جمال الدين عبد العزيز
New member
- إنضم
- 08/02/2009
- المشاركات
- 174
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
"من كتاب مصادر المعرفة للدكتور جمال عبد العزيز شريف والبروفسير عبد الله محمد الأمين النعيم"
-أزمة المعرفة الغربية :
أ-الجذور التاريخية للأزمة:
ظلّت الكنيسة الغربية مهيمنة على كل مجالات الحياة في أوربا وكان أسلوبها في التفكير يتجه اتجاهاً معاكساً للحقيقة والواقع، حيث ظلّ موغلاً في تصور ديني مال إلى تأليه المسيح عيسى (عليه السلام ) والقول بعقيدة التثليث والحلولية والتجسيد. ومن الثابت تاريخياً أنّ المجمع المسكوني الذي انعقد في مجمع نيقية عام 325م لم يحترم تصور الوحدانية الذي مثله آريوس وهو تصوٌُر سيدنا عيسى والحواريين الأوائل، فأصدر ذلك المجمع دستوراً ملزماً بشأن مسألة التثليث وصار ذلك عقيدة وأهمّ سر من أسرار المسيحية وقد مارست الكنيسة اضطهاداً للأسلوب العلمي في التفكير حيث احتكرت وحدها مجال التفكير وحرّمت كل تفكير يخالف تقاليد البابوية ، وشدّدت من قبضتها بتحالفها مع السلطة السَّياسية " النظام الإقطاعي" وصار كلِ منهما يخدم الأخر ، فالكنيسة تقدَّم الأبنية الفكرية التي تحتم على الناس أن يصوغوا وفقها سلوكهم وأساليب تفكيرهم والنظام الإقطاعي العسكري يقدَّم التغطية الأمنية اللازمة لتنفيذ قرارات الكنيسة .
ولقد أدرك المفكرون المناهضون للكنيسة أنّه لا بد من مناهضة هذين النظامين – الكنسي والإقطاعي ولقد تدخلت عوامل عديدة لتوجيه الصراع لصالح هؤلاء المفكرين كان من ضمنها دخول العلوم الإسلامية خلال القرنين "11-12م" إلى الدُّول الأوربية وقيام طبقة صناعية مناهضة للإقطاعيين . وكان من ضمن تلك العلوم الإسلامية ، العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة .
ولقد أثّر دخول منهج البحث التجريبي لأوربا على أساليب التفكير اللاهوتي التي كانت غارقة في التفكير النظري والتجريد الغيبي "الميتافزيقي" وكانت هذه المرحلة التاريخية مرحلة تحوُّل حاسمة امتد أثرها إلى كل الدول الأوربية وشكّل نواة الثورة العلمية الغربية ووجّه العقول تجاه المعرفة العلمية الحقة
ومما سبق يتضح لنا أنّ السَّمة المميزة في تاريخ الفكر الغربي القديم - التي ما زالت آثارها باقية حتى الآن - هي وجود صراع بين العلم والديِّن وقد انتهى هذا الصراع بإقصاء الديِّن والتفكير الدَّيني عن مجالات الحياة وحصره داخل جدران المعابد وطرده من مجال النظر العقلي ، وعندما حلّ القرن الثامن عشر كان الفكر الغربي قد قطع أعظم الأشواط في التحرُّر من الفكر الدَّيني حتى أُطلق على هذا القرن عصر التنوير.
ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الديِّن " الوحي" عن التوجيه ، وأهمّ ميزة اختص بها عصر التنوير هي الإيمان بقدرة العقل على فهم الكون واستيعابه وإخضاعه لحاجات الإنسان ، ونتج عن هذا مبادئ انطلقت منها النهضة الأوربية وانتهت إليهـــا هي
1- الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنّه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والرُّوحية.
2- الإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم والعامل الفعّال في التطور والإبداع.
3- الإيمان بالعقل وحده على أنَّه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده ، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي، وهي السِّمة التي عملت الفلسفة الوضعية على ترسيخها بطريقة علمية للوصول إلى مشروعية التصورات المادية للعالم.
والإنسان الغربي الذي تشبَّع بهذه المنطلقات الفكرية يجب أن يبحث عن كل شيء في محيطه الاجتماعي ؛ قيمه وأخلاقه التي يدين بها ، وإنّ الإنسان ملتزم ومقيَّد بقواعد أخلاقه؛ ولكن صانع القيد هو وجوده المادي نفسه . وهكذا كانت ملامح العلمانية في القرن الثامن عشر الميلادي واضحة ومتغلبة على الاتجاهات الكنسية وبدأت تبسط سلطانها على المرافق التي تشغلها الكنيسة.
والواقع أنّ الفكر في عصر النهضة الأوربية اتسم بنزعة شديدة العداء للسلطة الدِّينية كما اتسم برغبة جامحة في الخلاص بكل السُّبل من الخضوع للقيادة الفكرية والعلمية لتلك السُّلطة الدِّينية .ولهذا فلم يكن هناك مفر من البحث عن مصدر للحقيقة يكون بديلاً للسُّلطة الدِّينية، وكلما كان ذلك المصدر مناوئاً ونقيضاً للمصدر الدِّيني كلما كان ذلك أفضل، ولم يكن هناك من مصدر أفضل من التركيز على الخبرة الإنسانية واستخدام الحواس كأساس للمعرفة العلمية الحقة؛ فاعتماد الحواس يحرِّر الإنسان ويعطيه قيمته؛ والحس يقلِّل إلى أقصى حد من قيمة المصدر الدَّيني ، ولقد كان للسير فرانسيس بيكون أثر بارز في توجيه العلم للاقتصار على الخبرة الحسِّية وتأسيس الاتجاه الحسي “Empiricism” ويقابل هذا الاتجاه العقلاني “Rationalism” الذي يقلِّل من شأن الحس وكان رينيه ديكارت مؤسساً له
وكان من نتائج هذا الصراع أن نشأت أزمة معرفية ظهرت واضحة للعيان في مناهج العلوم وأثّرت بدورها على مجمل أوجه ومجالات الحياة، ذلك أنّ إقصاء الوحي من توجيه المعرفة أدى لانحصار المعرفة في مجال العالم المشاهد، وطبع المعرفة بطابع الظنية والنسبية وما ذلك إلا لأنّ المعرفة كانت معرفة بشرية قاصرة عن إدراك ما وراء الحواس.
ب- جوهر الأزمة الغربية
ألمحنا فيما سبق لعموميات الأزمة وسوف نتحدث هنا بشيء من التفصيل، فقد كانت المعرفة الغربية في مرحلة سيادة الكنيسة معرفة مستمدة من الوحي رغم ما اعترى الوحي المسيحي من تشوهات
وكان من نتائج الصراع بين الكنيسة والعلماء أن تحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المشاهد ، فالمحسوس والمشاهد الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي وحده هو العلم وما عداه أي كل ما لا يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي- يعتبر لا علم وتعتبر قضاياه بلا معنى. وهذه هي الرُّوح العلمية التي بلورها بيكون؛ حيث الاقتصار على ما هو موضوع أمامنا في العالم الواقعي التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة وأن الطبيعة هي مملكة المعرفة ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل ، وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الغيبيات "الميتافزيقيا".
وهكذا فإنّ الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها العلم الأوربي الحديث وتطوّر قد أدت في النهاية إلى صياغة نظرية المعرفة “Epistemlogy” التقليدية في اتجاهات تنأى بالعلم عن أن يكون له أدنى صلة بالتصورات الدَّينية : اتجاهات تحصر اهتمام العلم في الظواهر التي يمكن مشاهدتها بالحواس والتي تتوقف بالتالي عند دراسة ما هو كائن وواقع دون إعطاء أي مشروعية علمية لتقويم هذا الـــواقع
مما سبق يمكننا تلخيص جوهر الأزمة المعرفية الغربية في الآتي :
1- إنّ مفهوم العلم كما بلورته الفلسفة الغربية صار ينظر إليه من زاوية أكثر محدودية حيث صار مفهوم العلم هو " المعرفة المصنفة التي تمّ التوصل إليها باتباع قواعد المنهج العلمي مصاغة في قوانين عامة للظواهر الفردية المتفرقة " وهذا العلم يقوم على الاستقراء الذي يعتمد على الملاحظة ووضع الفروض وإجراء التجارب للتحقق من صحة الفروض ، وعلى هذا فقد أصبح العلم – عندهم – يقتصر على دراسة ما يعرف بالواقع المحسوس أو الواقع الامبيريقي أي الظواهر التي يمكن إدراكها بالحواس. أما عن المنهج فإنّه يركِّز بصفة أساسية على الاستقراء، ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر تخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فإنّها مستبعدة تماماً عند علماء العصر الحديث من نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي
2- إن اعتماد النموذج التطبيقي – القائم على منهج الاستقراء- في مناهج البحث قد حقّق نجاحاً باهراً في مجال العلوم الطبيعية وذلك بسبب تعامل هذه العلوم مع ظواهر ذات طبيعة بسيطة التكوين؛ حيث تقوم هذه العلوم على استقراء الظواهر الجزئية المحسوسة وصولاً إلى تعميمات تصدق في كل زمان ومكان بعد ثبوت مطابقتها للواقع المحسوس. وقد استبعدت هذه العلوم تماماً القيم الرُّوحية والدينية أي عدم وجود السياج الأخلاقي. وهو ما أدى إلى حدوث آثار هدّامة.
3- اعتبر النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وذلك لتحقيق أكبر قدر من العلمية؛ على الرغم من أنّ الظواهر الإنسانية والاجتماعية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية فهناك جوانب غير مادية في الإنسان بما في ذلك تفكيره وسلوكه وغاياته التي لا يمكن التعرُّف عليها عن طريق الملاحظة الداخلية أي بفهم المعاني التي تعبِّر عنها هذه التصرفات وهي معاني نابعة من شعور الإنسان وإحساسه الداخلي .
4- استبعدت العوامل الرُّوحية والقيم من نطاق الدِّراسة ؛ وهي قضايا تشكِّل جزءً مهماً من نشاط الإنسان في تفكيره وثقافته وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه وتصرفاته . وبالتالي تم استبعاد ما يتولد عن هذا النشاط الإنساني من علوم مرتبطة بقيم الإنسان ، وهي العلوم العقدية.
5- زعمت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية لنفسها حياداً قيمياً لم تلتزم به في الواقع حيث كرست قيم الثقافة الغالبة وجعلتها المعيار الذي يقاس عليه كل تقييم إنساني، أو اتجهت إلى نسبية قيمية أضاعت كل تقييم، وهذا يؤكِّد وجود تحيز معرفي في تلك العلوم
6- انتهت المنهجية “Methedology” الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بوجود موجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر .
