مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
ذكرت في مشاركة سابقة أمرًا يتعلق بتفسير المفردة القرآنية في كتب التفاسير المختصرة ، واليوم أذكر أمرًا آخر يتعلق بكيفية التعامل مع الاختلاف في التفسير في سبك العبارة الدالة على الاختلاف في كتب التفسير المختصِرة ـ فأقول :
إن من أصعب ما يواجه من يكتب مختصرًا في التفسير = كيفية التعامل مع الأقوال التفسيرية المختلفة ، وهذه الصعوبة قد تخلص منها ـ في بعض الأاحيان ـ من اعتمد ذكر أكثر من قول من أقوال المفسرين ؛ كتفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) لمحمد بن عبد الرحمن الأيجي ( ت : 894 ) ، وهو من التفاسير المختصرة النفيسة التي تعمد إلى ذكر الأقوال والأعاريب وبعض النكات واللطائف ، وقد استفاد كثيرًا من تفسيرات الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن تفسير البغوي ، والتفسير الوسيط للواحدي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير النسفي ، والكشاف للزمخشري مع بعض شروحه ، وتفسير البيضاوي ، وقد وصف كتابه فقال : ( فللمبتدي حظ كثير من هذا التفسير ، وللعالم حظوظ ) .
ومن أمثلة سرده للأقوال باختصار تفسيره لقوله تعالى ( إذا الشمس كورت . وإذا النجوم انكدرت ، قال : ( ( إذا الشمس كورت : جُمع بعضها إلى بعض فَتُلَفُّ ، أو أظلمت ، أو أُذهِبَت ومُحِيت أو أُلقِيت في جهنم . والأَولى أن يكون رافع الشمس فعلاً مضمرًا يفسره ما بعده لأن ( إذا ) طالب للفعل .
( وإذا النجوم انكدرت ) : تناثرت وتساقطت من السماء إلى الأرض ، أو تغيرت فلم يبق لها ضوء ) .
ولا شك أن الاختصار لا يحتمل أكثر من هذا ، كبيان أصحاب القول ، وعلل أقوالهم ، والترجيح بينها مع بيان علة الترجيح ، فذلك في مطولات التفسير لا في مختصراته .
ومثل هذا الكتاب فرصة للأستاذ في إيفاء الشرح والتفصيل ، والتعليل للأقاويل ، والتنبيه على الراجح منها من غيره ، وبيان الأعاريب والنكات واللطائف والاستنباطات والفوائد العامة ، إذ الاختصار مظنةٌ لزيادة العالم لطلابه أثناء الدرس ؛ لذا حرص العلماء على تفسير البيضاوي والجلالين لما فيهما من متانة العبارة واختصارها ، ولحاجتهما للشرح والبيان والتفصيل .
أعود فأقول : إذا كانت بعض المختصرات التي اعتمدت ذكر الاختلافات على سبيل الاختصار أيضًا قد تخرج من هذه المشكلة ؛ فإن مختصرات أخرى لابدَّ أن تسلك منهجًا واضحًا في الاختيار في هذا المختصر ، وإلا وقع المختصِر في مشكلة المواءمة بين الأقوال المختلفة ، فالواحدي ( ت : 468 ) في كتابه ( الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ) قد اعتمد الاختصار جدًّا ، حتى يكاد أن يكون مخلاًّ في بعض المواطن ، وقد اعتمد القول الواحد في أغلب هذا المختصر النافع ، فقال : ( ... وتاركٌ ما سوى قولٍ واحدٍ لابن عباس ـ رحمه الله ـ أو من هو في مثل درجته ) ، وقد قال في تفسير الآيتين السابقتين : ( { إذا الشمس كورت } ذهب ضوؤها . { وإذا النجوم انكدرت } تساقطت وتناثرت ) .
وفي هذا التفسير اختيار لأحد الأقوال ـ كما ترى ـ دون تعليل للاختيار ، ولا تنبيه على وجود اقوال أخرى في معنى الآيتين .
وإذا نظرت في تفسيرين مختصرين معاصرين ( المنتخب في تفسير القرآن ، والتفسير الميسر ) فإنك ستجد تفسير هاتين الآيتين كالآتي :
قال أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ( إذا الشمس لُفَّتْ ومُحِىَ ضوؤها . وإذا النجوم انطمس نورها ) .
