محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إِلَى الْمَجْلِس احترامًا ومحبة لا تعظيمًا
روى البخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ ؛ كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، قَامَ إِلَيْهَا ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، وَقَبَّلَهَا ، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ ؛ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، قَامَتْ إِلَيْهِ ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ ، فَقَبَّلَتْهُ ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا [1] .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ( هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ ) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ : " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ " قَالَ : فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ ؛ قَالَ : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ " [2] .
قال ابن كثير - رحمه الله : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ؛ ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث : " من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا ، فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار " ؛ ومنهم من فصَّل ، فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ - رضي الله عنه ، فإنه لما استقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكمًا في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم . فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم ؛ وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك [3] .
قال النووي - رحمه الله : قَوْله - صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ أَوْ خَيْركُمْ " : فِيهِ : إِكْرَام أَهْل الْفَضْل ، وَتَلَقِّيهمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا ، هَكَذَا اِحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَام ؛ قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقِيَام الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِس ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسه .ا.هـ . قُلْت : الْقِيَام لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيث ، وَلَمْ يَصِحّ فِي النَّهْي عَنْهُ شَيْء صَرِيح ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ ذَلِكَ مَعَ كَلَام الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فِي جُزْء ، وَأَجَبْت فِيهِ عَمَّا تَوَهَّمَ النَّهْي عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم [4] .ا.هـ .
قلت : خالفه ابن الحاج - رحمه الله ، وناقش أدلته في كتابه ( المدخل ) ؛ وقد نقل ابن حجر - رحمه الله - في ( الفتح ) مناقشة ابن الحاج لكلام النووي - رحمهما الله ، وعلَّق على بعضها ، ثم قال : وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة ، أو يترتب عليه مفسدة امتنع ؛ وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام ؛ ونقل ابن كثير في ( تفسيره ) عن بعض المحققين التفصيل فيه ، فقال : المحذور أن يتخذ ديدنًا كعادة الأعاجم ، كما دل عليه حديث أنس ، وأما إن كان لقادم من سفر ، أو لحاكم في محل ولايته ، فلا بأس به ؛ قلت : ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة ، أو لإعانة العاجز ، أو لتوسيع المجلس ... أو غير ذلك ، والله أعلم . وقد قال الغزالي : القيام على سبيل الإعظام مكروه ، وعلى سبيل الإكرام لا يكره .ا.هـ . وهذا تفصيل حسن [5] .
وقد احتج من منع من القيام للداخل بما رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنهما - عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ , فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ : اجْلِسْ , فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " [6] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " يَمْثُلَ لَهُ " أي : يقفون بين يديه قائمين لتعظيمه ، من قولهم : مَثُلَ بين يديه مثولًا ، أي : انتصب قائمًا ؛ وقوله : " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " أمرٌ بمعنى الإخبار ، أي : دخل النار إذا سره ذلك .
ولذلك أجاب الطبري - رحمه الله - بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك ، لا نهي من يقوم له إكرامًا له [7] .
قال الطحاوي - رحمه الله في ( مشكل الآثار ) : فدل ذلك أن المكروه مما ذكرناه هو المحبة من بعض الرجال لذلك من بعض ، وقد تكون تلك المحبة من القيام إليهم ، وقد تكون بلا قيام إليهم ؛ فدل ذلك على أن الكراهة في ذلك إنما هي للمحبة التي ذكرنا ، لا للقيام الذي لا محبة معه [8] .
ونقل ابن الحاج في ( المدخل ) عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه :
الأول : محظور ، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرًا وتعاظمًا على القائمين إليه .
والثاني : مكروه ، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ، ولا يتعاظم على القائمين ، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يُحذر ، ولما فيه من التشبه بالجبابرة .
والثالث : جائز ، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ، ويُؤْمن معه التشبه بالجبابرة .
