مسائل في الدعاء

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :
فهذه ثمان مسائل مهمة في الدعاء ، كثر فيها الكلام ، أردت أن أفردها بشيء من التفصيل رجاء الإفادة .
وأنوِّه ها هنا أن هذه المسائل مبثوثة في كتابي ( فقه الدعاء ) ، وأُشير عليَّ بإفرادها لاختلاف الناس حولها ، ولبيان الراجح فيها ، والله الكريم أسأل التوفيق والقبول .
وهذه المسائل هي :
الأولى : كيفية رفع اليدين في الدعاء .
الثانية : رفع اليدين في دعاء الجمعة للإمام والمأموم .
الثالثة : رفع الحضور لخطبة الجمعة أيديهم في دعاء الخطيب .
الرابعة : مسح الوجه باليدين بعد الدعاء .
الخامسة : حكم الدعاء الجماعي للإمام والمأمومين بعد الصلاة .
السادسة : رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة .
السابعة : التأمين داخل الصلاة .
الثامنة : التأمين على دعاء الخطيب يوم الجمعة .
وقد تناولت كل مسألة بأدلتها ، وأوردت اختلاف العلماء فيها ، ثم بينت الراجح منها بدليله ؛ والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض .
اللهم من كان من أمة محمد على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فردَّه إلى الحق ردًّا جميلا حتى يكون من أهل الحق ... آمين ، وصلي اللهم على سيدنا محمد وآله وسلِّم تسليمًا كثيرًا .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية​
 
المسألة الأولى : كيفية رفع اليدين في الدعاء
من المعروف أن رفع اليدين في الدعاء من آداب الدعاء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة ، وبكيفيات عدة ؛ قال النووي - رحمه الله : اعلم أن رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة مستحب لما سنذكره إن شاء الله - ثم ذكر نحوًا من ثلاثين حديثًا - ثم قال : وفي هذه المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته ، وفيما ذكرته كفاية ؛ والمقصود أن يعلم أن من ادعى حصر المواقع التي وردت الأحاديث بالرفع فيها فهو غالط غلطًا فاحشًا ، والله تعالى أعلم .ا.هـ [SUP]( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
وللإمام البخاري - رحمه الله - كتاب ( رفع اليدين في الصلاة ) ، ذكر فيه أربعة عشر حديثًا ، في رفع اليدين في الدعاء[SUP] ( [/SUP][2][SUP] )[/SUP] . وللسيوطي - رحمه الله - رسالة في ذلك سماها ( فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء ) .
وأذكر هنا بعض هذه الأحاديث :
روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا "[SUP] ( [/SUP][3][SUP] )[/SUP] ؛ ( وَالصِّفْرُ ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْخَالِي . وعند الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه يرفعه : " إِنَّ اللهَ رَحِيمٌ كَرِيمٌ ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ ، ثُمَّ لَا يَضَعُ فِيهِمَا خَيرًا " ( [4][SUP] ) [/SUP]. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ، يَقُولُ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي , اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي " فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ [SUP]([/SUP] [5] [SUP])[/SUP] . ويَهْتِفُ : يَرَفَعُ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ . وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلَى أَوْطَاسٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَأَنَّ أَبَا عَامِرٍ رضي الله عنه اُسْتُشْهِدَ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى : يَا ابْنَ أَخِي أَمَّرَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لَهُ : اسْتَغْفِرْ لِي , وَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ قَالَ أَبُو مُوسَى : فَرَجَعْتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفْعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ أَبِي عَامِرٍ " وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ وَمِنْ النَّاسِ " متفق عليه . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ , وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؛ رَوَاهُ أحمد ومسلم والترمذي والدارمي( [6][SUP] ) [/SUP]. وروى أحمد والشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ النَّاسُ : هَلَكُوا ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ " لفظ أحمد .
هذا ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز رفع السبابة في الدعاء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنسان يدعو بإصبعيه السبابتين ، فقال : " أحِّد ، أحِّد " ، رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم ( [7][SUP] ) [/SUP]. وقوله : " أحِّدْ " يعني : اقتصر على واحدة . وقال ابن الأثير - رحمه الله : أي أشر بإصبع واحدة ، لأن الذي تطلب منه واحد ، وهو الله تعالى . ا.هـ . قال الترمذي - رحمه الله : ومعنى هذا الحديث : إذا أشار الرجل بإصبعيه في الدعاء عند الشهادة ، لا يشير إلا بإصبع واحدة .ا.هـ .
قلت : وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع إصبعه في الدعاء وهو على المنبر ؛ فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والدارمي من حديث عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه . فقال : قبَّح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا . وأشار بإصبعه المسبحة[SUP] ( [/SUP][8][SUP] ) [/SUP].
قال ابن رجب - رحمه الله – في ( جامع العلوم ) : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة رفع اليدين في الدعاء أنواع متعددة : فمنها : أنه كان يشير بإصبعه السبابة فقط . روى عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر ، وفعله لما ركب راحلته . وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بإصبعه ، منهم : الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق بن راهويه . وقال ابن عباس وغيره : هذا هو الإخلاص في الدعاء . وقال ابن سيرين : إذا أثنيت فأشر بإصبع واحدة .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها ، وجعل بطونهما مما يلي وجهه[SUP] ( [/SUP][9][SUP] )[/SUP] .
وقد رويت هذه الصفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء . واستحب بعضهم الرفع على هذه الصفة ، منهم الجوزجاني . وقال بعض السلف : الرفع على هذا الوجه تضرع .
ومنها : عكس ذلك . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضًا ، وروى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك . وقال بعضهم : الرفع على هذا الوجه استجارة بالله ، واستعاذة به ، منهم : ابن عمر وابن عباس[SUP] ( [/SUP][10][SUP] ) [/SUP]وأبو هريرة رضي الله عنهم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استعاذ رفع يديه على هذا الوجه ، وجعل كفيه إلى السماء ، وظهورهما إلى الأرض . وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديث[SUP] ( [/SUP][11][SUP] )[/SUP] . وعن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله عز وجل .
ومنها : عكس ذلك ؛ وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء ، وبطونهما إلى ما يلي الأرض . ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ . وخرجه أبو داود ، ولفظه : واسْتَسْقَى هَكَذَا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي : وَمَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ [SUP]( [/SUP][12][SUP] ) [/SUP]. وخرج الإمام أحمد من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ يَدْعُو هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ ثَنْدُوَتَيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ [SUP]( [/SUP][13][SUP] )[/SUP] . وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة . وروي عن محمد بن سيرين أن هذا هو الاستجارة . وقال الحميدي : هذا هو الابتهال .ا.هـ .
فهذه كيفيات ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الدعاء ، وكلها جائزة . ويمكن حمل كل هيئة منها على المناسبة التي وردت فيها ؛ وقد روى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا : " الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ، وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا " وفي رواية : " وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا : وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ " ؛ قال المنذري - رحمه الله - في ( مختصر السنن ) : وهو حديث حسن[SUP] ( [/SUP][14][SUP] ) [/SUP].


[1] - انظر ( المجموع ) : 3 / 504 : 511 .

[2] - انظر كتاب ( رفع اليدين في الصلاة ) أرقام : ( 151 : 163 ) .

[3] - أحمد : 5 / 438 ، وأبو داود ( 1488 ) ، والترمذي ( 3556 ) ، وابن ماجة (3865) ، والحاكم : 1/ 498 وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي . وحسنه ابن حجر في ( الفتح ) : 11/ 121 .

[4] - الحاكم : 1/ 498 ، وصححه ، وتعقبه الذهبي بقوله : عامر ( أي : ابن يساف ) ذو مناكير .ا.هـ . قلت : وإسناده حسن في الشواهد ، فقد قال أبو حاتم في عامر : صالح . انظر الجرح والتعديل : 6 / 329 ، وللحديث طريق أخرى عند الطبراني في الدعاء (204 ، 205) ، لكنها ضعيفة أيضًا ؛ والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع : 2 / 112.

[5] - مسلم ( 1763 ) .

[6] - أحمد : 2 / 328 ، ومسلم ( 1015 ) ، والترمذي (2989) ، والدارمي (2713) .

[7] - أحمد : 2 / 420 ، 520 ، الترمذي ( 3557 ) وقال : حسن صحيح غريب ، والنسائي (1272) ، والحاكم : 1/ 536 ، وصححه ووافقه الذهبي .

[8] - أحمد : 4 / 135 ، 136 ، 261 ، ومسلم ( 874 ) ، وأبو داود ( 1104 ) ، والترمذي ( 515 ) ، والنسائي ( 1412 ) ، والدارمي ( 1563 ، 1564 ) .

[9] - أحمد : 5 / 223 ، وأبو داود ( 1168 ) ، والترمذي (557) ، والنسائي ( 1514 ) ، والحاكم : 1 / 327 ، وصححه ووافقه الذهبي . عن عمير مولى آبي اللحم .

[10] - أخرج أبو داود (1489) عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا : " المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك ، أو نحوهما ، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة ، والابتهال أن تمد يديك جميعًا " وفي رواية " والابتهال هكذا ، ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه " وحسنه المنذري في مختصر السنن (1436) .

[11] - كحديث سلمان المتقدم ، وحديث ابن عباس السابق ، وحديث أنس عند الشيخين وغيرهما في دعاء الاستسقاء وغير ذلك .

[12] - مسلم ( 896 ) ، وأبو داود ( 1171 ) .

[13] - انظر المسند : 3 / 13، 14 . والثندوة : لحم الثدي ، والثندوتان للرجل كالثديين للمرأة . انظر لسان العرب مادة (ثند) ، والنهاية في غريب الحديث : 1/ 223.

[14] - وروى نحوه عبد الرزاق في مصنفه : 2 / 250 ( 3247 ) .
 
فوائد :
الأولى : روى الشيخان مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ( [1][SUP] ) [/SUP].
فهذا الحديث يوهم ظاهره نفي رفع اليدين في الدعاء في غير الاستسقاء ؛ ويعارضه الأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء ، وهي كثيرة ، وقد تقدم بعضها ؛ وقد أجاب النووي - رحمه الله - لرفع هذا الإشكال قال : ويُتأول الحديث على أنه لم يرفع الرفع البليغ ، بحيث يُرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء . أو المراد لم أره رفع ، وقد رآه غيره ، فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة ، وهم جماعات ، على واحد لم يحضر ذلك .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].
وقال ابن حجر - رحمه الله : لكن جُمِعَ بينه وبين الأحاديث الأخرى ، بأن المنفي صفة خاصة ، لا أصل الرفع ؛ وحاصله : أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره ، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلا ، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين ، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما : " حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ " بل يُجمع بينها ، بأن رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره ؛ وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض ، وفي الدعاء يليان السماء ؛ قال المنذري : وبتقدير تعذر الجمع ، فجانب الإثبات أرجح . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP].

[1] - البخاري ( 1031 ) ، ومسلم ( 896 ) ( 7 ) .

[2] - شرح مسلم : 6 / 190 .

[3] - فتح الباري : 11/ 146 ( الريان للتراث ) .
 
الفائدة الثانية : قال النووي في ( شرح مسلم ) : قال جماعة من أصحابنا وغيرهم : السنة في كل دعاء لرفع بلاء - كالقحط ونحوه - أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء ، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].

الفائدة الثالثة : نقل الحافظ في ( الفتح ) عن بعض أهل العلم قال : الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره : للتفاؤل بتقلب الحال ظهرا لبطن ، كما قيل في تحويل الرداء ، أو هو إشارة إلى صفة المسئول ، وهو نزول السحاب إلى الأرض . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].

[1] - شرح مسلم : 6 / 90 .

[2] - فتح الباري : 2 / 601 ( الريان للتراث ) .
 