وقال أصحاب التفسير الميسر : ( إذا الشمس لُفَّت وذهب ضَوْءُها، وإذا النجوم تناثرت، فذهب نورها ) .
فاتفق التفسيران في تفسير الآية الأولى ، وأشارا إلى معنيين من المعاني الواردة في تفسير لفظ ( التكوير ) وتركا المعنى الثالث ، وهو ( الإلقاء أو الرمي ) .
واقتصر أصحاب المنتخب في الآية الثانية على أحد المعنيين للآية ، وزاد أصحاب التفسير الميسر المعنى الثاني .
والمقصود أن من ينحو إلى كتابة تفسير مختصر ، فإنه يحتاج إلى معالجة أسلوب الكتابة في حال وجود الاختلاف ، ويمكن أن يقال :
1 ـ إن كان الاختلاف من قبيل اختلاف التضاد ، فالأمر واضح ، إذ المفسر سيختار القول الصحيح دون القول الخطأ أو الضعيف .
ومن ذلك تفسير قوله تعالى : ( وفديناه بذبح عظيم ) ، قال أصحاب المنتخب : (وَوُلِدَ إسماعيل وشَبّ ، فلما بلغ معه مبلغ السعى فى مطالب الحياة اختُبر إبراهيم فيه برؤية رآها . قال إبراهيم : يا بنى إنى أرى فى المنام وحياً من الله يطلب منى ذبحك ، فانظر ماذا ترى... وفديناه بمذبوح عظيم القدر لكونه بأمر الله تعالى ) .
وقال أصحاب التفسير الميسر : (واستنقذنا إسماعيل، فجعلنا بديلا عنه كبشًا عظيمًا ) .
وهذا التفسير من هؤلاء العلماء اختيار ؛ أن في الآية قول آخر ، وهو أن المفدَّى إسحاق ، والصحيح أنه إسماعيل كما هو اختيار التفسيرين .
2 ـ وإن كان اختلاف تنوع ، فيمكن القول بإن اختلاف التنوع لا يخرج عن حالتين :
الحالة الأولى : أن يعود الخلاف إلى معنى واحد .
وأسلوب التفسير في مثل هذا الحال سهل ؛ إذ المفسر يبين المعنى الكلي الذي تعود إليه الأقوال ، ويمكن أن يتبعها بما يحتاج من عبارات المفسرين إن احتاج إلى ذلك ، وغالبًا ما يكون ذلك فيما إذا كان للمعنى المفسر أنواعًا أو أمثلة .
والذي يعود إلى معنى واحدٍ أقسام :
القسم الأول : أن يكون تفسير المعنى بألفاظ متقاربة ؛ كتفسير قوله تعالى : ( فقد صغت قلوبكما ) بأنها : زاغت ، أو مالت ، وهذان اللفظان قريبان في المعنى ، والجامع بين هذه الألفاظ الثلاثة ( صغت ، زاغت ، مالت ) هو وجود المَيلِ .
القسم الثاني : أن يكون اللفظ عامًا ، وتندرج تحته أمثلة أو أنواع ، ففي هذه الحالة يذكر المفسر المعنى العامَّ ، ثم يتبعه ببعض الأمثلة أو الأنواع ، ومثال ذلك :
1 ـ النعمة في قوله تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) لفظ عام يشمل جميع نعم الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقال : ومهما يكن من شيء ، فتحدَّث ـ من باب شكر الله ـ بجميع ما أنعم الله عليك ؛ كنعمة النبوة ونعمة الوحي ، ونعمة الإيواء ، ونعمة الإغناء .
2 ـ النازعة في قوله تعالى ( والنازعات غرقًا ) لفظ يشتمل على أنواع من النازعات ؛ كالملائكة النازعة للأرواح ، والنجوم النازعة من أفق إلى أفق ، وقيل غير ذلك ، فإذا سبكت عبارة التفسير فيمكن أن تقول : يقسم ربنا بكل نازعة مغرقة في النْزع ؛ كملائكة العذاب إذا نزعت روح الكافر ، وكالنجوم التي تنْزع من أفق إلى أفق .
ويلاحظ أن من يكتب التفسير مختصِرًا ؛ أن ما يتعلق بالأنواع قد يصعب حصره أو الإشارة إليه إذا كانت الأقوال فيه كثيرة ؛ كالأقوال الواردة في النازعات التي ذكر فيها ابن الجوزي سبعة أقوال ، إذ شأن استيعاب الأقوال في المتوسطات او المطولات من كتب التفسير .