والرابع : مندوب ، وهو أن يقوم لمن قدم من سفرٍ فرحًا بقدومه ليسلِّم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها ، أو مصيبة فيعزيه بسببها [9] .ا.هـ
قال البعلي - رحمه الله - في ( مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ) : ولم يكن من عادة الصحابة - رضي الله عنهم - أن يقوموا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا يعلمون من كراهته لذلك ، ولا كان يقوم بعضهم لبعض ، وروي أنه كان يقوم لمن قدم من مغيبه ، فالقيام لمثل القادم من سفر لا بأس به ، وقد رُخِصَّ في القيام للإمام العادل والوالد ، ونحو ذلك ؛ وروي أنه قام لعكرمة بن أبي جهل وجعفر بن أبي طالب لما قدما عليه من السفر ؛ وقال للأنصار : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " يعني : سعد بن معاذ - رضي الله عنه ؛ ولهذا فرقوا بين القيام إليه لتلقيه ، كما قال كعب بن مالك - رضي الله عنه : لم يقم لي أحد من الأنصار إلا طلحة ؛ وبين القيام له ، وهو أن يكون قاعدًا وهم قيام ؛ فهذا لا يجوز .
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا السنة في ترك القيام المتكرر للقاء ، ولكن إذا اعتاد الناس القيام ، وقام من لا يرى كرامته إلا بالقيام له ، وإذا ترك ذلك توهم بغضه وإهانته ، وتولد من ذلك عداوة وشر ، فالقيام له على هذا الوجه لا بأس به ؛ وإنما الأعمال بالنيات [10] .
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ رُؤْيَةً مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ [11] .
قال الطحاوي - رحمه الله : فكان ما في هذا الحديث قد دل أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا يتركون القيام له - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بكراهته لذلك منهم ، وفي ذلك ما قد دل على أنهم لولا كراهته لذلك منهم لقاموا له ؛ وقد تكون كراهته لذلك منهم على وجه التواضع منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، لا لأنه حرام عليهم أن يفعلوا ذلك له ؛ وكيف يُظَنُّ أن ذلك حرام عليهم ، وقد أمرهم بالقيام إلى سعد بن معاذ ، وقام بمحضره طلحة بن عبيد الله إلى كعب بن مالك عند نزول توبته مهنئًا له بذلك ، فلم ينهه عنه ؟ [12] .
وصفوة القول أن القيام لمن جاء من سفر ، أو لمن استحدثت له نعمة لتهنئته ، أمر جائز لا حرج فيه ؛ وأن القيام للتعظيم ، أو لأن الإنسان يحب أن يقام له ، فغير جائز ؛ وأما القيام لإكرام الداخل واستقباله فمشروع ، لا سيما إذا كان عدم القيام يوهم بغضه وإهانته . والعلم عند الله تعالى .
-----------------------------------------------
[1] البخاري في الأدب المفرد ( 947 ) ، أبو داود ( 5217 ) وصححه الألباني ، ورواه ابن حبان ( 6953 ) ، والحاكم ( 4732 ) وصححه على شرط الشيخين ؛ وقال الذهبي : بل صحيح ، يعني وليس على شرطهما .
[2] البخاري ( 2878 ) ، ومسلم ( 1768 ) .
[3] انظر ( تفسير ابن كثير - دار طيبة ) : 8 / 46 ، 47 .
[4] انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 12 / 93 .
[5] انظر ( فتح الباري ) : 11 / 54 ، وما قبلها .
[6] أحمد : 4 / 100 ، الأدب المفرد ( 977 ) ، وأبو داود ( 5229 ) واللفظ له ، والترمذي ( 2755 ) وحسنه ، وصححه الألباني .
[7] نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 50 .
[8] انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 112 .
[9] نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 51 ، 52 .
[10] انظر ( مختصر الفتاوى المصرية ) ص 563 .
[11] أحمد : 3 / 132 ، 134 ، والبخاري في الأدب ( 946 ) , والترمذي ( 2754 ) وصححه الألباني في ( الصحيحة رقم 358 ) .
