مصطلح التاريخيّة 2: أزمة المنهج التاريخي في التعامل مع النصّ القرآني

إنضم
05/08/2012
المشاركات
21
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
تونس
بسم1

إلياس قويسم

باحث و جامعي من تونس

يقول محمد أركون  إذا ما استمررنا في النظر إلى القرآن كنص ديني متعال،أي يحتوي على الحقيقة تجعل حضور الله حاضرا،فإننا لا نستطيع عندئذ أن نتجنب مشاكل التفكير الثيولوجي و البحث الثيولوجي.فالثيولوجيا ليست محصورة بالمفتي أو الإمام أو الشيخ.الثيولوجيا تعني عقلنة الإمام،كما أنها تعني أيضا تلك المجابهة القائمة بين نظام المعرفة السائدة في فترة معينة و المشاكل التي تطرحها آلية اشتغال نص ديني أو تراث ديني،أي أنها تعني أيضا المجابهة القائمة بين التراث و التاريخ و تطرح مشكلة الحداثة و الإجابة عن مشاكل الحاضر بطريقة معقولة تراعي التطور و التغير.1 إن التعامل مع النص الديني باعتبار تعاليه سينير لنا جانبا واحدا فقط، هو الجانب التقديسي/المتعالي،ويحجب عن أفق منظورنا كل الجوانب الأخرى الممكنة التناول فيه،من بين هذه الجوانب نجد الجانب الأرضي/الإنساني،اعتبارا لأن اللغة النازل بها النص القرآني هي لغة الإنسان،هذا التعامل في نظر من التزم بتناوله في علوه هو إفساد لقداسته،لأن التعالي في حقيقته هو المفارقة لكل الأنساق الإنسانية،هذا ما يجعل هذه الأخيرة قاصرة عن كل دراسة،يعجز معها المتلقي عن استخراج إمكانات النص نظرا لتلونه لون القداسة،من ثم يغدو النص رمزا مغلقا،صامتا،على حد تعبير من التزم بالمنهج الأنتروبولوجي-الثقافي ، و لأجل تحرير ارتهان النص و إطلاق دلالته و تحريرها،رأى المفكرون المحدثون ضرورة إحداث ثورة في المناهج تمكننا من" أنسنة"،من "دنيونة" النص،وذلك بإنزاله من تعاليه إلى فضاء الإنسان من فضاء المعنى الأحادي إلى فضاء الاختلاف،من حقل التقديس إلى حقل الثقافة،من ثم  تلزمنا روح جسورة لنقرأ من جديد كل شيء،ونطور كل شيء.اللغة والفقه والتاريخ والرموز و البنيات المعرفية كلها وهي عملية لا تعني …إسقاطات متعسفة من حاضرنا على ماضينا. 2
نعني بهذا القول، التعامل مع النص من منحى ثقافي سيميوطيقي-أدبي، أي جعل النص القرآني في مستوى التناول و التحليل نصا شقيقا للنصوص الثقافية المتداولة، قابل للتغير و التحوير و الإلغاء،هذا التمشي في التعامل مع النصوص أيا كان مصدرها فرضته الثورة المنهجية التي أرست بتعريفها الجديد للنص إمكانية إلغاء الفروق بين النصوص فلا وجود لنص مضاف إلى أي كان،فكل النصوص تتكلم لغة الواقع و تحمل المعنى الذي يدركه المتلقي و المفكك لعُجمة النص،هذا التعامل ألغى مصدرية النص و أرسى بدلا عنه المتلقي كمالك جديد للنص بإمكانه تناوله من الجوانب المتيسرة له بحسب اللحظة التاريخية التي يعايشها و بحسب موقف الثقافة السائدة،نظرا لأن النصوص هي التي تفرض نسق إمكان تداول النص أو امتناعه،بهذا يكون الواقع التاريخي هو الفاصل في عملية قبول تداول النص و ممارسه فاعليته على الواقع التاريخي أو مصادرة فاعليته بدعوى تعارض فحواه مع مطلوبات اللحظة التاريخية الراهنة.
فالثقافة من هذه الناحية هي النظام أو المحيط العام الذي تنصهر فيه جملة من الأنظمة الفرعية،وباجتماعها و تفاعلها تتكون الثقافة،من ثم فكل نتاج يولد داخل هذه المنظومة لا يكون بمعزل عن دائرة تأثيرها،بل إن الثقافة هي الممهد الأول له،ومن منتجات الثقافة نجد النص بجميع أشكاله:النص الديني،الأدبي،الفلسفي،الأسطوري، و يترتب على ما سبق أن المفهوم السيميوطيقي للثقافة ينشأ من النظر إليها على أنها مجموع أنظمة من العلامات متنوعة و متعددة و أيضا مندرجة ومتداخلة،ومن ثم فلا بد من دراسة هذه الأنظمة من مناحي مختلفة منها التقني و الاجتماعي والاقتصادي و السلوكي و الإيديولوجي3.من ثم فميلاد النص نابع من الثقافة،بذلك يمكن الاصطلاح عليه بالنص الثقافي،بذلك يتغير مفهوم الثقافة من حيث هي مستودع لذاكرة المجتمع إلى آلية لتوليد النصوص،ومن مفهوم الثقافة نخلص إلى مفهوم النص: فالنص من وجهة نظر سيميوطيقية هو الوحدة الصغرى التي تتكون من مجموعها الثقافة نفسها كبنية كبرى.و يعرف المؤلفون النص الثقافي بأنه الوحدة الدالة التي تتشكل منها الثقافة.4 
انطلاقا من هذا التمشي الجديد في تحديد هوية النصوص نجد إشكالا في مستوى تعميم هذا المنهج على جميع أنواع النصوص نظرا لأن التعميم سيجعل من الباحث يطأ أرضا محفوفة بالمخاطر ،وهي أرض المقدس، هذه الحراثة الفكرية في هذا المجال لم تكن حاضرة بقوة نظرا لأن النص المقدس لا يطرح من حيث مصدره بل من حيث المعنى و الـتأويل اعتبارا لأن المصدر لا يطاله النقد أو إعادة القراءة لكن بهذه الثورة أزيحت عن كل النصوص صفة الامتياز أو القداسة و أصبحت للباحث تأشيرة البحث فيه قصد إيقاع نسق جديد من التصنيف و التعامل مع النصوص لا يقر مبدأ التراتبية بل يقر مبدأ الثقافية هذا الاستبدال ينزع تقية القداسة التي يحتمي به حراس الرأسمال الرمزي قصد حماية النص و المحافظة على علويته.