الحالة الثانية : أن يعود الخلاف إلى أكثر من معنى ، وقد تتعدد فتصل إلى ما فوق الخمسة .
وهذه الحالة هي أصعب حالات السبك التفسيري عند المفسر المختصِر ؛ لأنه إذا كان يريد أن يعمد إلى الترجيح والاختيار من بين الأقوال ، فيلزمه سلوك جادة واحدة في ذلك ، وتلك حالة صعبت في الأسلوب التفسيري ، وقل ان تسلم له الجادة في كل المواطن ، إذ قد يذكر أكثر من قول في بعض المواطن دون بعض .
وإن كان يريد أن يذكر كل المحتملات الصحيحة ، فإنه سيخرج في بعض المواطن عن منهج الاختصار الذي رسمه لنفسه ، وسيكون مختصرًا لمطول فقط .
ومعالجة هذه الحالة ـ عند المفسِّر المختصِر ـ في غاية الصعوبة ، إذ لابدَّ من ترك بعض الأقوال ، وعدم ذكرها .
ومما يلاحظ أنَّ ( أصحاب التفسير الميسر ) ممن ينتهج الحرص على ذكر الأقوال أو الإشارة إليها بإشارة جامعة تدل عليها ، ون ذلك تفسيرهم لقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ )
قالوا : ( أولم يعلم هؤلاء الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين لا فاصل بينهما، فلا مطر من السماء ولا نبات من الأرض، ففصلناهما بقدرتنا، وأنزلنا المطر من السماء، وأخرجنا النبات من الأرض ) فجمعوا في هذه العبارة بين قولين من أقوال المفسرين :
الأول : كنتا ملتصقتين ففتق ( فصل ) هذه عن هذه .
الثاني : أن السماء كانت رتقًا لا تمطر ، ففتقها بالمطر ، وأن الأرض كانت رتقًا لا تُنبت ، ففتقها بالنبات .
لكن قد يقع الخلل من جهة الجمع بين قولين لا يمكن الجمع بينهما في ذلك المقام ، وهو اختلاف التضاد الذي سبق ذكره ، ومن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى : ( فارتقب يوم تاتي السماءبدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم ) ، قالوا : (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس، ويقال لهم: هذا عذاب مؤلم موجع، ثم يقولون سائلين رفعه وكشفه عنهم: ربنا اكشف عنا العذاب، فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك ) .
وفي عبارتهم هذه إشارة إلى قولين لا يمكن الجمع بينهما في هذا السياق :
الأول : أن الدخان قد وقع ، وأصاب المشركين من أهل مكة فقط ، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه .
الثاني : أن الدخان من آيات آخر الزمان ، وذلك إذا وقع عمَّ الناس كلهم .
فقولهم : ( بهؤلاء المشركين ) ، ثم قولهم ( ثم يقولون سائلين ... ) يدلُّ على أن الدخان قد وقع في عهدهم ، وهذا قول ابن مسعود .
وقولهم : ( يعمُّ الناس ) إشارة إلى الدخان الذي يقع آخر الزمان ، فهو الذي يعمُّ الناس كلهم .
فإن قلت : لِمَ لا يكون العموم في الناس من العموم المخصوص ، قتُحمل عبارتهم على أن الناس أهلُ مكةَ ؟
فالجواب : إن المفسر في مثل هذا المقام في حالة تفصيل وتوضيح ، وإن كان هذا مرادهم ففيه إبهامٌ وإجمالٌ ، فلو فصَّلوا لكان أولى خصوصًا أنهم ذكروا المشركين قبل هذه العبارة ، ولول كانوا قالوا : (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّهم ) لكان دالاًّ بلا نزاع على أنه الدخان الذي ذهب إليه ابن مسعود .
ولا ريب أن الجمع بين هذين التفسير على هذا الأسلوب غير دقيق ، ولقد كان أصحاب المنتخب في التفسير أوضح تفسيرًا ، وأصرح عبارة ، فقالوا : (10 ـ فانتظر - أيها الرسول - حينما ينْزل بهم القحط ، فيصابون بالهزال وضعف البصر ، فيرى الرجل بين السماء والأرض دخاناً واضحاً! .
11 ـ يحيط هذا الدخان بالمكذبين الذين أصابهم الجدب ، فيقولون لشدة الهول : هذا عذاب شديد الإيلام .
