أولا : من فهم من بعض كلام شيخ الإسلام أنه يقول بفناء النار ؛ فهذا لم يحقق كلامه كما ينبغي ، والذي حققه أهل العلم أن شيخ الإسلام وجمهور السلف والمحققون من أهل العلم المعاصرين يعتقدون عقيدة جازمة بأن النار غير فانية وكذا الجنة .
وأما مسألة الجمع بين هذه الآية وآيات أخرى كثيرة مصرحة بلفظ أبدا ، منها 11 بلفظ خالدين فيها أبدا , فقد أجاب عنه علامة العصر في التفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه دفع إيهام الاضطراب ، وله في مسألة فناء النار قصة مشهورة .
يقول رحمه الله : ( قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ}، هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ, خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك}، وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}، وقد جاءت آيات تدل على أنّ عذابهم لا انقطاع له كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.
والجواب عن هذا من أوجه:
أحدها: أن قوله تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان واختاره ابن جرير وغاية ما في هذا القول إطلاق ما ورد ونظيره في القرآن {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}.
الثاني: أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا.
الوجه الثالث: أن قوله {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبداً, وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له, والظهور من المرجحات, فالظاهر مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول.
ومنها: أنّ "إِلاّ" في سورة هود بمعنى: "سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض". وقال بعض العلماء: إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد، وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون أحقابا"، وعن ابن عباس: "أنها تأكلهم بأمر الله". قال مقيده - عفا الله عنه -: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة, وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن, أما ما يقول كثير من العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته, وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح وغيرها راجع إليها:
الأولى: أن يقال بفناء النار وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها.
الثانية: أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية.الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية.
الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية
الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم. وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذة لم نذكرهما من الأقسام لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب, ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذة, فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما, وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه.
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}, وقد قال تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}, وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}, وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ}، وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}, فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير رد عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أن (كُلَّمَا) تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية. وأما موتهم فقد نصّ تعالى على عدمه بقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}, وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}, وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح, وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}, وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}, وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً}, وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}, وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}, وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}, وقوله تعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}, وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}. ولا يخفى أن قوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} كلاهما فعل في سياق النفي فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ولا تفتير له, والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات, بل يلزمه ذهابهما رأسا, كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} وإقامته النصوص عليها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح, وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين:
الأول: أنه يلزم جواز ألاّ يدخل النار كافر لأن الخبر بذلك وعيد وإخلافه على هذا القول لا بأس به.
الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد}ِ, وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم "سها فسجد" أي سجد لعلة سهوه, و"سرق فقطعت يده" أي لعلة سرقته فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد} أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}.
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ, مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ}, ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ}, وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بيّن ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعيّن القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبداً بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح, ولا غرابة في ذلك لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول فكان جزاؤهم دائما لا يزول, والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} الآية، فقوله: {خَيْراً} نكرة في سياق الشرط فهي تعم, فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله، وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، وعودهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}, وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية. وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص كما أشار له تعالى بقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ}, وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. والعلم عند الله تعالى.
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب [ص 36 وما بعدها ]