محمود بن عبد الجليل روزن
New member
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وبعد.وبعد؛ فإنَّ علم الوقف والابتداء من أشرفِ علوم القرآن وأَجَلِّها؛ لِتعلُّقِه بأدائه تلاوةً وترتيلًا، وبمعناه تفسيرًا وتأويلًا، فهو درَّة العقد بين علوم الترتيل والتأويل، وقد بلغ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم به أنَّه كان يُعلِّمه الصحابة رضي الله عنهم؛ فعن ابن عمررضي الله عنهما قوله: «لقد عشنا برهة من دهرنا، وإنَّ أحدَنا لَيُؤتَى الإيمانَ قبل القرءان، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلَّمُ حلالَها وحرامَها، وما ينبغي أن نقف عنده منها، كما تتعلمون أنتم اليوم القرءان. ولقد رأينا اليوم رجالًا يُؤتى أحدهم القرءان قبل الإيمان؛ فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يُوقف عنده منه، ينثره نثر الدَّقَل»[1].
وناهيكَ بقول أبي حاتم: «مَن لم يعرفِ الوقفَ لم يَعلمِ القرءانَ»[2]. وصَدَقَ؛ لأنَّ الوقف فرعٌ عن المعنى، فمَن لم يعرف الوقفَ دلَّ على أنَّه لم يُحسِن معرفة المعنى ولم يُحسن التوقيع عن مُراد الله، والذي لا يعرف المعنى فلن يُحسِنَ الترجمة عنه بالأداء، فلا روايةَ ولا درايةَ.
لا عَجَبَ إذًا من هذا الاهتمام البالغ من السلف بهذا العلم الجليل، وهو ما وَرِثَه عنهم علماءُ الأمة، فظهر في كثرة مؤلفاتهم في هذا العلم؛ يجمعون أصوله، ثمَّ يستقصون آيات القرآن لفظًا لفظًا؛ مُبيِّنين ما يجمل الوقف عليه من ذلك وما يقبح. وهذا المنهج هو الـمُتَّبع في تصنيف القراءات – مع الفارق – إذ يبدأون بأصول القُرَّاء، ثمَّ يتتبَّعون حروف الخلاف في سائر القرآن فيما يُعرف بالفرش. فدلَّ ذلك الصنيعُ على وضوح الرؤية في أذهان العلماء: أنَّ معرفة الوقف والابتداء ربَّما لا تقل أهميَّة عن معرفة أصول القرَّاء وخلافهم.
والوقف والابتداءُ صنوان لا يفترقانِ، تضبطهما قواعدُ واحدةٌ، ويتعاطاهما الدَّارس بمنهجٍ واحدٍ، وإن بدا أنَّ هناكَ تغايُرًا في درسهما لغير الـمُدقِّق، قد يرجع إلى كثرة القوانين والمصطلحات والتقسيمات التي وضعها علماء الوقف والابتداءِ. ومن هنا كان اجتهاد الباحثِ لمحاولة إرجاع تلك التقسيمات إلى نظريةٍ واحدةٍ، تسهِّل الصعب، وتقرِّبُ البعيد، وتوضِّح الغامضَ، وتختصرُ كثيرًا من الحواشي؛ بضمِّ النظائر، وابتكار العلاقاتِ.
ومسألة (العَوْد) التي نبحثها من المسائل التي حَالَ وضوحُها لدى المتخصصين من تقريبها للعامَّة، فقُتِلتْ بسيف البداهة، ونَظرَ إليها البعضُ على أنَّها لا تفتقرُ إلى التوقُّفِ عندها، وإفرادها بالبحث. ولكنَّ الناظر إلى التطبيقِ العمليِّ لقراءة بعض مشاهير القرَّاء؛ فضلًا عن مغموريهم، وأئمة المساجد الراتبينَ الرسميينَ = يرى خللًا عمليًّا، حقيقٌ بأن يُعالجَ بالبحثِ.
ولو لم يكنْ هذا الخللُ العمليُّ؛ فإنَّ التنظير لهذه المسألة من خلال النظريَّة الجامعة للوقف والابتداء تقتضي بأن يُتناول كلُّ موضوعات الوقف والابتداءِ؛ لتكتمل الصورةُ، وتستوي الثمرةُ. ولعلَّ لأحدِ السببينِ ارتباطًا بالآخر؛ إذ إنَّ الخلل العمليَّ الملحوظَ في تطبيق الوقف والابتداءَ يشي بقصور في التنظيرِ، وفي التقريبِ العمليِّ؛ اكتفاءً بوضع بعض العلامات في المصحفِ، وهي وإن عالجتْ جزءًا كبيرًا من البُعد التطبيقيِّ للوقف والابتداء؛ فإنها قصرتْ عن بعض موضوعاته وجزئياته.
وقد تناولتُ موضوع (العَوْدِ) في سبع مسائل؛ هي:
المسألة الأولى: معنى العود لغة واصطلاحًا.
المسألة الثانية: متى يلجأُ القارئُ إلى العود؟
المسألة الثالثة: درجات العود وأقسامه.
المسألة الرابعة: متى يكون ترك العَوْدِ أَوْلَى من العود؟
المسألة الخامسة: العَوْدُ ورؤوس الآي.
المسألة السادسة: العَوْدُ والتحزيب في الصلاة.
المسألة السابعة مهارة العَوْدِ ومقوِّمات إتقانه.
والله أسأل أن يُوفِّقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح وأن يهدينا إلى الطيِّب من القول، والحلال من الرزق، وأن يرزقنا القبول والإخلاص، وأن يثبتنا على ما يُرضيه عنَّا.
***
[1] رواه البيهقي في السنن الكبرى (ح 5496)، والحاكم في المستدرك (ح 101) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي بقوله: على شرطهما ولا علة له. والدَّقَل: رديءُ التمر ويابسُه وما ليس له اسمٌ خاصٌّ؛ فَلِيُبسِه ورداءته لا يجتمع، ويكونُ منثورًا.
[2] ينظر: الكامل (ص131)، لطائف الإشارات لفنون القراءات (1/ 249).
حمِّل البحث كاملًا من المرفقات