[align=center]آخر ما نزل على الإطلاق [/align]
اختلف العلماء في تعيين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق واستند كل منهم إلى آثار ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي
فكان هذا من دواعي الاشتباه وكثرة الخلاف على أقوال شتى الأول أن آخر ما نزل قول الله تعالى في سورة البقرة واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون 2 البقرة 281
أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس وكذلك أخرج ابن أبي حاتم قال آخر ما نزل من القرآن كله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية
وعاش النبي بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول
الثاني أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى في سورة البقرة أيضا يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين 2 البقرة 278
أخرجه البخاري عن ابن عباس والبيهقي عن ابن عمر
الثالث أن آخر ما نزل آية الدين في سورة البقرة أيضا وهي قوله سبحانه يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه 2 البقرة 282 إلى قوله سبحانه والله بكل شيء عليم 2 البقرة 282 وهي أطول آية في القرآن
أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين
أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين
ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي رضي الله عنه من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف لأنها في قصة واحدة فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح
أقول ولكن النفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولا هو قول الله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون 2 البقرة 281
وذلك لأمرين
**أحدهما ما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد وما تنوه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها
**ثانيهما التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله
الرابع أن آخر القرآن نزولا قول الله تعالى في سورة آل عمران فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى 3 آل عمران 195 الآية
ودليل هذا القول ما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت آخر آية نزلت هذه الآية فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم إلى آخرها
وذلك أنها قالت يا رسول الله
أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض 4 النساء 32 ونزل إن المسلمين والمسلمت 33 الأحزاب 35 ونزلت هذه الآية فهي آخر الثلاثة نزولا وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة
ومن السهل رد الاستدلال بهذا الخبر على آخر ما نزل مطلقا وذلك لما يصرح به الخبر نفسه من أن الآية المذكورة آخر الثلاثة نزولا وآخر ما نزل بالإضافة إلى ما ذكر فيه النساء أي فهي آخر مقيد لا مطلق وليس كلامنا فيه
الخامس أنه آية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خلدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما 4 النساء 93 واستدلوا بما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس
قال هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء
ولا يخفى عليك أن كلمة وما نسخها شيء تشير إلى أن المراد من كونها آخر ما نزل أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدا لا آخر ما نزل مطلقا
السادس أن آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكللة 4 النساء 176 وهي خاتمة سورة النساء وأن آخر سورة نزلت سورة براءة
واستند صاحب هذا الرأي إلى ما يرويه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه قال آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة
وآخر سورة نزلت براءة
ويمكن نقض هذا الإستدلال بحمل الخبر المذكور على أن الآية آخر ما نزل في المواريث وأن السورة آخر ما نزل في شأن تشريع القتال والجهاد فكلاهما آخر إضافي لا حقيقي
السابع أن آخر ما نزل سورة المائدة
واحتج صاحب هذا القول برواية للترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة رضي الله عنها
ويمكن رده بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام فلم تنسخ فيها أحكام
وعليه فهي آخر مقيد كذلك
الثامن أن آخر ما نزل هو خاتمة سورة براءة لقد جاءكم رسول من أنفسكم 9 التوبة 128 إلى آخر السورة
رواه الحاكم وابن مردويه عن أبي بن كعب
ويمكن نقضه بأنها آخر ما نزل من سورة براءة لا آخر مطلق ويؤيده ما قيل من أن هاتين الآيتين مكيتان بخلاف سائر السورة
ولعل قوله سبحانه فإن تولوا فقل حسبي الله 9 التوبة 129 الخ يشير إلى ذلك من حيث عدم الأمر فيه بالجهاد عند تولي الأعداء وإعراضهم
التاسع أن آخر ما نزل هو آخر سورة الكهف فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا 18 الكهف 110 أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان قال ابن كثير هذا أثر مشكل ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها بل هي مثبتة محكمة ا ه
وهو يفيد أنها آخر مقيد لا مطلق
العاشر أن آخر ما نزل هو سورة إذا جاء نصر الله والفتح 110 النصر 1 رواه مسلم عن ابن عباس
ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبي ويؤيده ما روي من أنه قال حين نزلت نعيت إلي نفسي وكذلك فهم بعض كبار الصحابة كما ورد أن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال الكمال دليل الزوال ويحتمل أيضا أنها آخر ما نزل من السور فقط ويدل عليه رواية ابن عباس آخر سورة نزلت من القرآن جميعا إذا جاء نصر الله والفتح 110 النصر1
تلك أقوال عشرة عرفتها وعرفت توجيهها ورأيت أن الذي تستريح إليه النفس منها هو أن آخر القرآن نزولا على الإطلاق قول الله في سورة البقرة وأتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون 2 البقرة 281 وأن ما سواها أواخر إضافية أو مقيدة بما علمت لكن القاضي أبا بكر في الانتصار يذهب مذهبا آخر إذ يقول هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ا ه وكأنه يشير إلى الجمع بين تلك الأقوال المتشعبة بأنها أواخر مقيدة بما سمع كل منهم من النبي وهي طريقة مريحة غير أنها لا تلقي ضوءا على ما عسى أن يكون قد اختتم الله به كتابه الكريم
مناهل العرفان في علوم القرآن الزرقاني م/2 دار الفكر - (1 /69- 72)