بذلك أصل إلى أنّ عنونة نصر حامد لكتابه بـ"مفهوم النص" هي رغبة منه في بلورة هذا المفهوم و بحث عن مفهوم للقرآن،هذا المفهوم الغائم و الغائب في الثقافة الكلاسيكية،فالنص القرآني بقي في موضع إشكال لم يحسم بعد،وهو من ثم يتوجه بالاتهام إلى الشق المقابل،الذي اطمأن إلى مفهومه للنص من حيث هو نص إلهي مُنَزَّلٌ من عنده ابتداء لهداية البشر،هذا النص له وجود سابق في اللوح المحفوظ،من ثم اكتسب شرعيته من دليل خارجي.في حين أن نصر حامد يشكك في هذا المفهوم و يسعى إلى تقويضه تماشيا مع نسقه المنهجي  إن البحث عن مفهوم "النص"ليس في حقيقته إلا بحثا عن ماهية"القرآن" وطبيعته بوصفه نصا لغويا.5 
إن نصر حامد من خلال هذا الجهد يسعى إلى التأكيد على الهوية الثقافية-الواقعية للنص قصد تأصيل معنى آخر مرتبط ماهويا بهذا الأخير،هذا المفهوم هو القراءة المتجددة التي تعطي للقارئ حرية أكبر في التصرف في النص تماشيا و مقتضيات الواقع،بمعنى أن النص القرآني باعتبار انتمائه إلى الثقافة قد أصبح قابلا للنقض والتحوير حتى يكون مواكبا للمتغيرات و حتى تقبله الثقافة،على عكس النهج السلفي الذي يتهمه بالتثبيت،هذا الرأي في نظري غير صحيح لأن النهج السلفي-المعتدل الواعي بمقاصد النص وآفاقه قد أدرك سنة التطور التي تحكم الواقع فكيّف النص بحسب ذلك لكن دون أن يهدر كينونته،أو يتعسف و يتجاوز الصبغة الدينية للنص،إنه هاجس يحكم نصر حامد وهو التخلص من سلطة النص حتى يكون حداثيا،لكن هل يكفي للمرء الجهر بذلك حتى يكون كما يدعي؟،لابد من التطبيق،ونصر حامد يفتقر إلى ذلك لأنه يتعامل مع مقولاته التطورية بمنطق وثوقي،يكشف عن أصوليته،لأنه قد جعل من أقانيمه المعرفية صنما مقدسا عوض به غيبة الإله عنده.فهو يريد التشبث بشرعية الواقع و حاكميته على النص،لذلك فهو يريد استفزاز كل العناصر ذات الجذر الواقعي قصد تثوير المنظومة السلفية، وفي منهج تحليل النصوص تنبع مصداقية النص من دوره في الثقافة،فما ترفضه الثقافة و تنفيه لا يقع في دائرة النصوص،وما تتلقاه الثقافة بوصفه نصا دالا فهو كذلك. 6 .
معلوم أن الثقافة نتاج ظروف موضوعية مجتمعة في تاريخ معين،بمعنى أن معايير قبول النص ستتغير بتغير البنى التحتية للثقافة،وبذلك نصل إلى نقطة أساسية في فكر من ادعوا تبعيتهم للمنهج الأركيولوجي أو التاريخي في دراسة النصوص،وهي الإيمان بالتغير فلا وجود لشيء ثابت،فكل شيء متحول فما هو مقبول الآن قد يُرفض مستقبلا،ولا نقصي من مجال هذا الحكم أي نوع من النصوص،وإذا طبقنا هذا الرأي على النص القرآني فإننا نجد النتيجة التالية:

المنظومة التجديدية
 النص القرآني نص ثقافي: محايث .
 حقيقة متغيرة: توجه نحو الإنسان.
 تكييف النص بحسب متطلبات الواقع .
 جدل صاعد: الواقع أولا.
 الالتفات إلى القارئ: ميلاد القارئ= موت المؤلف.
المنظومة التقليدية
 النص القرآني نص إلهي: مفارق .
 له حقيقته ثابتة. توجه نحو الله .
 تكييف الواقع بحسب متطلبات النص .
 هناك جدل نازل بين السماء و الأرض.
 هيمنة المتكلم :قائل النص.الكلي في خدمة الجزئي.
من هنا نستنتج أن النص في منظومة نصر حامد لا يغدو مقبولا إلا إذا استجاب لقانون الثقافة وإلا عُدَّ من قبيل اللاثقافي  و قد يختلف اتجاه الثقافة في اختيار النصوص من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى،فتنفي ما سبق لها أن تقبلته،وتتقبل ما سبق أن نفته من النصوص…و إذا كنا نعتد المعيار الثقافي في تحديد مصداقية النص،فمن قبيل تحصيل الحاصل القول بأن مصداقية هذا النص –القرآن-لا تنبع من كثرة المؤمنين به.7 إنها تنبع من تقبل الثقافة له،بذلك يمكن القول إن كل المعاني متحولة استنادا إلى منطق الجدل ومبدأ التناقض الذي أوقعه هيجل و من وراءه ماركس فالتناقض هو أساس الحركة و التطور،لذلك تكون العقلانية في حداثتها عقلانية متطورة،من ثم يتغير شكل تفاعلها مع الأشياء،هذا اتهام ضمني من نصر حامد لأصحاب النظرة السلفية بـ"تحنيط" النص و تحويله من نص إلى مصحف إلى أداة للزينة نظرا لتمسكهم بعقلانية التقليد مثال:

يمثل القرآن منظومة متقدمة بالمقارنة مع السابق: المنظومة الجاهلية،لكن لا يجب أن نقف عند هذا الحد لأن النموذج الإسلامي في تلك الفترة ليس إلا مرحلة انتقالية،فهو لا يمثل الكمال، وتوافقا مع مبدأ الجدل و التناقض يؤكد على مواصلة التغيير و البحث لا في الماضي بل في المستقبل فالحركة لها اتجاه مستقبلي اتجاه نحو "الـ هناك" و ليس حركة ارتدادية إلى الوراء. من ثم أخلص إلى رأي أن نصر حامد يجرّم أنصار العودة إلى التراث إلى الماضي،نظرا لأنه يعتبر أن الحركة دائمة إلى الأمام،فالبحث عن النموذج يكون في حقل المستقبل لا في رفوف الماضي،وهذا تشريع منه لنفي الثوابت و التيه في مناكب المستقبل،  و يمثل هذا المجال حقلا ثريا لدراسة الصراع الذي يقوم بين ثقافات التغيير وسلوك الإنسان الذي يحاول تغييرها رغم مقاومتها ويتم هذا من أجل ما أسماه لوتمان "خلق سلوك مستقبلي مغاير للتراث"8 بذلك نعود ونقول إنّ نصر حامد قد شرّع لفلسفة الضياع تحديا لمشروع السلف القائم على ثوابت مرجعية،إنها إرادة منه قصد التحلل من كل الضوابط قصد التصرف في النص بحسب مستجدات الثقافة،تحرر من سلطة الفقيه:نزوع نحو التحرر من قيد الأحكام و الأوامر المنزلة،فالثقافة هي الحكم،فلها أن ترفض،أن تغير،أن تحور،و من منظور جدلي نقول إن تغير البنى التحتية يفرض حتما تغيرا في مستوى البنى الفوقية،و يمكن التوغل أكثر و نقول من منطلق فلسفي،إن العقلانية الدينية-الميتافيزيقية مثلت تجاوزا لمنطق الأسطورة و الخرافة السائدين في التاريخ قبل انبجاس الظاهرة الدينية،لكن الوضعية الغربية تعتبر تتويجا لسيرورة العقل الذي تعدى مرحلة الطفولة –فترة النصوص الدينية ذات الطابع المتعالي-أما الوضعية الغربية-تأليه العقل- فهي فترة الرشد و الاكتمال،بذلك شكلت الوضعية "التنويرية قطيعة مع عقلانية الفكر القروسطي "الديني-الأسطوري-.
