مسائل سورة الفلق.
بسم الله الرحمن الرحيم.
"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ".
المسألة الأولى.
الإيقاع الصوتي:
بناء الإيقاع الصوتي لهذه السورة على ثلاثة فواصل.
الفاصلة الصوتية الأولى مكونة من "الفلق" و "خلق".
الفاصلة الصوتية الثانية مكونة من "العقد" و "حسد".
الفاصلة الصوتية الثالثة مكونة من "وقب" فاصلة بين الفاصلتين.
ومن معاني الفلق: الشق الفاصل بين فلقتين، كأن نظم السورة وإيقاعها الصوتي يساهم في تفسيرها والكشف عن معانيها .
وكذلك النهايات الصوتية وهي فواصل أصوات لحروف القاف والباء والدال تتسم بالجهر والشدة والقلقة، وهي من صفات القوة بما يتناسب مع عظيم وشدة الضرر المتوقع من غاسق ومن النفاثات ومن حاسد والاضطراب الحاصل حال وقوعها.
ثم تأمل التناسق والتوازن حيث أتى باسم وفعل في الفاصلة الأولى ، أتى بالاسم "الفلق" وبالفعل "خلق" ، ثم أتى باسم وفعل في الفاصلة الثانية، أتي بالاسم "العقد" وبالفعل "حسد" ، وتكون "غاسق إذا وقب" فاصلة الميزان بينهما ، والميزان القباني واحد مما عرف واشتهر من الموازين من مادة وقب نفسها حيث ساوى في البناء الصوتي على جانبيها.
كذلك هذه الفواصل الثلاثة مؤلفة من كلمات ثلاثية الأحرف في أصل مادتها: فلق ، خلق ، وقب ، عقد ، حسد ، وأعظم الشرور المستعاذ منها في نفس السورة ثلاثة أيضا، وهي من شر غاسق ومن شر النفاثات ومن شر حاسد.
والله اعلم.
المسألة الثانية.
الصيغ والدلالة:
والإتيان بصيغة اسم الفاعل في غاسق وحاسد وصيغة المبالغة والتكثير في النفاثات على إرادة الفعل من فاعله وقصده فيه وتكراره منه.
ولم تأت الاستعاذة من الفعل وإنما من فاعل الفعل نفسه :
من شر غاسق، ومن شر النفاثات، ومن شر حاسد.
ولم يقل من شر الغسق، ومن شر النفث، ومن شر الحسد.
وهذه الشرور الثلاثة شرور كامنة ويحصل ضررها من قصد فاعلها الاتيان بها.
والله أعلم.
المسألة الثالثة.
الشرور الثلاثة:
من شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.
علق حصول الشر في الأول والثالث باستعمال إذا المفيدة للتقييد والشرط، فالغاسق شره إذا وقب، والحاسد شره إذا حسد.
وأطلق شر الثاني وهو النفاثات في العقد ولم يقيده على أن العقد متى نفث فيها حصل الضرر، ولكثرة وقوعه لا يحترز منه غالبا.
وأفرد مصدر الشر في الأول والثالث فقال غاسق وحاسد، وأتى بصيغ الجمع في الثاني فقال نفاثات وعقد على كثرة مصادره وطرقه وتنوع أسبابه ودوافعه.
والله أعلم.
المسألة الرابعة.
الاستعاذة في الفلق والاستعاذة في الناس:
الاستعاذة في سورة الناس تتعلق بالشر من جهة الداخل، "في صدور الناس"، من جهة وسوسة نفسه التي بين جنبيه، ومن جهة شيطانه وقرينه الملازم له.
أما الاستعاذة في سورة الفلق فهي تتعلق بالشر من جهة الخارج ، من جهة الغاسق والنافث والحاسد ، والتي تحيط وتعايش الإنسان في بيئته.
وتتحقق الاستعاذة بهما من الشر كله ، ما يكون منه من جهة الداخل والخارج معا ، وفي الحديث الشريف :"فما تعوذ متعوذ بمثلهما" وذلك لحصول الكفاية بهما والسلامة مما قد يشكل خطرا على الإنسان ويعيق مسيرته إلى ربه جل وعلا.