المسألة الثانية : في رفع اليدين في دعاء الجمعة للإمام والمأموم
اتفق العلماء على مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة ، واختلفوا في حكمه ، فالجمهور على أنه مستحب[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP]، وهو قول للشافعية ، والقول الثاني عند الشافعية أنه ركن واجب لا تصح الخطبة إلا به .
قال الشيرازي - رحمه الله - في ( المهذب ) : وهل يجب الدعاء ؟ فيه وجهان : أحدهما : يجب رواه المزني في أقل ما يقع عليه اسم الخطبة . ومن أصحابنا من قال : هو مستحب .ا.هـ [SUP]([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] . قال النووي في ( المجموع ) وهو يتحدث عن أركان الخطبة : الخامس : الدعاء للمؤمنين ؛ وفيه قولان : وحكاهما المصنف وكثيرون ، والأكثرون وجهين ، والصواب قولان : أحدهما : أنه مستحب ولا يجب ؛ لأن الأصل عدم الوجوب ، ومقصود الخطبة الوعظ ؛ وهذا نصه في ( الإملاء ) ، وممن نقله عن ( الإملاء ) الرافعي وغيره . الثاني : أنه واجب وركن لا تصح الخطبة إلا به . وهذا نصه في ( مختصر المزني ) ، ونص عليه أيضا في ( البويطي ) و( الأم ) ... ثم ذكر اختلافهم في الأصح من القولين ، وصحح الوجوب[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP].
وأما رفع اليدين في دعاء الجمعة للخطيب فتقدم حديث عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه ؛ قال النووي - رحمه الله : فيه أن السنة ألا يرفع اليد في الخطبة ، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم ، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى . وأجاب الأولون : بأن هذا الرفع كان لعارض .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP].
وقال الإمام البيهقي في ( السنن الكبرى ) : باب ( ما يستدل به على أنه يدعو في خطبته ) ، ثم ساق حديث عمارة المتقدم من طريقين عن حصين بن عبد الرحمن عن عمارة به . وساق بإسناده من طريق أبي داود حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاهِرًا يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَكِنْ رَأَيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَعَقَدَ الْوُسْطَى بِالْإِبْهَامِ[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP]. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP]. قال البيهقي - رحمه الله : والقصد من الحديثين إثبات الدعاء في الخطبة ، ثم فيه من السنة أن لا يرفع يديه حال الدعاء في الخطبة ، ويقتصر على أن يشير بإصبعه . انتهى المراد منه[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP].
قال الشوكاني - رحمه الله : والحديثان المذكوران يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء ، وأنه بدعة .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][8][SUP] )[/SUP] . وقال البغوي في ( شرح السنة ) : رفع اليدين في الخطبة غير مشروع ، وفي الاستسقاء سنة ، فإذا استسقى في خطبة الجمعة يرفع يديه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][9][SUP] ) [/SUP].
وقال ابن العربي - رحمه الله - في ( العارضة ) : رفع اليدين على المنبر جائز إذا احتاج إليه الإمام . ثم ساق حديث أنس في رفعه صلى الله عليه وسلم يديه في الاستسقاء على المنبر .ا.هـ [SUP]([/SUP] [10] [SUP])[/SUP] . وقال محمد بن خليفة : كره مالك وقوم من السلف رفع اليدين في الخطبة ، وأجازه بعض أصحابنا وآخرون ، لأنه صلى الله عليه وسلم رفعهما في خطبة الجمعة حين استسقى .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][11][SUP] ) [/SUP]. ونقل ابن المواق - رحمه الله - في ( التاج والإكليل ) عن ابن حبيب - رحمه الله - قال : ليس من السنة رفع الأيدي بالدعاء عقب الخطبة إلا لخوف عدو ، أو قحط ، أو أمر ينوب ، فلا بأس يأمر الإمام لهم بذلك .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][12][SUP] ) [/SUP].
وقال ابن تيمية - رحمه الله : ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة ، وهو أصح الوجهين لأصحابنا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا[SUP] ( [/SUP][13][SUP] ) [/SUP].
وصفوة القول : أن رفع اليدين للخطيب في دعاء خطبة الجمعة فيه أربعة أقوال :
الأول : الكراهة ، وحجة هذا القول حديثا عمارة وسهل المتقدمين .
الثاني : الجواز مطلقًا ، وحجته حديث أنس في استسقاء النبي على المنبر يوم الجمعة .
الثالث : الجواز في الاستسقاء ، وما قد ينوب من خوف عدو أو نحو ذلك ؛ وهو قول ابن حبيب من المالكية .
الرابع : الجواز في الاستسقاء فقط إذا استسقى على المنبر . وهو الصواب ، وهو الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم جمعًا بين الأدلة ، لأنه لم ينقل عنه ذلك إلا في الاستسقاء ، ونقل عنه في غير الاستسقاء الإشارة بالإصبع فقط ، فهذه سنته صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنها . ولا يبعد ما ذهب إليه ابن حبيب في حق الإمام أن يرفع يديه فيما يُلم بالمسلمين من قحط أو خوف عدو ، وأما قوله : فلا بأس أن يأمر الإمام لهم بذلك ، فليس ذلك على سبيل المداومة . والعلم عند الله تعالى .


[1] - انظر : الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني : 1 / 535 ، والبناية شرح الهداية : 3 / 72 ، والبحر الرائق : 2 / 159 ، والتاج والإكليل : 2 / 547 مع مواهب الجليل ، ومختصر خليل : 47 ، ومختصر الخرقي مع المغني : 2 / 151 ، والمغني : 2 / 157.

[2] - المهذب مع المجموع : 4 / 517 .

[3] - المجموع : 4 / 521 .

[4] - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج : 6 / 162 .

[5] - السنن الكبرى : 4 / 453 ، 454 ( دار الفكر ) رقم ( 5869 ، 5870 ) .

[6] - أحمد : 5 / 337 ، وأبو داود ( 1105 ) ، والحاكم : 1/ 536 ، وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن .

[7] - السنن الكبرى : 4 / 454 .

[8] - نيل الأوطار : 3 / 333 .

[9] - شرح السنة : 4 / 257 .

[10] - عارضة الأحوزي : 2 / 304 .

[11] - انظر شرح الأُبي على مسلم : 3 / 243 .

[12] - التاج والإكليل لمختصر خليل : 2 / 547 ، مع مواهب الجليل .

[13] - انظر الاختيارات العلمية ، وهو مطبوع مع الفتاوى الكبرى : 4 / 440 .
 
أما رفع الحضور لخطبة الجمعة أيديهم في دعاء الخطيب ؛ فلم يرد ما يدل عليه من خبر ولا أثر ، وروى ابن أبي شيبة - رحمه الله - في مصنفه قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر عن الزهري قال : رفعُ الأيدي يوم الجمعة محدث[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP]. وهذا إسناد صحيح إلى الزهري . وروى بإسناد صحيح عن مسروق - رحمه الله - قال : رفعَ الإمامُ يوم الجمعة يداه على المنبر ، فرفع الناس أيديهم ؛ فقال مسروق : قطع الله أيديهم [SUP]([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] . ولهذا قال أبو شامة - رحمه الله - في ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) في بدع الخطبة : وأما رفع أيديهم عند الدعاء ، فبدعة قديمة[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]، وقال السيوطي - رحمه الله - في ( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ) في بدع الخطبة : ورفع أيديهم عند الدعاء ، فبدعة قبيحة[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP]. ا.هـ .
قال ابن عابدين - رحمه الله - في ( رد المحتار على الدر المختار ) : قال البقالي في ( مختصره ) : وإذا شرع في الدعاء ، لا يجوز للقوم رفع اليدين ، ولا التأمين باللسان جهرًا ، فإن فعلوا أثموا ؛ وقيل : أساءوا ولا إثم عليهم . والصحيح هو الأول ، وعليه الفتوى .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP]. وتقدم قول ابن حبيب من المالكية ، فهو في رفع الإمام والمأموم .
والذي يظهر أن رفع اليدين عند دعاء الخطيب لا يشرع للحاضرين ، لأنه لم ينقل فيه ما يستدل به ، مع داعية الحاجة إليه ، بل ورد إنكار السلف على من رفع يديه ، كما تقدم عن رؤيبة والزهري ومسروق رحمهم الله . والعلم عند الله تعالى .


[1] - مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 475 ( 5492 ) مكتبة الرشد - الرياض .

[2] - مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 475 ( 5495 ) .

[3] - الباعث على إنكار البدع والحوادث : 111 .

[4] - الأمر بالاتباع : 247 .

[5] - المعروف بحاشية ابن عابدين : 1/ 550 .
 
مسح الوجه باليدين بعد الدعاء :
وهي مسألة اختلف فيها أهل العلم في موضعين : أحدهما : في الصلاة ، ومحله القنوت . الثاني : في الدعاء مطلقا خارج الصلاة .

أما الموضع الأول :
1- فنقل العيني في ( البناية ) ، والطحطاوي في حاشيته على ( الدر المختار ) ، عن ( جوامع الفقه ) : ولو مسح بهما وجهه بعد فراغه - يعني من القنوت - قيل
تفسد . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
والمشهور عند الأحناف أن رفع اليدين في القنوت ، كرفعهما في افتتاح الصلاة ، وقيل كالداعي ، واختاره الطحاوي والكرخي ، كما في حاشية الطحطاوي . وذكر ابن عابدين في ( رد المحتار ) عن أبي يوسف : أنه يرفعهما إلى صدره ، وبطونهما إلى السماء أمدادا . قال ابن عابدين : والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء ، على هذه الرواية . تأمل . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP]. فهذا رأي الأحناف في المسألة .
2- وأما المالكية : فلم يعرضوا لهذه المسألة في القنوت ، لأنهم لا يرون رفع اليدين في دعائه . والمشهور عندهم أن القنوت سرا بعد قراءة الركعة الثانية من صلاة الصبح وقبل الركوع ، وقيل بعد الركوع ، وقيل بالخيار[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP].
3 - وأما الشافعية : فقال النووي في ( المجموع ) : وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء ، فإن قلنا : لا يرفع اليدين ، لم يشرع المسح بلا خلاف . وإن قلنا : يرفع ، فوجهان : أشهرهما : أنه يستحب . وممن قطع به : القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد الجويني وابن الصباغ والمتولي والشيخ نصر في كتبه ، والغزالي ، وصاحب البيان . الثاني : لا يمسح . وهو الصحيح ؛ صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين . قال البيهقي : لست أحفظ في مسح الوجه هنا عن أحد من السلف شيئا ، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس ، فالأولى ألا يفعله ، ويقتصر على ما نقله السلف عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة . ثم روى بإسناده حديثا من سنن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ " ، قال أبو داود : روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب ، كلها واهية ، هذا أمثلها وهو ضعيف . ثم روى البيهقي ، عن علي الباشاني قال : سألت عبد الله - يعني ابن المبارك - عن الذي إذا دعا مسح وجهه . قال : لم أجد له ثبتا . قال علي : ولم أره يفعل ذلك . قال وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر ، وكان يرفع يديه . هذا آخر كلام البيهقي في كتاب ( السنن ) ، وله رسالة مشهورة كتبها إلى أبي محمد الجويني ، أنكر عليه فيها أشياء ، من جملتها مسحه وجهه بعد القنوت ، وبسط الكلام في ذلك . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP].

4 - وأما الحنابلة : فقال عبد الله في ( مسائل أبيه ) : سألت أبي عن رفع اليدين في القنوت ، قال : لا بأس به . رواه ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أن ابن مسعود كان يرفع يديه في القنوت . قال : قلت لأبي : يمسح بهما وجهه ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس . قال لنا أبو عبد الرحمن : لم أر أبي يمسح بهما وجهه . وقال في موضع آخر : سئل أبي وأنا أسمع عن رفع الأيدي في القنوت ، يمسح بها وجهه ؟ قال : الحسن يُروى عنه أنه كان يمسح بها وجهه في دعائه إذا دعا [SUP]( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP]. قال ابن القيم في ( بدائع الفوائد ) : فقد سهَّل أبو عبد الله في ذلك ، وجعله بمنزلة مسح الوجه في غير الصلاة ، لأنه عمل قليل ، ومنسوب إلى الطاعة . واختيار أبي عبد الله تَرْكُهُ .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP].
وقال أبو داود في ( مسائل الإمام أحمد ) : سمعت أحمد ، وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ في الوتر ، فقال : لم أسمع به . وقال مرة : لم أسمع فيه بشيء . قال : ورأيت أحمد لا يفعله . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP].
فتحصل له في المسألة روايتان ، حكاهما ابن قدامة في ( المغني ) ، وابن أخيه في ( الشرح الكبير ) . وقال أبو البركات ابن تيمية في ( المحرر ) : ويسن مسح وجهه بيده ، وعنه لا يسن[SUP] ( [/SUP][8][SUP] ) [/SUP]. وقال المرداوي في ( الإنصاف ) : الفائدة الخامسة : يرفع يديه في القنوت إلى صدره ويبسطهما ، وتكون بطونهما نحو السماء . نص عليه . قوله : ( وهل يمسح وجهه بيده ؟ ) على روايتين ، وأطلقهما في الهداية ، والمذهب ، ومسبوك الذهب ، والمستوعب ، والخلاصة ، والهادي ، والتلخيص ، وابن تميم ، والنظم ، والمذهب الأحمد : أحدهما : يمسح وهو المذهب ؛ فعله أحمد ! قال المجد في شرحه وصاحب ( مجمع البحرين ) : هذا أقوى الروايتين . ا.هـ . ونقل عن جمع الجزم به . والرواية الثانية : لا يمسح . قال القاضي : نقلها جماعة واختارها الآجري ، فعليها روى عنه : لا بأس ، وعنه يكره المسح . وصححها في ( الوسيلة ) ، وأطلقها في ( الفروع ) . وقال الشيخ عبد القادر في ( الغنية ) : يمسح بهما وجهه في إحدى الروايتين ؛ والأخرى يضعها على صدره . قال في ( الفروع ) : كذا قال .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][9][SUP] ) [/SUP]. قلت : كأنه يضعفها .
وصفوة القول : أن مسح الوجه باليدين بعد دعاء القنوت ، فيه ثلاثة أقوال :
الأول : الاستحباب ، وهو مشهور مذهب الشافعي وأحمد .
الثاني : عدم الجواز ، وصححه بعض الشافعية والحنابلة . وهو الصواب .
الثالث : أنه يبطل الصلاة . ونقل عن بعض الأحناف . وفيه بُعْد .
مع العلم بأن محل القنوت : عند الأحناف في صلاة الوتر . وعند المالكية في صلاة الصبح ، والوتر في النصف الثاني من رمضان . وعند الشافعية : في صلاة الصبح ، والوتر في النصف الثاني من رمضان ، وفي النوازل . وعند الحنابلة : في صلاة الوتر ، وفي النوازل . على تفصيل ليس هذا موضع بسطه .

