ياسر عبد المؤمن معوض
New member
- إنضم
- 03/09/2009
- المشاركات
- 16
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
- العمر
- 57
لماذا يستخدم الإسلام القوَّة؟
سؤال تفصم إجابته - وإن كانت صحيحة - الحقيقة نصفين، ويقسم الرد عليه - وإن كان صائبًا - الحق شطرين، فما بالك بإجابة توغل عن الحق بعدًا، وردٍّ ينحرف عن الصَّواب ميلاً؟! إنَّ الفساد لا يكمن في السؤال نفسه، ولكن في قيامه منفردًا دون شقيق له، تبرز إجابته كمال الحقيقة جميلاً، وبَهاء وجهها متألِّقًا، ورفعة منزلتها علوًّا، وسمو قدْرِها شأنًا، هذا الشقيق هو: لماذا يؤْذَى المؤمنون بالله في الأرض؟
إنَّ تجاهل هذا السؤال يبتر كثيرًا من الحقيقة، ويشوِّه جمالها الأخَّاذ، ويطفئ بريقَها المتألق، كسحب تحجب شمس الحقيقة أن تسطع، وغيومٍ تَحول دون دفئها أن ينتشر.
فالإجابة الأولى: تبيِّن الغايات من وراء استِعمال القوَّة.
والثَّانية: توضِّح أسباب نشأَتِها، ومشروعيَّة بروزِها، ولا تقوم الغايات وحدها - وإن كانت نبيلة - بتبديد الشُّبهات في هذا السَّبيل؛ بل لا بدَّ من معرفة عدالة النَّشأة، وشرعيَّة البروز لتنقَشِع نهائيًّا كلُّ الظُّلمات، وتغرب إلى الأبد جميع الشُّبهات.
إنَّ هناك قوى لا تطمئِنُّ إلى ربوبيَّة الله في الأرض، ولا تسكن إلى ألوهيَّة الله لجميع المخْلوقات، فتراهم يسومون المؤمنين سوء العذاب، ويقْتلون أطْفالَهم، ويرمِّلون نساءهم، ويُخْرجونَهم من ديارِهم، ويدنِّسون مقدسَّاتهم، ويحتلُّون أراضيهم، ويستعبدون أحرارَهم، وينهبون ثروات بلادهم؛ لأنَّهم يقولون: ربُّنا الله، ولا يذكرون إلا الله؛ يقول الله - تعالى - في كتابه الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
وأمرنا الله - عزَّ وجلَّ - بإِعْداد القوَّة لإرهاب أعداء الله وأعدائنا في قولِه - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]؛ لأنَّ إحسان الظَّنِّ بمستقبل الحقِّ العاري عن القوَّة وهْمٌ خدَّاع، يؤدي إلى الفشل والتنازُع بين أصحابه، والضَّعف والهوان أمام الآخرين، ويصل الأمر بالبغاث حينئذٍ أن يستنسِر بأرضهم، وبالجبناء أن يستَأْسِدوا على أحرارهم، وتصبح أمَّتهم في ذيل بقيَّة الأمم، لا ترى لها في أرْضِها مجدًا، ولا تسمع لها في بلاد غيرِها رِكْزًا.
فعندما يرى أعْداء الإسلام نورَه يبدِّد ظُلُماتٍ، بعضُها فوق بعض متكاثفة، ويمزق ضياؤه أستارًا حوْل القلوب غليظة متلاحِمة، يهيْمِن على نفوسِهم أحاسيس الخطر، وينبعِث من قلوبِهم مكامن اللأْواء؛ لكن يا تُرى: أي خطرٍ يكون من النُّور تنتشر أشعَّته في الآفاق؟! وأي لأواء تكون من الضِّياء يخرق الأستار ويُنير القلوب؟! إنَّه خطر يهدِّد حياة الخفافيش، وإنَّها لأواء تضرُّ بعيونِها الكليلة، هذه الخفافيش طالَما أحبَّت الظَّلام وحملتْ أثقاله، ولفَّها الظُّلم وأخرجت أشْواكه، وامتلأتْ بالجور وأرسلت سهامه.