والله أعلم.
المسألة الخامسة.
وجه المناسبة بين سورة الفلق وسورة الإخلاص.
تأتي سورة الفلق بعد سورة الإخلاص في ترتيب سور المصحف الشريف. فما وجه الارتباط بين السورتين الكريمتين.؟
لما تقدم في سورة الإخلاص وصف الله تعالى بأنه الصمد الذي يقصد لقضاء الحوائج وتدبير الأمور، ، ناسب أن يأتي بعدها طلب الاستعاذة على أنها حاجة تقضى وتطلب من مجير يقدر عليها، ويصمد الى الله بها، وأنه هو يجير ولا يجار عليه لعزته وغلبته.
وأن إخلاص التوحيد لله سبحانه وتعالى هو الحصن الحصين والركن الركين والحجاب المنيع الذي يحمي صاحبه ويدفع عنه الشرور والآفات، وقوة الحصن ومنعة الحجاب بقدر إخلاص العبد التوحيد لله تبارك وتعالى.
والله أعلم.
المسألة السادسة.
سياق التعريف والتنكير:
لا إشكال في دلالة إذا على الظرفية والشرطية والاستقبال. فهل لها هنا دلالة على التعريف والعهد.؟
أتى هنا بذكر غاسق وحاسد بصيغة المفرد في سياق النكرة؛ ليضفي صبغة الاستتار والتعتيم على أفراد الغواسق والحسدة بملحظ من التنوع والتعددية ، فكم من غاسق وكم من حاسد، لكن لما اقترن الحدث وتقيد بإذا وعلق حدوثه أفادت التعيين والتعريف حين يقع الفعل من فاعله ويعهد له بذلك.
كل غاسق في جهالة فإذا وقب كشف عن حاله وتعين من بين أفراده.
وكل حاسد فهو في غطاء فإذا حسد كشف عن نفسه وتعين من بين أقرانه.
دلالة إذا على الاستقبال بمعنى لما يقع الفعل بعد يعرف فاعله ويتعين لمن يتقصاه ويتقصده.
في حين أنه استعمل التعريف بأل في النفاثات والعقد على السواء ولم ينكر ولم يقيد فيهما؛ لأن من يشتغل بالنفث في العقد أنفس معروفة معلومة لمن يريدها ويقصدها بذلك الفعل، وكذلك العقد المطلوب النفث فيها محددة ومعروفة لمن يريد النفث فيها فمن أراد عقدة بعينها من تلك العقد نفث فيها أو بالأحرى طلب من ينفث له فيها ممن عرف بذلك واشتهر.
والله أعلم.
المسألة السابعة.
الطبع والاختيار:
وجمعت الاستعاذة في سورة الفلق بين جهتي الشرور بنوعيها :
من شر ما خلق من جهة الطبع.
والثلاثة بعدها من جهة الاختيار.
بين القدر الكوني والقدر الشرعي.
بين تعلق المشيئة وتعلق الإرادة.
والله أعلم.
المسألة الثامنة.
الإضافة والتنوين.
وقوله تعالى :"من شر ما خلق" بتنكير شر وعموم ما، فيه الاستعاذة من الشر على إطلاقه أيا كان مصدره وجهته ووجهته ونوعه ومقداره وأوانه.وليس فيه دليل على أنه أودع خلقه من الشرور كل بحسبه بحيث أنه لا يخلو مخلوق من شر فيه. ويؤول قوله تعالى :"من شر ما خلق" في مجمله إلى معنى من شر كل ذي شر مما خلق من جهة كونه متصف بالشر أو متلبس به أو مجبول عليه أو مختار له أو معاقب به.
الوقفة الأولى :
القول بالإضافة وهو المتواتر.
إضافة شر إلى ما: من شرِ ما خلق.
وتكون ما مصدرية وموصولة.
ويكون المعنى من شر خلقه أي: الخلق باعتبار أنها مصدرية، ومن شر الذي خلق باعتبار أنها موصولة.
