مشتركات بين المدرسة السلفية المعاصرة والمدرسة التنويرية في بداية النشأة
1 - كانت المدرسة الدينية السائدة في بلاد المسلمين خلال حكم الدولة العثمانية هي المدرسة التقليدية التي يتمذهب المنتمي إليها : بالمذهب الأشعري أو الماتريدي في العقيدة ، وبمذهبٍ من المذاهب الأربعة في الفقه ، وبطريقة من طرق الصوفية في السلوك ، وقد اشتركت المدرستان السلفية والتنويرية في الثورة على هذه المدرسة .وهذه أبرز أوصاف الاشتراك بين هاتين المدرستين ، وهو يفسر العلاقة الحسنة بين بعض رموزهما ، إذ الاشتراك في الخصم من أسباب التآزر ، ومن شواهد ذلك العلاقة بين شيوخ جماعة أنصار السنة المحمدية من جهة ، والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ محمود شلتوت من جهة أخرى ، فالشيخ محمود شلتوت كان يلقي محاضرات في دار الجماعة أو يكتب مقالات في مجلتها مجلة الهدي النبوي منها مقالات في البدعة وذمها ، ودافع عن كتاب نقض الدرامي – الذي طبعه الشيخ محمد حامد الفقي - عندما شكل الأزهر لجنة للنظر في طباعته ([1]) .
2- اشتركت المدرسة التنويرية والمدرسة السلفية - سيما خارج نجد - في الاستفادة من الأوضاع التي نتجت عن التأثر بالمفاهيم الليبرالية الغربية في امتلاك الحرية لنشر آرائها ، تلك الأوضاع التي خففت من وطأة المدرسة التقليدية على مخالفيها ، ومن شواهد ذلك أن الشيخ محمود شكري الآلوسي لما ألف كتابه ( غاية الأماني في الرد النبهاني ) طبعه باسم مستعار وهو أبو المعالي الحسيني السلامي الشافعي ، لئلا يتضح اسمه خوفًا على نفسه ، وكذلك فعل الطابع فرج الله الكردي ، ولم يتمكنا من توزيعه إلا عندما أخذت الدولة العثمانية بالقوانين الوضعية الأوروبية وأعلنت الدستور الذي ينص على حرية الاعتقاد والأديان ([2]) .
ويعُد المنتمون إلى المدرسة التقليدية هذا قدحًا في الدعوة السلفية ؛ يقول الشيخ محمد زاهد الكوثري في رد له على مقال للشيخ محب الدين الخطيب : " فأنت تعلم وكل الناس يعلمون أن كتب سلفكم في مراحل الدعاية في ( بلاد السنة ) إنما كانت أول محطة تحط فيها قبل سنوات قلائل هي المطبعة الفَرَجِية للشيخ فرج الله الكردي ذاك السلفي المشهور فهو يقوم بطبعها وإذاعتها ويأبى بقية الطابعين بمصر وغير مصر أن يقوموا بمثل هذا العمل ، وما كان دعاتكم يجترؤون أن يقوموا بدعايتهم إلا تحت مستعار الكنى ومختلق الألقاب ، أهذه سلفيتكم المحتجبة ثلاثة عشر قرنًا ؟! ولماذا كانت تتوارى بالحجاب يوم كان للإسلام قوة وشوكة وحول وطول ؟! " ([3]) .
والحق أن الكوثري نفسه استفاد أيضًا من أجواء الحرية في مصر – بلد الحرية كما يصفها إذ ذاك الشيخ محمد منير آغا الدمشقي في كتابه «نموذج أعمال خيرية»- التي آوته بعد استيلاء الكماليين على الحكم في تركيا ، ولولا هذه الأجواء ما كان له أن يتمكن من نقد السلفية ولا نقد غيرها .
3 - اشتركت المدرسة التنويرية والمدرسة السلفية في الدعوة إلى التجديد ونبذ الجمود ، وتعد مسألة نقد المذهبية تطبيقاً مشتركًا لهذه الدعوة ، مع التنبيه إلى الاختلاف بين أتباع المدرسة السلفية في الموقف من المذهبية ، ونزوع بعضهم إلى التطرف في الموقف منها سيما من مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى – الذي يعد المذهب السائد في أمصار المسلمين تبعًا لكونه المذهب الرسمي للدولة العثمانية - ([4]) .
والدعوة إلى نبذ المذهبية في وقت انحطاط الأمة واحتلالها وتخلفها في جميع المجالات ؛ كانت دعوة خطيرة ، إذ من مقتضيات هذا الانحطاط ضعف الأمة عن إيجاد مجتهدين مؤهلين يجددون الفقه الإسلامي ، فكانت الدعوة إلى نبذ المذهبية في مثل هذه الظروف خسارة لسد منيع أمام الفكر التنويري .