لنأخذ الآن أمثلة من نصوص مفكر تتبع منهج الفكر التاريخي في تعامله مع النصوص ونعني بذلك المنهج السيميوطيقي،و نقوم بتحليلها قصد الوقوف أكثر على أهم النقاط التي يركز عليها لأجل تأكيد صحة منطق نظريته.إن القاعدة الأساسية التي ينطلق منها نصر حامد هي توالد النصوص أو التناص بعبارة أخرى  كل نص هو تناص و النصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة و بأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى إذ نتعرف فيها نصوص الثقافة السالفة والحالية:فكل نص ليس إلا نسيجا من استشهادات سابقة9 الغاية من إدراج هذا الاختيار المنهجي هو الكشف عما يريد النهج السلفي إخفاءه،بمعنى آخر إنه يريد الكشف عن الجانب الإنساني-الاجتماعي في النص،إنه جهد لإبانة جذور النص الحقيقية التي استمد منها النص حقيقة معانيه ومفاهيمه،و التناص هو قدر كل نص مهما كان جنسه –كما يصرح رولان بارت- فالنص كون من الصيغ المجهولة التي نادرا ما يكون جذرها معلوما،هذا التناص هو الذي يعطي البعد الاجتماعي للنص،فالثقافة بكل معطياتها تصب في النص لكن ليس بطريقة سلبية،بل بطريقة منتجة فعالة،بحيث تمنح النص وضع الإنتاجية لا إعادة الإنتاج،بذلك نعود إلى النظرية الغربية للنص التي تعتبره نسيجا ،و نصر حامد بتطبيق هذا النمط من المناهج يسعى إلى اكتشاف نسيج النص القرآني في حالة نسجه،في حالة تشابك الأنظمة المُشَكِّلة له.لذلك إن نصر حامد يبحث في المناطق المنسية هذه المناطق التي يكمن فيها جذر النص وهويته الواقعية،فالنهج السلفي يعتد بالنصوص الجديدة ويهمل البقية أو يبيدها حتى لا تحرج موقفه أو تزلزل نظريته  و على نحو ما فإن الإغفال أو النسيان يحتل كذلك مكانا بطريقة أخرى ذلك أن الثقافة تُبعد باطراد نصوصا معينة،إنه تاريخ إبادة النصوص،إن تاريخ محق مدونات من محفوظات الذاكرة الجمعية يطّرد سيره جنبا إلى جنب مع تاريخ إبداع مدونات جديدة. إن كل حركة فنية جديدة تبطل سلطان النصوص التي اعتدت بها عهود سبقت،و يتم ذلك بنقل تلك النصوص إلى صنف اللامدون،اللانص،أي إلى نصوص من منزلة مختلفة،أو يتم بإزالة تلك النصوص و محقها.10 لنأخذ هذا النص و ننظر فيه لنقف على منطق نصر حامد بالمقارنة مع منطق السلف:
لقد كان ارتباط ظاهرتي "الشعر"و "الكهانة" بالجن في العقل العربي،و ما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر و الجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها.و لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمرا مستحيلا من الناحية الثقافية،فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله مالم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري،وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحي-القرآن-لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه و تجاوزا لقوانينه،بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة و نابعة من مواضعاتها و تصوراتها.11

 من وجهة نظر سيميوطيقية: ضرورة البحث في الوقائع التاريخية التي لم تكن في نظر الثقافة الجديدة-السلف- حقائق،ومن ثم كانت قابلة للإغفال،لكن عند نصر حامد المعتمد على هذا المنهج تصبح ذات معنى وهدف.
* الثقافة الجديدة –السلف- أغفلت أو أطردت نصوصا معينة في ذات اللحظة التي ولدت فيها نصوص جديدة-القرآن-
* هذه النصوص المبادة أو المهملة هي ذات معنى عند نصر حامد: إنها نصوص الثقافة السابقة: الشعر و الكهانة،التي تحمل إرهاصات النصوص الجديدة,التي بدونها لا يمكن لتلك النصوص أن تكتسب مكانتها داخل الحقل الثقافي السائد.
* نستنتج أن نصر حامد يؤكد على وجود استمرارية في النظام الثقافي بدليل دوام أصول مبادئ بنائه الأساسية و بديناميته الداخلية،أي بقدرته على التغير في ذات الوقت الذي يصون فيه ذاكرة الحالات السابقة
*إذن من هذه الوجهة تصبح الثقافة الجديدة تعمد إلى إبعاد أو إغفال نصوص بنصوص أخرى  *هذا دليل على أن لاوجود بعض النصوص يصبح –بسبب عدم تناغمها مع الجديد- شرطا أساسيا لوجود نصوص أخرى.