[1] - انظر البناية في شرح الهداية : 2 / 602 (دار الفكر ) ، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار : 1 / 280 .

[2] - المعروف بحاشية ابن عابدين : 1 / 447 .

[3] - انظر : المعونة : : 1 / 241 ، 242 ، وأسهل المسالك : 1/ 221 ، والثمر الداني : 116 ( المكتبة الثقافية ) ، وجواهر الإكليل : 1 / 51 ، وتبيين المسالك : 1/ 385 : 387 .

[4] - المجموع : 3 / 500 ، 501 . وكلام البيهقي في السنن الكبرى : 3 / 56 ( 3234 ) ( دار الفكر ) ، ورسالته إلى الجويني ، ساقها ابن السبكي في طبقات الشافعية : 5 / 77 :90 ، في ترجمة الجويني . وطبعت ضمن ( الرسائل المنيرية ) : 2 /280 :290 الرسالة العاشرة ( مكتبة طيبة - الرياض ) . وانظر الفتح الرباني : 3 / 315 ، 316 .

[5] - انظر مسائل الإمام أحمد رقم ( 322 ، 332 ) – المكتب الإسلامي .

[6] - بدائع الفوائد : 4 / 113 .

[7] - مسائل الإمام أحمد لأبي داود : 71 . ورواها عنه المروزي في كتاب ( الوتر ) : 236 .

[8] - انظر المغني : 1/ 786 ، 787 . وبهامشه الشرح الكبير : 1/ 724 ، والمحرر : 1 / 89 .

[9] - الإنصاف : 2 / 172 ، 173 . باختصار .
 
وأما الموضع الثاني : وهو مسح الوجه باليدين بعد الدعاء خارج الصلاة :
1- فلم أظفر للأحناف بنقل فيه ، مع طول بحث .
2- أما المالكية : فنقل المروزي في كتاب ( الوتر ) عن مالك إنكاره[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
وقال الونشريسي في ( المعيار المعرب ) : قال ابن رشد : إنكار مالك مسح الوجه بالكفين ، لكونه لم يرد به أثر ، وإنما أخذ من فعله u للحديث الذي جاء عن عمر .ا.هـ . قال الونشريسي : قلت : بجواز مسح الوجه باليدين عند ختم الدعاء قال الأستاذ أبو سعيد بن لب ، وأبو عبد الله بن علان ، والقاسم ابن سراج ، من متأخري أئمة غرناطة ؛ وابن عرفة ، والبرزالي ، والغبريني ، من أئمة تونس ؛ والسيد أبو يحيى الشريف ، وأبو الفضل العقباني ، من أئمة تلمسان . وعليه مضى أئمة فاس ؛ والله الموفق للصواب . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP]. ونقل عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عيسى عدم الجواز في فتوى له . كما نقل جوازه عن الفقيه أبي عزيز[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]. ونقل بكر أبو زيد في ( جزء في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء ) أن ابن مرزوق نقل عن ابن عرفة في كتاب ( النصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص ) القول ببدعيته . وأشار إلى ذلك في أبيات ، قال : قال بعضهم :
والمَرُّ باليدِ على الوجهِ كُرِهْ ... إِثْرَ الدعـاءِ والفواتح انتبهْ
وعـن إمـامنا ابن عـرفة ... بدعـته فلا تكـن مخـالفهْ
وقال قومٌ قد يُورِث العمى ... ولم يقـل بالمسـح من تقدما[SUP] ( [/SUP][4][SUP] )[/SUP]
قلت : وقوله : وقال قوم قد يورث العمى . كلام ليس عليه دليل ، ولم أره عن أحد من أهل العلم إلا في هذه الأبيات .
3- وأما الشافعية : فقال النووي في ( التحقيق ) : ويندب رفع اليدين في كل دعاء ، خارج الصلاة ، ثم مسح وجهه بهما .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP]. قلت : ومن نُقل عنهم استحبابه داخل الصلاة ، فبالأحرى هو مستحب عندهم خارجها .
وأما ما قاله العز بن عبد السلام - رحمه الله - في ( الفتاوى ) : ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP]. فقد اعتذر عنه الزركشي في كتابه ( الأزهية في الأدعية ) بأنه لم يطلع على الأحاديث الواردة في ذلك ، قال : وهي وإن كانت أسانيدها لينة لكنها تقوى باجتماع طرقها.
4- وأما الحنابلة : فقال المرداوي في ( الإنصاف ) : يمسح وجهه بيديه خارج الصلاة إذا دعا عند الإمام أحمد ، ذكره الآجري وغيره . ونقل ابن هانئ عن أحمد رفع يديه ، ولم يمسح . وذكر أبو حفص أنه رخص فيه .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP]. وقال ابن قدامة في ( المغني ) في تعليله للرواية الثانية في مسح الوجه في القنوت : ولأنه دعاء يرفع يديه فيه ، فيمسح بهما وجهه ، كما لو كان خارجًا عن الصلاة . وفارق سائر الدعاء ، فإنه لا يرفع يديه فيه .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][8][SUP] ) [/SUP].
قلت : وقوله : وفارق … إلخ ؛ مراده فارق سائر الدعاء في الصلاة .
وكلام ابن القيم : ( فقد سهل أبو عبد الله في ذلك ، وجعله بمنزلة مسح الوجه في غير الصلاة ) واضح في أنه يذهب إلى جوازه . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء ، فقد ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة . وأما مسحه وجهه بيديه ، فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان ، لا تقوم بهما حجة . والله أعلم[SUP] ( [/SUP][9][SUP] ) [/SUP].

هذا ما تيسر نقله في هذه المسألة . وقد تبين الخلاف فيها ، وسبب الخلاف : أنه ورد المسح في أحاديث مرفوعة ، عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، ويزيد بن سعيد الكندي ، لكنها لا تخلو من علة . وورد مرسلا عن الزهري ، أخرجه عبد الرزاق . كما ورد من فعل الحسن البصري بإسناد صحيح إليه ، ذكره أحمد بلا إسناد ، وأسنده المروزي في ( الوتر ) عن المعتمر عن أبي كعب عبد ربه بن عبيد صاحب الحرير عنه[SUP] ( [/SUP][10][SUP] ) [/SUP]. وورد من فعل بعض السلف : كعبد الرزاق ومعمر وإسحاق بن راهويه .

وإليك بيان هذه الأحاديث والآثار :
أما حديث عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ " رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى ، وقد تفرد به ، وهو قليل الحديث ، وقد حدث عنه الناس . انتهى المراد منه ؛ ورواه عبد بن حميد والطبراني والحاكم من طريق حماد هذا ، وسكت عنه الحاكم والذهبي ؛ وحماد ضعيف وقد تفرد به [SUP]( [/SUP][11][SUP] ) [/SUP].
قال النووي بعد أن ضعف الحديث : وأما قول الحافظ عبد الحق - رحمه الله تعالى : إن الترمذي قال : إنه حديث صحيح . فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي أنه صحيح ، بل قال : حديث غريب .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][12][SUP] ) [/SUP]. قلت : في النسخة المصرية : حديث صحيح غريب . وللعلماء تعقيب على هذه النسخة . والمناسب لحال الإسناد ما أثبته النووي . والعلم عند الله تعالى .

وأما حديث ابن عباس فرواه أبو داود من طريق عبد الملك بن محمد بن أيمن ، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق ، عمن حدثه ، عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس . ورواه ابن ماجة والحاكم وابن أبي حاتم والبغوي في ( شرح السنة ) من طرق عن صالح بن حسان عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس ، وعلته صالح ابن حسان ، قال البخاري : منكر الحديث ، وقال النسائي : متروك .ا.هـ . قلت : تابعه عيسى بن ميمون ، كما في ( قيام الليل ) لابن نصر ، و( الوتر ) للمروزي ، وعيسى متروك ، كما قال النسائي وأبو حاتم ، وقال ابن حبان : يروي أحاديث كلها موضوعات [SUP]([/SUP] [13] [SUP])[/SUP] . وتابعهما أبو المقدام هشام بن زياد ، كما في ( الكامل ) لابن عدي ، لكنه ضعيف أيضًا ، قال عنه يحيي بن معين : ليس بشيء ، وضعفه أحمد ، وقال النسائي : متروك الحديث[SUP] ( [/SUP][14][SUP] ) [/SUP]. ولفظ أبي داود : " لَا تَسْتُرُوا الْجُدُرَ ، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ ، سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ "[SUP] ( [/SUP][15][SUP] ) [/SUP]. وفي إسناد أبي داود : عبد الملك بن محمد ، وهو مجهول ، كما في ( التقريب ) ، وشيخ عبد الله بن يعقوب مجهول ، ويحتمل أنه أحد الثلاثة السابق ذكرهم وحالهم . فالحديث ضعيف ، ولا يقوى بمتابعاته ؛ وضعفه أبو داود وأبو حاتم الرازي والنووي والبيهقي وابن الجوزي وغيرهم .

وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فرواه الطبراني في ( الكبير ) ، وقال الهيثمي : وفيه الجارود بن يزيد وهو متروك . ا.هـ . ولفظه : " إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا لَا خَيرَ فِيهِمَا ، فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ يَدَيْهِ فَلْيَقُلْ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، لَا إِلَهَ إَلَا أَنْتَ ، يَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( ثلاث مرات ) ثُمَّ إِذَا رَدَّ يَدَيهِ ، فَلْيُفْرِغِ الْخَيرَ عَلَى وَجْهِهِ "، ورواه ابن عدي من طريق الجارود أيضًا ، ثم قال بعد أن أورد غير هذا الحديث : فالبلية فيهم من الجارود لا ممن يروي عنه ، فالجارود بيِّن الأمر في الضعف .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][16][SUP] )[/SUP] .

وأما حديث يزيد بن سعيد الكندي رضي الله عنه فأخرجه أحمد وأبو داود : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ . إسنادهما ومتنهما واحد [SUP]([/SUP] [17] [SUP])[/SUP] . وفيه ابن لهيعة وحديثه ضعيف إلا من رواية من روى عنه قديمًا ، ومنهم قتيبة ؛ لكن حفص بن هاشم : مجهول كما في الكاشف ، والتقريب[SUP] ( [/SUP][18][SUP] )[/SUP] .

وأخرج الطبراني في ( الدعاء ) قال : حدثنا أبو مسلم الكجي ، ثنا القعنبي ، ثنا عيسى بن يونس ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ يَدَيْهِ يَدعُو ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل جَاعِلُ فِيهِمَا بَرَكَةً وَرَحْمَةً ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ فَلْيَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ " [SUP]([/SUP] [19] [SUP])[/SUP] ، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي ، متروك كما في ( التقريب ) ، وقال الذهبي : مكي واه[SUP] ( [/SUP][20][SUP] ) [/SUP]. والوليد بن عبد الله ، هو أبو مغيث : ثقة من السادسة[SUP] ( [/SUP][21][SUP] )[/SUP] ، لكن ليس له رواية عن صحابي ، كما قال الحافظ ابن حجر في أماليه ، ونقله عنه السيوطي في ( فض الوعاء )[SUP] ( [/SUP][22][SUP] )[/SUP] فيكون الحديث معضلا ، أي : سقط منه راويان ( التابعي والصحابي ) .