إنَّ هذه الخفافيش تؤْذيها أشعَّة النور، ويضايِقُها مجيءُ النَّهار، ويبدد أمْنَها شروق الشَّمس، ويؤرِّق جفونَها اختفاء الظلام، فكانت منها الكراهية الغليظة لسفينة الحبِّ والإخاء، والهجوم العنيف على مركبة العدْل والسَّلام.
ولَم يكُن للإسْلام من بُدٍّ إلاَّ أن يُهاجِم مَن هاجَمه، ويقاوِم مَن يُريد السَّطو على سفينتِه، وأن يسعى سعْيًا أكيدًا لقطْع رؤوس الظُّلم حيث برزتْ أنْيابُه، وردِّ سِهام الجوْر لما انطلقت من أوتار قوسه، وأن يعزم عزْمًا قويًّا على رفْع أثقال الظَّلام كلَّما ناء البشر بكلكله، ومَحو آثار الحيْف حين تقهر النَّاس قسوته.
فالإسلام حين يستَخْدِم القوَّة لا يفعل ذلك إلاَّ عن إدراك واقعي منه، بأنَّ السِّلاح إذا خرج إلى ساحة المصاولة، ورفعت أدواته في ميدان المحاربة، استعصى على العقل الاستماع، وسدَّت إليه منافذ النور، وجفت في النفس ينابيع رقَّتها، وتصلَّبت منها شرايين تسامُحها، وحينئذٍ لن يجدي نفعًا إلاَّ مواجهة القوَّة بقوَّة أخرى من جنسِها، تجدع أنفَها المتورِّم، وتحطِّم عنفوانَها المتغطرس، وتكسِر كبرياءَها المتعجرف، وتأتي على غرورها المستعلي.
فالقوَّة في الإسلام لا تُستخدم إلاَّ ضدَّ قوَّة أخرى برزتْ أشواكُها، ورفعت سنابكها، بغضِّ النَّظر عن دين صاحبِها وعقيدة حامِلِها، حتَّى إنَّ الإسلام يأمُر أتْباعَه المخْلِصين لتعاليمِه باستِخْدام القوَّة ضدَّ طائفةٍ من المؤمنين، إذا بغت واعتدتْ على طائفة أخرى منهم؛ لأنَّ البغيَ والظُّلْم والاعتِداء محظورات في شرْعة الإسلام، لا يتهاون أي قدر من التَّهاوُن مع مرتكبيها، ولا يتسامح أي نوْع من التَّسامُح مع المجترئين عليها، وتبلغ كراهية الإسلام للبغي حدًّا لا يَمنعه إيمان الطَّائفة الباغية من استِعْمال القوَّة الحاسمة ضدَّها، وتصِل مجافاته للاعتِداء مبلغًا لا يحول إسلام الطائفة المعتدية دون توجيه ضربةٍ موجعة لها، كلّ ذلك كي يرجع البغاة عن غيِّهم ويؤوب المعْتدون إلى رشدهم.
وهذا المعنى هو ما تجِدُه واضحًا صريحا في قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
وهكذا يظهر موقِف الإسلام جليًّا من الأمر بالقوَّة، موقفًا يأمر فيه باستخدامِها ضدَّ بعْض أتباعه في حالة البغي يصدر عنهم، ويبيِّن تشريعه واضحًا لقمْع بعض المنتمين له في حالة الاعتِداء يقومون به، ومن ثمَّ لا يجب أن يُلام الإسلام قليلَ لوْمٍ ولا كثيرَه، إذا ارْتضى استِعْمال نفس القوَّة ضدَّ آخَرين من دون المسلمين سلكوا طريق البغي، وارتضَوا شرعة الظُّلم، وتسابقوا في مِضْمار الجَوْر، وهبُّوا مسرعين في ميادين الاعتِداء.