4 – اشتركت المدرسة التنويرية والمدرسة السلفية في تعظيم رمز يعد خصمًا تاريخيًا للمدرسة التقليدية ، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا معلوم بالضرورة من حال المدرسة السلفية المعاصرة التي طبعت كتبه وكتب تلميذه ابن القيم ونشرت آراءه .
أما المدرسة التنويرية فقد كتب الدكتور محمد عمارة – وهو كما لا يخفى له جهود في إحياء تراث الطبقة الأولى من أعلام المدرسة التنويرية كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي – كتب كتابًا سماه «رفع الملام عن شيخ الإسلام ابن تيمية » نقل فيه عن الشيخ محمد عبده قوله : " لقد قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في ابن تيمية – وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين - : إنه ضال مضل ، وجاء على أثر هؤلاء مقلدون يملئون أفواههم بهذه الشتائم ، وعليهم إثمها وإثهم من يقفوهم بها إلى يوم القيامة " ([5]).
ومن أسباب تعظيم التيار التنويري لابن تيمية : روح التجديد والاستقلالية التي اتسم بها فكره والتي تتوافق مع المزاج التنويري ، وبعض مواقفه العقدية مثل موقفه من القدر والتحسين والتقبيح العقليين ([6]) ، ذلك الموقف المناقض للجبرية الأشعرية التي عزا إليها الشيخ محمد عبده تأخر المسلمين في العمل والسعي ([7]).
5 – ثمة موقف مشترك لدى بعض رموز المدرستين في مسألة حجية الإجماع ، وهو موقف مرتبط بقضية الاجتهاد والتجديد ، فقد ذهب الشيخ أحمد شاكر إلى أن الإجماع ليس بحجة إلا في المعلوم من الدين بالضرورة ([8]) ، وإلى هذا الموقف ذهب أيضًا الشيخ محمود شلتوت ([9]) وعبد المتعال الصعيدي ([10]) .
وهذا الموقف وإن كان مشتركًا من جهة التأصيل ، إلا أنه من جهة الاستعمال ثمة فرق بين ، فبينما وظف الشيخ أحمد شاكر هذا التأصيل في الانتصار لقول خارج عن أقوال الأئمة الأربعة وهو قول ابن تيمية في مسألة الطلاق ، فقد وظفه شلتوت في إنكار نزول المسيح عليه السلام والصعيدي في إنكار حد الردة وكلاهما من الأمور القطعية .
وكان للمدرسة التقليدية موقف من هذا الموقف ، فقام الشيخ محمد زاهد الكوثري بالرد على الشيخ أحمد شاكر في كتاب «الإشفاق على أحكام الطلاق» ، ورد على شلتوت في كتابه «نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة » .
وكتب محمد براء ياسين
فجر الخميس 12 / ربيع الأول / 1434 هـ
_____________فجر الخميس 12 / ربيع الأول / 1434 هـ
([1]) ترجمة للشيخ محمود شلتوت بقلم فتحي عثمان ، منشورة في النت .
([2]) «الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين» للدكتور علي الزهراني (1/232-233) .
([3]) «صفعات البرهان على صفحات العدوان» (ص40 -41 ) .
([4]) انظر ما كتبه محمد زكريا يوسف في نشره لكتاب بدائع الصنائع في الفقه الحنفي ، ونقله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه «تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي» (ص243-245) .
([5]) «رفع الملام عن شيخ الإسلام ابن تيمية » (ص25-26)
([6]) وقد عقد الدكتور محمد عمارة لذلك فصلًا في كتابه المذكور ، وكذلك كتب راشد الغنوشي كتابًا صغيرًا بعنوان «القدر عند ابن تيمية» أبدى فيه انتصارًا وإعجابًا شديدين بموقفه من القدر .
([7]) انظر «موقف العقل والعلم والعالم » للشيخ مصطفى صبري (3/390)
([8]) تعليقه على «إحكام الأحكام» لابن حزم (ص142-145) ، و«نظام الطلاق في الإسلام» (ص67-69) .
([9]) مجلة الرسالة عدد (519) بتاريخ 14/ 6 /1943 ، وقد أدرج هذه المقالة بعد ذلك في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة» ، والنص أعلاه في الكتاب (ص68-69) .
([10]) «الحرية الدينية في الإسلام» للصعيدي (ص97) .