أما مرسل الزهري فرواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند صدره في الدعاء ، ثم يمسح بهما وجهه ، قال عبد الرزاق : وربما رأيت معمرًا يفعله ، وأنا أفعله[SUP] ( [/SUP][23][SUP] ) [/SUP].
قلت : وهذا إسناد صحيح إلى الزهري ، لكنه مرسل . والمرسل في قول عامة أهل العلم ليس بحجة . واستثنى يحيي بن سعيد القطان والشافعي وأحمد وابن معين وغيرهم بعض المراسيل لمن لا يروي إلا عن ثقة ، كسعيد بن المسيب . ولبعضهم شروط في قبول المرسل ، كأن يعضده مسند ، أو مرسل من طريق أخرى ، وغير ذلك[SUP] ( [/SUP][24][SUP] ) [/SUP].
وأما مرسل الزهري فلا يقبله عامة أهل العلم ؛ حتى قال يحيي بن سعيد القطان : ومرسل الزهري شر من مرسل غيره ، لأنه حافظ ، وكل ما قدر أن يسمي سمى ، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه . قال الذهبي شارحًا لذلك : مراسيل الزهري كالمعضل ، لأنه يكون قد سقط منه اثنان ، ولا يسوغ أن يظن به أنه أسقط الصحابي فقط ، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه ، ولمَا عجز عن وصله [SUP]([/SUP] [25] [SUP])[/SUP] .
وروى عبد الرزاق - أيضًا - عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد أن ابن عمر كان يبسط يديه مع القاص ، وذكروا أن من مضى كانوا يدعون ثم يردون أيديهم على وجوههم ، ليردوا الدعاء والبركة . قال عبد الرزاق : رأيت معمرًا يدعو بيديه عند صدره ، ثم يرد يديه ، فيمسح وجهه . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][26][SUP] )[/SUP].
قلت : ويحيى بن سعيد هو الأنصاري ، قال أبو عبد الله الحاكم : رأى يحيى ابن سعيد ابن عمر [SUP]([/SUP] [27] [SUP])[/SUP] ، فإن صح ذلك فالإسناد صحيح ، إن سلم من تدليس ابن جريج . لكن رؤيته لابن عمر فيها نظر ، لأن يحيى بن سعيد لم يدرك محمد بن الحنفية ، كما قال العلائي في ( جامع التحصيل ) [SUP]([/SUP] [28] [SUP])[/SUP] ، ومحمد بن الحنفية توفي بعد الثمانين ، وابن عمر توفي بعد السبعين . فالأثر عن ابن عمر ضعيف ، والله أعلم .
فظهر أن أفراد هذه الأحاديث والآثار ضعيفة ، ولكن هل يقوى الحديث بمجموع هذه الطرق ؟ .
ذهب الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إلى أنها تقوى وترتفع إلى رتبة الحسن ، فقال في ( بلوغ المرام ) بعد أن أورد حديث عمر المتقدم : أخرجه الترمذي ، وله شواهد ، منها حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند أبي داود وغيره ، ومجموعهما يقضي بأنه حديث حسن ا.هـ[SUP] ( [/SUP][29][SUP] ) [/SUP]. وحسَّن بعض هذه الطرق السيوطي في ( الجامع الصغير ) بشواهدها ، ووافقه المناوي في بعضها ، وقال محمد بن بهادر الزركشي في كتابه ( الأزهية في الأدعية ) : وهي وإن كانت أسانيدها لينة لكنها تقوى باجتماع طرقها . ووافق الصنعاني في ( سبل السلام ) ابنَ حجر .
وذهب آخرون إلى أن الحديث لا يقوى بمجموع طرقه .
والحق أن كثرة الطرق يدل على أن للحديث أصل ؛ وعمل بعض السلف يقوي ذلك . والعلم عند الله تعالى .
وعلى ذلك : فمسح الوجه باليدين بعد الدعاء ، من قضايا الخلاف والاجتهاد . والذي يظهر بعدما تقدم ، عدم الجواز في الصلاة ، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته ؛ وهو الذي رجحه جمع من محققي الشافعية والحنابلة . وشأن الصلاة أشد ، ولو كان ذلك جائزا ، لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نقل عنه رفع يديه في القنوت ، فيكتفى برفع اليدين دون مسح الوجه بهما .
وأما خارج الصلاة : ففي الأمر سعة ، فمن مسح فلا ينكر علـيه ، ومن ترك فلا حرج ، والأولى أن يفعل من غير ملازمة . والعلم عند الله تعالى .
وقد قيل : إن الحكمة في ذلك أن الله تعالى لما كان لا يردهما صفرًا ، فكأن الرحمة أصابتهما ، فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء ، وأحقها بالتكريم ؛ أفاده الصنعاني في ( سبل السلام ) ، وبنحوه قال الحلبي ، كما في ( الفتح الرباني ) للساعاتي[SUP] ( [/SUP][30][SUP] ) [/SUP].

وأما مسح غير الوجه ، فلا يشرع قطعًا ، فليس فيه أثر ولا أثارة . وقد نص جماعة على كراهته ، قاله النووي في ( الروضة ) و ( المجموع ) ، وعبارته في المجموع : وأما غير الوجه من الصدر وغيره ، فاتفق أصحابنا على أنه لا يستحب ، بل قال ابن الصباغ وغيره : هو مكروه . والله أعلم . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][31][SUP] ) [/SUP].


[1] - كتاب الوتر : 236 . وانظر ( جزء في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء ) لبكر أبو زيد : 53 .

[2] - المعيار المعرب : 1/ 283 .

[3] - المعيار المعرب : 1/ 282 .

[4] - انظره : ص 56 ، 57 .

[5] - التحقيق : 219 .

[6] - انظر ( الفتاوى ) للعز بن عبد السلام ص 47 ؛ وانظر قول الزركشي في (جزء في مسح الوجه ) ص55 ، وأشار أنه نقلها عن نسخة خطية .

[7] - الإنصاف : 2 / 173 .

[8] - المغني : 1/ 787 .

[9] - مجموع الفتاوى : 22 / 519 .

[10] - كتاب الوتر : 236 .

3 - الترمذي ( 3386 ) ، والحاكم : 1 / 536 ، والطبراني في الأوسط ( 7053 ) ، والدعاء ( 212 ، 213 ) . ورواه عبد بن حميد ( 39 ) من طريق حماد أيضا .

[12] - الأذكار : 355 ، 356 ( دار القلم – بيروت ) .

[13] - انظر الضعفاء للنسائي : ص177 ، رقم (446) ، والجرح والتعديل : 6 / 287 . والمجروحين لابن حبان : 2 / 120 . وانظر أيضا ميزان الاعتدال : 3 / 325 ، ولسان الميزان : 7 333 .

[14] - انظر الضعفاء للنسائي : ص242 رقم ( 641 ) ، والجرح والتعديل : 9 / 58 ، والكاشف : 3 / 195 ، والتهذيب : 6 / 28 رقم ( 8444 ) ( دار إحياء التراث العربي ) ، والتقريب : 2 / 318 .

4 – أبو داود ( 1485 ) ، وابن ماجة ( 1181 ، 3866 ) ، والحاكم : 1 / 536 ، وابن أبي حاتم في العلل ( 2572 ) ، والبغوي في شرح السنة ( 1399 ، 1400 ) ، وابن عدي : 7 / 106 ) .

[16] - انظر مجمع الزوائد : 10/ 169 ، والكامل في الضعفاء : 2 / 173 ، 174 .

2 - أحمد : 4 / 221 ، وأبو داود ( 1275 ) ، ورواه الطبراني في الكبير : 22 / 241 ( 631 ) .

[18] - الكاشف : 1 / 181 رقم ( 1177 ) . والتقريب : 1 / 189 ، وانظر الميزان : 2 / 333 .

4 – الطبراني في الدعاء ( 214 ) .

[20] - التقريب : 1 / 46 . وانظر الكاشف للذهبي ( 223 )

[21] - الكاشف : 3 / 210 ، رقم : ( 6181 ) ، والتقريب : 2 / 333 .

[22] - انظر جزء في مسح الوجه : 24 ، 25 .

4 – انظر مصنف عبد الرزاق ( 3234 ، 3235 ، 5003 ) .

[24] - انظر جامع التحصيل في أحكام المراسيل : 27 : 48 .

[25] - انظر سير أعلام النبلاء : 5 / 338 ، 339 ، وجامع التحصيل في أحكام المراسيل : 101، 102.

[26] - المصنف ( 3256 ) وتصحفت ( القاص ) في المطبوعة إلى ( العاص ) .

[27] - انظر سير أعلام النبلاء : 5 / 470 .

[28] - جامع التحصيل في أحكام المراسيل : 328 ، 329 .

[29] - بلوغ المرام : باب الذكر والدعاء : 347 ، حديث رقم : 14 ( دار الفتح - الشارقة ) ، والحديث رقم 16 في سبل السلام : 4 / 218 .

[30] - انظر سبل السلام : 4 / 218 ، و الفتح الرباني : 14 / 272 .

[31] - المجموع : 3 / 501 .
 
الدعاء دبر الصلوات المكتوبات :
من مواطن استجابة الدعاء ، دبر الصلوات المكتوبات ؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : " جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ " رواه الترمذي وحسنه، والنسائي في اليوم والليلة[SUP] ( [1] ) [/SUP].
فهذا الحديث صريح في أن دبر المكتوبات من مواطن الدعاء ، ولكن هل المراد بالدبر آخر جزء من الصلاة ، أي : قبل السلام ، لأن دبر الشيء مؤخره ؟ أو المراد به بعد انقضاء الصلاة ، أي : بعد السلام ، كما في قوله تعالى : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } ( ق : 40 ) ؟ أو المراد مجموع الأمرين ؟
ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن المراد به بعد انقضاء الصلاة ، وقالوا : إن الدعاء بعد الصلاة مستحب ، والدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أنه آخر الصلاة بعد التشهد وقبل السلام . قال ابن القيم : ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده ، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام ، فراجعته فيه فقال : دبر كل شيء منه ، كدبر الحيوان . ا.هـ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
والذي يظهر أنه يراد به مجموعهما ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو قبل السلام ، وصح عنه أنه ندب إلى الذكر دبر كل صلاة ، والمراد به بعد السلام إجماعا . والذكر نوع دعاء ، فهو دعاء ثناء وتمجيد ، ولهذا بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه ( باب الدعاء بعد السلام ) أورد تحته حديث أبي هريرة في التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين ، وحديث المغيرة في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له[SUP] ( [3] ) [/SUP]. وقد قيل إن المناسبة أن الذاكر يحصل له ما يحدث للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب ، كما في حديث ابن عمر رفعه : " يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ " أخرجه الطبراني بسند لين ، وحديث أبي سعيد بلفظ : " مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ " أخرجه الترمذي وحسنه ؛ أفاده ابن حجر[SUP] ( [4] ) [/SUP]. وقال ابن العربي المالكي - رحمه الله : والدعاء ذكر والذكر دعاء ، فكما قال : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ } ، كذلك من قال : سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة غفرت ذنوبه ، وكلاهما خبران صحيحان وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وذكره ، وكلا المقامين عظيمان . ا.هـ [SUP]([/SUP] [5] [SUP])[/SUP] .
وأما دعاء المسألة ، فقد صح فيه أحاديث محتملة لما قبل السلام وبعده ، كحديث مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ : " يَا مُعَاذُ وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ " فَقَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود والنسائي والطبراني في ( الدعاء ) والحاكم [SUP]( [6] )[/SUP] .
قال ابن تيمية - رحمه الله : وحديث معاذ يتناول ما قبل السلام ، ويتناول ما بعده أيضًا . ا.هـ[SUP] ( [7] ) [/SUP].
وفي حديث علي الطويل في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : فإذا سلم من الصلاة قال : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم ، وعند أحمد : " وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ " ، وللترمذي : " وَيَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ " ، وفي رواية لمسلم والترمذي ، أنه كان يقولهن بين التشهد والتسليم[SUP] ( [8] ) [/SUP]. فهذا محتمل للمحلين .
قال ابن القيم - رحمه الله : ولمسلم فيه لفظان أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم وهذا هو الصواب . والثاني : كان يقوله بعد السلام ، ولعله كان يقوله في الموضعين ، والله أعلم[SUP] ( [9] ) [/SUP].
قلت : وقوله : ولعله كان يقوله في الموضعين أصوب ، لأن تصويب أحدهما مع صحة نقلهما يحتاج إلى دليل أو قرينة ، والقول بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام يرجح الأول غير مسلَّم ، لورود الأدلة بأنه كان يدعو بعد السلام أيضا ؛ منها ما رواه أحمد وابن ماجة والنسائي في ( اليوم والليلة ) عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ : سَمِعْتُ مَوْلًى لِأَبِي سَلَمَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ سَلَّمَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا " ومولى أم سلمة مجهول وبقية رجاله ثقات ، وله متابعة قوية عند الطبراني من طريق سفيان الثوري عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة به ، فالحديث بها حسن ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : ورجاله ثقات[SUP] ( [10] ) [/SUP].
وروى الطبراني والحاكم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم ، إلا سمعته حين ينصرف يقول : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَذُنُوبِي كُلَّهَا ، اللَّهُمَّ وَأَنْعِشْنِي واجْبُرْنِي وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ إِنَّهُ لَا يَهْدِي لصالِحِهَا ولَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ " هذا لفظ الطبراني ، وللحاكم : " اللَّهُمَّ ابْعَثْنِي وَأَحْينِي وَارْزُقْنِي ". قال الهيثمي : إسناده جيد ا.هـ . وعزاه السيوطي في ( الجامع الصغير ) إلى الطبراني عن أبي أمامة ، وحسنه الألباني[SUP] ( [11] ) [/SUP].
فهذه الأحاديث تدل على أن بعد السلام من الصلاة موطن من مواطن الدعاء ، وأنه ترجى فيه الإجابة كما في حديث أبي أمامة المتقدم ، وفي الباب غير ما ذكرنا .