12ـ كما يقولون استغاثة بالله : إننا سنؤمن بعد أن تكشف عنا عذاب الجوع والحرمان .
13 ـ كيف يتعظ هؤلاء ، ويوفون بما وعدوا من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم رسول واضح الرسالة بالمعجزات الدالة على صدقه ، وذلك أعظم موجبات الاتعاظ؟ ) .
وهذه المشكلة لا يمكن التخلص منها إلا بالآتي :
1 ـ النصُّ على الانتخاب من الأقوال ، ولو كانت كلها صحيحة تحتملها الآية .
2 ـ استخدام الحاشية للتنبيه على الأقوال الأخرى ، ويمكن أن يضاف فيها أيضًا الاحتجاج للأقوال .
3 ـ توسيع التفسير ، للتنبيه على هذه الأقوال ، لكن هذا سيخرج بالتفسير عن غرضه الأصيل ، وهو الاختصار ، وعدم اللبس على المبتدئين والعامة ، الذين لا يصلح في حالهم حكاية الأقوال .
ومما يحسن لمن أراد اللاختصار مع ذكر الأقوال أن يجعل له منهجًا في ذكر الاختلاف ، ومما رأيته مناسبًا في مثل هذا المقام ما يأتي :
أولاً : إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد ، والتعبير عن تفسير المعنى بألفاظ متقاربة ، فإنه يختار أقربها وأوفاها بالمقصود .
وإذا كان المفسرون قد ذكروا لازمًا لهذا اللفظ في ذلك السياق فيمكن أن يشير إليه ـ بعد ذكر معنى اللفظ ـ بعبارة تدلُّ على كونه ليس هو المعنى المطابق ؛ كعبارة ( ومن لازمه ) أو ( وينتج عن ذلك ) ، وأمثالها من العبارات .
ثانيًا : إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد ، واللفظ يشتمل على أنواع أو أمثلة ، فإنه يُذكر المعنى الجامع ، ثم يُذكر بعض التفسيرات التي هي على سبيل التمثيل أو التنويع .
ثالثًا : إذا كان الاختلاف يعود إلى أكثر من معنى ، وأراد المختصر ان يذكرها ، فإنه يستعمل حرف العطف الدال على التنويع ( أو ) ، وباستعماله هذا يشير إلى تعدد التفسيرات .
إن من أصعب ما يواجه من يكتب مختصرًا في التفسير = كيفية التعامل مع الأقوال التفسيرية المختلفة ، وهذه الصعوبة قد تخلص منها ـ في بعض الأاحيان ـ من اعتمد ذكر أكثر من قول من أقوال المفسرين ؛ كتفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) لمحمد بن عبد الرحمن الأيجي ( ت : 894 ) ، وهو من التفاسير المختصرة النفيسة التي تعمد إلى ذكر الأقوال والأعاريب وبعض النكات واللطائف ، وقد استفاد كثيرًا من تفسيرات الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن تفسير البغوي ، والتفسير الوسيط للواحدي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير النسفي ، والكشاف للزمخشري مع بعض شروحه ، وتفسير البيضاوي ، وقد وصف كتابه فقال : ( فللمبتدي حظ كثير من هذا التفسير ، وللعالم حظوظ ) .
ومن أمثلة سرده للأقوال باختصار تفسيره لقوله تعالى ( إذا الشمس كورت . وإذا النجوم انكدرت ، قال : ( ( إذا الشمس كورت : جُمع بعضها إلى بعض فَتُلَفُّ ، أو أظلمت ، أو أُذهِبَت ومُحِيت أو أُلقِيت في جهنم . والأَولى أن يكون رافع الشمس فعلاً مضمرًا يفسره ما بعده لأن ( إذا ) طالب للفعل .
( وإذا النجوم انكدرت ) : تناثرت وتساقطت من السماء إلى الأرض ، أو تغيرت فلم يبق لها ضوء ) .
ولا شك أن الاختصار لا يحتمل أكثر من هذا ، كبيان أصحاب القول ، وعلل أقوالهم ، والترجيح بينها مع بيان علة الترجيح ، فذلك في مطولات التفسير لا في مختصراته .