* وجود القرآن شرط أساسي لإغفال الشعر و الكهانة.
قبول ظاهرة الوحي مرتهن بالإيمان بما قبل النص، الشعر و الكهانة.مفهوم النص عنده هو هذا النسيج من الأنظمة الماقبلية المشكّلة له .
نصر حامد يقدم التحليل السيميوطيقي للظاهرة على التحليل الداخلي لها إنه ربط بالواقع وإعادة لبناء الواقع الذي أنتجها واستقدام النصوص المغفلة التي ساهمت في التأسيس .هذا يكشف عن أنسنة الوحي و ربطه بأصوله الواقعية.
بهذا فإن نصر حامد يؤكد على مبدأ التناص قصد التأكيد على واقعية الوحي والكشف عن نسيجه المخفي:فلولا الشعر و الكهانة لما كان الوحي ،فقبول الوحي مرتهن بمدى قبول الجماعة "الثقافة له"  و تدفعنا هذه النواة حتما إلى ما قبل النص فتنشد الذات المبدعة إلى تركيب نفسي وبناء اجتماعي-تاريخي و كيان حضاري.و لا ينفصل"ما قبل النص" على النص بل يذوب فيه.12
تأكيد نصر حامد على الاستمرارية الثقافية-التواصل و الامتداد- ولهذا التواصل وجهين :1 استمرارية النصوص السابقة في النص الجديد 2 استمرارية القواعد الشفرية –اللغة- . و يمكن أن نورد أمثلة على ذلك المؤكدة على منطق التناص:
 إن النص القرآني منظومة من مجموعة نصوص و إذا كان يتشابه في تركيبته تلك مع النص الشعري،كما هو واضح في المعلقات الجاهلية مثلا،فإن الفارق بين القرآن و بين المُعَلَّقَة من هذه الزاوية المحددة يتمثل في المدى الزمني الذي استغرقه تكون النص،كما يتمثل في تعدد مستويات السياق المحددة لدلالة كل جزء من أجزائه …وهذه التعددية النصية من بنية النص القرآني تعد في جانب منها نتيجة للسياق الثقافي المنتج للنص،لأنها تمثل عناصر تشابه بين النص و نصوص الثقافة عامة وبينه و بين النص الشعري بصفة خاصة.13
 ثم هناك…سياق مخاطبة النساء المغاير لسياق مخاطبة الرجال رغم الجمع بينهما في سياق واحد في كثير من الأحيان. من تلك الزاوية يمثل النص القرآني تجاوزا للنصوص الشعرية السائدة،وانحيازا لنصوص الصعاليك حيث تمثل المرأة/الزوجة مخاطبا في بعض نماذجه.14
 إذا انتقلنا من المجال الثقافي العام بشقيه المعرفي و الإيديولوجي إلى مجال علاقة النص الديني بالنصوص الأخرى السابقة عليه والمعاصرة له لوجدنا أن النص قد انخرط في علاقات سجالية مع تلك النصوص.وقد اعتمدت العلاقات السجالية على آليات تناصية على درجة عالية من التعقيد،نذكر منها على سبيل المثال:الرفض فيما يخص الشعر و الكهانة والسحر مع بعض الاستثناءات في مجال الشعر.لكن هذا الرفض لم يمنع النص من توظيف آليات تعبيرية و أسلوبية تنتمي إلى تلك النصوص خاصة في مجال الإيقاع.15
النص القرآني قد غدا نصا لقيطا فهو لوحة فسيفسائية من النصوص المنسية،فهو يقتبس من الفائت هويته و آلياته فالقافية في الشعر صارت الفاصلة في القرآن،و الآية بدل من البيت،و السورة بدل من القصيدة 16
هذا هو النص القرآني-الأدبي-: بهذا يفقد النص القرآني نفسه الإيماني ليغدو نصا ثقافيا يخضع لقانون التطور و التغير لأن النموذج كامن في المستقبل لا في الماضي.

إن هذا المنهج السيميوطيقي (المعرفي) يتداخل مع المنطق الإيديولوجي الرابض وراءه: إنها المادية الجدلية التي تعتبر أن الفكرة ليست إلا انعكاسا للواقع الموضوعي،وهناك تأثير عكسي وهو يتجه من الفكرة إلى الواقع. هذا نفي للوجود السابق للنص بما أن البداية هي للواقع ،للثقافة نفي لأساس الاعتقاد السلفي: الوجود الميتافيزيقي للنص :اللوح المحفوظ.

بهذا يغدو النص القرآني نموذجا متطورا عن النصوص السابقة له،انطلاقا من قانون التطور و الجدل،فهو-أي النص القرآني- قد هضم النصوص السابقة و أعاد صياغتها بطريقة تستجيب لمعايير الثقافة السائدة و ملبية لرغبات المجتمع،أي أن النص ،من هذه الوجهة قد أصبح إيديولوجيا،بمعنى أنه قد استجاب لمتطلبات عصره،وقد تولد النص القرآني بحسب ذلك نتيجة أزمة واقعية سادت المجتمع بحيث لم تعد المعايير السائدة كافية لتجاوز الأزمة لذلك وجب التفكير في البديل،و بما أن محمدا  كان ابن واقعه،أي عارفا بما يختلج في نفوس قبيلته،تمكن من صياغة الحلول التي مكنت من تخطي الأزمة باستبدال نمط قيمي بنمط آخر بديل قادر على الاستجابة لمتطلبات أبناء قومه،فالقرآن قد غدا بهذا المعنى جملة من الاستجابات،من الحلول لقضايا مستجدة خادمة لواقعها،بمعنى أنها غير ملزمة للسلف،أي أنهم قادرون على الاحتفاظ بها أو تغييرها،انطلاقا من مبدأ جدل البنى.