[1] - الترمذي ( 3499 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 108 ) ، وتقدم ص 189 .

[2] - زاد المعاد : 1 / 78 .

[3] - انظر صحيح البخاري : 4 / 102 .

[4] - انظر فتح الباري : 11 / 138 ، وتقدم تخريج الحديث ص 29.

[5] - عارضة الأحوذي : 11 / 47 .

[6] - أحمد : 5 / 244 ، 2447 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 690 ) ، وأبو داود ( 1522 ) ، والنسـائي ( 1303 ) ، والطبراني في الدعاء ( 654 ) ، والحاكم : 3 / 273 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .

[7] - مجموع الفتاوى : 22 / 500 .

[8] - أحمد : 1 / 95 ، 102 ، 103 ، ومسلم ( 771 ) ، وأبو داود ( 760 ) ، والترمذي ( 3421 : 3423 ) .

[9] - زاد المعاد : 1 / 76 .

[10] - أحمد : 6 / 294 ، 305 ، وابن ماجة ( 925 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 102 ) ، والطبراني في الصغير ( 722 ) ، وانظر مجمع الزوائد : 10 / 111 ، ومجمع البحرين في زوائد المعجمين (4666 ) . والحديث رواه ابن أبي شيبة ( 29265 ) ، ورواه عبد الرزاق في المصنف ( 3191 ) من طريق موسى بن أبي عائشة عن رجل سمع أم سلمة تقول : فذكره بتقديم وتأخير .

[11] - المعجم الكبير : 4 / 148 ، والصغير ( 601 ) ، والحاكم : 3 / 462 ، ومجمع الزوائد : 10 / 111 ، وصحيح الجامع الصغير : 1 / 399 ، 400 ( 1277 ) .
 
أما ما قاله ابن القيم - رحمه الله - في ( زاد المعاد ) : وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين ، فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا ، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن . وأما تخصيص ذلك بصلاتي الصبح والعصر ، فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ، ولا أرشد إليه أمته ، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما والله أعلم . وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها ، وأمر بها فيها ، وهذا هو اللائق بحال المصلي ، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة ، فإذا سلم انقطعت تلك المناجاة ، وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه ، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ، ثم يسأل إذا انصرف عنه ، ولا ريب أن عكس هذه الحال هو الأولى بالمصلي . إلا أن هاهنا نكتة لطيفة : وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة ، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء ، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية ، لا لكونه دبر الصلاة ، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم استجيب له عقيب ذلك ، كما في حديث فضالة بن عبيد : " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ " . قال الترمذي : حديث صحيح . ا.هـ[SUP] ([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] .
فقد تعقبه ابن حجر - رحمه الله - بقوله : قلت : وما ادعاه من النفي مطلقًا مردود ، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يَا مُعَاذُ وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَلَا تَدَعَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أن تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " ، وحديث أبي بكرة في قول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ " كَانَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةِ . أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم[SUP] ( [2] )[/SUP] .. إلى أن قال : فإن قيل : المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها ، وهو التشهد . قلنا : قد ورد الأمر بالذكر دبر كل صلاة ، والمراد به بعد السلام إجماعًا ، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه .. قال : وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا ، وليس كذلك ، فإن حاصل كلامه : أنه نفاه بقيد استمرار استقبال القبلة وإيراده بعد السلام ، وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قال مقيده - عفا الله عنه : والذي قاله ابن حجر في توجيه كلام ابن القيم - رحمهما الله - هو الأولى ، وإن كان ظاهر كلامه يدل على نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا ؛ لأن ابن القيم عقد فصلا في ( الزاد ) قال : ( فصل فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة الانتقال منها وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها )[SUP] ( [4] ) [/SUP]ذكر فيه أدعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها بعد السلام منها : حديثا علي وأبي أيوب ، وقد تقدما ، قال : وذكر الإمام أحمد عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةِ : " اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ اسْمَعْ وَاسْتَجِبِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، اللهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ ، حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، اللهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ "رواه أبو داود[SUP] ( [5] )[/SUP] … إلى أن قال : وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته : " اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي جَعَلْتَهُ لِي عِصْمَةَ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي جَعَلْتَ فِيهَا مَعَاشِي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُـوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَأَعُـوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ نِقْمَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " ( [6][SUP] ) [/SUP].
فيتبين من ذلك تصويب ما وجه به ابن حجر كلام ابن القيم - رحمهما الله ، وقد يكون مراد ابن القيم النهي عن دعاء الإمام والمأموم جماعة ، بدليل قوله : وأما تخصيص ذلك … إلخ ، وهو قول معروف لبعض المتأخرين . ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام فهذا لا يخالف السنة .ا.هـ[SUP] ( [7] ) [/SUP].
وقد استدل بعضهم على عدم مشروعية الدعاء بعد الصلاة بحديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ : " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ، وَمِنْكَ السَّلَامُ ، تَبَارَكْتَ ذَا ( يَا ذَا ) الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي [SUP]([/SUP] [8] [SUP])[/SUP] . قال الحافظ في ( الفتح ) : والجواب : أن المراد بالنفي المذكور ، نفي استمراره جالسًا على هيئته قبل السلام ، إلا بقدر أن يقول ما ذكر ، فقد ثبت أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه ، فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه .ا.هـ[SUP] ( [9] ) [/SUP].



[1] - زاد المعاد في هدي خير العباد : 1 / 66 .

1 – أحمد : 5 / 39 ، والنسائي ( 1347 ) وصححه ابن خزيمة ( 747 ) وبوب له ( باب التعوذ بعد السلام من الصلاة ) .

[3] - فتح الباري : 11 / 138 ( الريان للتراث ) .

[4] - انظر زاد المعاد : 1 / 76 : 78 .

[5] - رواه أحمد : 4 / 369 ، وأبو داود ( 1508 ) ، والطبراني في الكبير : 5 / 239 ، بإسناد لين .

[6] - رواه النسائي في السنن ( 1346 ) ، وفي عمل اليوم والليلة ( 137 ) ، والطبراني في الكبير : 8 / 33 ، وفي الدعاء ( 653 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 6 / 46 عن صهيب ، وصححه ابن حبان ( 2026 ) .

[7] - مجموع الفتاوى : 22 / 500 .

[8] - أحمد : 6 / 235 ، ومسلم ( 592 ) ، والترمذي ( 298 ) ، وابن ماجة ( 924 ) ، والدارمي ( 1349 ) .

[9] - فتح الباري : 11 / 137 ( دار الريان للتراث ) .
 