الوقفة الثانية:
القول بالتنوين وهو من الشاذ غير المتواتر.
تنوين شر: من شرٍ ما خلق.
وتكون ما نافية وموصولة على البدلية وزائدة، قلت: ونكرة تامة أيضا.
وباعتبار ما نافية يكون التأويل من شرٍ لم يخلقه على مذهب المعتزلة وهو فاسد فالذي قال :"ونبلوكم بالشر والخير فتنة" كيف يبتلي عباده بشيءلم يخلقه ولم يقع في ملكه ولم يأذن به.
وتزول الإشكالية بحمل ما على النفي وتنوين شر حيث لا يلزم منه فهم أن الله لم يخلق الشر كما هو خلق الخير ولكن يحمل على تنزيه الله سبحانه وتعالى بعدم نسبة الشر إليه ويكون نظيره من السنة المطهرة قوله صلى الله عليه واله وسلم :"والشر ليس إليك." وهو في الصحيح وأن الشر لا يصل إليه وأن الذي يصعد إليه هو العمل الصالح ويرفعه كما صرح القرآن بذلك :" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه".
وموصولة على البدلية على تقدير حذف مضاف من شر شر ما خلق أو من شر ذي شر خلق أو من شر مما خلق.
وزائدة على تأويل من شرٍ خلق على المشيئة في خلق الشر. وزيدت ما هنا لغرض نفي نسبة الشر إلى الله سبخانه وتعالى.
والأخير اعتبارها نكرة تامة من شرٍ ما على إرادة شر بعينه خلق أي: خلقه الله مشيئة لا إرادة أي: باعتبارها تامة على التهويل والتجهيل من إرادة شر بعينه خبئ وأخفي، وجملة خلق في موقع الصفة لما ويحمل عليه من قال بأنه جهنم أو إبليس أو غيره على التعيين.
والشر هنا على جهة العقاب، وأي شر أعظم من العقاب بالنار: "وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"، أو على جهة التحريض عليه: "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا".
والله أعلم.
المسألة التاسعة.
"ومن شر النفاثات في العقد".
أغلب المفسرين على أنها في الاستعاذة من شر السحر والسحرة.
سؤالان ووقفتان.
الوقفة الأولى:
"ومن شر النفاثات".
وقرئ بالنافثات بالبناء على اسم الفاعل ليتسق في الصياغة مع اسم الفاعل في غاسق واسم الفاعل في حاسد ليضفي وحدة البناء وتجانس النظم للسياق القرآني.
السؤال الأول:
هل يحمل قوله تعالى :"ومن شر النفاثات في العقد " على الاستعاذة من شر النميمة، على أن النميمة والسحر سواء بجامع شدة التأثير والسمية فيهما على الأواصر والروابط فهي من جنس العقد.؟
والإتيان بصيغة التأنيث النفاثات على تفشي ذلك بين النساء أكثر من الرجال، وأنه من جهة النساء أكثر من جهته من الرجال، وكذلك دواعيه من جهة النساء أكثر منها من جهة الرجال، وأن الكلمة طالما خرجت على سبيل النميمة فلا مرد لها، وحتما تحدث أثرا، ولهذا لم يقيدها بإذا مثل أختيها غاسق إذا وقب وحاسد إذا حسد، وصعوبة التحرز من شر النميمة مطلقا.
وتلحظ تغلغل الشر وتعمقه وسريانه في العقد بسبب النميمة جراء الكلمة بدلالة في الظرفية، في العقد.
كما وردت أثار كثيرة في التحذير من النميمة كما هو الحال في التحذير من إتيان السحرة، وكلاهما حالقة للدين ومفسدة لذات البين وكبيرة من كبائر الإثم وبوائقه.
ويحرم النفث في العقد لأنه من قبيل السحر.وكذلك النفاثات في العقد يعظم ضررها لوقوع أصحابها في الشرك وهو أعظم ما يصيب الدين ويفت فيه، وهو كبيرة من الكبائر.والنفث بالمعوذات وبكلمات الله التامات وردت به السنة المطهرة.والنفث نفخ بلا ريق وهو غير التفل يكون مصحوبا بريق خفيف.ويستحب المسح مع النفث وهو أكمل لثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ليلة إذا أوى إلى فراشه.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها )) أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ )).