7- الأهم من ذلك كله هو عدم الاعتراف بالوحي مصدراً للمعرفة، وهو العامل الأهم في فساد الفلسفة الوضعية، لأنها بإبعادها الوحي حصرت نفسها في الوجود المادي ولم ترَ وجوداً وراء هذا الكون المحسوس ، وكان من جراء ذلك انتفاء الإحساس بوجود سلطة عليا يكون الإنسان مسؤولاً لديها عن تصرُّفه. ولما كانت شهوات الإنسان وأمانيه لا حدود لها ، وما تحويه البيئة في أي وقت من الأوقات ومكان من الأمكنة محدود بالنسبة إلى ما يتطلبه إشباع تلك الشهوات - فقد صار العلم هو السلاح الذي انتهكت به حرمة البيئة، وكانت التقنية هي سبيل هذا الإنسان الدنيوي لإحداث هذا الانتهاك حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. لقد كان سوء استغلال العلوم الحديثة والتقنية التي أنجبتها وإفساد الأرض هو ثمرة طبيعية للفلسفة الوضعية التي لم تر للكون ولا للبيئة حرمة"
الخلاصة:
1- نتيجة لانحصار الفلسفة الغربية في دراسة الواقع المحسوس أو عالم الشهادة فقد تمركزت حول الذات الإنسانية والطبيعة ، وأدى هذا إلى تأليه الإنسان والطبيعة ، حيث الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والروحية ، وإيمان عميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم ، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السَّيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم، والنتيجة هي شيوع العلمانية والإلحاد والفوضوية والشك والعدمية
2- إنّ النجاحات التي حققها المنهج العلمي الوضعي قد انحصرت في مجال العلوم الطبيعية، غير أنّ هذا المنهج التقليدي قد فشل فشلاً ذريعاً في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث سارت هذه العلوم في طريق مسدود لم تستطع تجاوزه في محاولاتها للتوصل إلى فهم واقعي للنفس الإنسانية ، يشهد بذلك ما تعانيه تلك المجتمعات المتقدمة من مآسي إنسانية ومشكلات اجتماعية عميقة يبدو أن لا أمل في حلها من خلال المنظور السائد . وهذا سببه انحياز في النظرة التقليدية الغربية للعلم الذي حصر نفسه في عالم الشهادة وأهمل عالم الغيب بإهماله الوحي ومعارفه.
وقد احتج بعض العلماء الغربيين على مناهج المعرفة المعاصرة وذكروا أنه لا بد من طريقه جديدة للمعرفة ، ولا بد من معنى أوسع للعلم؛ إذ أنّ ملحد القرن التاسع عشر الميلادي قد حرق البيت بدلاً من أن يعيد ترميمه حيث رمى بجميع الأسئلة التي طرحها الدَّين وأدار ظهره لكل مقررات الدِّين ، لأنّ القائمين عليه قد أتوا بإجابات لا يستطيع قبولها ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فقد أصبح واضحاً لديه أنّ موضوعات البحث الدَّينية ومباحث الدَّين والأسئلة التي يطرحها حول النشأة والوجود والمصير قضايا علمية تستحق الاحترام الكامل . وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعة البشرية ويمكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي رصين ، وأنّ الكنيسة كانت تحاول الإجابة على أسئلة رفيعة ، وهي - وإن أخطأت الإجابة- فإنّ الأسئلة نفسها كانت تستحق القبول والتبرير الكاملين
3- على الرغم من رفض المنهج العلمي الغربي للمعرفة الدينية والغيبيات وما وراء الطبيعة إلاّ أن الوضعية ظلت غارقة في التأملات الغيبية التي لا تقل خطراً عن خطر الفكر اللاهوتي الذي حاربته ، يقول كارل ما نهايم " إنّ الفلسفة الوضعية ألزمت نفسها بأحكام ميتافزيقية وانطلوجية بالرغم من ادعائها بأنها تقف موقفاً معارضاً ضد التحيُّزات والمزاعم الميتافزيقية " حيث أنّها في سعيها لتأكيد نزعتها الواقعية والحسية المفرطة غضّت الطرف عن إدراك حقائق الوجود كما هي. فالوضعية لم تنكر الجانب الوضعي للإنسان ولكنها رفضت الاعتراف بهذا الجانب كحقيقة موجودة مستقلة عن الواقع المادي الذي يمكن ملاحظته . كما أنها لا تنكر القيم الرُّوحية والمعنوية والدينية ، ولكنها لا ترى لهذه القيم وجوداً خارج المجتمع الإنساني نفسه ، فالعقل الوضعي لا يتصور وجود إله غير الإله الذي يظهر في صورة الإنسانية ، وهذه هي النتيجة التي انتهت إليها الوضعية ، حيث انتهت إلى معتقدات لا تختلف كثيراً عن المعتقد اللاهوتي بل تتبنى كل خصائصه وأفكاره ومُثله . ولم يشفع للوضعية بعد ذلك تعلُّقها بالعقائدية العلمية في مقابل العقائدية الدينية ما دامت النتيجة التي انتهت إليها واحدة
والآن وقد وضحت لنا معالم الفلسفة الغربية التي تسيَّر الحضارة العالمية اليوم من خلال المدخل المعرفي والذي يتحكم بدوره في كافة مناحي الحياة ، فإنّ التساؤل المشروع هو هل هذه الفلسفة جديرة بالاحتذاء خاصة في العالم الإسلامي الذي لا يفتقر إلى العقيدة الموجَّهة له؟، لقد طُبقتِ قيم هذه الفلسفة الوضعية ومقولاتها في العالم الإسلامي فكانت سبباً من أسباب تخلفّه فكيف حدث هذا ؟ هذا ما سوف نناقشه في المبحث التالي:
2- أزمة المعرفة الإسلامية:
أ- المرتكزات المعرفية للتصور الإسلامي:
إنّ التَّصور هو الأساس الذي يقوم عليه البناء في كل عقيدة أو أي مذهب عقدي ، وهذا التصور يعكس نظرة العقيدة أو المذهب للوجود كما يعكس النظرة العامة للحياة والإنسان والكون والمصير وتسمى هذه المكونات في الفلسفة بالأسئلة الكلية. أي التساؤلات عن الإله والإنسان والكون وعلاقة كلٍ منها بالآخر وعن المبدأ والمصير. وعند الحديث عن مرتكزات التصور الإسلامي يبرز لنا الآتي
1- وحدانية الخالق
حيث أنّ وحدانية الله هي محور التصور الإسلامي، والإيمان بالله هو العامل الأهم في توجيه سلوك الإنسان، ووفقاً لهذا التصور فإنّ المسلم يؤمن بالله خالق هذا الوجود ومدبِّره ويعرف اتصافه بالكمال وإطلاق الإرادة والتصرف أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ويترتب على وحدانية الخالق وحدة الخلق، وأنّ الكون نظام واحد متكامل من صنعة خالق واحد، وأنّ النظام الكوني يتكون من قوانين الطبيعة التي ليست إلاّ سنن الله السارية في خلق الله المادي أو النفسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي.
2- وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة
ويترتب على ما سبق أنّ العقل بما أودع الله فيه من قوة مدركة للمعاني والأسباب، "والوحي" الذي أرسل الله به رسله يتكاملان في فهم الغايات والأسباب وعلاقاتهما في هذا الوجود كما فطره الله وسخره ... فالوحي يوجِّه العقل لفهم كليات الكون على حقيقتها التي يعلمها الله ليقوم العقل بدوره في توجيه مدركات الحواس وإضفاء المعنى عليها. وبهذا يقوم في الإسلام نسق المعرفة الواحد لفهم الحقيقة الواحدة التي خلقها الله الواحد . وبهذا يتضح أنّ الوجود قائم على عالمين :
- عالم الغيب وهذا مصدره الوحي ومجال العقل فيه محدود .
- العالم الثاني هو عالم الشهادة وهذا يمكن فهمه عبر العقل. غير أنّ العقل لا بد له من الاستعانة بتوجيهات الوحي ، وإلاّ كانت النتيجة هي العلمانية، ذلك أنّ الكون "عالم الشهادة" في التصور الإسلامي مخلوق لله ، وخلق من أجل غاية ، وقد سخره الله لهذا الإنسان المخلوق المكرم ليعينه على تحقيق العبودية لله، وواجب الإنسان عمارة هذا الكون وعبادة الله. فإذا تعامل العقل مع الكون بعيداً عن هذه الغائية فإنّ النتيجة حتماً هي الإفساد بدلاً عن الإصلاح والإعمار.
وتلخيصاً لمرتكزات التصور الإسلامي نقول الآتي:
1- التوحيد هو الدُّعامة الأساسية للتصور الإسلامي ، وهذا التصور الذي يقوم عليه البناء الإسلامي كله، هو جوهر حضارة الإسلام فلا يمكن الحديث عن التصور الإسلامي بمعزل عن عقيدة التوحيد. فإذا تقرَّرت وحدانية الله فإنّ تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة مرفوضان قطعاً في التصور، الإسلامي، ولا يمكن بناء أي نظرية إسلامية أو بناء مجتمع إسلامي وفقاً لعقائد الحلولية؛ إذ أنّ ذلك يعني فشل المشروع الإسلامي كما هو حاصل الآن؛ حيث أنّ فشل مشاريع الأمة وتخلُّفها راجع في الأساس لتبنِّيها النموذج العلماني ومقولاته ومقوماته المستندة إلى عقيدة الحلولية بما فيها من تأليه للإنسان والطبيعة.
2- الإنسان والكون مخلوقان لله تعالى ، والإنسان مطلوب منه عمارة هذا الكون ليعينه على تكاليف العبادة، والكون مسخر لهذا الإنسان، فعلاقة الإنسان بالله تعالى علاقة عبادة، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير. وهذا الكون مصدر معرفة للإنسان؛ لذلك كانت الدَّعوة للتفكُّر والتدبُّر والتفقه والنظر في ملكوت الله باعتبار أن ذلك يمثِّل مدخلاً للإيمان بالله تعالى.
3- إنّ الإنسان مكَّلف ومسؤول عن أعماله وإنه محاسب على أعماله الدنيوية في اليوم الآخر، وهذا الحساب يقتضيه العدل الإلهي. وعلى هذا فإنّ الوجود ليس محصوراً في عالم الشهادة وحده بل أنّ هناك عالماً آخر هو عالم الغيب ، وإنّ عدم الاعتراف بعالم الغيب معناه نفي وجود الخالق. وإذا انتفى وجود الخالق فإنّ البديل هو الفوضوية والعبثية والعدمية كما هو ظاهر للعيان في الفلسفات الغربية التي لم تعترف بوجود إله غير الإنسان أو الطبيعة.
إنّ هذا التصور الإسلامي يعكس تمايزاً بين عالم التنزيه "الألوهية" وعالم الخلق "الكون وموجوداته" وهذا ما لم تنتبه له الفلسفات الغربية حيث لا يوجد هذا التمايز ومن ثمّ فقد حدث الخلل الذي أدى لأزمة الحضارة الغربية . ووجود هذا التمايز وفهم المسلمين الأوائل له هو الذي أدّى إلى سيادة الحضارة الإسلامية لقرون طويلة على العالم شرقيه وغربيه، بل ساهمت في بروز عصر النهضة الأوربية من خلال نزعتها التجريبية، وهي نزعة كرّسها مفهوم عمارة الكون. ولم يبدأ التحلُّل والتآكل في الحضارة الإسلامية إلاّ بعد أن انعدم أو كاد هذا التمايز حيث دخلت العقائد الحلولية وشوّهت عقيدة التوحيد الصافية فكان أن توقفت الحضارة الإسلامية عن العطاء.
ب- الجذور التاريخية للأزمة الفكرية:
إنّ عجز منهج المعرفة الإسلامية كما هو اليوم هو السبب في عجز فكر الأمة عن إصلاح حالها والتصدّي للتحديات التي تواجهها ، فجوهر الأزمة هو أزمة في فكر الأمة الإسلامية، وهذه الأزمة تندرج تحتها سائر الأزمات السِّياسية والاقتصادية والاجتماعية
جـ- جوهر الأزمة:
إنّ جوهر الأزمة كما بدت ملامحها سابقاً قد تبلورت في نظام التعليم الإسلامي، وتتلخص في انكفاء جماعة من الأمة على التراث دون تطوير واجتهاد ، والتراث - كما أسلفنا- فكر بشري محدود بحدود البيئة المنشئة له ، وهذه الجماعة قد أهملت علوم الطبيعية أهمالاً واضحاً الأمر الذي أفضى إلى الإعراض عن عمارة الكون وكانت النتيجة هي هذا التخلف الحضاري الواضح.