المسألة الخامسة : حكم الدعاء الجماعي للإمام والمأمومين بعد الصلاة
تقدم أن الدعاء بعد المكتوبة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا ، وله صورتان :
الأولى : أن يدعو الإمام والمأموم والمنفرد كل في نفسه ، وهذا الذي تدل عليه الأحاديث المتقدمة .
الثانية : أن يدعو الإمام والمأمومون جماعة ، بأن يدعو الإمام ويؤمن المأمومون . وهذا الذي لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ، والأدعية الواردة عنه قبل السلام وبعده كلها بصيغة الإفراد مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في نفسه لا جماعة ؛ ولهذا حصل النزاع فيه بين المتأخرين ، وليس معهم في ذلك سنة ، وما حاولوا أن يستدلوا به إما ضعيف لا يحتج به ، وإما غير صريح فيكون من الاستدلال في موضع النزاع بما هو أجنبي عنه ، وجملة ما استدلوا به سبعة أحاديث ، ذكر منها المباركفوري - رحمه الله - في ( تحفة الأحوذي ) خمسة أحاديث ، أسوقها هنا مع بيان ما فيها من علل حتى لا يُغتر بها ، ثم أضيف إليها الحديثين الآخرين مع بيان ما فيهما .
الحديث الأول : حديث أبي هريرة : قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو معمر المقري حدثني عبد الوارث حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة فقال : " اللَّهُمَّ خَلِّصِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا " ؛ وقال ابن جرير : حدثنا حجاج حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر : " اللَّهُمَّ خَلِّصِ الْوَلِيدَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ". ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه . ا.هـ . قال المباركفوري : قلت : وفي سند هذا الحديث علي بن زيد بن جدعان وهو متكلم فيه . انتهى من ( التحفة ) .
قلت : والحديث رواه الإمام أحمد بنحو حديث ابن جرير ، من طريق علي بن زيد هذا ، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه[SUP] ( [1] ) [/SUP]. وأما ما أشار إليه الحافظ ابن كثير من شاهده ، فقد صح هذا الدعاء لكن في القنوت . أخرجه أحمد والشيخان وغيرهما . ثم الحديث على ضعفه فليس فيه ما يدل على الدعاء الجماعي ؛ وغاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بعد الصلاة ، وليس هذا محل النزاع .
الحديث الثاني : حديث عبد الله بن الزبير : ذكر السيوطي في رسالته ( فض الوعاء ) عن محمد بن يحيى الأسلمي قال : رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلا رافعًا يديه قبل أن يفرغ من صلاته ، فلما فرغ منها قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته . قال رجاله ثقات . قال المباركفوري : قلت : وذكره الحافظ الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) وقال : رواه الطبراني وترجم له فقال : محمد بن يحيى الأسلمي عن عبد الله بن الزبير ، ورجاله ثقات .ا.هـ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قلت : وهذا الحديث - أيضًا - لا دلالة فيه على الدعاء جماعة للإمام والمأمومين ، وإنما يدل على أن رفع اليدين في الدعاء لا يكون داخل الصلاة قبل السلام ، بل يكون بعد الفراغ من الصلاة .
الحديث الثالث : حديث أنس : أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد ابن إسحاق السني في كتابه ( عمل اليوم والليلة ) قال : حدثني أحمد بن الحسن حدثنا أبو إسحاق يعقوب بن خالد بن يزيد البالسي حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي عن خصيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من عبد بسط كفيه في دبر كل صلاة ثم يقول : اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر ، وتعصمني في ديني فإني مبتلى ، وتنالني برحمتك فإني مذنب ، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن ، إلا كان حقًّا على الله U أن لا يرد يديه خائبتين " ؛ قال المباركفوري : في سنده عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي ، قال في ( الميزان ) : اتهمه أحمد ، وقال ابن حبان : كتبنا عن عمر بن سنان عن إسحاق بن خالد عنه نسخة ثبتها بمائة حديث مقلوبة ، منها ما لا أصل له ، ومنها ما هو ملزق بإنسان لا يحل الاحتجاج به بحال ، وقال النسائي وغيره : ليس بثقة ، وضرب أحمد على حديثه . ا.هـ[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قلت : فالحديث ضعيف جدًا ، بل باطل ، وفيه علة أخرى وهو خصيف بن عبد الرحمن الجزري ، وهو متكلم فيه . قال ابن عدي - رحمه الله : وإذا حدث عن خصيف ثقة فلا بأس بحديثه وبرواياته ، إلا أن يروي عنه عبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي ، يكنى أبا الأصبغ ، فإن رواياته عنه بواطيل ، والبلاء من عبد العزيز لا من خصيف ، ويروي عنه نسخة عن أنس بن مالك وعن جماعة من التابعين ، وقد ذكرت عن خصيف أنه ترك أنس بن مالك فلم يسمع منه ، ولزم مجاهدًا . ا.هـ[SUP] ( [4] ) [/SUP].
قلت : والحديث من رواية عبد العزيز المذكور ، والحديث على ما فيه لا دلالة فيه على جواز الدعاء الجماعي .
الحديث الرابع : حديث الأسود العامري عن أبيه قال : صَلَّيت مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ انْحَرَفَ وَرَفَعَ يَدَيهِ وَدَعَا . الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ؛ قال المباركفوري : كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند وعزاه إلى ( المصنَّف ) ولم أقف على سنده ، فالله تعالى أعلم كيف هو صحيح أو ضعيف ؟
قلت : الحديث في مصنف ابن أبي شيبة قال : حدثنا هشيم قال : نا يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه قال : صَلَّيت مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ انْحَرَفَ . ورواه أبو داود ؛ ورواه النسائي ومن طريقه رواه ابن حزم في ( المحلى ) : أنا يعقوب بن إبراهيم ، ثنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري ، حدثني يعلى ابن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا صَلَّى انْحَرَفَ[SUP] ([/SUP] [5] [SUP])[/SUP] . هكذا ، وإسناده حسن ، وليس فيه : ( ورفع يديه ودعا ) ، وعلى فرض وجودها ، فليس فيه ما يدل على دعاء الإمام والمأمومين جماعة ، وغاية ما فيه جواز دعاء الإمام بعد انصرافه من الصلاة ، وهذا واضح .
الحديث الخامس : حديث الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى ، تَشَهَّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَتَخَشَّعُ وَتَضَرَّعُ وَتَمَسْكَنُ وَتَذَرَّعُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ ( يَقُولُ : تَرْفَعُهُمَا ) إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقْبِلًا بِبُطُونِهِمَا وَجْهَكَ وَتَقُولُ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ ؛ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا " وفي رواية : " مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ " رواه الترمذي .
قال مقيده عفا الله عنه : إسناده : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عِمْرَانَ ابْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَافِعِ ابْنِ الْعَمْيَاءِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ الْفَضْلِ ؛ قَالَ الترمذي رحمه الله : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ يَقُولُ : رَوَى شُعْبَةُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ فَأَخْطَأَ فِي مَوَاضِعَ : فَقَالَ عَنْ أَنَسِ بْنِ أَبِي أَنَسٍ ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ ؛ وَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعِ ابْنِ الْعَمْيَاءِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ؛ وَقَالَ شُعْبَةُ : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ قَالَ مُحَمَّدٌ : وَحَدِيثُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؛ يَعْنِي : أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ .ا.هـ . قال مقيده - عفا الله عنه : وذكر ابن أبي حاتم في ( العلل ) عن أبيه اختلاف شعبة والليث بنحو كلام البخاري رحمه الله ، قال : سألت أبي عن حديث رواه شعبة والليث عن عبد ربه بن سعيد ، واختلفا ، كيف اختلافهما ؟ فقال أبي : اتفقا في عبد ربه بن سعيد ، واختلفا ، فقال الليث : عن عمران بن أبي أنس ؛ وقال شعبة : عن أنس بن أبي أنس ، واختلفا : فقال الليث : عن ربيعة بن الحارث ؛ وقال شعبة : عن المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكر الحديث . قال أبي : ما يقول الليث أصح لأنه تابع الليث عمرو بن الحارث وابن لهيعة ، وعمرو والليث كانا يكتبان ، وشعبة صاحب حفظ . قلت لأبي : هذا الإسناد عندك صحيح ؟ قال : حسن . قلت لأبي : من ربيعة بن الحارث ؟ قال : هو ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب . قلت : سمع من الفضل ؟ قال : أدركه . قلت : يحتج بحديث ربيعة بن الحارث ؟ قال : حسن . فكررت عليه مرارا ، فلم يزدني على قوله حسن . ثم قال : الحجة سفيان وشعبة . قلت : فعبد ربه بن سعيد ؟ قال : لا بأس به . قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : هو حسن الحديث . انتهى المراد منه[SUP] ( [6] ) [/SUP].
قلت : والحديث رواه أحمد والنسائي عن الفضل رضي الله عنه ، وفيه عبد الله بن نافع بن العمياء ؛ ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن عبد الله بن نافع عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم به ، وعن عبد الله بن نافع عن المطلب مرفوعًا بنحوه [SUP]([/SUP] [7] [SUP])[/SUP] . وصوب أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد حديث الفضل ؛ وقال ابن عدي - رحمه الله : سمعت ابن حماد يقول : قال البخاري : عبد الله بن نافع بن العمياء ، عن ربيعة بن الحارث لم يصح حديثه ... ثم ساق رواية الحديث عن عبد الله بن العمياء عن عبد الله بن الحارث عن المطلب ، ثم قال : وهذا الحديث هو الذي أراده البخاري ، وابن حماد ذهب عليه ما قاله البخاري فقال عن ربيعة بن الحارث ؛ وإنما هو عن عبد الله بن الحارث عن المطلب ابن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم . ا.هـ . وقال الحافظ ( في التهذيب ) في ترجمة عبد الله بن نافع بن العمياء : قال ابن المديني : مجهول . وقال البخاري : لا يصح حديثه . وذكره ابن حبان في ( الثقات ) . ا.هـ . وترجم له في ( التقريب ) : مجهول من الثالثة[SUP] ( [8] ) [/SUP].
والحديث على ضعفه ليس لهم فيه حجة ، فالذي يدل عليه الحديث جواز الدعاء في الصلاة ، أو بعدها ؛ وليس فيه أدنى إشارة لجواز الدعاء الجماعي . والعلم عند الله تعالى .
هذه هي الأحاديث التي ذكرها المباركفوري - رحمه الله - في ( التحفة )[SUP] ( [9] )[/SUP] استدلالا لمن قال بجواز الدعاء بعد المكتوبة للإمام والمأمومين جماعة . وقد تبين لك أنه لا حجة فيها . للحديث صلة .

[1] - انظر تفسير ابن كثير : 3 / 172 ، والمسند : 2 / 407 .

[2] - انظر مجمع الزوائد : 10 / 169 ، ومن طريق الطبراني رواه الضياء في المختارة : 9 / 336 ( 303 ) .

[3] - انظر ميزان الاعتدال : 4 / 367 ، والحديث في عمل اليوم والليلة لابن السني : 53 .

[4] - الكامل في الضعفاء : 3 / 72 .

[5] - مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 269 ( 3093 ) مكتبة الرشد - الرياض ، وأبو داود ( 614 ) ، والنسائي ( 1334 ) ، وابن حزم في المحلى بالآثار : 2 / 181 ( المكتبة التجارية - مكة المكرمة ) .

[6] - العلل لابن أبي حاتم : 1 / 132 ، 133 (365 ) .

[7] - الترمذي ( 385 ) ، وأحمد : 1 / 211 ، والنسائي في الكبرى ( 615 ، 1440 ) وغيرهم عن الفضل ، وأحمد : 4 / 167 ، وأبو داود ( 1296 ) ، والنسائي في الكبرى ( 1441 ) ، وابن ماجة ( 1325 ) عن المطلب . ومدار الحديثين على عبد الله بن نافع بن العمياء .

[8] - انظر الكامل في الضعفاء : 4 / 226 ، وتهذيب التهذيب : 3 / 282 ( 4146 ) دار إحياء التراث العربي .

[9] - انظر تحفة الأحوذي : 2 / 198 ، 199 .
 
[h=5]وأما الحديث السادس : فقد استدل بعضهم بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤم عبد ، فيخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم " هذا لفظ ابن ماجة ؛ قال الترمذي : حديث ثوبان حديث حسن [SUP]( [SUP][1][/SUP][/SUP] ).[/h][h=5]قال مقيده - عفا الله عنه : وليس في الحديث ما يدل على جواز الدعاء بعد السلام للإمام والمأمومين جماعة ، وغاية ما في الحديث أن الإمام إن دعا دعاء مشتركًا بينه وبين المأمومين ، فلا يخص نفسه بدعوة دونهم ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خص نفسه بالدعاء وهو إمام ، كدعاء الاستفتاح ، وأدعية الركوع والسجود وما بين السجدتين وقبل السلام وبعده ، وقد تقدم ذكر بعضها ، ولهذا ذهب شراح الحديث إلى أنه محمول على الأدعية المشتركة بين الإمام والمأمومين ، كدعاء القنوت .. ونحوه ، جمعًا بين الأدلة .[/h][h=5]وعليه فلا محل للاستدلال به ها هنا .[/h][h=5]الحديث السابع : حديث أبي أمامة المتقدم : قيل : يا رسول الله ! أي الدعاء أسمع ؟ قال : " جوف الليل الأخير ، ودبر الصلوات المكتوبات " ، وليس فيه ما يدل على ما ذهبوا إليه ، وغاية ما فيه : أن الدعاء في هذين الوقتين مظنة استجابة الدعاء ، فيستحب الدعاء فيهما ، هذا الذي يدل عليه الحديث ، ويؤيد ذلك أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أنه دعا بعد المكتوبات وأمن الناس .[/h][h=5]وأما استدلال بعضهم بقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [ المائدة : 2 ] ، في هذا المقام ، ففيه نظر واضح ، وقد رد الشاطبي - رحمه الله - على من قال : إن الاجتماع على الدعاء تعاونًا على البر والتقوى ، وهو مأمور به ؛ قال الشاطبي – رحمه الله : وهــذا الاجتماع ضعيف ، فــإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الــذي أُنزل عليــه : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } ، ولو كان الاجتماع للدعاء إثر الصلاة جهرًا للحاضرين من باب البر والتقوى ، لكان أول سابق إليه ، لكنه لم يفعله أصلا ، ولا أحد بعده ، حتى حدث ما حدث ؛ فدل على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى .ا.هـ [SUP]( [SUP][2][/SUP][/SUP] ) .[/h][h=5]وبالجملة : فليس لمن ذهب إلى جوازه دليل صحيح صريح يحتج به ، فالصحيح غير صريح ، والصريح غير صحيح . ولهذا لم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة . وللحديث صلة .[/h]

[1] - أحمد: 5 / 280، وأبو داود (90)، والترمذي (357)، وابن ماجة (923) عن ثوبان، وله شاهد عند أحمد عن أبي أمامة: 5 / 250، 260.

[2] - الاعتصام: 1 / 367.
 