ومثل هذا الكتاب فرصة للأستاذ في إيفاء الشرح والتفصيل ، والتعليل للأقاويل ، والتنبيه على الراجح منها من غيره ، وبيان الأعاريب والنكات واللطائف والاستنباطات والفوائد العامة ، إذ الاختصار مظنةٌ لزيادة العالم لطلابه أثناء الدرس ؛ لذا حرص العلماء على تفسير البيضاوي والجلالين لما فيهما من متانة العبارة واختصارها ، ولحاجتهما للشرح والبيان والتفصيل .
أعود فأقول : إذا كانت بعض المختصرات التي اعتمدت ذكر الاختلافات على سبيل الاختصار أيضًا قد تخرج من هذه المشكلة ؛ فإن مختصرات أخرى لابدَّ أن تسلك منهجًا واضحًا في الاختيار في هذا المختصر ، وإلا وقع المختصِر في مشكلة المواءمة بين الأقوال المختلفة ، فالواحدي ( ت : 468 ) في كتابه ( الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ) قد اعتمد الاختصار جدًّا ، حتى يكاد أن يكون مخلاًّ في بعض المواطن ، وقد اعتمد القول الواحد في أغلب هذا المختصر النافع ، فقال : ( ... وتاركٌ ما سوى قولٍ واحدٍ لابن عباس ـ رحمه الله ـ أو من هو في مثل درجته ) ، وقد قال في تفسير الآيتين السابقتين : ( { إذا الشمس كورت } ذهب ضوؤها . { وإذا النجوم انكدرت } تساقطت وتناثرت ) .
وفي هذا التفسير اختيار لأحد الأقوال ـ كما ترى ـ دون تعليل للاختيار ، ولا تنبيه على وجود اقوال أخرى في معنى الآيتين .
وإذا نظرت في تفسيرين مختصرين معاصرين ( المنتخب في تفسير القرآن ، والتفسير الميسر ) فإنك ستجد تفسير هاتين الآيتين كالآتي :
قال أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ( إذا الشمس لُفَّتْ ومُحِىَ ضوؤها . وإذا النجوم انطمس نورها ) .
وقال أصحاب التفسير الميسر : ( إذا الشمس لُفَّت وذهب ضَوْءُها، وإذا النجوم تناثرت، فذهب نورها ) .
فاتفق التفسيران في تفسير الآية الأولى ، وأشارا إلى معنيين من المعاني الواردة في تفسير لفظ ( التكوير ) وتركا المعنى الثالث ، وهو ( الإلقاء أو الرمي ) .
واقتصر أصحاب المنتخب في الآية الثانية على أحد المعنيين للآية ، وزاد أصحاب التفسير الميسر المعنى الثاني .
والمقصود أن من ينحو إلى كتابة تفسير مختصر ، فإنه يحتاج إلى معالجة أسلوب الكتابة في حال وجود الاختلاف ، ويمكن أن يقال :
1 ـ إن كان الاختلاف من قبيل اختلاف التضاد ، فالأمر واضح ، إذ المفسر سيختار القول الصحيح دون القول الخطأ أو الضعيف .
ومن ذلك تفسير قوله تعالى : ( وفديناه بذبح عظيم ) ، قال أصحاب المنتخب : (وَوُلِدَ إسماعيل وشَبّ ، فلما بلغ معه مبلغ السعى فى مطالب الحياة اختُبر إبراهيم فيه برؤية رآها . قال إبراهيم : يا بنى إنى أرى فى المنام وحياً من الله يطلب منى ذبحك ، فانظر ماذا ترى... وفديناه بمذبوح عظيم القدر لكونه بأمر الله تعالى ) .
وقال أصحاب التفسير الميسر : (واستنقذنا إسماعيل، فجعلنا بديلا عنه كبشًا عظيمًا ) .
وهذا التفسير من هؤلاء العلماء اختيار ؛ أن في الآية قول آخر ، وهو أن المفدَّى إسحاق ، والصحيح أنه إسماعيل كما هو اختيار التفسيرين .
2 ـ وإن كان اختلاف تنوع ، فيمكن القول بإن اختلاف التنوع لا يخرج عن حالتين :
الحالة الأولى : أن يعود الخلاف إلى معنى واحد .
وأسلوب التفسير في مثل هذا الحال سهل ؛ إذ المفسر يبين المعنى الكلي الذي تعود إليه الأقوال ، ويمكن أن يتبعها بما يحتاج من عبارات المفسرين إن احتاج إلى ذلك ، وغالبًا ما يكون ذلك فيما إذا كان للمعنى المفسر أنواعًا أو أمثلة .