ولا شكَّ أنَّ السَّلام هو طبيعة الإسْلام الأصيلة، وجوْهر تعاليمِه النَّبيلة، ومدار رسالتِه السَّامية، إلاَّ أنَّ الإسلام في سِلْمِه وحرْبِه أشبهُ ما يكون بسفينةٍ تَمخر عباب البَحْر، وتشقُّ طريقَها عبر مياه المحيطات، فالنَّاظر لركَّاب السفينة، وهم يتمتَّعون بطمأنينة الجانب، وسلامة المقْصِد، وحسن النَّوايا، وجميل المعْشر، والتَّمسُّك بإقرار السَّلام، والحِرْص على إشاعة الأمن - يَحسَبُهم لا يعْرِفون طريقًا لارتِداء معاطف الحرب، ولا يهْتدون سبيلاً للبس أزْياء العراك، غير أنَّ ناظِرًا آخَر حين يراهم في ساحات الوغى رآبيل مقبلة، وفي ميادين القتال آسادًا مزَمْجِرة، وتبين له شدَّتُهم في منازلة المفسدين، وتتراءَى له صولتُهم في كسْر شوكة الظَّالمين - يَحسَبُهم رجالاً التصقتْ معاطف الحرْبِ بأجسادِهم، فأصبحوا لا يستطيعون خلعها، وصارت ملابس العراك كجُلُودهم، لا سبيل لسلخها والانفِصال عنها.
والحقُّ أنَّ الصَّواب قد فات كلا النَّاظرَيْن؛ لأنَّ الأوَّل ظنَّ السَّفينة ساكنةً مقصورةً على رجال بأيديهم ورودُ الجمال، والثاني حسبها تتحرك غازية معتدية لا تستقرُّ على جودي السَّلام.
والحقيقة وسط بين الأمرين، فسفينة الإسلام تتحرَّك لأنَّ السُّكون ممَّا يُخالف سنن الله في الكون، والركود الدَّائم لا يستقيم مع طبيعة الأشْياء، والوقوف المستمرُّ يتناقض وحقيقة هذه الحياة، إلاَّ أنَّ السَّفينة لما شرعت تتحرَّك وسط البحر تمخُر عبابه، أرادها من يكرهون السَّلام، ويعشقون الظلام - حطامًا وسط البحر تتلاعب به أمواجه، وابتغوا ركَّابها طعمة تلتهِمُها حيتانه، فدافع ركَّابُها المسلمون أشدَّ ما يكون الدفاع، وكان لا بدَّ أن يفعلوا، وهاجم ركَّابها المظلومون أقوى ما يكون الهجوم، وما كان لهم ممَّا فعلوا مهرب، أو ممَّا وقع فرار.
ولقد كان المسلِمون منصفِين أكمل ما يكون الإنْصاف حال دفاعهم، وعادلين أرْوع ما يكون العدْل في وضْع هجومهم، وكان شأنُهم عجيبًا في الحال الأوَّل، ومدهشًا في الوضْع الثاني، إلاَّ أن علامات العجب تبدأ في الزوال، وأمارات الدَّهشة تتحرَّك نحو الأفول، حينما نعلم أنَّ قائد السَّفينة هو خاتم الأنبِياء محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - لأنَّ النَّبيَّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - كان عجيبًا في جميع أحواله، ومدهشًا في كل أوضاعه.
وعلى الرَّغم من أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان بشرًا مثلَنا، إلاَّ أنَّه كان متميِّزًا في جميع ما يأتي، فريدًا في كل ما يدع، فكان نبي الرَّحمة الذي تحرَّك حاملاً راية الحبِّ والسَّلام، رافعًا لواءَ الخير والعدالة، كما كان هو نفسه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - نبيَّ الملحمة الذي قصم الله به ظهر الجبابرة، ووضَع به أقدار المتكبرين، وقضى به على طغْيان المتألِّهين، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والحمد لله ربِّ العالمين.