ذلك هو تصور نصر حامد للنص القرآني إنه حامل لإيديولوجيا تهدف إلى الاستجابة لمتطلبات الواقع قصد تغييره،لكن الانطلاقة دائما تكون من الواقع،إنه مناهضة لتصور السلف الذي يقر بأن النص جاء لتغيير الواقع و ليس استجابة له،إنه صراع من أجل إثبات الذات،فكان مصير النص أن أُهْدِرت كينونته،بأن غدا مجرد أجزاء ضمت إلى بعضها لا كلا متجانسا،و عدم التجانس يرجعه نصر حامد إلى طبيعة الواقع- الثقافة السائدة-  و نقصد هنا بطرق التجزؤ والتعددية والانتقال من موضوع إلى موضوع آخر على نمط التأليف العربي في النصوص الأدبية 17 لكن هذا الرأي ليس مجديا،فصحيح أن القرآن عالج عدة قضايا و وقائع و أصدر فيها أحكاما،اعتبارا لاختلاف الوضع المكاني:مكة و المدينة،و الوضع الزماني النزول في فترة تزيد عن عشرين سنة،لكن رغم هذا التجزؤ الظاهري،فإن النص يحمل في طياته نواة توحده و تماسكه وهذا يعود إلى البنية اللغوية للنص القرآني  كانت البنية القرآنية متسعة الموضوعات حافزا للأخذ و العطاء، وكانت قابلية البنية اللغوية للقرآن الكريم لأكبر قدر من المرونة بحكم عمومية الأحكام و طبيعة اللغة في طرح قضايا تلك الأحكام،قادرة على التوافق والانسجام مع الظروف الجديدة،و قابلة لأكبر قدر من التأويل و الفهم الخاص لكل إشكالية كان يواجهها المسلم في لحظة المواجهة مع الآخر. 18
هذه النتيجة تدفع إلى القول إن المفكر الحداثي ،قد استخدم منهجا ألسنيا يتوافق و مراميه الإيديولوجية،فالسيميوطيقية مثلا تخفي وراءها قراءتها الإيديولوجية المتجسدة في الماركسية/ المادية،لذلك أعيد القول إن نصر حامد قد وظف آليات هذا المنهج قصد تقويض النظرة الدينية-السلفية من خلال التشكيك في الروايات والإسناد،بذلك انشد بأصولية مفرطة إلى الواقع وتناسى "وجود النص" حيث عمد إلى تغييبه في غمرة إعلائه لشأن الواقع و دفاعا عن موقفه الإيديولوجي المتيم باكتشاف الواقع المقصى –في نظره-في المنظومة السلفية،إنها رغبة في تحرير الواقع من وصاية الحكم الإلهي و تأكيد فكرة التقدم الإنساني،و تمكين الإنسان من صناعة تاريخه ومنحه تأشيرة حرية البحث و الاكتشاف.بذلك أراد نصر حامد بمنهجه السيميوطيقي،الأدبي،الواقعي، البحث عن القانون العلمي الذي يحكم الظواهر خارج إطار التقديس و التعالي إنه القانون الإمبيريقي الذي لايقر إلا بالدليل المادي/المرئي،هذا القانون العلمي لا يحكم الظواهر بل كذلك ينسحب على الإنتاج الفكري على إنتاج النصوص بجميع أنواعها،إنه يسعى إلى ترييض النص القرآني من خلال تصنيفه طبقا لقواعد رياضية،و طرح أنساق مجردة تحكم العلاقات التي تربط النص ببقية العناصر الثقافية الأخرى.أي أنه لا يريد إخراج النص من حقله المرئي-الواقعي،لأن في المفارقة فقدان للعلمية ودخول في متاهات ميتافيزيقية-أسطورية لا تجدي نفعا.
المنطق الحديث قد آثر القطيعة مع كل هذه التصورات الأدبية و الدينية،وعمد إلى قلب الموازين لصالح الواقع ومن وراءه لصالح المتلقي،من خلال تغييب المرسل و اعتباره ميتا منذ لحظة تلقي القارئ للنص.هذا يفترض أن مثل هذه المناهج الدخيلة قد لا تستجيب تماما لطبيعة النص و لا يمكن من ثم توظيفها لفهم النص،لذلك كان من واجب نصر حامد أن يعتبر جهوده هذه مجرد اجتهاد تدخل ضمن منظومة تجديد الرؤية للنص الديني،و هذه الرؤية لها إمكانية النجاح كما الإخفاق،نظرا لأن مساحة الضوء التي يلقيها منهجه لا تضيء كل المناطق المعتمة في النص،ولا تتوغل في كل تضاريسه و طبقاته.بهذه النظرة النسبية يمكن أن تصبح مقولة نصر حامد قابلة للتوظيف"الوعي العلمي بالنص القرآني،و الفهم الموضوعي له" إن استحالة تطبيق هذه القولة كان مرده تلك الأصولية،بحيث لا يمكن أن تتواءم العلمية بالإيديولوجيا.
من النتائج التي يمكن رصدها،أن نصر حامد و من سلك مسلكه من المفكرين المدعين للصرامة العلمية، قد عمد إلى طمس خصوصية النص الديني بأن ألحقه بالنص الأدبي و تعامل معه بنفس الطريقة،و الحال أن لكل نص هويته،فإنزال النص الإلهي منزلة النص البشري،له غاياته،لأن نصر حامد بتطبيقه منطق الجدل و التناقض،يسعى إلى طمس معالم الإلهي وأنسنة النص،من خلال إفقاده صفة الثبات،الفاتحة لمنطق التحلل من الأحكام نظرا لطبيعة التغير التي تحكم العالم،إنه تشريع للهروب،تشريع لحرب إيديولوجية فاستعمال منطق الغائب من طرف السلفي قابله استخدام منطق الشاهد،و توظيف القدسي و الإلهي،قابله بالدنيوي و الإنساني،إنها معركة من أجل كسب معركة الحقيقة،فهو رفض للتعايش المختلف،و الحال أنه داعية للحرية،للعدل،للفهم العلمي،لكن الإعلان عن ذلك لا يكفي،فلا بد من التجسيد العملي لهذه المقولات،وإلا وقع في تناقض مع ذاته،وهو ما سقط فيه بالفعل.