والذي يعود إلى معنى واحدٍ أقسام :
القسم الأول : أن يكون تفسير المعنى بألفاظ متقاربة ؛ كتفسير قوله تعالى : ( فقد صغت قلوبكما ) بأنها : زاغت ، أو مالت ، وهذان اللفظان قريبان في المعنى ، والجامع بين هذه الألفاظ الثلاثة ( صغت ، زاغت ، مالت ) هو وجود المَيلِ .
القسم الثاني : أن يكون اللفظ عامًا ، وتندرج تحته أمثلة أو أنواع ، ففي هذه الحالة يذكر المفسر المعنى العامَّ ، ثم يتبعه ببعض الأمثلة أو الأنواع ، ومثال ذلك :
1 ـ النعمة في قوله تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) لفظ عام يشمل جميع نعم الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقال : ومهما يكن من شيء ، فتحدَّث ـ من باب شكر الله ـ بجميع ما أنعم الله عليك ؛ كنعمة النبوة ونعمة الوحي ، ونعمة الإيواء ، ونعمة الإغناء .
2 ـ النازعة في قوله تعالى ( والنازعات غرقًا ) لفظ يشتمل على أنواع من النازعات ؛ كالملائكة النازعة للأرواح ، والنجوم النازعة من أفق إلى أفق ، وقيل غير ذلك ، فإذا سبكت عبارة التفسير فيمكن أن تقول : يقسم ربنا بكل نازعة مغرقة في النْزع ؛ كملائكة العذاب إذا نزعت روح الكافر ، وكالنجوم التي تنْزع من أفق إلى أفق .
ويلاحظ أن من يكتب التفسير مختصِرًا ؛ أن ما يتعلق بالأنواع قد يصعب حصره أو الإشارة إليه إذا كانت الأقوال فيه كثيرة ؛ كالأقوال الواردة في النازعات التي ذكر فيها ابن الجوزي سبعة أقوال ، إذ شأن استيعاب الأقوال في المتوسطات او المطولات من كتب التفسير .
الحالة الثانية : أن يعود الخلاف إلى أكثر من معنى ، وقد تتعدد فتصل إلى ما فوق الخمسة .
وهذه الحالة هي أصعب حالات السبك التفسيري عند المفسر المختصِر ؛ لأنه إذا كان يريد أن يعمد إلى الترجيح والاختيار من بين الأقوال ، فيلزمه سلوك جادة واحدة في ذلك ، وتلك حالة صعبت في الأسلوب التفسيري ، وقل ان تسلم له الجادة في كل المواطن ، إذ قد يذكر أكثر من قول في بعض المواطن دون بعض .
وإن كان يريد أن يذكر كل المحتملات الصحيحة ، فإنه سيخرج في بعض المواطن عن منهج الاختصار الذي رسمه لنفسه ، وسيكون مختصرًا لمطول فقط .
ومعالجة هذه الحالة ـ عند المفسِّر المختصِر ـ في غاية الصعوبة ، إذ لابدَّ من ترك بعض الأقوال ، وعدم ذكرها .
ومما يلاحظ أنَّ ( أصحاب التفسير الميسر ) ممن ينتهج الحرص على ذكر الأقوال أو الإشارة إليها بإشارة جامعة تدل عليها ، ون ذلك تفسيرهم لقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ )
قالوا : ( أولم يعلم هؤلاء الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين لا فاصل بينهما، فلا مطر من السماء ولا نبات من الأرض، ففصلناهما بقدرتنا، وأنزلنا المطر من السماء، وأخرجنا النبات من الأرض ) فجمعوا في هذه العبارة بين قولين من أقوال المفسرين :
الأول : كنتا ملتصقتين ففتق ( فصل ) هذه عن هذه .
الثاني : أن السماء كانت رتقًا لا تمطر ، ففتقها بالمطر ، وأن الأرض كانت رتقًا لا تُنبت ، ففتقها بالنبات .
لكن قد يقع الخلل من جهة الجمع بين قولين لا يمكن الجمع بينهما في ذلك المقام ، وهو اختلاف التضاد الذي سبق ذكره ، ومن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى : ( فارتقب يوم تاتي السماءبدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم ) ، قالوا : (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس، ويقال لهم: هذا عذاب مؤلم موجع، ثم يقولون سائلين رفعه وكشفه عنهم: ربنا اكشف عنا العذاب، فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك ) .