تقدم بيان أنه ليس لمن ذهب إلى جواز الدعاء الجماعي بعد الصلاة دليل صحيح صريح يحتج به ، فالصحيح غير صريح ، والصريح غير صحيح ؛ ولهذا لم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة .
أما الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - ، فنقل الكاساني الحنفي - رحمه الله - في ( بدائع الصنائع ) عنه : أن رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل لأنه ذكر ، والسنة في الأذكار المخافتة ، لقوله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الدعاء الخفي " ( [1][SUP] ) [/SUP]، ولذا هو أقرب إلى التضرع والأدب ، وأبعد عن الرياء ، فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص .ا.هـ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وأما الإمام مالك - رحمه الله - فقال ميارة المالكي - رحمه الله : كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبة جهرًا للحاضرين .ا.هـ[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وأما الإمام الشافعي - رحمه الله - فقال في ( الأم ) : وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة ، ويخفيان الذكر ، إلا أن يكون إمامًا يجب أن يتعلم منه ، فيجهر حتى يرى أنه قد تُعلِّم منه ، ثم يُسِرُّ ، فإن الله عز وجل يقول : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } ( الإسراء : 110 ) ، يعني والله أعلم : الدعاء … إلى أن قال : وأَستحب للمصلي المنفرد ، والمأموم أن يطيل الذكر بعد الصلاة ، ويكثر الدعاء رجاء الإجابة .ا.هـ[SUP] ( [4] ) [/SUP]. وقد سار على ذلك أئمة المذهب ، فقال النووي - رحمه الله - في ( التحقيق ) : يندب الذكر والدعاء عقيب كل صلاة ، ويُسِرُّ به ، فإن كان إمامًا يريد أن يعلمهم جهر ، فإذا تعلموا أسر .ا.هـ[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وبنحو هذا أجاب ابن حجر الهيتمي رحمه الله في فتاويه[SUP] ( [6] )[/SUP] .
وأما الإمام أحمد - رحمه الله - فقال ابن تيمية - رحمه الله : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس ، كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر ، ولا نقل عن أحد من الصحابة ، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة ، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه ، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك ، وكذلك الإمام أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك . انتهى المراد منه[SUP] ( [7] ) [/SUP].
فهذا هو المنقول عن الأئمة الأربعة ، وأما المتأخرون من أصحابهم فقد اختلفوا في ذلك على أقوال حكاها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال : وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعًا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذًا أن يقول دبر كل صلاة : " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " ؛ ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة ، كما يراد بدبر الشيء مؤخره ، وقد يراد به ما بعد انقضائها ، كما في قوله تعالى : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } ، وقد يراد به مجموع الأمرين ، وبعض الأحاديث يفسر بعضًا ، لمن تدبر ذلك . وبالجملة فهنا شيئان :
أحدهما : دعاء المصلي المنفرد ، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة ، وغيرها من الصلوات ، ودعاء المصلي وحده : إمامًا كان أو مأمومًا .
والثاني : دعاء الإمام والمأمومين جميعًا ، فهذا الثاني لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات ، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه ، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه ، ثم التابعون ، ثم العلماء ، كما نقلوا ما هو دون ذلك .
ولهذا كان العلماء المتأخرون في هذا الدعاء على أقوال :
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر ، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ، ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها ، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما .
ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها ، وقال : لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم ، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم ، وليس معهم في ذلك سنة ، إلا مجرد كون الدعاء مشروعًا وهو عقيب الصلوات أقرب إلى الإجابة ... إلى أن قال : وكما أن من العلماء من استحب عقيب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به سنة ، فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة ، ولا يستعملون الذكر المأثور ، بل يكرهون ذلك ، وينهون عنه ، فهؤلاء مفرطون بالنهي عن المشروع ، وأولئك مجاوزون بالأمر بغير المشروع ، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع . ا.هـ[SUP] ( [8] ) [/SUP].
وقال المباركفوري - رحمه الله - في ( تحفة الأحوذي ) : اعلم أن الحنفية في هذا الزمان يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب ، وينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال : " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " ( [9][SUP] ) [/SUP]، ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه ، وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم أبي حنيفة ، ومخالف لما في كتبهم المعتمدة . ثم ساق ما يدل على كلامه من كتبهم[SUP] ( [10] ) [/SUP].
ونقل الونشريسي - رحمه الله - في ( المعيار المعرب ) خلاف متأخري المالكية من علماء الأندلس والمغرب في ذلك : فجوزه ابن عرفة ، والقاضي أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن ، والغبريني ، وللقاضي أبي الحسن رسالة في جواز ذلك ، ذكرها في ( المعيار ) ، ورد عليها الشاطبي في ( الاعتصام )[SUP] ( [11] ) [/SUP]. ونقل في ( المعيار ) عدم الجواز عن الفقيه أبي عزيز والحافظ أبي العباس أحمد بن قاسم القباب[SUP] ( [12] ) [/SUP].
وقال الشاطبي - رحمه الله : إن دعاء الإمام للجماعة ليس في السنة ما يعضده ، بل فيها ما ينافيه ، فإن الذي يجب الاقتداء به سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي ثبت عنده من العمل بعد الصلوات إما ذكر مجرد لا دعاء فيه ، وإما دعاء يخص به نفسه ، ولم يثبت عنه أنه دعا للجماعة ، وما زال كذلك مدة عمره ، ثم الخلفاء الراشدون من بعده ، ثم السلف الصالح . ا.هـ[SUP] ( [13] ) [/SUP].
فهذا ما تيسر نقله في هذه المسألة ، وأعرضت عن بعض نقول أخر اتقاء الإطالة . والحق الذي لا مرية فيه ، أن الواجب الاتباع هو رسول الله e ، ولم يفعل ذلك ، ولم يأمر به ، ولم يقره ، ولا فعله أحد من أصحابه ، ولم يستحبه أحد من الأئمة الأربعة ، وقد تنازع فيه المتأخرون ، ومسائل النزاع ترد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ( النساء : 59 ) .
وعليه ، فدعاء الإمام والمأموم بعد الصلاة كل في نفسه ، هو الذي تدل عليه السنة وعمل السلف . وأما الدعاء الجماعي للإمام والمأموم بعد المكتوبات على المواظبة ، فالراجح عدم جوازه .
على أن ذلك قد يكون جائزًا للتعليم ، فإن تعلم الناس أسروا ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو دعا الإمام والمأمومون أحيانًا عقيب الصلاة لأمر عارض لم يُعد ذلك مخالفا للسنة كالذي يداوم على ذلك[SUP] ( [14] )[/SUP] . والعلم عند الله تعالى .

[1] - أحمد : 1/ 172 ، 180 ، 181 ، والطبراني في الدعاء ( 1883 ) ، وابن أبي حاتم في العلل : 2 / 143 ، وابن حبان كما في الإحسان ( 809 ) بلفظ " خير الذكر الخفي " من حديث سعد بن أبي وقاص ، وقال الهيثمي في ( المجمع : 10 / 81 ) : رواه أحمد وأبو يعلى ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ، وثقه ابن حبان ، وضعفه ابن معين وبقية رجاله رجال الصحيح .

[2] - انظر ( بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ) : 1 / 196 والآية من سورة الأعراف : 55 .

[3] - انظر ( الدر الثمين والمورد المعين ) لمحمد بن أحمد ميارة ، ص 173 .

[4] - الأم : 1/ 110، 111 (كتاب الشعب ) .

[5] - التحقيق : 219 .

[6] - الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي : 1 / 158 .

[7] - انظر مجموع الفتاوى :22 / 512 ، والفتاوى الكبرى : 2 / 212 .

[8] - انظر مجموع الفتاوى : 22 / 516 ، 519 ، 520 ، وانظر أيضا : 22 / ( 492 : 504 ) .

[9] - رواه مسلم ( 592 ) .

[10] - تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي : 1 / 202 .

[11] - انظر المعيار المعرب : 286 : 300 ، والاعتصام للشاطبي : 1 / 349 : 368 .

[12] - انظر المعيار المعرب : 1 / 280 وما بعدها .

[13] - الفتاوى للشاطبي : 127 ، 128 .

[14] - الفتاوى الكبرى : 2 / 213 .
 
المسألة السادسة : رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة
أما رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة إذا دعا الإمام والمأموم كل في نفسه ، فيدخل في عموم الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الدعاء ، وقد فعله بعض السلف ؛ وتقدم أقوال أهل العلم في رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة ، ولا ريب أن هذه المسألة تدخل في ذلك ؛ لأن دبر الصلاة من مواطن الدعاء .
قال الونشريسي في ( المعيار المعرب ) : قال في ( العتبية ) : قال مالك : رأيت عامر بن عبد الله يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو ، فقيل لمالك : أترى بذلك بأسًا ؟ قال : لا أري به بأسًا ولا يرفعها جدًا . قال ابن رشد : إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة نحو قوله في المدونة ، لأن خاتمة الصلاة موضع الدعاء .ا.هـ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وقال المباركفوري - رحمه الله - في ( تحفة الأحوذي ) : قلت : القول الراجح عندي أن رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة جائز ، لو فعله أحد لا بأس عليه إن شاء الله تعالى . والله تعالى أعلم[SUP] ( [2][/SUP] [SUP])[/SUP] .


[1] - المعيار المعرب : 1 / 282 .

[2] - تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي : 2 / 202 .
 
المسألة السابعة : التأمين داخل الصلاة
التأمين على الدعاء هو قول الداعي: ( آمين ) بعد دعائه ؛ ومعناها عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب لنا ؛ و( آمين ) من أسماء الأفعال ، موضوع موضع الاستجابة ، كما أن ( صه ) موضوع موضع السكوت ؛ وفيه لغتان : المد ، على وزن فاعيل ، كياسين ؛ والقصر ، على وزن يمين ، والمد أشهر ؛ قال الجوهري وجمهور أهل اللغة : آمين في الدعاء يمد ويقصر . قالوا : وتشديد الميم خطأ .ا.هـ. وهذا يرد على من زعم أن القصر في ( آمين ) لغة شاذة ، بل قال ابن العربي - رحمه الله - في ( أحكام القرآن ) : والقصر أفصح وأخصر ، وعليها من الخلق الأكثر .ا.هـ. لكن يرد الجملة الأخيرة ما قاله ابن حجر في ( الفتح ) : وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات ، وعن جميع القراء .ا.هـ. وقال النووي في ( المجموع ) : أفصحهما وأشهرهما وأجودهما عند العلماء بالمد ، بتخفيف الميم ، وبه جاءت روايات الحديث [SUP]([/SUP] [SUP][SUP][1][/SUP][/SUP] [SUP])[/SUP] .
قال الشوكاني في ( التحفة ) : والتأمين : طلب الإجابة من الرب سبحانه واستنجازها ؛ فهو تأكيد لما تقدم من الدعاء ، وتكرير له ، وقد ورد في الصحيح ما يرشد إليه . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].
قلت : يشير لما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ، هذا لفظ البخاري ، وبوب له ( باب التأمين ) من كتاب الدعوات[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]. قال الحافظ في ( الفتح ) : والمراد بالقارئ هنا : الإمام إذا قرأ في الصلاة ( أي الفاتحة ) ، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك . وورد في التأمين مطلقا أحاديث منها حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا : " مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ " رواه ابن ماجة[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP]وصححه ابن خزيمة ، وأخرجه ابن ماجة - أيضًا - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : " مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ " ( [5][SUP] ) [/SUP]، وأخرج الحاكم عن حبيب بن مسلمة الفهري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لَا يَجْتَمْعُ مَلَأٌ فَيَدْعُو بَعْضُهُم ، ويُؤَمْنُ بَعْضُهُم ، إِلَا أَجَابَهُم اللهُ تَعَالَى "[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP]، ولأبي داود من حديث أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ رضي الله عنه : وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : " أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ ؟ قَالَ : " بِآمِينَ " فَأَتَاه الرَّجُلَ فَقَالَ : اخْتِمْ يَا فُلَانُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ . وكان أبو زهير يقول : آمين مثل الطابع على الصحيفة[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP] . ا.هـ .
وبوب البخاري والنسائي باب ( فضل التأمين ) أوردا تحته حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعا : " إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ : آمِينَ ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ : آمِينَ ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " [SUP]( [/SUP][8][SUP] ) [/SUP]. والرواية مطلقة ، تحتمل التأمين في الصلاة وغيرها ، وفي الفاتحة وغيرها من الدعوات .
وقد ثبت التأمين من فعله صلى الله عليه وسلم ، فروى الطبراني في ( الأوسط ) والحاكم عن أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - ( فذكرت دعاء طويلا للنبي صلى الله عليه وسلم ) وفي آخر كل دعوة يقول : " وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ ، آمِينَ "[SUP] ( [/SUP][9][SUP] ) [/SUP]. وعن كعب بن عجرة t قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : " آمِينَ ، آمِينَ ، آمِينَ .. " الحديث[SUP] ( [/SUP][10][SUP] ) [/SUP]؛ وأحاديث صعود النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وتأمينه ثلاثًا وردت عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وأنس وجابر بن سمرة وعمار بن ياسر وعبد الله بن الحارث بن جَزْء والحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده رضي الله عنهم[SUP] ( [/SUP][11][SUP] ) [/SUP].
والحاصل : أن التأمين من آداب الدعاء ، ومستحباته ، فإذا كان الداعي منفردًا أمَّن آخر دعائه ، وإذا كان يدعو لقوم أمَّنوا بعد كل دعوة . والعلم عند الله تعالى .


[SUP][SUP][1][/SUP][/SUP][SUP] - انظر تهذيب الأسماء واللغات: 3 / 11، 12، وأحكام القرآن: 1/ 12، وفتح الباري: 2 / 306 (الريان للتراث)، والمجموع: 3 / 370.[/SUP]

[2] - تحفة الذاكرين : 38 ، 39 .