سؤال تفصم إجابته - وإن كانت صحيحة - الحقيقة نصفين، ويقسم الرد عليه - وإن كان صائبًا - الحق شطرين، فما بالك بإجابة توغل عن الحق بعدًا، وردٍّ ينحرف عن الصَّواب ميلاً؟! إنَّ الفساد لا يكمن في السؤال نفسه، ولكن في قيامه منفردًا دون شقيق له، تبرز إجابته كمال الحقيقة جميلاً، وبَهاء وجهها متألِّقًا، ورفعة منزلتها علوًّا، وسمو قدْرِها شأنًا، هذا الشقيق هو: لماذا يؤْذَى المؤمنون بالله في الأرض؟
إنَّ تجاهل هذا السؤال يبتر كثيرًا من الحقيقة، ويشوِّه جمالها الأخَّاذ، ويطفئ بريقَها المتألق، كسحب تحجب شمس الحقيقة أن تسطع، وغيومٍ تَحول دون دفئها أن ينتشر.
فالإجابة الأولى: تبيِّن الغايات من وراء استِعمال القوَّة.
والثَّانية: توضِّح أسباب نشأَتِها، ومشروعيَّة بروزِها، ولا تقوم الغايات وحدها - وإن كانت نبيلة - بتبديد الشُّبهات في هذا السَّبيل؛ بل لا بدَّ من معرفة عدالة النَّشأة، وشرعيَّة البروز لتنقَشِع نهائيًّا كلُّ الظُّلمات، وتغرب إلى الأبد جميع الشُّبهات.
إنَّ هناك قوى لا تطمئِنُّ إلى ربوبيَّة الله في الأرض، ولا تسكن إلى ألوهيَّة الله لجميع المخْلوقات، فتراهم يسومون المؤمنين سوء العذاب، ويقْتلون أطْفالَهم، ويرمِّلون نساءهم، ويُخْرجونَهم من ديارِهم، ويدنِّسون مقدسَّاتهم، ويحتلُّون أراضيهم، ويستعبدون أحرارَهم، وينهبون ثروات بلادهم؛ لأنَّهم يقولون: ربُّنا الله، ولا يذكرون إلا الله؛ يقول الله - تعالى - في كتابه الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
وأمرنا الله - عزَّ وجلَّ - بإِعْداد القوَّة لإرهاب أعداء الله وأعدائنا في قولِه - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]؛ لأنَّ إحسان الظَّنِّ بمستقبل الحقِّ العاري عن القوَّة وهْمٌ خدَّاع، يؤدي إلى الفشل والتنازُع بين أصحابه، والضَّعف والهوان أمام الآخرين، ويصل الأمر بالبغاث حينئذٍ أن يستنسِر بأرضهم، وبالجبناء أن يستَأْسِدوا على أحرارهم، وتصبح أمَّتهم في ذيل بقيَّة الأمم، لا ترى لها في أرْضِها مجدًا، ولا تسمع لها في بلاد غيرِها رِكْزًا.
فعندما يرى أعْداء الإسلام نورَه يبدِّد ظُلُماتٍ، بعضُها فوق بعض متكاثفة، ويمزق ضياؤه أستارًا حوْل القلوب غليظة متلاحِمة، يهيْمِن على نفوسِهم أحاسيس الخطر، وينبعِث من قلوبِهم مكامن اللأْواء؛ لكن يا تُرى: أي خطرٍ يكون من النُّور تنتشر أشعَّته في الآفاق؟! وأي لأواء تكون من الضِّياء يخرق الأستار ويُنير القلوب؟! إنَّه خطر يهدِّد حياة الخفافيش، وإنَّها لأواء تضرُّ بعيونِها الكليلة، هذه الخفافيش طالَما أحبَّت الظَّلام وحملتْ أثقاله، ولفَّها الظُّلم وأخرجت أشْواكه، وامتلأتْ بالجور وأرسلت سهامه.