الوقفة الثانية:
"في العقد".
العقد : الأواصر المحكمة والروابط القوية جمع عقدة.
والنفث في العقد : حلها بالنكوث فيها والرجوع عنها ، والسعي لإفسادها وتقطيع أوصالها مثل عقود المعاملات، وعقود الأيمان ، وعقود الأنكحة .
وعقدة النكاح من أهم العقد المستهدفة من النفاثات في العقد بحل وثاقها والتأثير فيها والإضرار بها كما ذكر في سورة البقرة:
"وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
واختصت العقد من بين أنواع السحر لما فيها من ملحظ التعقيد والتداخل والتشابك مما يزيد في قوة الضرر من وراء هذا النوع من السحر وصعوبة فكه وحله، وإبطاله لا يكون إلا من جهة من باشره وصنعه أو بسحر مثله أو أشد أو بالرقى الشرعية المأذون فيها ومنها الرقى بالمعوذتين كما ورد من أسباب نزولهما.
السؤال الثاني:
"ومن شر النفاثات في العقد".
هل العقد هي المقصودة بإيصال السحر إليها والمنفوث فيها والمستهدفة من عمل السحر، أم أنها أداة من أدوات الساحر يستعملها في سحره فتكون في بمعنى الباء أي: النفاثات بالعقد.؟
تكون الآية على المعنى الأول الاستعاذة من مطلق السحر بأنواعه واختصت العقد من بين ما يصاب به.
وتكون الآية على المعنى الثاني الاستعاذة من نوع بعينه من أنواع السحر وهو المعقود فيه.
دلالة في الظرفية في أن العقد هي المنفوث فيها وهي المتضررة من جراء وقوع السحر عليها على الرغم من أن المشهور فيها أن السحرة تعقد السحر على خيوط وتجعلها عقدا وثنفث فيها.
والله أعلم.
المسألة العاشرة.
النفاثات والعقد.
قراءة أخرى في رحاب آية :
"ومن شر النفاثات في العقد".
أليست عقدة النكاح عقدة من العقد التي ورد ذكرها في القرءان.؟
أليس النفث في عقدة النكاح هو التفريق بين المرء وزوجه بحل تلك العقدة.؟
أليست عقود المعاملات وعقود الأيمان عهود ومواثيق عقدها أصحابها على أنفسهم بالكتابة وباللسان.؟ كما في سورة المائدة ويكون النفث فيها إبطالها والرجوع عنها والنكوث فيها.؟
أليست النميمة باللسان تفعل فعل السحر بل أشد.؟
والنمام والقتات لا يدخلان الجنة ومن نم شرا كمن نفث سما.؟
واستعمل القرءان العقدة في عقدة اللسان كما في قوله تعالى :"واحلل عقدة من لساني" كما استعملها في عقدة النكاح وهو مما يعقد باللسان.
وغالب استعمال القرءان لجذر مادة ع ق د فيما يكون باللسان:
أوفوا بالعقود،عقدت أيمانكم، وعقدتم الأيمان، وعقدة النكاح، وعقدة من لساني.
ولم يستعمل القرءان مرة أيا من جذر مادة ( ع ق د ) فيما تكون فيه الإشارة إلى عقدة الخيط والحبل والشعر ونحو ذلك مما يستخدم في السحر.
والعقد هي الروابط المحكمة والأواصر المتينة والعرى المستمسكة.
والنفث في العقد على سبيل الإضرار وإلحاق الأذى بتلك العقد بتقطيع الأواصر وكسر الروابط وحل الوثاق عن العرى المستمسكة.
وتحمل الاستعاذة من شر النفاثات في العقد على طلب السلامة لهذه العقد وإبقائها في حالة محكمة متصلة مستمسكة واتقاءا لقطعها وانفكاكها.