[3] - البخاري ( 6402 ) ، ومسلم ( 410 ) ؛ ورواه النسائي ( 925 ، 926 ) ، وابن ماجة ( 851 ، 852 ) .

[4] - ابن ماجة ( 856 ) ، ورواه البخاري في الأدب المفرد ( 988 ) وإسناده صحيح .

[5] - رواه ابن ماجة ( 857 ) ، وفيه طلحة بن عمرو الحضرمي المكي ، متروك كما في ( التقريب ) .

[6] - المستدرك : 3 / 347 وصححه ، ورواه الطبراني في الكبير : 4 / 21 ( 3536 ) ، عن عبد الله المقري عن ابن لهيعة ، وقد سمع منه قبل احتراق كتبه ، فالحديث صحيح .

[7] - رواه أبو داود ( 938 ) وأورده الحافظ هنا مختصرا ، ورواه الطبراني في الدعاء ( 218 ) ، وفيه صبيح بن محرز المقرائي ، وثقه ابن حبان ، وقال الحافظ في التقريب : مقبول . وانظر فتح الباري : 11 / 200 .

[8] - مالك : 1/ 88 ( 46 ) ، وأحمد : 2 / 312 ، 459 ، والبخاري ( 781 ) ، ومسلم ( 410 ) ، والنسائي (930) .

[9] - انظره بطوله عند الحاكم : 1 / 520 وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه الطبراني في الأوسط ( 6219 ) وقال الهيثمي في المجمع : 10 / 176 ؛ ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن زنبور وعاصم بن عبيد ، وهما ثقتان .

[10] - المستدرك : 4 / 133 ، وصححه ووفقه الذهبي .

[11] - انظرها في الترغيب والترهيب : 3 / 318 ، 319 ، وصحيح الترغيب (985 : 987 ) ، ومجمع الزوائد : 10 / 164 : 166 ، ومختصر زوائد البزار لابن حجر ( 2152 ، 2166 : 2168 ، 2174 ) .
 
ومحل التأمين داخل الصلاة في موضعين :
الأول : بعد قراءة الفاتحة .
والثاني : في دعاء القنوت .
أما المحل الأول : فالأحاديث فيه كثيرة ؛ منها : ما رواه الشيخان والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " آمِينَ " ؛ وفي رواية لهما : " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ؛ وعند النسائي : " فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ آمِينَ ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ آمِينَ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
ومنها ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي موسى رضي الله عنه الطويل في صفة الصلاة مرفوعًا : " وَإِذْ قَالَ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ يُجِبْكُمُ اللهُ .. " الحديث[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP]. قال النووي - رحمه الله : " فَقُولُوا : آمِينَ يُجِبْكُمُ اللهُ " : هو بالجيم ، أي : يستجب دعاكم ، وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]. قلت : وفي رواية أبي داود : " يُحِبُّكُمُ اللهُ " ، بالحاء ، وفيه فضل التأمين ، وأنه من أسباب محبة الله تعالى للعبد .
ومنها ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقَـالَ : " آمِينَ " وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ ، ولأبي داود : وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP].
ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَلَا : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : " آمِينَ " حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ . زاد ابن ماجة : فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ . وعند الدارقطني والحاكم : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَـرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أَمِّ الْقُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ فقال : " آمِينَ "[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP].
ففي هذه الأحاديث دلالة واضحة على جهر الإمام والمأموم والمنفرد بالتأمين في الصلاة الجهرية ، وهو مذهب الجمهور، وأما في السرية فيسر الجميع ؛ قال الترمذي - رحمه الله : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم ، يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها ، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق .ا.هـ . قلت : ونقله البخاري عن ابن عمر وابن الزبير وأبي هريرة وعطاء ، ونقله النووي في ( المجموع ) عن طاووس وابن خزيمة وابن المنذر وداود الظاهري . واختاره ابن عبد البر وابن العربي من المالكية[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP].
ومذهب أبي حنيفة الإسرار ، والمشهور من مذهب مالك الإسرار للمأموم ، وفي الإمام روايتان : الأولى : يسر به ؛ والثانية : لا يؤمِّن . قال ابن العربي - رحمه الله : وأما الإمام ، فقال مالك : لا يؤمِّن ، ومعنى قوله عنده " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ " إذا بلغ مكان التأمين ، كقولهم : أنجد الرجل ، إذا بلغ نجدًا .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP].
والراجح ما قدمناه للأحاديث التي ذكرناها . والعلم عند الله تعالى .


[1] - البخاري ( 780 ، 782 ) ، ومسلم (410 ) ( 73 ، 76 ) ، والنسائي ( 927 ) .

[2] - مسلم ( 404 ) ، وأبو داود ( 972 ) ، والنسائي (1172) .

[3] - شرح مسلم : 4 / 120 .

[4] - أحمد : 4 / 316 ، أبو داود ( 932 ) ، والترمذي ( 248 ) ، وابن ماجة ( 855 ) بنحوه ، ورواه الدارقطني في السنن ( 1253 ) وصححه .

[5] - أبو داود ( 934 ) ، وابن ماجة ( 853 ) ، والدارقطني في السنن ( 1259 ) وحسنه ، والحاكم : 1 / 223 ، وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي .

[6] - انظر البخاري : 1 / 142 ، والمجموع : 3 / 373 ، والتمهيد : 7 / 12 : 15 ، وأحكام القرآن : 1 / 13.

[7] - انظر أحكام القرآن : 1 / 13 ، وجواهر الإكليل : 1 / 51 ، والمعونة : 1 / 218 ، 219 للمالكية ، وفتح القدير : 1 / 300 ، 301 ، واللباب شرح الكتاب : 1/ 69 للأحناف ؛ والحاوي الكبير للماوردي : 2 / 110: 112، والمجموع : 3 / 373 للشافعية ، والمغني : 1 / 528 ، 529 ، والمحرر : 1 / 54 للحنابلة .
 
وأما المحل الثاني وهو : القنوت :
فأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي بسند حسن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ ، فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا قَالَ : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ : عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ ؛ وبوَّب له البيهقي في السنن الكبرى : ( باب المأموم يؤمن على دعاء القنوت )[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله ؛ قال الشيرازي في ( المهذب ) : ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى ابن عباس .. ثم ساق الحديث . ونقل النووي في ( المجموع ) خلاف الشافعية في المسألة ، وصحح التأمين للمأموم إن سمع الإمام ، والقنوت إن لم يسمع .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - في ( المغني ) : إذا أخذ الإمام في القنوت أمَّن من خلفه ، لا نعلم فيه خلافًا ، وقاله إسحاق . وقال القاضي : وإن دعوا فلا بأس ؛ وقيل لأحمد : إذا لم أسمع قنوت الإمام أدعو ؟ قال : نعم .ا.هـ. ونحوه في ( بدائع الفوائد ) لابن القيم[SUP] [/SUP] .

[1] - أحمد : 1 / 301 ، 302 ، وأبو داود ( 1443 ) ، والحاكم : 1 / 225 ، 226 ، وصححه على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي ، وتُعقب بأن هلال بن خباب ليس من رجال البخاري ، وحديثه حسن . ورواه البيهقي في السنن ( 3237 ) وقال النووي في المجموع : 3 / 502 : رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح .

[2] - انظر المهذب مع المجموع : 3 / 493 ، والمجموع : 3 / 501 ، 502 ، والمغني : 1 / 786 ، ومنار السبيل : 1 / 109 ، وبدائع الفوائد : 4 / 112 .
 
المسألة الثامنة : التأمين على دعاء الخطيب يوم الجمعة
لم أقف في ذلك على ما يستدل به نفيًا أو إثباتًا ، إلا ما علقه البيهقي في ( السنن الكبرى ) قال : وروينا عن الزهري أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم الجمعة دعا فأشار بإصبعه ، وأمَّن الناس . قال البيهقي : ورواه قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة موصولا ، وليس بصحيح . والله أعلم [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] .
وأما ما نقل عن أهل العلم في ذلك ، فتقدم قول البقالي من الأحناف : وإذا شرع في الدعاء ، لا يجوز للقوم رفع اليدين ، ولا التأمين باللسان جهرًا ، فإن فعلوا ذلك أثموا ، وقيل : أساءوا ولا إثم عليهم ، والصحيح هو الأول وعليه الفتوى . ا.هـ .

وأما المالكية : فقال الباجي - رحمه الله - في ( المنتقى ) : وقد قال ابن حبيب : إذا دعا الإمام في خطبته المرة بعد المرة أمَّن الناس ، وجهروا جهرا ليس بالعالي ، قال : وذلك فيما ينوب الناس من قحط أو غيره . ومعنى ذلك : أنه بدعائه مستدع تأمينهم وآذن فيه ، وكذلك إذا قرأ : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] ، مستدع منهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تسليما ، فهذا لا خلاف في إباحته ، وإنما الخلاف في صفة النطق به ، من سر أو جهر . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP]. ونقل ابن المواق - رحمه الله - في ( التاج والإكليل لمختصر خليل ) عن أشهب : لا يجهر بالتأمين ؛ وعن ابن عبد الحكم : لا يحرك به لسانه ، وعن ابن حبيب : ولا بأس أن يؤمنوا على دعائه ، ولا يعلنوا جدًّا ، ولا يكثروا[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]. ونقل الحطاب - رحمه الله - في ( مواهب الجليل ) عن ابن ناجي نحوًا من قول أبي الوليد الباجي المتقدم ، ثم قال : والقول بالإسرار لمالك ، قال : وصححه بعضهم ، والقول بالجهر لابن حبيب ، وعزا القولين إلى ( الطراز ) ، ونقل قول ابن حبيب المتقدم ، ثم قال : فعلم أن الجهر العالي لم يقل به أحد وقد صرح في ( المدخل ) بأنه بدعة .ا.هـ[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP].

وأما الشافعية : فقال ابن حجر الهيتمي - رحمه الله : وأما التأمين على ذلك جهرا ، فالأولى تركه ، لأنه يمنع الاستماع ويشوش على الحاضرين من غير ضرورة ولا حاجة ، وأما ما أطبق الناس عليه من التأمين جهرًا ، سيما مع المبالغة ، فهو من البدع القبيحة المذمومة ، فينبغي تركه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . ونقله المليباري - رحمه الله - في ( حاشية إعانة الطالبين )[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP].

وأما الحنابلة : فقال ابن مفلح - رحمه الله - في ( الفروع ) و ( النكت على المحرر ) وعبارته في النكت : وله أن يؤمِّن على دعاء الخاطب . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP]. وقال البهوتي في ( شرح منتهى الإرادات ) : ( وتسن ) الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ( سرًّا ) إذا سمعها ، لئلا ينشغل غيره بجهره ، ( كدعاء ، وتأمين عليه ) أي : على دعاء الخاطب ، فيسن سرًّا . ا.هـ[SUP] ( [/SUP][7][SUP] ) [/SUP]. ونقل عبد الله آل البسام في ( الاختيارات الجلية ) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال : ويسن التأمين على دعاء الخطيب ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا ، لئلا يشغل غيره بجهره بها[SUP] ( [/SUP][8][SUP] ) [/SUP].

والحاصل : أنه لا خلاف في تأمين الحضور لخطبة الجمعة على دعاء الإمام ، والأكثرون على أن يكون سرًّا ، وهو الصواب ، لعدم وجود ما يدل على الجهر ، ولأن الأصل في الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون سرًّا ، إلا أن يكون سبب يشرع له الجهر ، قال الله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ؛ وحتى لا يشوش بجهره على غيره . والعلم عند الله تعالى .

[1] - السنن الكبرى : 4 / 454 ( دار الفكر 1416 هـ طبعة أولى ) .

[2] - المنتقى شرح موطأ الإمام مالك : 1 / 188 (دار الكتاب العربي ) .

[3] - التاج والإكليل : 2 / 547 .

[4] - مواهب الجليل : 2 / 546 ، 547 .

[5] - الفتاوى الكبرى الفقهية : 1/ 253 ( دار صادر ) ، وانظر حاشية إعانة الطالين : 2 / 67 ، وفتح العلام : 3 / 82 .

[6] - الفروع : 2 / 125 ( عالم الكتب ) ، والنكت والفوائد السنية على مشكل المحرر : 1 / 152 مع المحرر .

[7] - شرح منتهى الإرادات المسمى ( دقائق أولي النهى لشرح المنتهى ) : 1 / 323 .

[8] - الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية : 1/ 270 مع نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب .
 
عودة
أعلى