وفي عبارتهم هذه إشارة إلى قولين لا يمكن الجمع بينهما في هذا السياق :
الأول : أن الدخان قد وقع ، وأصاب المشركين من أهل مكة فقط ، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه .
الثاني : أن الدخان من آيات آخر الزمان ، وذلك إذا وقع عمَّ الناس كلهم .
فقولهم : ( بهؤلاء المشركين ) ، ثم قولهم ( ثم يقولون سائلين ... ) يدلُّ على أن الدخان قد وقع في عهدهم ، وهذا قول ابن مسعود .
وقولهم : ( يعمُّ الناس ) إشارة إلى الدخان الذي يقع آخر الزمان ، فهو الذي يعمُّ الناس كلهم .
فإن قلت : لِمَ لا يكون العموم في الناس من العموم المخصوص ، قتُحمل عبارتهم على أن الناس أهلُ مكةَ ؟
فالجواب : إن المفسر في مثل هذا المقام في حالة تفصيل وتوضيح ، وإن كان هذا مرادهم ففيه إبهامٌ وإجمالٌ ، فلو فصَّلوا لكان أولى خصوصًا أنهم ذكروا المشركين قبل هذه العبارة ، ولول كانوا قالوا : (فانتظر -أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّهم ) لكان دالاًّ بلا نزاع على أنه الدخان الذي ذهب إليه ابن مسعود .
ولا ريب أن الجمع بين هذين التفسير على هذا الأسلوب غير دقيق ، ولقد كان أصحاب المنتخب في التفسير أوضح تفسيرًا ، وأصرح عبارة ، فقالوا : (10 ـ فانتظر - أيها الرسول - حينما ينْزل بهم القحط ، فيصابون بالهزال وضعف البصر ، فيرى الرجل بين السماء والأرض دخاناً واضحاً! .
11 ـ يحيط هذا الدخان بالمكذبين الذين أصابهم الجدب ، فيقولون لشدة الهول : هذا عذاب شديد الإيلام .
12ـ كما يقولون استغاثة بالله : إننا سنؤمن بعد أن تكشف عنا عذاب الجوع والحرمان .
13 ـ كيف يتعظ هؤلاء ، ويوفون بما وعدوا من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم رسول واضح الرسالة بالمعجزات الدالة على صدقه ، وذلك أعظم موجبات الاتعاظ؟ ) .
وهذه المشكلة لا يمكن التخلص منها إلا بالآتي :
1 ـ النصُّ على الانتخاب من الأقوال ، ولو كانت كلها صحيحة تحتملها الآية .
2 ـ استخدام الحاشية للتنبيه على الأقوال الأخرى ، ويمكن أن يضاف فيها أيضًا الاحتجاج للأقوال .
3 ـ توسيع التفسير ، للتنبيه على هذه الأقوال ، لكن هذا سيخرج بالتفسير عن غرضه الأصيل ، وهو الاختصار ، وعدم اللبس على المبتدئين والعامة ، الذين لا يصلح في حالهم حكاية الأقوال .
ومما يحسن لمن أراد اللاختصار مع ذكر الأقوال أن يجعل له منهجًا في ذكر الاختلاف ، ومما رأيته مناسبًا في مثل هذا المقام ما يأتي :
أولاً : إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد ، والتعبير عن تفسير المعنى بألفاظ متقاربة ، فإنه يختار أقربها وأوفاها بالمقصود .
وإذا كان المفسرون قد ذكروا لازمًا لهذا اللفظ في ذلك السياق فيمكن أن يشير إليه ـ بعد ذكر معنى اللفظ ـ بعبارة تدلُّ على كونه ليس هو المعنى المطابق ؛ كعبارة ( ومن لازمه ) أو ( وينتج عن ذلك ) ، وأمثالها من العبارات .
ثانيًا : إذا كان الاختلاف يعود إلى معنى واحد ، واللفظ يشتمل على أنواع أو أمثلة ، فإنه يُذكر المعنى الجامع ، ثم يُذكر بعض التفسيرات التي هي على سبيل التمثيل أو التنويع .
ثالثًا : إذا كان الاختلاف يعود إلى أكثر من معنى ، وأراد المختصر ان يذكرها ، فإنه يستعمل حرف العطف الدال على التنويع ( أو ) ، وباستعماله هذا يشير إلى تعدد التفسيرات .