من هنا يباح لنا القول بأن النص الممتاز –بتعبير نصر حامد- يحمل في طياته " تأشيرة" الحضور في الواقع و فرض منطقه و حقيقته قصارى القول : أن تكون للنص حقيقته ، معناه أن للنص حقيقته ، معناه أن النص لا ينص على الحقيقة ، لأن الخطاب الذي يكون مجرد نص على الحقيقة ينتهي بانتهاء الوقائع التي هي إجراءات الحقيقة ، أما النص الذي يفرض نفسه ، فهو الذي يحثنا دوما للرجوع إليه لفهم الواقع و الحقيقة .بكلمة النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة .19 من ثم فالواقعية كما يُمارسها نصر حامد تفضي من الناحية الإيديولوجية إلى ما يسميه هو " إهدار كينونة النص" و أبرر هذا النفي لفاعلية الواقعية في التعامل مع النص القرآني ، أن الواقع هو واقع نسبي متغير و بالتالي يكون قابلا للنقض والتجاوز على أساس معيار يُفرق بين الحقيقي و غير الحقيقي أو بين العلمي و الخرافي 20 لو نستعمل لفظ علي حرب ،فإننا نقول أن "واقعية النص" تنقض " وقائعية النص" ،و الفارق بينهما ليس فارقا هينا ، بحيث يعسر التأليف بينهما ، لأن كلا منهما يفتح على فضاء يُناقض الآخر،لأن النص في حقل الوقائعية لا  يعود مجرد راو للحقيقة، بل يصبح منتجا لها،و لا يعود مجرد خبر عن الوقائع ، بل يغدو هو نفسه واقعة تفرض نفسها على القارئ … والوقائعية تختلف عن الواقعية كما يستخدمها أصحاب المنهج الواقعي ، فهؤلاء يعتبرون أن النص هو نتاج للواقع الذي يتشكل فيه.في حين أن الوقائعية تعني أن النص يواصل صموده أمام الوقائع .21
ختاما يعسر تحديد تعريف للنص في ظل التمادي الحميمي للتعلق بمفهوم النص كما أسسته الحداثة الغربية فارضة منطق الأركيولوجيا والتاريخية في قراءة النصوص،فالنص بهذا المنطق يهجر حقل الحقيقة ليتخذ من المعرفة نسبا له،وهو في هذه الحالة ينسلخ من كل هوية،نظرا لأنه سيندرج ضمن منظومة التناص،هذه الدوامة المعرفية التي تجعل من النص يحمل في طياته أجزاء من نصوص أخرى سابقة ،فهو يغدو نسيجا جديدا لمعاني سابقة لوجوده،فالنص من وجهة نظرا الحداثة المتعينة نص أصبح منسوب لقارئه/لمتلقيه نظرا لأنه أعاد قراءته و تشكيله بحسب اللحظة التاريخية الراهنة،هكذا يكون النص نصا لقيطا مجهول النسب أو متعدد الأنساب والأصول ،مهمة القارئ إرجاعه إلى أصله و في هذه العملية يصبح النص هلاميا أو تتلاشى معالم هويته،وهو ما يصبو إليه الفكر الحديث حتى يتخلى عن كل مسؤولية إلزام تجاه مصدر النص،لأنه يريد تكييف النص بحسب قراءته هو فيدعي بقاء المعنى و تغير المغزى و هي مداورة من القارئ حتى يتهرب من الإلزامات التي يمكن أن تكون محمولة في طيات النص كالنص الديني مثلا.
نقول-أخيرا- إن النص و التاريخ هما دلالة واضحة على فعل الزحزحة التي ارتأى ركوبها الفيلسوف/المفكر قصد إيقاع نوع من التغيير في رؤية النص ،و التاريخ هنا شكّل مسرحا للأحداث والتجارب النصية،و الشيء الواضح و البيّن أن كل تجربة تمثل موقفا من النص و المعيار الرائز هو كيفية التعامل مع النص، و تصنيف ذلك لا يكون إلا بفعل القراءة على القراءة قصد التثبت من هذه القراءة فلا يجب السقوط في أحبولة خطاب الفرع الذي يدعي حمله لخطاب الأصل ذلك أن الفارق الزمني و المعرفي يشكلان حجر الزاوية في الحكم،فلا وجود لقراءة بريئة أو مبرّأة من الزلل والخطأ ذلك أن الانسياق وراء ادعاء أنه يقول الحقيقة يحجب بفعله هذا النص الأصلي ويحل محله بمعنى نسخه أو إلغاءه. لذلك يبقى النص و التاريخ كفرسي رهان إن سبق أحدهما الآخر انقلبت المعادلة في القراءة. و الإنسان بحسب مرجعيته يرجح أيهما يريد.لكن المهم هو الموقف من الحقيقة و طريقة التعامل مع النص مهما بعدت المسافة الزمنية بين قطب المرسل وقطب المتلقي.
من ثم فنظرية التلقي تجعل من القارئ قطبا فاعلا في عملية تجديد النص من خلال فعل القراءة،نظرا لأن هذه العملية تتحرك في مستويات ثلاثة مختلفة/منسجمة هي واقع المرسل:مبدع النص،واقع الحياة/التاريخ،و واقع القارئ،هذا يجعل من عملية القراءة مندرجة ضمن ما يمكن الاصطلاح عليه بالدائرة الهرمينوطيقية التي تترك النص دائم كون فسيحا أو فضاء مثقوبا يقبل التأويل بحسب أفق القارئ،إن هذا الأفق هو في الآن نفسه إيجابي و سلبي، فالإيجابية تنبع من إدماج القارئ ضمن الدائرة التأويلية التي تجعله يهجر فعل التلقي السلبي،إلى فعل التأويل أو تفجير المضامين المسكوت عنها،أي بمعنى آخر إعادة إحياء النص من جديد،لكن السلبي في العملية هو إغفال الحدود القائمة بين النصوص نظرا لأن المنهج الجديد قد أزال الفروق القائمة بين النصوص، فالنص الديني و إن كان مكتوبا بأحرف بشرية فإن مضامينه تحمل شحنة إيمانية تحيل إلى المفارق /الميتافيزيقي،و نظرية التلقي تغمط هذا الجانب من خلال الاندراج في التعامل مع كل ماهو متعين واقعا، فهذا الإغفال من شأنه أن يُفقد النص ماهيته و مضامينه،هذا القول ليس فيه قطعا لفعل التاريخ /القارئ على النص،لكن وجب الوعي بحدود إمكان كل قراءة مع كل نص فليس النص الأدبي كالنص الديني، لأن التسوية تجعلنا نمارس قراءة علمية للنصوص وتدرأ كل قراءة الإيمانية و الحال أن المقصود هو النوع الثاني،لأن النص الديني نص هداية في المقام الأول.