[12] انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 113 .
روى البخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ ؛ كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، قَامَ إِلَيْهَا ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، وَقَبَّلَهَا ، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ ؛ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، قَامَتْ إِلَيْهِ ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ ، فَقَبَّلَتْهُ ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا [1] .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ( هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ ) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ : " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ " قَالَ : فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ ؛ قَالَ : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ " [2] .
قال ابن كثير - رحمه الله : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ؛ ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث : " من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا ، فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار " ؛ ومنهم من فصَّل ، فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ - رضي الله عنه ، فإنه لما استقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكمًا في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم . فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم ؛ وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك [3] .
قال النووي - رحمه الله : قَوْله - صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ أَوْ خَيْركُمْ " : فِيهِ : إِكْرَام أَهْل الْفَضْل ، وَتَلَقِّيهمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا ، هَكَذَا اِحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَام ؛ قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقِيَام الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِس ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسه .ا.هـ . قُلْت : الْقِيَام لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيث ، وَلَمْ يَصِحّ فِي النَّهْي عَنْهُ شَيْء صَرِيح ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ ذَلِكَ مَعَ كَلَام الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فِي جُزْء ، وَأَجَبْت فِيهِ عَمَّا تَوَهَّمَ النَّهْي عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم [4] .ا.هـ .
قلت : خالفه ابن الحاج - رحمه الله ، وناقش أدلته في كتابه ( المدخل ) ؛ وقد نقل ابن حجر - رحمه الله - في ( الفتح ) مناقشة ابن الحاج لكلام النووي - رحمهما الله ، وعلَّق على بعضها ، ثم قال : وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة ، أو يترتب عليه مفسدة امتنع ؛ وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام ؛ ونقل ابن كثير في ( تفسيره ) عن بعض المحققين التفصيل فيه ، فقال : المحذور أن يتخذ ديدنًا كعادة الأعاجم ، كما دل عليه حديث أنس ، وأما إن كان لقادم من سفر ، أو لحاكم في محل ولايته ، فلا بأس به ؛ قلت : ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة ، أو لإعانة العاجز ، أو لتوسيع المجلس ... أو غير ذلك ، والله أعلم . وقد قال الغزالي : القيام على سبيل الإعظام مكروه ، وعلى سبيل الإكرام لا يكره .ا.هـ . وهذا تفصيل حسن [5] .
وقد احتج من منع من القيام للداخل بما رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنهما - عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ , فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ : اجْلِسْ , فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " [6] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " يَمْثُلَ لَهُ " أي : يقفون بين يديه قائمين لتعظيمه ، من قولهم : مَثُلَ بين يديه مثولًا ، أي : انتصب قائمًا ؛ وقوله : " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " أمرٌ بمعنى الإخبار ، أي : دخل النار إذا سره ذلك .
ولذلك أجاب الطبري - رحمه الله - بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك ، لا نهي من يقوم له إكرامًا له [7] .
قال الطحاوي - رحمه الله في ( مشكل الآثار ) : فدل ذلك أن المكروه مما ذكرناه هو المحبة من بعض الرجال لذلك من بعض ، وقد تكون تلك المحبة من القيام إليهم ، وقد تكون بلا قيام إليهم ؛ فدل ذلك على أن الكراهة في ذلك إنما هي للمحبة التي ذكرنا ، لا للقيام الذي لا محبة معه [8] .
ونقل ابن الحاج في ( المدخل ) عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه :
الأول : محظور ، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرًا وتعاظمًا على القائمين إليه .
والثاني : مكروه ، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ، ولا يتعاظم على القائمين ، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يُحذر ، ولما فيه من التشبه بالجبابرة .
والثالث : جائز ، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ، ويُؤْمن معه التشبه بالجبابرة .
