الفطرة مفطورة عليه ومع ذلك لم يحولوا الحقائق وماهو مغروس في الفطرة ومقبول عقلا إلى مجاز ذهني غير مفارق، بل حولتهم النصوص القرآنية المقدسة المنبهة على آيات الحقيقة في عالم النفس والمجتمع، عالم الآفاق والكون، إلى أصحاب وعي تاريخي وعلمي ،بالحياة جميعا، ماهو فوق وماهو تحت،وقد دفعهم ذلك العلم المخالف، على الحقيقة، للوهم والخيال الباطل،دفعهم دفعا إلى أعظم إنتاج وقائع تاريخية حسية وانتاج حضاري مادي وروحي فريد، بخيال مدعوم بالملاحظة وتتبع السنن ودراستها،فكان الإنتاج الحضاري الفريد في نوعه وإمكاناته الإنسانية والمدنية ،في مجال الإنسان وأشواقه الروحية ومجال البحث والتجريب ، والإبتكار والإكتشاف، ولايخفى عليكم أن الخيال لايقوم بهذا المعنى وحده بل أدىت إليه علوم القرآن الكونية والعلمية، العقلية والمادية(في نصوص محرضة للعقل والفكر، للنظر في الآفاق والسنن الكونية) ، مايخص عالم الكون المادي وعالم الإنسان الأرضي على السواء...فلم تنكر حضارتنا عالم المادة إكتفاءا بعالم الروح أوتهرب من الوعي الإنساني إلى عالم الخيال والفناء الصوفي، بل أنتجت الأشياء والمواد، وأخرجت للعالم الإبتكارات والإكتشافات، الإختراعات والآلات، ومن هنا أخذت أوروبا وإرتكزت على علوم الوعي الإسلامي الإنساني المنتج للحياة غير نافيا لها، المنشئ لوعي إنساني على مستوى فريد يبدأ بوضع الإنسان خليفة في الكون، مستعمرا فيها، للتعمير لا الهدم والعيش في عالم الخيال والغربة عن ذاته، بل وضع القرآن الإنسان في عالم المادة لإستصلاحها وإستخدامها، وتطوير عالم الإنسان وترفيعه إلى أعلى مستوى إنساني لتنعم الإنسانية بكوكب جميل نظيف لإنسان مكرم،حقا وفعلا،إنسان ليس كل عمله الحياة والسلام!، وإنما الحياة بوعي إنساني يزداد وعيا بالكون والآفاق كلما فهم عن الله وآياته، عن تحريض القرآن المجيد لدراسة العالم والسنن.
فحقائق الإسلام من الإيمان بالله إلى الإيمان بوجود (روح بشري عاقلة صارت كيانا واحدا مع الجسد البشري في وشيجة فريدة).. كل تلك الحقائق العظيمة ، التي بدأت من عظمة الرب تعالى إلى عظمة خلقه وإبداعه نؤمن بها إيمانا جازما لا خيال فيها ولا خبال، فديننا نفى الأسطورة وهو يضع الحقائق ويقرر الحقيقة فكان التوازن وكانت الشريعة وكانت الحضارة.
 
عودة
أعلى