و نقول أن النقد العربي الحديث لم يؤسس تاريخ قراءته المستقل بل بقي متشبثا بتجارب الغرب في فغل القراءة وهو ما أحدث غربة بين ذاتنا و قراءتنا نظرا لأن تاريخ قراءتنا كُتب بأحرف غربية دون وعي بالخصوصيات المميزة لكن تاريخ،لذلك كانت قراءة النص الديني بالمنهج الغربي قراءة قاصرة في حفرياتها في جغرافية النص نظرا لأنها تتبع آثار كل ماهو واقعي/إمبيريقي/وجودي ،بوعي أو بغير وعي، وهذا ليس عيب المنهج بقدر ما هو عيب الممارس للمنهج الذي أصبح متحكَّما فيه لا العكس.وهو مأزق قراءتنا لأصولنا فالمنهج هو الفكر الناظم لنظرتنا لنصوصنا.بذلك تبرز قضية أزمة المنهج في التعامل مع التراث و أصول تراثنا ،و إلى حين أمل الوصول إلى نهج يصحح تعاملنا يبقى التاريخ هو المهيمن على النص بما يعني ذلك من إهدار لكينونة النص،وهو إهدار لمنظومة وجودية كاملة.

الهوامش :

1 /أركون (محمد) : الإسلام و التاريخ و الحداثة:تر : هاشم صالح : مجلة الوحدة-المجلس القومي للثقافة العربية : الرباط عـ1ـدد/1989: 25
2 /عبد الرحمن (عبد الهادي) : سلطة النص : 16: المركز الثقافي العربي –بيروت ط1/1993
3/ قاسم (سيزا) : مدخل إلى السيميوطيقا :1/40 منشورات عيون –الدار البيضاء ط2/1986
4 /المرجع السابق نفسه : 1/42
5/ أبو زيد (نصر حامد): مفهوم النص: 10 المركز الثقافي العربي : بيروت –ط1/1990
6/ المرجع السابق نفسه : 27
7/المرجع السابق نفسه: 27-28
 هذا المفهوم استمده نصر حامد من جماعة موسكو-تارتو- وهي مجموعة من العلماء ذات التوجه الماركسي اهتمت بسيميوطيقا الثقافة :تقول هذه المجموعة:ولا تعتبر الثقافة جميع الوسائل المبثوثة نصوصا، فلكي تصبح الرسالة نصا في إطار الثقافة يجب أن تتميز ببعض الصفات منها أن تكون حاملة لمعنى متكامل و أن تؤدي وظيفة تشاركها فيها نصوص أخرى مشابهة لها،و أن تكون ذات قيمة و تستحق البقاء و الاحتفاظ بها.و أن تنتظم طبقا لمجموعة من القواعد بشرط أن تستطيع هذه القواعد أن تولد نصوصا مشابهة لها. انظر قاسم (سيزا): مدخل إلى السيميوطيقا:1/42
 انظر مفهوم النص : 12-13
8/رشيد(أمينة): مدخل إلى السيميوطيقا: 1/61
9/ بارت (رولان): نظرية النص :تر:محمد خير البقاعي :مجلة العرب و الفكر العالمي:عـ3ـدد/1988 :96
10/ لوتمان (يوري) و أوسبنسكي (بوريس) :حول الآلية السيميوطيقية للثقافة:تر: عبد المنعم تليمة: مدخل إلى السيميوطيقا:2 /139
11/أبو زيد (نصر حامد): مفهوم النص : 34
  لتأكيد مذهبه الفكري يطبق نصر حامد منطق الصراع الطبقي المأخوذ من المادية الجدلية يقول في هذا المجال: إن النص في نفيه لصفة الشعر عن نفسه…لا يدين الشعر من حيث هو…بل يدين الشعر الذي أراد معاصرو محمد أن يجذبوا النص إلى آفاقه محاولين بالتالي أن يجذبوا ظاهرة الوحي كلها للنظام الثقافي المستقر والسائد،والمعبر عن مصالح الأقلية على حساب الأغلبية.و لذلك انحاز النص إلى الشعر الذي يساعده على تحقيق وظيفته،وانصب هجومه على الشعر الذي يشوِّش عليه القيام بهذه الوظيفة. انظر مفهوم النص :140
12/الكيلاني (مصطفى) : وجود النص-نص الوجود 94 .الدار التونسية للنشر.تونس.د-ط/1992
13/أبو زيد (نصر حامد): النص،السلطة،الحقيقة : 104-105 المركز الثقافي العربي : بيروت –ط2/1997
14/المرجع السابق نفسه: 103
15/المرجع السابق نفسه: 101
16/أبو زيد (نصر حامد): مفهوم النص: 139
17/أبو زيد (نصر حامد): النص،السلطة، الحقيقة: 105
18/عبد الرحمن (عبد الهادي) سلطة النص:50
19/حرب ( علي) : نقد النص : 14المركز الثقافي العربي –بيروت ط1/1993
20/حرب ( علي) : الاستلاب و الارتداد : 101 المركز الثقافي العربي : بيروت ط1/1997
21/حرب (علي) : الممنوع و الممتنع : 20 المركز الثقافي العربي : ط1/1995
 
إن التعامل مع النص الديني باعتبار تعاليه سينير لنا جانبا واحدا فقط، هو الجانب التقديسي/المتعالي،ويحجب عن أفق منظورنا كل الجوانب الأخرى الممكنة التناول فيه،من بين هذه الجوانب نجد الجانب الأرضي/الإنساني،اعتبارا لأن اللغة النازل بها النص القرآني هي لغة الإنسان،هذا التعامل في نظر من التزم بتناوله في علوه هو إفساد لقداسته،لأن التعالي في حقيقته هو المفارقة لكل الأنساق الإنسانية،هذا ما يجعل هذه الأخيرة قاصرة عن كل دراسة،يعجز معها المتلقي عن استخراج إمكانات النص نظرا لتلونه لون القداسة،من ثم يغدو النص رمزا مغلقا،صامتا،على حد تعبير من التزم بالمنهج الأنتروبولوجي-الثقافي ، و لأجل تحرير ارتهان النص و إطلاق دلالته و تحريرها،رأى المفكرون المحدثون ضرورة إحداث ثورة في المناهج تمكننا من" أنسنة"،من "دنيونة" النص،وذلك بإنزاله من تعاليه إلى فضاء الإنسان من فضاء المعنى الأحادي إلى فضاء الاختلاف،من حقل التقديس إلى حقل الثقافة
لو فقه هؤلاء معنى قداسة النصوص في القرآن، ولم ينطلقوا من خلفية جُففت فيها حقيقة الوحي في نفوسهم حتى لم يروا منه إلا نصا جافا ماديا دنيويا،لظهرت لهم أمور لم يرد منزل القرآن وهو الله عز وجل، إخفاؤها، وهي الأمور الدنيوية التي كان النص المعين او النصوص او السورة او جزء من السورة يتنزل أو ينزل، لبيان الحالة البشرية فيها..لإظهارها ..في إرتفاعها ومثاليتها أو ضعفها ودنيويتها أو إنحرافها وسلطويتها أو جهلها أو عقلانيتها.