أما باقي الأمة فقد رأى في المشروع التغريبي حلولاً لمشاكل الأمة فتبنته بحذافيره على الرغم من أنّ المشروع الغربي كان وليد ظروف تاريخية عايشت صراعاً بين الدين والعلم وهذه الظروف لا تنطبق على الدين الإسلامي ولا العقل المسلم الذي لا يعرف صراعاً بين العقل والدين "الوحي" فلكل منهما مجاله وحدوده وهما يتكاملان لفهم الحقيقة ولا يتناقضان.
إنّ الخلل في كلا المنظومتين السائدتين في العالم الإسلامي: المنظومة المعرفية المنكفئة على الذات والمهملة لعالم الشهادة والمنظومة المعرفية المنفتحة على عالم الشهادة والملغية لعالم الغيب قد أثر تأثيراً واضحاً على العلم في العالم الإسلامي فأوجد نوعين من العلم: علم ديني وعلم دنيوي. وعلى أساس هذا التقسيم توزعت المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي ما بين المدارس الدينية والمدارس العلمانية
ومصدر الخلل يرجع في الأساس إلى أنّ الممارسة العملية أدت إلى عدم تكامل المصادر المعرفية في كلا النموذجين؛ إذ من المفترض نظرياً أن يحدث انسجام وتكامل بين المصادر المعرفية في التصور الإسلامي، ذلك أنّ معطيات الدِّين الإسلامي قائمة على العقل، والوحي دائم الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على الحواس وعلى التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله سبحانه في البحث عن الحقيقة. ويتجلى تكامل مصادر المعرفة ووسائلها بشكل مثالي في عالم الإسلام في أنّ الوحي يقدِّم للبشر أطراً تصورية يقينية تتصل بكل من:
أ-المعارف المتصلة بعالم الغيب.
ب- كليات عالم الشهادة.
وأنّ العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء المعنى عليها وبدلاً من الاعتماد على مجرد الخيال والتخمين يعتمد على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية عامة
ونتيجة لهذا الخلل فقد كان الفشل والتخلُّف قرين العمل الإسلامي ومشاريع الإصلاح، فالمشروع الغربي في بلاد المسلمين قد فشل، لأنه نتاج ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع، فضلاً عن تجاهله لمعادلة الأمة الثقافية والاجتماعية ، وتناقضه مع كينونة الأمة ، وتكريسه للهيمنة الثقافية ، وترسيخه للكبرياء الغربية ، وخصوصيته واعتماده على قواعد الصراع كما فشل المشروع التقليدي الذي أشاع فلسفة العزلة والنفور من الدُّنيا رغم أنّ الدنيا مزرعة للآخرة . ولهذا فقد تعالت الصيحات لأجل إصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.
د- حلول لأزمة المعرفة الإسلامية :
انتهت النظريات الوضعية في العلوم الاجتماعية إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بالأسس المنهجية التي قامت عليها ، وكانت هذه الصورة التي انتهت إليها نتيجة طبيعية للبيئة الثقافية التاريخية التي نشأت فيها ، وعندما دخلت هذه النظريات الاجتماعية إلى عالمنا الإسلامي نقلت معها أزمتها المعرفية القائمة على الصراع بين العلم والدين فجاءت الدراسات الاجتماعية والإنسانية في العالم الإسلامي لتعكس مثيلاتها في العالم الغربي . وعلى غرار التجربة الغربية التي قامت بالدعوة إلى معارضة الدين قامت محاولات مماثلة في العالم الإسلامي لتعكس هذه الخصومة وهدفت إلى جعل دين المنهجية الإسلام مجرد تراث ثقافي يدخل ضمن الإرث التاريخي للأمة وليس واقعاً حيّاً وفكراً حاضراً
ولهذا فإنّ هناك اتفاقاً يشبه الإجماع بين المهتمين بإصلاح العلوم وإعادة صياغتها وفق التصور الإسلامي الصحيح على ثلاثة أمور هي
1- إنّ مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة تتضمن كثيراً مما يتعارض ويتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.
2- أنّه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم أو على الأقل قصورها حتى الآن عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي أو للظواهر الاجتماعية لا في المجتمعات الإسلامية وحدها وإنما في غيرها من المجتمعات كذلك .
3- أنّ هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في ضوء التصور الإسلامي.
إنّ معالجة الإشكالية المنهجية للعلوم لا تتم إلاّ وفق التصور الإسلامي الصحيح حيث إنّ هذا التصور ينبثق من مصدر إلهي "الوحي" وهو يضع حلولاً لهذه الأزمة تتمثل في النقاط التالية:
1- إنّ الظواهر الإنسانية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية، وغياب هذا الإدراك الواعي جعل المنهجية الوضعية تقدَّس الطريقة التجريبية كأسلوب وحيد للمعرفة؛ والمذهبية الإسلامية تقرَّر أنّ الحقيقة العلمية ليست حكراً على التجربة وأنّ الوجود الواقعي ليس حكراً على الوجود المادي ، وأنّ التزام الأسلوب العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية لا يتحول بالضرورة إلى الاعتقاد في التجريب كطريق وحيد مشروع ورفض ما عداه من الطرق ، ومعنى هذا أنه ليس من الضروري أن نتحدث عن شكل واحد من أشكال العلمية، فالنموذج الطبيعي في العلوم الفيزيائية لا ينفي وجود أنواع أخرى من العلوم تتعلق بمواضيع ذات طبيعة مغايرة للطبيعة المادية ، كما أنّ تأكيد العلم الطبيعي على الجوانب المادية في الحياة لا ينفي بالضرورة وجود جوانب غير مادية فيها
2- إنّ الوجود لا ينحصر في هذا العالم المشاهد وحده الذي تستطيع الحواس إدراكه، وإنما هناك وجود لعالم غيبي تخرج معرفته عن نطاق الحواس. ولمعرفة ذلك العالم لا بد من اعتماد الوحي الإلهي مصدراً معرفياً؛ إذ أنّ المعلومات التي يمدنا بها الوحي معلومات يقينية وقطعية ، والمصادر الأخرى مهما كانت فائدتها فهي ليست مصادر يقينية ولا يمكن أن تقدَّم لنا إجابات واضحة ودقيقة للتساؤلات المطروحة . كما أنّ الوحي يستوعب في تفصيلاته حقيقة الإنسان في أصله وخلقه وتكوينه وحركته على الأرض ومصيره المستقبلي .
3- إن الوحي المطلوب إضافته مصدراً معرفياً هو الوحي الإسلامي المرتكز إلى عقيدة التوحيد وذلك حتى تتمايز الفواصل بين عالم التنزيه "الإلهي" وعالم الخلق ، فتتمايز تبعاً لذلك الحدود بين المعرفة الإلهية والمعرفة الإنسانية النسبية . ومن المعلوم أنّ الوحي في المسيحية قد لحقت به التشوهات فتعدّدت فيه الآلهة وصارت المعرفة البشرية وحياً مقدساً كما ذكرنا سابقاً .
4- إنه لا بد من التكامل بين المصادر المعرفية ووسائلها، وبين عالمى الغيب والشهادة. وإنّ وجود أي تعارض أو تناقض لا بد أن يكون عجزاً في الأداة سواء كان ذلك في أدوات فهم معارف الوحي أو الاستنباط منها، أو في أدوات تحصيل معارف الكون والطبيعة والإنسان.فمعارف الوحي تتكامل مع معارف الكون والطبيعة والإنسان
هـ - نموذج لمحاولات الإصلاح المعرفي:
لقد اتضح لنا من خلال عرضنا السابق أنّ جوهر الإشكالية في النموذجين العلماني والإسلامي ينبع من المنهجية في المقام الأول، حيث أن التقدُّم في أي جانب هو رهين بتحقيق التقدَُم في مسألة المنهج ومن هنا ظهرت دعوى إسلامية المعرفة وإسلام العلوم باعتبارها قضية منهجية تقوم على اكتشاف العلاقة المنهجية بين الوحي والكون ، وهي علاقة تداخل وتكامل تكشف عن استيعاب منهجية القرآن الكريم للكون وسننه وقوانين حركته ، وتتلخص محاور إسلامية المعرفة في
1- بناء النظام المعرفي الإسلامي:
ويتم ذلك بإعادة كشف وبناء النظام التوحيدي من حيث تفعيل العقيدة للإجابة على التساؤلات النهائية – وهي تلك التساؤلات المتعلقة بالإله والإنسان والكون والحياة والنشأة والمصير – وكشف النماذج المعرفية التي سادت في تاريخ الإسلام وذلك بغرض تقويم التراث الفكري وتبيين معالم النموذج المعرفي التراثي المستوحى من القرآن الكريم.
2- بناء المنهجية المعرفية القرآنية :
الاختلال الذي أصاب العقل المسلم يجعل من إعادة بناء المنهجية المعرفية ضرورة ملحة ، والمنهج هو سبيل للوصول إلى الحقيقة وهو أيضاً الطريق الطريقة التى تسلك في فهم الظواهر وتحليلها ، وهذه المنهجية لا بد أن تكون نابعة من النموذج المعرفي الإسلامي وقائمة على مسلماته وقواعده المنطقية.
3- بناء منهج للتعامل مع القرآن الكريم :
القرآن الكريم مصدر للمنهج والمعرفة ومقومات الشِّهود الحضاري والعمراني، وإنّ استدعاء القرآن الكريم في إطار واقع عالمي متغيِّر بوعي جديد أمر ضروري لا مفر منه ، وهذه الضرورة تكمن أهميتها في محاولتها تصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن الكريم في الموضوعات الإسلامية كخطوة أولى يؤسَّس بموجبها الوعي المنهجي الإسلامي المعاصر وإعادة التعامل مع القرآن كمصدر منهجي ومعرفي للعلوم الاجتماعية والطبيعية سيجعل هذه العلوم قادرة على مد الحياة الإنسانية بما يخرجها من أزماتها ، وسيعيد الارتباط بين هذه العلوم والقيم ويربطها بمقاصد الحق وغائية الخلق .
4- بناء مناهج التعامل مع السُّنة النبوية:
لا بد من الوعي بحقيقة السُّنة النبوية باعتبارها المصدر التفسيري الملزم للنص القرآني. والسُّنة النبوية هي المنهاج التفصيلي في حياة المجتمع والفرد المسلم ، وهي تمثَّل القرآن مفسراً والإسلام مجسَّداً ، ومن الصعب فهم كثير من قضاياها بمعزل عن الواقع الذي كان يتحرك فيه الرَّسـول صلى الله عليه وسلم . ومن الصعب أيضاً تطبيق السُّنة وتحقيق واجب الاتباع والتأسي بالرسول من خلال تتبع الجزئيات دون استنباط منهج للتأسي يضم الجزئيات في إطار منهجي
5- قراءة التراث الإسلامي قراءة سليمة:
المقصود بالتراث الإسلامي هنا هو تلك العلوم والمصنفات التي وضعها العلماء السابقون من المسلمين ، ولا يدخل في هذا التراث الوحي كتاباً ولا سنة ؛ وإنما يقتصر على أقوال العلماء التي لا قداسة لها ؛ إذ أنها مجرد آراء نيرة لعلماء أصحاب عقول نيرة ، وهذا التراث الإسلامي على عظمته ورفعة شأنه ليس ملزماً في الأخذ به، وليس المقصود بعدم الإلزام هنا إهماله وضرب الصفح عنه ؛ وإنما المقصود أنه ليس كالقرآن والسنة في وجوب الالتزام به . ومهما يكن من أمر فان تراثنا الإسلامي العظيم رغم عدم قدسيته وإلزاميته- لا يمكن للعالم أو طالب العلم تجاوزه أو إهماله كما يفعل الكثيرون اليوم من أدعياء العلم والمعرفة.
ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن هنالك أوجهاً مغلوطة للتعامل مع التراث الإسلامي العظيم وهي:-
أ- الرفض المطلق:
من الأمور الخاطئة في العصر الحاضر مسألة تجاوز التراث الإسلامي وإهماله بحجة أنّ العلماء السابقين "رجال ونحن رجال" . وهذه القضية -إن استخدمت في هذا الجانب - فما هي إلا دعوى حق أريد بها الباطل ، إذ ليس من المعقول إطلاقاً نبذ هذا التراث الإسلامي العظيم وجهود العلماء الفذة والبدء من جديد ، إذ أن هنالك الكثير من القضايا قد طرحها علماؤنا الأقدمون بعمق شديد لا تجد له مثيلاً في وقتنا الحاضر ؛ ولأجل ذلك كان رفض التراث الإسلامي أمراً خاطئاً لا يقول بصحته عاقل قط.
ومن الثابت أن علماءنا الأقدمين قد كانوا أكثر معرفة بالوحي وطرق الاستنباط الصحيح للمعاني- إلا أنه يمكن استدراك كثير من الأمور عليهم ، إذ ما هم- في نهاية المطاف - إلا بشر ، ومعلوم أن البشر مهما بلغوا من العلم والمعرفة فانهم يعتريهم الضعف والقصور؛ ولأجل ذلك صح قول الإمام مالك : "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" مشيراً إلى قبر الرسول (e).
ب-القبول المطلق
عول علماؤنا الأقدمون على العقل وذموا التقليد ذماً شديداً ، ولم يكن هنالك من شيء امقت لهم من هذا التقليد الذي هو إتباع للغير دون مطالبة له بالدليل . ولما كان الأمر كما سبق ، فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أنّ التقليد الأعمى للعلماء السابقين دون معرفة مناهجهم وأصول آرائهم يعتبر طريقاً خاطئاً؛ فلو أن العلماء السابقين قبلنا كانوا قد اكتفوا بما ورثوه من العلماء قبلهم لرأينا صرح العلم مختلاً وبنيانه متهدماً ؛ ولما كان هنالك من تراث إسلامي عظيم نفخر به الآن .
ج- الانتقاء العشوائي :-
إنّ من أخطر الأمور في تعاملنا مع التراث الإسلامي وأقوال العلماء السابقين قضية الانتقاء العشوائي دون معرفة الرأي المتكامل . ومعلوم أنّ الفكر لا ينشأ من العدم ولا ينبثق من الفراغ بحال ، بل لا بد للعالم من مؤثرات فكرية تشكل رأيه وتبلور أفكاره، كما أنّ لكل عالم منهجه الذي يحكم قضية الفكر عنده ؛ فلو لم نراع جانب المنهج وجانب المؤثرات الفكرية للعلماء لأصبح انتقاؤنا لآراء لعلماء انتقاءً عشوائياً خاطئاً.
وهذا الانتقاء العشوائي من شأنه أن ينسب إلى العلماء آراء ليست بالصحيحة إذ أنّ الرأي قد يكون متعلقاً بأمر ما من جهة أو قد يكون العالم قد تراجع عنه في مصنف آخر له . ولأجل ذلك فقد اتضح أن التعامل المنهجي مع تراثنا العظيم ضرورة منهجية تقتضيها عملية إعادة بناء العلم واستئناف مسيرته.
6- التعامل مع التراث الغربي
ما قيل عن التراث الإسلامي ينطبق على التراث الإنساني المعاصر.وهو ليس حكراً على الحضارة الغربية إذ إنّ الإسلام لا يقف موقف العداء من عطاء الآخرين بل هو يتقبل كل فكر يتماشى مع مبادئه ولذلك فإنّه يجعل البحث عن الحكمة ضالة المؤمن فأنَّى وجدها فهو أحق بها.
ولأجل ذلك لا يمكن رفض المعرفة التي عند الأمم غير المسلمة أصلاً، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه ؛ بل لا بد للمسلم من ضوابط يتم تكوينها من داخل عقيدته السامية ؛ وهذه العقيدة إنما هي بمثابة المصفاة التي تحصنه من تلك الآراء الفاسدة التي من المحتمل وجودها في تراث الأمم غير المسلمة. ويشهد تراثنا الإسلامي اهتمام المسلمين القدماء بتراث الأمم الأخرى وترجمته إلى العربية للاستفادة منه؛ إذ ليس العلم -حسب رأيهم -حكراً على أحد.
ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن التراث الإنساني ليس مقبولاً عندنا قبولاً مطلقاً ولا مرفوضاً كذلك وإنما نأخذ منه ما يوافق عقيدتنا السامية ونطرح منه ما يخالفها .
ورغم كل ذلك فان الواقع الفكري لدينا اليوم يعكس اتجاهات غير مقبولة على الإطلاق وهي :
أ- الانكفاء على الذات:
نقصد بهذا الانكفاء : رفض كل المعارف والعلوم والأفكار بحجة أنها ليست صادرة من قبل علماء المسلمين ، ثم العكوف على الذات عكوفاً يكون فيه من التجمد ما فيه ؛ وهذا هو ما يهمش دور المسلمين بين أمم العالم ويجعلهم عرضة للانغلاق والانعزال. ولا شك أن عالمية الإسلام التي جاء بها الوحي الكريم تأبى الانكفاء على الذات دون محاولة إيصال نور الله تعالى الذي بين أيدينا إلى كافة الأمم ؛ وذلك لا يتأتى إلا بالأخذ والعطاء والتحاور والمشاركة.
ب- الركون إلى تراث الآخر
إنّ من أسوأ الآثار التي ترتبت على ضعف المسلمين وعدم ثقتهم في أنفسهم اليوم- محاولة التقليد الأعمى وأخذ الأفكار الغربية دون تفحص ونظر ودون إعمال عقل وتقليب للأمور. وهذا الاتجاه أمر ملحوظ عند المسلمين اليوم ، ولا شيء عند العاقل أقبح من التقليد الأعمى الذي يكون المقلد أول ضحاياه كما لا يخفي. وإذا كان علماؤنا الأقدمون قد رفضوا التقليد الأعمى لفكر العلماء المسلمين دون إعمال العقل فيه فما بالك بتقليد غير المسلمين.
وخلاصة القول هي أنّ الأزمة المعرفية قد نشأت بسبب مصادر المعرفة وأنّ المهمة التي ينبغي أن يقوم بها العلماء المسلمون لتصحيح الوضع تتمثل في التوصل إلى صيغة منهجية ملائمة يمكن بها الجمع بين معطيات الوحي من جهة وبين معطيات الحس والعقل من جهة أخرى في وحدة وتكامل يتبوأ كل منهما مكانه الصحيح دون مغالاة أو تعسُّف.
الخلاصة:
إنّ خلاصة القول في الأزمة المعرفية الغربية والإسلامية المعاصرة يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: إنّ المعرفة الغربية المعاصرة سواء في نشأتها أو في تطورها جاءت وليدة للصراع المرير بين الكنسية والعلماء؛ إذ ظلت المعرفة لقرون عديدة حكراً على الكنيسة وحدها وكان للكشوفات الجغرافية ودخول المنهج التجريبي من العالم الإسلامي لأوربا أكبر الأثر في اضمحلال المعرفة الكنسية وبروز عصر التنوير والنهضة . ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الدين (الوحي) عن توجيه الحياة والمعرفة على حدٍ سواء .
ثانياً: كنتيجة لإبعاد الوحي عن التوجيه فإنّ المعرفة في عصر التنوير وما تلاه من عصور تميّزت بالإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ، والإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم ، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي.
ثالثاً: انعكس ذلك الفهم على العلوم بشقيها الطبيعي والإنساني فتحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المحسوس والمشاهد؛ فالمحسوس الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس هو وحده العلم وما عداه يعتبر هو اللاعلم. ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر وتخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فهي مستبعدة تماماً عن نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي.
رابعاَ: اسُتبعدت العوامل الروحية والقيم من نطاق الدراسات الغربية وهي قضايا تشكِّل جزءً هاماً من نشاط الإنسان وتفكيره وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه ، وبالتالي اسُتبعد ما يتولّد عن هذا النشاط الإنساني من علوم وهي علوم قيمية مرتبطة بقيم الإنسان وعقائده.
خامساً: انتهت المنهجية الغربية الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بموجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر. وهذه نتيجة طبيعية لعدم الاعتراف بالوحي الإلهي مصدراً من مصادر المعرفة في النظرية المعرفية الغربية.
أما خلاصة القول في الأزمة المعرفية الإسلامية المعاصرة فيمكن إجمالها في الآتي:
أولاً: إنّ جوهر الأزمة الإسلامية هي أزمة فكرية وليست أزمة عقيدة فالعقيدة صاغتها نصوص الوحي وهي نصوص محفوظة بحفظ الله لها، وتبدو هذه الأزمة واضحة للعيان في انكفاء تيار من علماء الأمة على الذات ؛وذلك بتقديس التراث والانصراف والعزلة عن الواقع وتحدياته وتقنياته وفي ذلك إهمال لعالم الشهادة وهو عالم مطلوب من الإنسان المسلم تسخيره وتطويعه وتعميره والاستفادة من إمكاناته ليعينه في أداء مهمة الاستخلاف والعبادة لله سبحانه وتعالى. كما تبدو الأزمة واضحة في انسياق التيار الآخر من علماء الأمة وراء مقولات النموذج الوضعي الغربي الغارق في الدنيوية والمهمل لعالم الغيب وهذا الانقسام أثر تأثيراً واضحاً على العلم الإسلامي وعلى واقع ومستقبل الأمة بأسره ؛ ذلك أن التخلُّف بكافة أنماطه وأشكاله إنما هو وليد تبني نموذج معرفي خاطئ لا ينسجم مع عقيدة الأمة وتصوراتها، أو هو وليد الحركة بمنظومة معرفية منقوصة كالذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه الآخر.
ثانياً: إنّ مصدر الخلل الأساس هو أنّ الممارسة العملية في العالم الإسلامي المعاصر أدّت إلى عدم تكامل المصادر المعرفية ، إذ من المفترض نظرياً أن يحدث الانسجام والتكامل بين المصادر المعرفية ذلك أنّ معطيات الإسلام قائمة على العقل، والوحي دائم الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على الحواس وعلى التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله في البحث عن الحقيقة . ويتجلى هذا التكامل في أنّ الوحي يقدِّم للبشر أطراً تصورية تتصل بالمعارف المتصلة بعالم الغيب والمعارف المتصلة بكليات عالم الشهادة، وأنّ العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء المعنى عليها معتمداً على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية.
ثالثاً: إنّ التصور الإسلامي الصحيح يمتلك حلولاً لأزمة المعرفة التي تتضح ملامحها في النظام التعليمي ، حيث يقرِّر التصور الإسلامي أنّ الوجود لا ينحصر في العالم المشاهد وحده وإنما هناك وجود لعالم غيبي تخرج معرفته عن نطاق الحواس . ولمعرفة ذلك العالم فلا بد من اعتماد الوحي الإلهي مصدراً معرفياً؛ إذ أن المعلومات التي يقدِّمها الوحي يقينية والمصادر الأخرى مهما كانت فائدتها فإنها ليست يقينية ولا تستطيع تقديم إجابات مقنعة للتساؤلات المطروحة . وأنه لابد من تكامل المصادر المعرفية في البحث عن الحقيقة كما ينبغي التكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة وهذه هي مهمة علماء المسلمين الذين يمتلكون عقيدة تؤهلهم لإحداث التكامل بين المصادر المعرفية ووسائلها.