إنَّ هذه الخفافيش تؤْذيها أشعَّة النور، ويضايِقُها مجيءُ النَّهار، ويبدد أمْنَها شروق الشَّمس، ويؤرِّق جفونَها اختفاء الظلام، فكانت منها الكراهية الغليظة لسفينة الحبِّ والإخاء، والهجوم العنيف على مركبة العدْل والسَّلام.
ولَم يكُن للإسْلام من بُدٍّ إلاَّ أن يُهاجِم مَن هاجَمه، ويقاوِم مَن يُريد السَّطو على سفينتِه، وأن يسعى سعْيًا أكيدًا لقطْع رؤوس الظُّلم حيث برزتْ أنْيابُه، وردِّ سِهام الجوْر لما انطلقت من أوتار قوسه، وأن يعزم عزْمًا قويًّا على رفْع أثقال الظَّلام كلَّما ناء البشر بكلكله، ومَحو آثار الحيْف حين تقهر النَّاس قسوته.
فالإسلام حين يستَخْدِم القوَّة لا يفعل ذلك إلاَّ عن إدراك واقعي منه، بأنَّ السِّلاح إذا خرج إلى ساحة المصاولة، ورفعت أدواته في ميدان المحاربة، استعصى على العقل الاستماع، وسدَّت إليه منافذ النور، وجفت في النفس ينابيع رقَّتها، وتصلَّبت منها شرايين تسامُحها، وحينئذٍ لن يجدي نفعًا إلاَّ مواجهة القوَّة بقوَّة أخرى من جنسِها، تجدع أنفَها المتورِّم، وتحطِّم عنفوانَها المتغطرس، وتكسِر كبرياءَها المتعجرف، وتأتي على غرورها المستعلي.
فالقوَّة في الإسلام لا تُستخدم إلاَّ ضدَّ قوَّة أخرى برزتْ أشواكُها، ورفعت سنابكها، بغضِّ النَّظر عن دين صاحبِها وعقيدة حامِلِها، حتَّى إنَّ الإسلام يأمُر أتْباعَه المخْلِصين لتعاليمِه باستِخْدام القوَّة ضدَّ طائفةٍ من المؤمنين، إذا بغت واعتدتْ على طائفة أخرى منهم؛ لأنَّ البغيَ والظُّلْم والاعتِداء محظورات في شرْعة الإسلام، لا يتهاون أي قدر من التَّهاوُن مع مرتكبيها، ولا يتسامح أي نوْع من التَّسامُح مع المجترئين عليها، وتبلغ كراهية الإسلام للبغي حدًّا لا يَمنعه إيمان الطَّائفة الباغية من استِعْمال القوَّة الحاسمة ضدَّها، وتصِل مجافاته للاعتِداء مبلغًا لا يحول إسلام الطائفة المعتدية دون توجيه ضربةٍ موجعة لها، كلّ ذلك كي يرجع البغاة عن غيِّهم ويؤوب المعْتدون إلى رشدهم.
وهذا المعنى هو ما تجِدُه واضحًا صريحا في قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
وهكذا يظهر موقِف الإسلام جليًّا من الأمر بالقوَّة، موقفًا يأمر فيه باستخدامِها ضدَّ بعْض أتباعه في حالة البغي يصدر عنهم، ويبيِّن تشريعه واضحًا لقمْع بعض المنتمين له في حالة الاعتِداء يقومون به، ومن ثمَّ لا يجب أن يُلام الإسلام قليلَ لوْمٍ ولا كثيرَه، إذا ارْتضى استِعْمال نفس القوَّة ضدَّ آخَرين من دون المسلمين سلكوا طريق البغي، وارتضَوا شرعة الظُّلم، وتسابقوا في مِضْمار الجَوْر، وهبُّوا مسرعين في ميادين الاعتِداء.