فهناك سور كثيرة تجد فيها مشاهد الإجتماع البشري في تقواه او فسوقه، في غناه وجشعه، أو فقره وجهله، في حبه وكرهه، في حسده وبغضه، في غليان الشهوة الحارقة وحلول الشبهة المارقة.. تجد دوافع الحروب وأنماط النفوس والشخوص الإنسانية على مختلف مشاربها وألوانها وأطيافها، يمكنك أيضا أن تقرأ خلجات النفوس ورجع الفكر عند رؤيتها الحقيقة ثم تملصها منه، او إقبالها على الإيمان وماإعتمل في النفس قبل سطوعه...إلخ
ترى الحالة الأقتصادية والسياسية والعقلية والمالية والدينية والنفسية والعلمية والمادية العمرانية لشعب ما او قبيلة ما أو حضارة ما..
ترى قوم إختلط عندهم العقل بالإسطورة، الحقيقة بالخرافة، الموروث النبوي بالموروث الجاهلي.. وتطور الإسطورة وفيها بذور حقيقة مطوية او علم خفي او عقل مدفون بين أعمدتها ومحاورها.. وكيف نزل القرآن بالفرقان والبيان، وفرق بين الحق والباطل، وأظهر الديني النبوي من خلال تفكيك الإسطورة الحالمة..
هناك أسباب النزول تبين أن النص نزل على الواقع والتنزيل حكم على الوقائع، والوحي اعتبر النوازل ، لكنه كان أعلى في المصدرية وأقوم في الحاكمية وأحكم في القانونية والقضائية السننية لو صح التعبير.
فلم ينفي الوحي تأثير الأحداث حتى على أهل الإيمان ووجود النبي في الحراك الإجتماعي ، وتدافع قوته النبوية مع قوى المادة بمختلف مستوياتها ومكانتها الإجتماعية،وإعتباره للآراء داخل الجماعة وهي دنيوية فتح الوحي مجالها وأتاح لها الحرية في مجالها المسموح به وقد بينت هذه الحقيقة السنة ايضا، فعلمنا أن الوحي لم ينزعنا للملائكية ولم يجعل للرب كل أمر بنزع التفكير والإختيار من البشر بل فتح الرب تعالى جل جلاله مجال التفكير والشورى، الحوار والسؤال، طرح الأسئلة والحلول..وتقديم الآراء أو تقويمها.
لكن يبقى الوحي سماويا والتنزيل ربانيا والقرآن من لدن الحكيم الخبير.
العلمانيون يخفون هذا بالزعم أن الوحي أغلق الفهوم وسجن العلوم وحرف الوقائع وزيف المشاهد.
وعندما تسألهم كيف اكتشفتم مازعمتم ، أشاروا إلى أن القرآن لم يعرض الجاهلية كما ينبغي لأن داخل الجاهلية عقلانية، العقلانية الدهرية كما زعم شاكر النابلسي واركون وغيرهما.. وفي نفس الوقت يعترفون أنها كانت عقلانية بدائية ، وثنية، لكنهم يزعمون أنها كانت بداية بذور الدنيوية والعقلانية(...).. مع أنهم يعلمون أن الإستبداد والإستغلال كان يلف تلك العقلانية المزعومة(عقلانية تقدس التراب والصنم الوتد والأزلام) و كانت تسيطر الدنيوية الظالمة المستبدة..ثم هم يخفون حقيقة التغيير الذي جاء به الإسلام لتغيير تلك الدهرية(المعيقة للتحضر والتطور والتفكر في الآفاق) إلى فكرة إسلامية تفتح الإنسان على الزمن والآفاق، السموات والأرض، الجغرافيا البشرية والأرضية وتطورها جميعا لصالح العمران البشري.
كما يخفون غالبا نتائج تلك التحولات في البيئة العربية ومدن الحضارات الكبرى، ومدة التحول في العلوم والفهوم وشكل المدن والحضارة.
نعم قد يعترفون بهذا التغيير لكن يحذفونه عند الحاجة اليه في كلامهم الفارغ عن ظلم الإسلام للدهرية الوثنية-زعموا-
كما انهم يعرضون هذا غالبا -في مواضع قليلة يعرضونه-لإرجاعه لا إلى الإسلام ولكن إلى مصادر حضارية أخرى، مثلما فعل اركون عندما أرجع مصدر المعرفة العلمية في الإسلام إلى الفكر اليوناني.. الذي زعم أنه هو من بدل عالم الإسلام إلى الأفضل..
أذن هؤلاء انكروا كل هذا من حقيقة الإسلام، ومن اعتباره لواقع الناس وتغييره للتاريخ من داخل التاريخ، بيد أن علوم التغيير جاءت من فوق، من الله، من الوحي القرآني..الذي تفاعل مع التاريخ والواقع بالحق والعدل والقوة إلا أنه كان مهيمنا على ذلك كله بدليل خطة التغيير العجيبة وخطة الزحف على العالم والتي اعترف المؤرخون جميعا انه زحف مدهش وفي فترة قصيرة بالنسبة لما جلبته الحضارات الأخرى للعالم.
ان الإسلام لم ينفي حضور الدنيا في المشهد ولم يلغي عن أتباعه تأثرهم بالدنيا ولا تأثر الدنيا بهم.. لكن الوحي يؤثر ولا يتأثر.. يعلى ولايعلى عليه
وأصحاب الفكر المادي ينكرون هذه الحقيقة لسبب أنهم ولدوا في عصر المادة المظلمة فلم يشاهدوا من العالم إلا ظلاميته دنيويته وصراعاته ولكن الله عز وجل يعلم مالايعلمون وقد علمنا من علمه في القرآن وبالقرآن وبنبيه المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم.
 
عودة
أعلى