والرابع : مندوب ، وهو أن يقوم لمن قدم من سفرٍ فرحًا بقدومه ليسلِّم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها ، أو مصيبة فيعزيه بسببها [9] .ا.هـ
قال البعلي - رحمه الله - في ( مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ) : ولم يكن من عادة الصحابة - رضي الله عنهم - أن يقوموا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا يعلمون من كراهته لذلك ، ولا كان يقوم بعضهم لبعض ، وروي أنه كان يقوم لمن قدم من مغيبه ، فالقيام لمثل القادم من سفر لا بأس به ، وقد رُخِصَّ في القيام للإمام العادل والوالد ، ونحو ذلك ؛ وروي أنه قام لعكرمة بن أبي جهل وجعفر بن أبي طالب لما قدما عليه من السفر ؛ وقال للأنصار : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " يعني : سعد بن معاذ - رضي الله عنه ؛ ولهذا فرقوا بين القيام إليه لتلقيه ، كما قال كعب بن مالك - رضي الله عنه : لم يقم لي أحد من الأنصار إلا طلحة ؛ وبين القيام له ، وهو أن يكون قاعدًا وهم قيام ؛ فهذا لا يجوز .
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا السنة في ترك القيام المتكرر للقاء ، ولكن إذا اعتاد الناس القيام ، وقام من لا يرى كرامته إلا بالقيام له ، وإذا ترك ذلك توهم بغضه وإهانته ، وتولد من ذلك عداوة وشر ، فالقيام له على هذا الوجه لا بأس به ؛ وإنما الأعمال بالنيات [10] .
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ رُؤْيَةً مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ [11] .
قال الطحاوي - رحمه الله : فكان ما في هذا الحديث قد دل أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا يتركون القيام له - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بكراهته لذلك منهم ، وفي ذلك ما قد دل على أنهم لولا كراهته لذلك منهم لقاموا له ؛ وقد تكون كراهته لذلك منهم على وجه التواضع منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، لا لأنه حرام عليهم أن يفعلوا ذلك له ؛ وكيف يُظَنُّ أن ذلك حرام عليهم ، وقد أمرهم بالقيام إلى سعد بن معاذ ، وقام بمحضره طلحة بن عبيد الله إلى كعب بن مالك عند نزول توبته مهنئًا له بذلك ، فلم ينهه عنه ؟ [12] .
وصفوة القول أن القيام لمن جاء من سفر ، أو لمن استحدثت له نعمة لتهنئته ، أمر جائز لا حرج فيه ؛ وأن القيام للتعظيم ، أو لأن الإنسان يحب أن يقام له ، فغير جائز ؛ وأما القيام لإكرام الداخل واستقباله فمشروع ، لا سيما إذا كان عدم القيام يوهم بغضه وإهانته . والعلم عند الله تعالى .
-----------------------------------------------
[1] البخاري في الأدب المفرد ( 947 ) ، أبو داود ( 5217 ) وصححه الألباني ، ورواه ابن حبان ( 6953 ) ، والحاكم ( 4732 ) وصححه على شرط الشيخين ؛ وقال الذهبي : بل صحيح ، يعني وليس على شرطهما .
[2] البخاري ( 2878 ) ، ومسلم ( 1768 ) .
[3] انظر ( تفسير ابن كثير - دار طيبة ) : 8 / 46 ، 47 .
[4] انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 12 / 93 .
[5] انظر ( فتح الباري ) : 11 / 54 ، وما قبلها .
[6] أحمد : 4 / 100 ، الأدب المفرد ( 977 ) ، وأبو داود ( 5229 ) واللفظ له ، والترمذي ( 2755 ) وحسنه ، وصححه الألباني .
[7] نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 50 .
[8] انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 112 .
[9] نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 51 ، 52 .
[10] انظر ( مختصر الفتاوى المصرية ) ص 563 .
[11] أحمد : 3 / 132 ، 134 ، والبخاري في الأدب ( 946 ) , والترمذي ( 2754 ) وصححه الألباني في ( الصحيحة رقم 358 ) .
[12] انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 113 .