موقع الدكتور عمر المقبل
New member
مشاهداتٌ من "رحلة العمر"
وقد صنّف جماعةٌ من العلماء في أمثال هذه الرحلات، ودوّنوا ما شاء الله أن يدونوا من فوائد، وسَمّوا من لقوا من الأشياخ؛ فانتفع الناسُ بهذا النوع من كتب الرحلات.
ومقال كهذا إنما هو نقطةٌ في بحرٍ، أردتُ أن أشير فيه ـ على عجالة ـ إلى جزء يسير من المشاهدات التي أظن أن في تقييدها والتعليق عليها فائدة، فمن ذلك:
المشهد الأول:
هو مِن المشاهِد التي لا تخطئها العينُ في الحج، ويبقى توهجها حاضراً، مشهدُ كبار السنّ ـ من الرجال والنساء ـ الذين يأتون إلى هذه المشاعر، وقد جاوز بعضُهم الستين والسبعين وربما الثمانين، وهم ممن يصحّ لهم التوكيل شرعاً، فلو فتشتَ في حقيبة أحدِهم لوجدتَ فيها كيساً كبيراً من الأدوية والعقاقير التي يحافظ بها على ما بقي من صحته! فتتساءل: ماذا أراد هؤلاء؟ وما الذي حرّكهم من بلدانهم ليأتوا إلى المشاعر؟ مع علمهم مسبقاً بأن الحج ـ مهما كانت وسائل النقل إليه مريحةً ـ سيبقى جهاداً لا قتال فيه؟ إنه الإيمان.. إنها الرغبة فيما عند الله، إنه الحنين التي امتلأت به تلك الأفئدة شوقاً إلى بيت الله الحرام! فليهنأ هؤلاء بما وفقّهم الله له([1])، والظنُّ بأن الربَّ الكريم سيضاعف هباتهم، ويُجزل عطاياهم.
المشهد الثاني:
عند الفراغ من رمي الجمرات آخر يومٍ، رأيتُ مشاعرَ البِشر والسرور، تطفح على وجوه بعضِ الحجاج، والتي تُرْجِمت بالعناق وتبادل التهاني بينهم، رأيت هذا المشهد تكرر في أكثر من سَنة من إخواننا من حجاج بعض دول شرق آسيا.
إنه الشعور بالتوفيق والتيسير لقرب انتهاء "رحلة العمر" التي طالما انتظروها، وجمعوا لها الدرهم على الدرهم؛ ليصلوا إلى هذه المشاعر المقدّسة، ويؤدوا مناسك الحج.
إنه الفرح بتحقق هذه الأمنية التي تشرئب لها قلوبُ مئات الملايين، الذين حال بينهم وبين البيت الحرام فقرٌ أو مرضٌ أو غير ذلك، إنه الفرح بفضل الله وبرحمته: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 58].
لقد طاف بي طائفٌ من الألم ـ وأنا أشاهد هذا المنظر في كل عام تقريباً ـ وأنا أتذكر آلافاً من الشباب الأقوياء من بلادنا يتأخرون عن أداء فرضهم مع قدرتهم ودون عذر شرعي معتبر! ولعل شعورهم بالقرب من البيت، وسهولة الوصول إليه؛ جعلهم يتأخرون في المبادرة، وهذا خطأٌ! فإن الإنسان لا يدري ما الذي يعترضه من أمور تحول بينه وبين الحج في أعوامه القادمة!
المشهد الثالث:
في آخر يومٍ من أيام حجنا هذا العام، ونحن خارجون من الحرم بعد طواف الوداع، كنا ننتظر الحافلة الكبيرة التي تعيدنا من حيث أتينا، وعندما أَغلق السائقُ الباب؛ صرخت تلك المرأة الكبيرة في السنّ ـ وهي تبحث عن ابنها الذي لم يتسع المكان لركوبه ـ: ابني ..! ابني ..! طلّعوا لي ابني..! خلّوه يركب معاي..! هكذا رددتْ كلمتها عدة مرات، وروحُها تكاد تخرج، وبصوت مرتفع، أسكتَ جميع الأصوات التي تختلط في مثل هذا الموقف عادةً!
لقد كان الرعب يسكن تقاسيمَ وجهها، وكاد يهدّ أركانها.. حتى انقلبت تلك الأنثى الهادئة بتكوينها، وبطبيعة المرحلة العمرية التي تعيشها، إلى إنسان قويٍ، شقَّ جموعَ الركاب المتراصين، بحثاً عن ولدها، الذي ظنناه صغيراً، فإذا هو شابٌ قوي لم يتسع له المكان! لكنها عاطفة الأم لا تعرف سنّاً معيناً، فالابن ابنٌ عندها، سواء كان طفلاً صغيراً، أم رجلاً جاوز الأربعين، أم بلغ رتبة الأجداد!
يا الله .. كم ألقى هذا المشهدُ في رُوْعي كمّاً من الأسئلة! ورددّ في ذاكرتي قصصاً وأخباراً عن البرّ والعقوق! وتساءلتُ ـ والأسى يمزّق الحشا ـ: أيشعر العاقّون لوالديهم ـ ولأمهاتهم خاصةً ـ بهذه العواطف الفيّاضة؟ أيُحسِّون بهذه المشاعر المرهفة؟ وهل أدركوا أن كلّ الناس قد يبالغون في مشاعرهم، وربما اصطنعوا شيئاً منها، إلا الوالدان، والأمّ على وجهٍ أخصّ؟ فترفقوا ـ يا معشر الأولاد من البنين والبنات ـ بقلوب لا تقدّم عليكم في الحب والشفقة أحداً من الخلق.
تلكم لقطات ثلاث آثرتُ التركيزَ عليها في هذه العجالة، وما سوى ذلك من المشاهد كثير، ورحلةُ العمر تستحق أكثر من ذلك، والموفَّق من كانت له في مثل هذه الرحلات عِبَرٌ وعِظات.
([1]) ليس الحديث هنا عن ما هو الأولى: هل الأولى أن يأتوا بأنفسهم مع ما يلحقهم من تعب ومشقة؟ أم يوكّلوا غيرهم؟ فهذا بحث فقهي غير مراد هنا، وإنما المقصود هنا الحديث عن أمر واقع.
* المقال على الموقع: http://almuqbil.com/web/?action=arti...r&show_id=1473