ويقع الضرر على هذه العقد على إثر النفث فيها بطريقين:
طريق السحر وهو أخفها وأكلفها وأعزها، وطريق النميمة وهو أشدها وأخطرها وأيسرها.
لم يقع التصريح في الاستعاذة من شر السحر على نحو الحسد،
فلم يقل ومن شر ساحر اذا سحر كما قال ومن شر حاسد إذا حسد.
ولم يأت بالفعل نفث من اسم الفاعل النافثات أو من صيغة المبالغة النفاثات على غرار حسد من حاسد ، ولم يقل ومن شر النفاثات إذا نفثن أو نفثت في العقد.
وكما لم يأتت بالفعل نفث ، لم يعلق حدوث الفعل بإذا الدالة على الشرطية والظرفية والاستقبال كما فعل مع غاسق إذا وقب ، وحاسد إذا حسد على ما في ذلك من عدم ترقب حدوث الفعل ووقوعه من فاعله من غير استدعاء له.
ووقوع النفث في العقد من غير استدعاء له أو تعليق حدوثه بشرط ما على ما في النفث من الكثرة والسهولة واليسر وغزارة وتتابع الدفق ليدل على تكراره.
والعدول عن استعمال إذا عقدن إلى استعمال في الدالة على الظرفية "في العقد" ليفيد التغلغل والتمكن والنفاذية وتحقق حصول الضرر.
والنفث فيه معنى البث بجامع التفشي والانتشار بينهما بملحظ من الخفة والسرعة.
وفي الحديث أَنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إِنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِى " أَي أَوْحَى وأَلْقَى كذا في النهاية .
وفي المصباح : نَفَثَه من فَمِه نَفْثاً من باب ضَرَب: رَمَى به .
وفي الأَساس: النَّفْث: الرَّمْىُ.
وفي المثل : " لا بُدّ للمَصْدُورِ أَنْ يَنْفِثَ ".
وفي حديث المُغيرَة : " مِئْنَاثٌ كأَنّهَا نُفَاثٌ " أَي تَنْفُثُ البَنَاتِ نَفْثاً قال ابنُ الأَثير : قال الخَطّابِيّ : لا أَعْلَمُ النُّفَاثَ في شَيْءٍ غير النَّفْثِ قال : ولا موضِعَ لَهَا ها هنا قال ابنُ الأَثير : يحتمل أَن يكونَ شَبَّهَ كَثرةَ مَجيئِها بالبَناتِ بكثرةِ النَّفْثِ وتَواتُرِه وسُرْعَتِه . وكذا في اللسان
المصدر : تاج العروس.
العقد : جمع عقدة بمعنى المعقودة والمنعقدة.
قال في تاج العروس : والذي صَرَّحَ به أَئِمَّةُ الاشتِقَاقِ : أَنَّ أَصلَ العَقْدِ نَقِيض الحَلِّ. ا.ه.
العقد : بملحظ من التشابك والالتفاف والتجعيد والتراص والتداخل كما في عنقود العنب وخرزات العقد.
دلالة العقد على الربط والتشبيك كما هو عقدة النكاح رباط بين الزوجين، والعقود ربط بين المتعاقدين وعقد اليمين ربطها بالقسم والكفارة وعقدة اللسان ربط الكلام باللسان فلا يبين.
وتأسيسا على ما سبق ذكره:
الاستعاذة من شر النفاثات في العقد، استعاذة من شر النميمة، أشد آفات اللسان فتكا بالروابط المنعقدة والمعقودة على ما في معنى النفث من الوحي والالهام والالقاء مما يرشح لخطر الكلمة التي تخرج من اللسان فلا تعود إليه أبدا بحال من الأحوال وبثها بسرعة البرق بما يضر بتلك العقد القائمة بالفعل بما يهدد سلامتها ومتانتها ويؤذن بحل وثاقها وكسرها روابطها.
وهي قراءة أخرى يقبلها السياق ولا يردها على قاعدة تعدد المعنى بتعدد الحمل، وذلك سمة النص القرءاني، وواحدة من أخص أوجه إعجازه وبيانه.
والله أعلم.