-أزمة المعرفة الغربية :
أ-الجذور التاريخية للأزمة:
ظلّت الكنيسة الغربية مهيمنة على كل مجالات الحياة في أوربا وكان أسلوبها في التفكير يتجه اتجاهاً معاكساً للحقيقة والواقع، حيث ظلّ موغلاً في تصور ديني مال إلى تأليه المسيح عيسى (عليه السلام ) والقول بعقيدة التثليث والحلولية والتجسيد. ومن الثابت تاريخياً أنّ المجمع المسكوني الذي انعقد في مجمع نيقية عام 325م لم يحترم تصور الوحدانية الذي مثله آريوس وهو تصوٌُر سيدنا عيسى والحواريين الأوائل، فأصدر ذلك المجمع دستوراً ملزماً بشأن مسألة التثليث وصار ذلك عقيدة وأهمّ سر من أسرار المسيحية وقد مارست الكنيسة اضطهاداً للأسلوب العلمي في التفكير حيث احتكرت وحدها مجال التفكير وحرّمت كل تفكير يخالف تقاليد البابوية ، وشدّدت من قبضتها بتحالفها مع السلطة السَّياسية " النظام الإقطاعي" وصار كلِ منهما يخدم الأخر ، فالكنيسة تقدَّم الأبنية الفكرية التي تحتم على الناس أن يصوغوا وفقها سلوكهم وأساليب تفكيرهم والنظام الإقطاعي العسكري يقدَّم التغطية الأمنية اللازمة لتنفيذ قرارات الكنيسة .
ولقد أدرك المفكرون المناهضون للكنيسة أنّه لا بد من مناهضة هذين النظامين – الكنسي والإقطاعي ولقد تدخلت عوامل عديدة لتوجيه الصراع لصالح هؤلاء المفكرين كان من ضمنها دخول العلوم الإسلامية خلال القرنين "11-12م" إلى الدُّول الأوربية وقيام طبقة صناعية مناهضة للإقطاعيين . وكان من ضمن تلك العلوم الإسلامية ، العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة .
ولقد أثّر دخول منهج البحث التجريبي لأوربا على أساليب التفكير اللاهوتي التي كانت غارقة في التفكير النظري والتجريد الغيبي "الميتافزيقي" وكانت هذه المرحلة التاريخية مرحلة تحوُّل حاسمة امتد أثرها إلى كل الدول الأوربية وشكّل نواة الثورة العلمية الغربية ووجّه العقول تجاه المعرفة العلمية الحقة
ومما سبق يتضح لنا أنّ السَّمة المميزة في تاريخ الفكر الغربي القديم - التي ما زالت آثارها باقية حتى الآن - هي وجود صراع بين العلم والديِّن وقد انتهى هذا الصراع بإقصاء الديِّن والتفكير الدَّيني عن مجالات الحياة وحصره داخل جدران المعابد وطرده من مجال النظر العقلي ، وعندما حلّ القرن الثامن عشر كان الفكر الغربي قد قطع أعظم الأشواط في التحرُّر من الفكر الدَّيني حتى أُطلق على هذا القرن عصر التنوير.
ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الديِّن " الوحي" عن التوجيه ، وأهمّ ميزة اختص بها عصر التنوير هي الإيمان بقدرة العقل على فهم الكون واستيعابه وإخضاعه لحاجات الإنسان ، ونتج عن هذا مبادئ انطلقت منها النهضة الأوربية وانتهت إليهـــا هي
1- الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنّه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والرُّوحية.
2- الإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم والعامل الفعّال في التطور والإبداع.
3- الإيمان بالعقل وحده على أنَّه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده ، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي، وهي السِّمة التي عملت الفلسفة الوضعية على ترسيخها بطريقة علمية للوصول إلى مشروعية التصورات المادية للعالم.
والإنسان الغربي الذي تشبَّع بهذه المنطلقات الفكرية يجب أن يبحث عن كل شيء في محيطه الاجتماعي ؛ قيمه وأخلاقه التي يدين بها ، وإنّ الإنسان ملتزم ومقيَّد بقواعد أخلاقه؛ ولكن صانع القيد هو وجوده المادي نفسه . وهكذا كانت ملامح العلمانية في القرن الثامن عشر الميلادي واضحة ومتغلبة على الاتجاهات الكنسية وبدأت تبسط سلطانها على المرافق التي تشغلها الكنيسة.
والواقع أنّ الفكر في عصر النهضة الأوربية اتسم بنزعة شديدة العداء للسلطة الدِّينية كما اتسم برغبة جامحة في الخلاص بكل السُّبل من الخضوع للقيادة الفكرية والعلمية لتلك السُّلطة الدِّينية .ولهذا فلم يكن هناك مفر من البحث عن مصدر للحقيقة يكون بديلاً للسُّلطة الدِّينية، وكلما كان ذلك المصدر مناوئاً ونقيضاً للمصدر الدِّيني كلما كان ذلك أفضل، ولم يكن هناك من مصدر أفضل من التركيز على الخبرة الإنسانية واستخدام الحواس كأساس للمعرفة العلمية الحقة؛ فاعتماد الحواس يحرِّر الإنسان ويعطيه قيمته؛ والحس يقلِّل إلى أقصى حد من قيمة المصدر الدَّيني ، ولقد كان للسير فرانسيس بيكون أثر بارز في توجيه العلم للاقتصار على الخبرة الحسِّية وتأسيس الاتجاه الحسي “Empiricism” ويقابل هذا الاتجاه العقلاني “Rationalism” الذي يقلِّل من شأن الحس وكان رينيه ديكارت مؤسساً له
وكان من نتائج هذا الصراع أن نشأت أزمة معرفية ظهرت واضحة للعيان في مناهج العلوم وأثّرت بدورها على مجمل أوجه ومجالات الحياة، ذلك أنّ إقصاء الوحي من توجيه المعرفة أدى لانحصار المعرفة في مجال العالم المشاهد، وطبع المعرفة بطابع الظنية والنسبية وما ذلك إلا لأنّ المعرفة كانت معرفة بشرية قاصرة عن إدراك ما وراء الحواس.
ب- جوهر الأزمة الغربية
ألمحنا فيما سبق لعموميات الأزمة وسوف نتحدث هنا بشيء من التفصيل، فقد كانت المعرفة الغربية في مرحلة سيادة الكنيسة معرفة مستمدة من الوحي رغم ما اعترى الوحي المسيحي من تشوهات
وكان من نتائج الصراع بين الكنيسة والعلماء أن تحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المشاهد ، فالمحسوس والمشاهد الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي وحده هو العلم وما عداه أي كل ما لا يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي- يعتبر لا علم وتعتبر قضاياه بلا معنى. وهذه هي الرُّوح العلمية التي بلورها بيكون؛ حيث الاقتصار على ما هو موضوع أمامنا في العالم الواقعي التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة وأن الطبيعة هي مملكة المعرفة ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل ، وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الغيبيات "الميتافزيقيا".
وهكذا فإنّ الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها العلم الأوربي الحديث وتطوّر قد أدت في النهاية إلى صياغة نظرية المعرفة “Epistemlogy” التقليدية في اتجاهات تنأى بالعلم عن أن يكون له أدنى صلة بالتصورات الدَّينية : اتجاهات تحصر اهتمام العلم في الظواهر التي يمكن مشاهدتها بالحواس والتي تتوقف بالتالي عند دراسة ما هو كائن وواقع دون إعطاء أي مشروعية علمية لتقويم هذا الـــواقع
مما سبق يمكننا تلخيص جوهر الأزمة المعرفية الغربية في الآتي :
1- إنّ مفهوم العلم كما بلورته الفلسفة الغربية صار ينظر إليه من زاوية أكثر محدودية حيث صار مفهوم العلم هو " المعرفة المصنفة التي تمّ التوصل إليها باتباع قواعد المنهج العلمي مصاغة في قوانين عامة للظواهر الفردية المتفرقة " وهذا العلم يقوم على الاستقراء الذي يعتمد على الملاحظة ووضع الفروض وإجراء التجارب للتحقق من صحة الفروض ، وعلى هذا فقد أصبح العلم – عندهم – يقتصر على دراسة ما يعرف بالواقع المحسوس أو الواقع الامبيريقي أي الظواهر التي يمكن إدراكها بالحواس. أما عن المنهج فإنّه يركِّز بصفة أساسية على الاستقراء، ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر تخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فإنّها مستبعدة تماماً عند علماء العصر الحديث من نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي
2- إن اعتماد النموذج التطبيقي – القائم على منهج الاستقراء- في مناهج البحث قد حقّق نجاحاً باهراً في مجال العلوم الطبيعية وذلك بسبب تعامل هذه العلوم مع ظواهر ذات طبيعة بسيطة التكوين؛ حيث تقوم هذه العلوم على استقراء الظواهر الجزئية المحسوسة وصولاً إلى تعميمات تصدق في كل زمان ومكان بعد ثبوت مطابقتها للواقع المحسوس. وقد استبعدت هذه العلوم تماماً القيم الرُّوحية والدينية أي عدم وجود السياج الأخلاقي. وهو ما أدى إلى حدوث آثار هدّامة.
3- اعتبر النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وذلك لتحقيق أكبر قدر من العلمية؛ على الرغم من أنّ الظواهر الإنسانية والاجتماعية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية فهناك جوانب غير مادية في الإنسان بما في ذلك تفكيره وسلوكه وغاياته التي لا يمكن التعرُّف عليها عن طريق الملاحظة الداخلية أي بفهم المعاني التي تعبِّر عنها هذه التصرفات وهي معاني نابعة من شعور الإنسان وإحساسه الداخلي .
4- استبعدت العوامل الرُّوحية والقيم من نطاق الدِّراسة ؛ وهي قضايا تشكِّل جزءً مهماً من نشاط الإنسان في تفكيره وثقافته وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه وتصرفاته . وبالتالي تم استبعاد ما يتولد عن هذا النشاط الإنساني من علوم مرتبطة بقيم الإنسان ، وهي العلوم العقدية.
5- زعمت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية لنفسها حياداً قيمياً لم تلتزم به في الواقع حيث كرست قيم الثقافة الغالبة وجعلتها المعيار الذي يقاس عليه كل تقييم إنساني، أو اتجهت إلى نسبية قيمية أضاعت كل تقييم، وهذا يؤكِّد وجود تحيز معرفي في تلك العلوم
6- انتهت المنهجية “Methedology” الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بوجود موجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر .
7- الأهم من ذلك كله هو عدم الاعتراف بالوحي مصدراً للمعرفة، وهو العامل الأهم في فساد الفلسفة الوضعية، لأنها بإبعادها الوحي حصرت نفسها في الوجود المادي ولم ترَ وجوداً وراء هذا الكون المحسوس ، وكان من جراء ذلك انتفاء الإحساس بوجود سلطة عليا يكون الإنسان مسؤولاً لديها عن تصرُّفه. ولما كانت شهوات الإنسان وأمانيه لا حدود لها ، وما تحويه البيئة في أي وقت من الأوقات ومكان من الأمكنة محدود بالنسبة إلى ما يتطلبه إشباع تلك الشهوات - فقد صار العلم هو السلاح الذي انتهكت به حرمة البيئة، وكانت التقنية هي سبيل هذا الإنسان الدنيوي لإحداث هذا الانتهاك حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. لقد كان سوء استغلال العلوم الحديثة والتقنية التي أنجبتها وإفساد الأرض هو ثمرة طبيعية للفلسفة الوضعية التي لم تر للكون ولا للبيئة حرمة"
الخلاصة:
1- نتيجة لانحصار الفلسفة الغربية في دراسة الواقع المحسوس أو عالم الشهادة فقد تمركزت حول الذات الإنسانية والطبيعة ، وأدى هذا إلى تأليه الإنسان والطبيعة ، حيث الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والروحية ، وإيمان عميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم ، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السَّيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم، والنتيجة هي شيوع العلمانية والإلحاد والفوضوية والشك والعدمية
2- إنّ النجاحات التي حققها المنهج العلمي الوضعي قد انحصرت في مجال العلوم الطبيعية، غير أنّ هذا المنهج التقليدي قد فشل فشلاً ذريعاً في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث سارت هذه العلوم في طريق مسدود لم تستطع تجاوزه في محاولاتها للتوصل إلى فهم واقعي للنفس الإنسانية ، يشهد بذلك ما تعانيه تلك المجتمعات المتقدمة من مآسي إنسانية ومشكلات اجتماعية عميقة يبدو أن لا أمل في حلها من خلال المنظور السائد . وهذا سببه انحياز في النظرة التقليدية الغربية للعلم الذي حصر نفسه في عالم الشهادة وأهمل عالم الغيب بإهماله الوحي ومعارفه.
وقد احتج بعض العلماء الغربيين على مناهج المعرفة المعاصرة وذكروا أنه لا بد من طريقه جديدة للمعرفة ، ولا بد من معنى أوسع للعلم؛ إذ أنّ ملحد القرن التاسع عشر الميلادي قد حرق البيت بدلاً من أن يعيد ترميمه حيث رمى بجميع الأسئلة التي طرحها الدَّين وأدار ظهره لكل مقررات الدِّين ، لأنّ القائمين عليه قد أتوا بإجابات لا يستطيع قبولها ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فقد أصبح واضحاً لديه أنّ موضوعات البحث الدَّينية ومباحث الدَّين والأسئلة التي يطرحها حول النشأة والوجود والمصير قضايا علمية تستحق الاحترام الكامل . وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعة البشرية ويمكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي رصين ، وأنّ الكنيسة كانت تحاول الإجابة على أسئلة رفيعة ، وهي - وإن أخطأت الإجابة- فإنّ الأسئلة نفسها كانت تستحق القبول والتبرير الكاملين
3- على الرغم من رفض المنهج العلمي الغربي للمعرفة الدينية والغيبيات وما وراء الطبيعة إلاّ أن الوضعية ظلت غارقة في التأملات الغيبية التي لا تقل خطراً عن خطر الفكر اللاهوتي الذي حاربته ، يقول كارل ما نهايم " إنّ الفلسفة الوضعية ألزمت نفسها بأحكام ميتافزيقية وانطلوجية بالرغم من ادعائها بأنها تقف موقفاً معارضاً ضد التحيُّزات والمزاعم الميتافزيقية " حيث أنّها في سعيها لتأكيد نزعتها الواقعية والحسية المفرطة غضّت الطرف عن إدراك حقائق الوجود كما هي. فالوضعية لم تنكر الجانب الوضعي للإنسان ولكنها رفضت الاعتراف بهذا الجانب كحقيقة موجودة مستقلة عن الواقع المادي الذي يمكن ملاحظته . كما أنها لا تنكر القيم الرُّوحية والمعنوية والدينية ، ولكنها لا ترى لهذه القيم وجوداً خارج المجتمع الإنساني نفسه ، فالعقل الوضعي لا يتصور وجود إله غير الإله الذي يظهر في صورة الإنسانية ، وهذه هي النتيجة التي انتهت إليها الوضعية ، حيث انتهت إلى معتقدات لا تختلف كثيراً عن المعتقد اللاهوتي بل تتبنى كل خصائصه وأفكاره ومُثله . ولم يشفع للوضعية بعد ذلك تعلُّقها بالعقائدية العلمية في مقابل العقائدية الدينية ما دامت النتيجة التي انتهت إليها واحدة
والآن وقد وضحت لنا معالم الفلسفة الغربية التي تسيَّر الحضارة العالمية اليوم من خلال المدخل المعرفي والذي يتحكم بدوره في كافة مناحي الحياة ، فإنّ التساؤل المشروع هو هل هذه الفلسفة جديرة بالاحتذاء خاصة في العالم الإسلامي الذي لا يفتقر إلى العقيدة الموجَّهة له؟، لقد طُبقتِ قيم هذه الفلسفة الوضعية ومقولاتها في العالم الإسلامي فكانت سبباً من أسباب تخلفّه فكيف حدث هذا ؟ هذا ما سوف نناقشه في المبحث التالي:
2- أزمة المعرفة الإسلامية:
أ- المرتكزات المعرفية للتصور الإسلامي:
إنّ التَّصور هو الأساس الذي يقوم عليه البناء في كل عقيدة أو أي مذهب عقدي ، وهذا التصور يعكس نظرة العقيدة أو المذهب للوجود كما يعكس النظرة العامة للحياة والإنسان والكون والمصير وتسمى هذه المكونات في الفلسفة بالأسئلة الكلية. أي التساؤلات عن الإله والإنسان والكون وعلاقة كلٍ منها بالآخر وعن المبدأ والمصير. وعند الحديث عن مرتكزات التصور الإسلامي يبرز لنا الآتي
1- وحدانية الخالق
حيث أنّ وحدانية الله هي محور التصور الإسلامي، والإيمان بالله هو العامل الأهم في توجيه سلوك الإنسان، ووفقاً لهذا التصور فإنّ المسلم يؤمن بالله خالق هذا الوجود ومدبِّره ويعرف اتصافه بالكمال وإطلاق الإرادة والتصرف أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ويترتب على وحدانية الخالق وحدة الخلق، وأنّ الكون نظام واحد متكامل من صنعة خالق واحد، وأنّ النظام الكوني يتكون من قوانين الطبيعة التي ليست إلاّ سنن الله السارية في خلق الله المادي أو النفسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي.
2- وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة
ويترتب على ما سبق أنّ العقل بما أودع الله فيه من قوة مدركة للمعاني والأسباب، "والوحي" الذي أرسل الله به رسله يتكاملان في فهم الغايات والأسباب وعلاقاتهما في هذا الوجود كما فطره الله وسخره ... فالوحي يوجِّه العقل لفهم كليات الكون على حقيقتها التي يعلمها الله ليقوم العقل بدوره في توجيه مدركات الحواس وإضفاء المعنى عليها. وبهذا يقوم في الإسلام نسق المعرفة الواحد لفهم الحقيقة الواحدة التي خلقها الله الواحد . وبهذا يتضح أنّ الوجود قائم على عالمين :
- عالم الغيب وهذا مصدره الوحي ومجال العقل فيه محدود .
- العالم الثاني هو عالم الشهادة وهذا يمكن فهمه عبر العقل. غير أنّ العقل لا بد له من الاستعانة بتوجيهات الوحي ، وإلاّ كانت النتيجة هي العلمانية، ذلك أنّ الكون "عالم الشهادة" في التصور الإسلامي مخلوق لله ، وخلق من أجل غاية ، وقد سخره الله لهذا الإنسان المخلوق المكرم ليعينه على تحقيق العبودية لله، وواجب الإنسان عمارة هذا الكون وعبادة الله. فإذا تعامل العقل مع الكون بعيداً عن هذه الغائية فإنّ النتيجة حتماً هي الإفساد بدلاً عن الإصلاح والإعمار.
وتلخيصاً لمرتكزات التصور الإسلامي نقول الآتي:
1- التوحيد هو الدُّعامة الأساسية للتصور الإسلامي ، وهذا التصور الذي يقوم عليه البناء الإسلامي كله، هو جوهر حضارة الإسلام فلا يمكن الحديث عن التصور الإسلامي بمعزل عن عقيدة التوحيد. فإذا تقرَّرت وحدانية الله فإنّ تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة مرفوضان قطعاً في التصور، الإسلامي، ولا يمكن بناء أي نظرية إسلامية أو بناء مجتمع إسلامي وفقاً لعقائد الحلولية؛ إذ أنّ ذلك يعني فشل المشروع الإسلامي كما هو حاصل الآن؛ حيث أنّ فشل مشاريع الأمة وتخلُّفها راجع في الأساس لتبنِّيها النموذج العلماني ومقولاته ومقوماته المستندة إلى عقيدة الحلولية بما فيها من تأليه للإنسان والطبيعة.
2- الإنسان والكون مخلوقان لله تعالى ، والإنسان مطلوب منه عمارة هذا الكون ليعينه على تكاليف العبادة، والكون مسخر لهذا الإنسان، فعلاقة الإنسان بالله تعالى علاقة عبادة، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير. وهذا الكون مصدر معرفة للإنسان؛ لذلك كانت الدَّعوة للتفكُّر والتدبُّر والتفقه والنظر في ملكوت الله باعتبار أن ذلك يمثِّل مدخلاً للإيمان بالله تعالى.
3- إنّ الإنسان مكَّلف ومسؤول عن أعماله وإنه محاسب على أعماله الدنيوية في اليوم الآخر، وهذا الحساب يقتضيه العدل الإلهي. وعلى هذا فإنّ الوجود ليس محصوراً في عالم الشهادة وحده بل أنّ هناك عالماً آخر هو عالم الغيب ، وإنّ عدم الاعتراف بعالم الغيب معناه نفي وجود الخالق. وإذا انتفى وجود الخالق فإنّ البديل هو الفوضوية والعبثية والعدمية كما هو ظاهر للعيان في الفلسفات الغربية التي لم تعترف بوجود إله غير الإنسان أو الطبيعة.
إنّ هذا التصور الإسلامي يعكس تمايزاً بين عالم التنزيه "الألوهية" وعالم الخلق "الكون وموجوداته" وهذا ما لم تنتبه له الفلسفات الغربية حيث لا يوجد هذا التمايز ومن ثمّ فقد حدث الخلل الذي أدى لأزمة الحضارة الغربية . ووجود هذا التمايز وفهم المسلمين الأوائل له هو الذي أدّى إلى سيادة الحضارة الإسلامية لقرون طويلة على العالم شرقيه وغربيه، بل ساهمت في بروز عصر النهضة الأوربية من خلال نزعتها التجريبية، وهي نزعة كرّسها مفهوم عمارة الكون. ولم يبدأ التحلُّل والتآكل في الحضارة الإسلامية إلاّ بعد أن انعدم أو كاد هذا التمايز حيث دخلت العقائد الحلولية وشوّهت عقيدة التوحيد الصافية فكان أن توقفت الحضارة الإسلامية عن العطاء.
ب- الجذور التاريخية للأزمة الفكرية:
إنّ عجز منهج المعرفة الإسلامية كما هو اليوم هو السبب في عجز فكر الأمة عن إصلاح حالها والتصدّي للتحديات التي تواجهها ، فجوهر الأزمة هو أزمة في فكر الأمة الإسلامية، وهذه الأزمة تندرج تحتها سائر الأزمات السِّياسية والاقتصادية والاجتماعية
جـ- جوهر الأزمة:
إنّ جوهر الأزمة كما بدت ملامحها سابقاً قد تبلورت في نظام التعليم الإسلامي، وتتلخص في انكفاء جماعة من الأمة على التراث دون تطوير واجتهاد ، والتراث - كما أسلفنا- فكر بشري محدود بحدود البيئة المنشئة له ، وهذه الجماعة قد أهملت علوم الطبيعية أهمالاً واضحاً الأمر الذي أفضى إلى الإعراض عن عمارة الكون وكانت النتيجة هي هذا التخلف الحضاري الواضح.