ولا شكَّ أنَّ السَّلام هو طبيعة الإسْلام الأصيلة، وجوْهر تعاليمِه النَّبيلة، ومدار رسالتِه السَّامية، إلاَّ أنَّ الإسلام في سِلْمِه وحرْبِه أشبهُ ما يكون بسفينةٍ تَمخر عباب البَحْر، وتشقُّ طريقَها عبر مياه المحيطات، فالنَّاظر لركَّاب السفينة، وهم يتمتَّعون بطمأنينة الجانب، وسلامة المقْصِد، وحسن النَّوايا، وجميل المعْشر، والتَّمسُّك بإقرار السَّلام، والحِرْص على إشاعة الأمن - يَحسَبُهم لا يعْرِفون طريقًا لارتِداء معاطف الحرب، ولا يهْتدون سبيلاً للبس أزْياء العراك، غير أنَّ ناظِرًا آخَر حين يراهم في ساحات الوغى رآبيل مقبلة، وفي ميادين القتال آسادًا مزَمْجِرة، وتبين له شدَّتُهم في منازلة المفسدين، وتتراءَى له صولتُهم في كسْر شوكة الظَّالمين - يَحسَبُهم رجالاً التصقتْ معاطف الحرْبِ بأجسادِهم، فأصبحوا لا يستطيعون خلعها، وصارت ملابس العراك كجُلُودهم، لا سبيل لسلخها والانفِصال عنها.
والحقُّ أنَّ الصَّواب قد فات كلا النَّاظرَيْن؛ لأنَّ الأوَّل ظنَّ السَّفينة ساكنةً مقصورةً على رجال بأيديهم ورودُ الجمال، والثاني حسبها تتحرك غازية معتدية لا تستقرُّ على جودي السَّلام.
والحقيقة وسط بين الأمرين، فسفينة الإسلام تتحرَّك لأنَّ السُّكون ممَّا يُخالف سنن الله في الكون، والركود الدَّائم لا يستقيم مع طبيعة الأشْياء، والوقوف المستمرُّ يتناقض وحقيقة هذه الحياة، إلاَّ أنَّ السَّفينة لما شرعت تتحرَّك وسط البحر تمخُر عبابه، أرادها من يكرهون السَّلام، ويعشقون الظلام - حطامًا وسط البحر تتلاعب به أمواجه، وابتغوا ركَّابها طعمة تلتهِمُها حيتانه، فدافع ركَّابُها المسلمون أشدَّ ما يكون الدفاع، وكان لا بدَّ أن يفعلوا، وهاجم ركَّابها المظلومون أقوى ما يكون الهجوم، وما كان لهم ممَّا فعلوا مهرب، أو ممَّا وقع فرار.
ولقد كان المسلِمون منصفِين أكمل ما يكون الإنْصاف حال دفاعهم، وعادلين أرْوع ما يكون العدْل في وضْع هجومهم، وكان شأنُهم عجيبًا في الحال الأوَّل، ومدهشًا في الوضْع الثاني، إلاَّ أن علامات العجب تبدأ في الزوال، وأمارات الدَّهشة تتحرَّك نحو الأفول، حينما نعلم أنَّ قائد السَّفينة هو خاتم الأنبِياء محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - لأنَّ النَّبيَّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - كان عجيبًا في جميع أحواله، ومدهشًا في كل أوضاعه.
وعلى الرَّغم من أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان بشرًا مثلَنا، إلاَّ أنَّه كان متميِّزًا في جميع ما يأتي، فريدًا في كل ما يدع، فكان نبي الرَّحمة الذي تحرَّك حاملاً راية الحبِّ والسَّلام، رافعًا لواءَ الخير والعدالة، كما كان هو نفسه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - نبيَّ الملحمة الذي قصم الله به ظهر الجبابرة، ووضَع به أقدار المتكبرين، وقضى به على طغْيان المتألِّهين، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والحمد لله ربِّ العالمين.