أما باقي الأمة فقد رأى في المشروع التغريبي حلولاً لمشاكل الأمة فتبنته بحذافيره على الرغم من أنّ المشروع الغربي كان وليد ظروف تاريخية عايشت صراعاً بين الدين والعلم وهذه الظروف لا تنطبق على الدين الإسلامي ولا العقل المسلم الذي لا يعرف صراعاً بين العقل والدين "الوحي" فلكل منهما مجاله وحدوده وهما يتكاملان لفهم الحقيقة ولا يتناقضان.
إنّ الخلل في كلا المنظومتين السائدتين في العالم الإسلامي: المنظومة المعرفية المنكفئة على الذات والمهملة لعالم الشهادة والمنظومة المعرفية المنفتحة على عالم الشهادة والملغية لعالم الغيب قد أثر تأثيراً واضحاً على العلم في العالم الإسلامي فأوجد نوعين من العلم: علم ديني وعلم دنيوي. وعلى أساس هذا التقسيم توزعت المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي ما بين المدارس الدينية والمدارس العلمانية
ومصدر الخلل يرجع في الأساس إلى أنّ الممارسة العملية أدت إلى عدم تكامل المصادر المعرفية في كلا النموذجين؛ إذ من المفترض نظرياً أن يحدث انسجام وتكامل بين المصادر المعرفية في التصور الإسلامي، ذلك أنّ معطيات الدِّين الإسلامي قائمة على العقل، والوحي دائم الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على الحواس وعلى التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله سبحانه في البحث عن الحقيقة. ويتجلى تكامل مصادر المعرفة ووسائلها بشكل مثالي في عالم الإسلام في أنّ الوحي يقدِّم للبشر أطراً تصورية يقينية تتصل بكل من:
أ-المعارف المتصلة بعالم الغيب.
ب- كليات عالم الشهادة.
وأنّ العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء المعنى عليها وبدلاً من الاعتماد على مجرد الخيال والتخمين يعتمد على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية عامة
ونتيجة لهذا الخلل فقد كان الفشل والتخلُّف قرين العمل الإسلامي ومشاريع الإصلاح، فالمشروع الغربي في بلاد المسلمين قد فشل، لأنه نتاج ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع، فضلاً عن تجاهله لمعادلة الأمة الثقافية والاجتماعية ، وتناقضه مع كينونة الأمة ، وتكريسه للهيمنة الثقافية ، وترسيخه للكبرياء الغربية ، وخصوصيته واعتماده على قواعد الصراع كما فشل المشروع التقليدي الذي أشاع فلسفة العزلة والنفور من الدُّنيا رغم أنّ الدنيا مزرعة للآخرة . ولهذا فقد تعالت الصيحات لأجل إصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.
د- حلول لأزمة المعرفة الإسلامية :
انتهت النظريات الوضعية في العلوم الاجتماعية إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بالأسس المنهجية التي قامت عليها ، وكانت هذه الصورة التي انتهت إليها نتيجة طبيعية للبيئة الثقافية التاريخية التي نشأت فيها ، وعندما دخلت هذه النظريات الاجتماعية إلى عالمنا الإسلامي نقلت معها أزمتها المعرفية القائمة على الصراع بين العلم والدين فجاءت الدراسات الاجتماعية والإنسانية في العالم الإسلامي لتعكس مثيلاتها في العالم الغربي . وعلى غرار التجربة الغربية التي قامت بالدعوة إلى معارضة الدين قامت محاولات مماثلة في العالم الإسلامي لتعكس هذه الخصومة وهدفت إلى جعل دين المنهجية الإسلام مجرد تراث ثقافي يدخل ضمن الإرث التاريخي للأمة وليس واقعاً حيّاً وفكراً حاضراً
ولهذا فإنّ هناك اتفاقاً يشبه الإجماع بين المهتمين بإصلاح العلوم وإعادة صياغتها وفق التصور الإسلامي الصحيح على ثلاثة أمور هي
1- إنّ مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة تتضمن كثيراً مما يتعارض ويتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.
2- أنّه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم أو على الأقل قصورها حتى الآن عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي أو للظواهر الاجتماعية لا في المجتمعات الإسلامية وحدها وإنما في غيرها من المجتمعات كذلك .
3- أنّ هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في ضوء التصور الإسلامي.
إنّ معالجة الإشكالية المنهجية للعلوم لا تتم إلاّ وفق التصور الإسلامي الصحيح حيث إنّ هذا التصور ينبثق من مصدر إلهي "الوحي" وهو يضع حلولاً لهذه الأزمة تتمثل في النقاط التالية:
1- إنّ الظواهر الإنسانية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية، وغياب هذا الإدراك الواعي جعل المنهجية الوضعية تقدَّس الطريقة التجريبية كأسلوب وحيد للمعرفة؛ والمذهبية الإسلامية تقرَّر أنّ الحقيقة العلمية ليست حكراً على التجربة وأنّ الوجود الواقعي ليس حكراً على الوجود المادي ، وأنّ التزام الأسلوب العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية لا يتحول بالضرورة إلى الاعتقاد في التجريب كطريق وحيد مشروع ورفض ما عداه من الطرق ، ومعنى هذا أنه ليس من الضروري أن نتحدث عن شكل واحد من أشكال العلمية، فالنموذج الطبيعي في العلوم الفيزيائية لا ينفي وجود أنواع أخرى من العلوم تتعلق بمواضيع ذات طبيعة مغايرة للطبيعة المادية ، كما أنّ تأكيد العلم الطبيعي على الجوانب المادية في الحياة لا ينفي بالضرورة وجود جوانب غير مادية فيها
2- إنّ الوجود لا ينحصر في هذا العالم المشاهد وحده الذي تستطيع الحواس إدراكه، وإنما هناك وجود لعالم غيبي تخرج معرفته عن نطاق الحواس. ولمعرفة ذلك العالم لا بد من اعتماد الوحي الإلهي مصدراً معرفياً؛ إذ أنّ المعلومات التي يمدنا بها الوحي معلومات يقينية وقطعية ، والمصادر الأخرى مهما كانت فائدتها فهي ليست مصادر يقينية ولا يمكن أن تقدَّم لنا إجابات واضحة ودقيقة للتساؤلات المطروحة . كما أنّ الوحي يستوعب في تفصيلاته حقيقة الإنسان في أصله وخلقه وتكوينه وحركته على الأرض ومصيره المستقبلي .
3- إن الوحي المطلوب إضافته مصدراً معرفياً هو الوحي الإسلامي المرتكز إلى عقيدة التوحيد وذلك حتى تتمايز الفواصل بين عالم التنزيه "الإلهي" وعالم الخلق ، فتتمايز تبعاً لذلك الحدود بين المعرفة الإلهية والمعرفة الإنسانية النسبية . ومن المعلوم أنّ الوحي في المسيحية قد لحقت به التشوهات فتعدّدت فيه الآلهة وصارت المعرفة البشرية وحياً مقدساً كما ذكرنا سابقاً .
4- إنه لا بد من التكامل بين المصادر المعرفية ووسائلها، وبين عالمى الغيب والشهادة. وإنّ وجود أي تعارض أو تناقض لا بد أن يكون عجزاً في الأداة سواء كان ذلك في أدوات فهم معارف الوحي أو الاستنباط منها، أو في أدوات تحصيل معارف الكون والطبيعة والإنسان.فمعارف الوحي تتكامل مع معارف الكون والطبيعة والإنسان
هـ - نموذج لمحاولات الإصلاح المعرفي:
لقد اتضح لنا من خلال عرضنا السابق أنّ جوهر الإشكالية في النموذجين العلماني والإسلامي ينبع من المنهجية في المقام الأول، حيث أن التقدُّم في أي جانب هو رهين بتحقيق التقدَُم في مسألة المنهج ومن هنا ظهرت دعوى إسلامية المعرفة وإسلام العلوم باعتبارها قضية منهجية تقوم على اكتشاف العلاقة المنهجية بين الوحي والكون ، وهي علاقة تداخل وتكامل تكشف عن استيعاب منهجية القرآن الكريم للكون وسننه وقوانين حركته ، وتتلخص محاور إسلامية المعرفة في
1- بناء النظام المعرفي الإسلامي:
ويتم ذلك بإعادة كشف وبناء النظام التوحيدي من حيث تفعيل العقيدة للإجابة على التساؤلات النهائية – وهي تلك التساؤلات المتعلقة بالإله والإنسان والكون والحياة والنشأة والمصير – وكشف النماذج المعرفية التي سادت في تاريخ الإسلام وذلك بغرض تقويم التراث الفكري وتبيين معالم النموذج المعرفي التراثي المستوحى من القرآن الكريم.
2- بناء المنهجية المعرفية القرآنية :
الاختلال الذي أصاب العقل المسلم يجعل من إعادة بناء المنهجية المعرفية ضرورة ملحة ، والمنهج هو سبيل للوصول إلى الحقيقة وهو أيضاً الطريق الطريقة التى تسلك في فهم الظواهر وتحليلها ، وهذه المنهجية لا بد أن تكون نابعة من النموذج المعرفي الإسلامي وقائمة على مسلماته وقواعده المنطقية.
3- بناء منهج للتعامل مع القرآن الكريم :
القرآن الكريم مصدر للمنهج والمعرفة ومقومات الشِّهود الحضاري والعمراني، وإنّ استدعاء القرآن الكريم في إطار واقع عالمي متغيِّر بوعي جديد أمر ضروري لا مفر منه ، وهذه الضرورة تكمن أهميتها في محاولتها تصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن الكريم في الموضوعات الإسلامية كخطوة أولى يؤسَّس بموجبها الوعي المنهجي الإسلامي المعاصر وإعادة التعامل مع القرآن كمصدر منهجي ومعرفي للعلوم الاجتماعية والطبيعية سيجعل هذه العلوم قادرة على مد الحياة الإنسانية بما يخرجها من أزماتها ، وسيعيد الارتباط بين هذه العلوم والقيم ويربطها بمقاصد الحق وغائية الخلق .
4- بناء مناهج التعامل مع السُّنة النبوية:
لا بد من الوعي بحقيقة السُّنة النبوية باعتبارها المصدر التفسيري الملزم للنص القرآني. والسُّنة النبوية هي المنهاج التفصيلي في حياة المجتمع والفرد المسلم ، وهي تمثَّل القرآن مفسراً والإسلام مجسَّداً ، ومن الصعب فهم كثير من قضاياها بمعزل عن الواقع الذي كان يتحرك فيه الرَّسـول صلى الله عليه وسلم . ومن الصعب أيضاً تطبيق السُّنة وتحقيق واجب الاتباع والتأسي بالرسول من خلال تتبع الجزئيات دون استنباط منهج للتأسي يضم الجزئيات في إطار منهجي
5- قراءة التراث الإسلامي قراءة سليمة:
المقصود بالتراث الإسلامي هنا هو تلك العلوم والمصنفات التي وضعها العلماء السابقون من المسلمين ، ولا يدخل في هذا التراث الوحي كتاباً ولا سنة ؛ وإنما يقتصر على أقوال العلماء التي لا قداسة لها ؛ إذ أنها مجرد آراء نيرة لعلماء أصحاب عقول نيرة ، وهذا التراث الإسلامي على عظمته ورفعة شأنه ليس ملزماً في الأخذ به، وليس المقصود بعدم الإلزام هنا إهماله وضرب الصفح عنه ؛ وإنما المقصود أنه ليس كالقرآن والسنة في وجوب الالتزام به . ومهما يكن من أمر فان تراثنا الإسلامي العظيم رغم عدم قدسيته وإلزاميته- لا يمكن للعالم أو طالب العلم تجاوزه أو إهماله كما يفعل الكثيرون اليوم من أدعياء العلم والمعرفة.
ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن هنالك أوجهاً مغلوطة للتعامل مع التراث الإسلامي العظيم وهي:-
أ- الرفض المطلق:
من الأمور الخاطئة في العصر الحاضر مسألة تجاوز التراث الإسلامي وإهماله بحجة أنّ العلماء السابقين "رجال ونحن رجال" . وهذه القضية -إن استخدمت في هذا الجانب - فما هي إلا دعوى حق أريد بها الباطل ، إذ ليس من المعقول إطلاقاً نبذ هذا التراث الإسلامي العظيم وجهود العلماء الفذة والبدء من جديد ، إذ أن هنالك الكثير من القضايا قد طرحها علماؤنا الأقدمون بعمق شديد لا تجد له مثيلاً في وقتنا الحاضر ؛ ولأجل ذلك كان رفض التراث الإسلامي أمراً خاطئاً لا يقول بصحته عاقل قط.
ومن الثابت أن علماءنا الأقدمين قد كانوا أكثر معرفة بالوحي وطرق الاستنباط الصحيح للمعاني- إلا أنه يمكن استدراك كثير من الأمور عليهم ، إذ ما هم- في نهاية المطاف - إلا بشر ، ومعلوم أن البشر مهما بلغوا من العلم والمعرفة فانهم يعتريهم الضعف والقصور؛ ولأجل ذلك صح قول الإمام مالك : "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" مشيراً إلى قبر الرسول (e).
ب-القبول المطلق
عول علماؤنا الأقدمون على العقل وذموا التقليد ذماً شديداً ، ولم يكن هنالك من شيء امقت لهم من هذا التقليد الذي هو إتباع للغير دون مطالبة له بالدليل . ولما كان الأمر كما سبق ، فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أنّ التقليد الأعمى للعلماء السابقين دون معرفة مناهجهم وأصول آرائهم يعتبر طريقاً خاطئاً؛ فلو أن العلماء السابقين قبلنا كانوا قد اكتفوا بما ورثوه من العلماء قبلهم لرأينا صرح العلم مختلاً وبنيانه متهدماً ؛ ولما كان هنالك من تراث إسلامي عظيم نفخر به الآن .
ج- الانتقاء العشوائي :-
إنّ من أخطر الأمور في تعاملنا مع التراث الإسلامي وأقوال العلماء السابقين قضية الانتقاء العشوائي دون معرفة الرأي المتكامل . ومعلوم أنّ الفكر لا ينشأ من العدم ولا ينبثق من الفراغ بحال ، بل لا بد للعالم من مؤثرات فكرية تشكل رأيه وتبلور أفكاره، كما أنّ لكل عالم منهجه الذي يحكم قضية الفكر عنده ؛ فلو لم نراع جانب المنهج وجانب المؤثرات الفكرية للعلماء لأصبح انتقاؤنا لآراء لعلماء انتقاءً عشوائياً خاطئاً.
وهذا الانتقاء العشوائي من شأنه أن ينسب إلى العلماء آراء ليست بالصحيحة إذ أنّ الرأي قد يكون متعلقاً بأمر ما من جهة أو قد يكون العالم قد تراجع عنه في مصنف آخر له . ولأجل ذلك فقد اتضح أن التعامل المنهجي مع تراثنا العظيم ضرورة منهجية تقتضيها عملية إعادة بناء العلم واستئناف مسيرته.
6- التعامل مع التراث الغربي
ما قيل عن التراث الإسلامي ينطبق على التراث الإنساني المعاصر.وهو ليس حكراً على الحضارة الغربية إذ إنّ الإسلام لا يقف موقف العداء من عطاء الآخرين بل هو يتقبل كل فكر يتماشى مع مبادئه ولذلك فإنّه يجعل البحث عن الحكمة ضالة المؤمن فأنَّى وجدها فهو أحق بها.
ولأجل ذلك لا يمكن رفض المعرفة التي عند الأمم غير المسلمة أصلاً، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه ؛ بل لا بد للمسلم من ضوابط يتم تكوينها من داخل عقيدته السامية ؛ وهذه العقيدة إنما هي بمثابة المصفاة التي تحصنه من تلك الآراء الفاسدة التي من المحتمل وجودها في تراث الأمم غير المسلمة. ويشهد تراثنا الإسلامي اهتمام المسلمين القدماء بتراث الأمم الأخرى وترجمته إلى العربية للاستفادة منه؛ إذ ليس العلم -حسب رأيهم -حكراً على أحد.
ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن التراث الإنساني ليس مقبولاً عندنا قبولاً مطلقاً ولا مرفوضاً كذلك وإنما نأخذ منه ما يوافق عقيدتنا السامية ونطرح منه ما يخالفها .
ورغم كل ذلك فان الواقع الفكري لدينا اليوم يعكس اتجاهات غير مقبولة على الإطلاق وهي :
أ- الانكفاء على الذات:
نقصد بهذا الانكفاء : رفض كل المعارف والعلوم والأفكار بحجة أنها ليست صادرة من قبل علماء المسلمين ، ثم العكوف على الذات عكوفاً يكون فيه من التجمد ما فيه ؛ وهذا هو ما يهمش دور المسلمين بين أمم العالم ويجعلهم عرضة للانغلاق والانعزال. ولا شك أن عالمية الإسلام التي جاء بها الوحي الكريم تأبى الانكفاء على الذات دون محاولة إيصال نور الله تعالى الذي بين أيدينا إلى كافة الأمم ؛ وذلك لا يتأتى إلا بالأخذ والعطاء والتحاور والمشاركة.
ب- الركون إلى تراث الآخر
إنّ من أسوأ الآثار التي ترتبت على ضعف المسلمين وعدم ثقتهم في أنفسهم اليوم- محاولة التقليد الأعمى وأخذ الأفكار الغربية دون تفحص ونظر ودون إعمال عقل وتقليب للأمور. وهذا الاتجاه أمر ملحوظ عند المسلمين اليوم ، ولا شيء عند العاقل أقبح من التقليد الأعمى الذي يكون المقلد أول ضحاياه كما لا يخفي. وإذا كان علماؤنا الأقدمون قد رفضوا التقليد الأعمى لفكر العلماء المسلمين دون إعمال العقل فيه فما بالك بتقليد غير المسلمين.
وخلاصة القول هي أنّ الأزمة المعرفية قد نشأت بسبب مصادر المعرفة وأنّ المهمة التي ينبغي أن يقوم بها العلماء المسلمون لتصحيح الوضع تتمثل في التوصل إلى صيغة منهجية ملائمة يمكن بها الجمع بين معطيات الوحي من جهة وبين معطيات الحس والعقل من جهة أخرى في وحدة وتكامل يتبوأ كل منهما مكانه الصحيح دون مغالاة أو تعسُّف.
الخلاصة:
إنّ خلاصة القول في الأزمة المعرفية الغربية والإسلامية المعاصرة يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: إنّ المعرفة الغربية المعاصرة سواء في نشأتها أو في تطورها جاءت وليدة للصراع المرير بين الكنسية والعلماء؛ إذ ظلت المعرفة لقرون عديدة حكراً على الكنيسة وحدها وكان للكشوفات الجغرافية ودخول المنهج التجريبي من العالم الإسلامي لأوربا أكبر الأثر في اضمحلال المعرفة الكنسية وبروز عصر التنوير والنهضة . ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الدين (الوحي) عن توجيه الحياة والمعرفة على حدٍ سواء .
ثانياً: كنتيجة لإبعاد الوحي عن التوجيه فإنّ المعرفة في عصر التنوير وما تلاه من عصور تميّزت بالإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ، والإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم ، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي.
ثالثاً: انعكس ذلك الفهم على العلوم بشقيها الطبيعي والإنساني فتحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المحسوس والمشاهد؛ فالمحسوس الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس هو وحده العلم وما عداه يعتبر هو اللاعلم. ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر وتخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فهي مستبعدة تماماً عن نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي.
رابعاَ: اسُتبعدت العوامل الروحية والقيم من نطاق الدراسات الغربية وهي قضايا تشكِّل جزءً هاماً من نشاط الإنسان وتفكيره وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه ، وبالتالي اسُتبعد ما يتولّد عن هذا النشاط الإنساني من علوم وهي علوم قيمية مرتبطة بقيم الإنسان وعقائده.
خامساً: انتهت المنهجية الغربية الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بموجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر. وهذه نتيجة طبيعية لعدم الاعتراف بالوحي الإلهي مصدراً من مصادر المعرفة في النظرية المعرفية الغربية.
أما خلاصة القول في الأزمة المعرفية الإسلامية المعاصرة فيمكن إجمالها في الآتي:
أولاً: إنّ جوهر الأزمة الإسلامية هي أزمة فكرية وليست أزمة عقيدة فالعقيدة صاغتها نصوص الوحي وهي نصوص محفوظة بحفظ الله لها، وتبدو هذه الأزمة واضحة للعيان في انكفاء تيار من علماء الأمة على الذات ؛وذلك بتقديس التراث والانصراف والعزلة عن الواقع وتحدياته وتقنياته وفي ذلك إهمال لعالم الشهادة وهو عالم مطلوب من الإنسان المسلم تسخيره وتطويعه وتعميره والاستفادة من إمكاناته ليعينه في أداء مهمة الاستخلاف والعبادة لله سبحانه وتعالى. كما تبدو الأزمة واضحة في انسياق التيار الآخر من علماء الأمة وراء مقولات النموذج الوضعي الغربي الغارق في الدنيوية والمهمل لعالم الغيب وهذا الانقسام أثر تأثيراً واضحاً على العلم الإسلامي وعلى واقع ومستقبل الأمة بأسره ؛ ذلك أن التخلُّف بكافة أنماطه وأشكاله إنما هو وليد تبني نموذج معرفي خاطئ لا ينسجم مع عقيدة الأمة وتصوراتها، أو هو وليد الحركة بمنظومة معرفية منقوصة كالذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه الآخر.
ثانياً: إنّ مصدر الخلل الأساس هو أنّ الممارسة العملية في العالم الإسلامي المعاصر أدّت إلى عدم تكامل المصادر المعرفية ، إذ من المفترض نظرياً أن يحدث الانسجام والتكامل بين المصادر المعرفية ذلك أنّ معطيات الإسلام قائمة على العقل، والوحي دائم الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على الحواس وعلى التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله في البحث عن الحقيقة . ويتجلى هذا التكامل في أنّ الوحي يقدِّم للبشر أطراً تصورية تتصل بالمعارف المتصلة بعالم الغيب والمعارف المتصلة بكليات عالم الشهادة، وأنّ العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء المعنى عليها معتمداً على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية.
ثالثاً: إنّ التصور الإسلامي الصحيح يمتلك حلولاً لأزمة المعرفة التي تتضح ملامحها في النظام التعليمي ، حيث يقرِّر التصور الإسلامي أنّ الوجود لا ينحصر في العالم المشاهد وحده وإنما هناك وجود لعالم غيبي تخرج معرفته عن نطاق الحواس . ولمعرفة ذلك العالم فلا بد من اعتماد الوحي الإلهي مصدراً معرفياً؛ إذ أن المعلومات التي يقدِّمها الوحي يقينية والمصادر الأخرى مهما كانت فائدتها فإنها ليست يقينية ولا تستطيع تقديم إجابات مقنعة للتساؤلات المطروحة . وأنه لابد من تكامل المصادر المعرفية في البحث عن الحقيقة كما ينبغي التكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة وهذه هي مهمة علماء المسلمين الذين يمتلكون عقيدة تؤهلهم لإحداث التكامل بين المصادر المعرفية ووسائلها.