مرحبا رمضان

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
بِسْمِ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآلِهِ وَصَحِبِهِ . رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك .
نعرض بعد طلب المعونة من الله إلى بيان ما يجبُ فعله مع كتاب الله عامة وفي رمضان خاصة.
لا يخفى على الجميع حال أكثر المسلمين في تعاملهم مع كتاب الله في رمضان من الانشغال بكثرة القراءة سواء أكانت بصوت أو بصمت {بالعين } ...ويتناسى من يسلك هذا الباب أن القرآن نزل لأمور هي أعمق من هذا ....ولم يكن قط الهدف هو كثرة القراءة, وسيتضح ذلك بعد نقلي لما عليه جماعة المسلمين من المستمسكين بالكتاب المبارك ...
ولو أن الذي بلغ الخمسين من عمره الآن كان قد بدأ يقرأ القرآن بتدبر وبحثا عن مراد الله فيما أنزل لكان حال أكثرنا مختلفا تماما عما نحن عليه الآن ..
فلو قرأ الأخ كل رمضان فيما مضى من عمره خمسة أجزاء بتفسيرها ,لكان قد تم له تفسير القرآن كله في بضع سنين {في ست سنوات} ولك أن تقول في عشر سنوات ,فلربما يحدث عارض أو مانع ....
والحال الآن أن من بلغ الستين لا يعرف تفسير أكثر كلمات جزء عم ......الذي يحفظه كثير من الأطفال ...
فلم يقل أحد من أهل الصلاح أن القرآن نزل للقراءة فقط ............
سيقول من يجيدُ الجدل إن أمر التفسير صعب ,,,قل له إنك تعرف من أمور الدنيا ما هو أصعب ولو صرفت ذهنك لكتاب لكنت على خير حال ..
قال تعالى :{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}
قال ابن كثير رحمه الله :
أَيْ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا وَوُجُوهِ مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفّل لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ.
وفي فتح القدير :
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي: مَعَايِشَهُمْ مَتَى يَغْرِسُونَ، وَمَتَى يَزْرَعُونَ، وَمَتَى يَحْصُدُونَ.
والحمد لله لدينا التفسير المُيسر بجهد علماء البلد الحرام .. وتفسير السعدي رحمه الله ...وأيسر التفاسير ....
 
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار له :
أَمَا - وَسِرِّ الْقُرْآنِ - لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، لَمَا فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَآدَابُهُمْ ، وَلَمَا ظَلَمَ وَاسْتَبَدَّ حُكَّامُهُمْ ، وَلَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ ، وَلَمَا صَارُوا عَالَةً فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَسْبَابِهَا عَلَى سِوَاهُمْ .
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ :{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}
قال في اللُّبَابِ : قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } عِبارةٌ تُنبىء عَن كَوْنِ القرآنِ آيةً فَوْقَ الكفاية.
قَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالْبَيْهَقِيِّ في الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالدَّارِمِيِّ في الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ:
قَالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَلامِهِ.
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في الفَتَاوى الْكُبْرَى :
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُسْأَلُ أَحَدُكُمْ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا الْقُرْآنُ- فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
جَاءَ في كِتَابَ -إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ- : فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَفَهْمٍ خَيْرٌ مِنْ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ، فَلْيَتَوَقَّفْ فِي التَّأَمُّلِ فِيهَا وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا أَسْرَارًا لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدَقِيقِ الْفِكْرِ عَنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ بَعْدَ صِدْقِ الْمُعَامَلَةِ.
جَاءَ في كِتَابِ -مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ لابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ - فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتَفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ خِتْمَةٍ بغيرِ تَدبُّرٍ وتَفهُّمٍ .
 
- عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلَتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ:أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
قُلْتُ :إنَّ هَذَا الحَديثَ يَدُلُ عَلى أَنَّ القُرآنَ هُوَ أقصَرُ الطُّرقِ لِلتَّأسي بالنَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
-وَعَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ - وفي رِوايةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَه. رَواهَمَا الْبُخَارِيُّ
-وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ . رَوَاهُ مُسلمٌ
وفي البُخَاريُّ - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ .
 
جَاَءَ في كِتابِ - مَفَاهِيمُ يَجِبُ أنَّ تُصَحِّحَ - للأُستاذِ مُحَمد قُطب رِحِمَهُ اللهُ :
فَيَوْمَ كَانَتْ: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } عِبَادَةً,لم يَجرؤ أحدٌ عَلَى احْتِلَالِ أَرَاضِي الْمُسْلِمِينَ واستلابِ خَيراتِهم وَيَوْمَ كَانَ { وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا} عِبَادَةً, لم يَكُن هُناكَ تخلفٌ عِلميٌ، بَل كَانَت الأُمَّةُ المُسلِمةُ هِيَ أُمَّةَ العِلمِ، التي تَعَلَّمَت أُورُوبَّا في مَدارِسِهَا وجَامِعاتِها! وَيَوْمَ كَانَتْ { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } عِبَادَةً ، كَانَت الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَغنَى مُجْتَمَعَاتِ الْأَرْضِ! وَيَوْمَ كَانَتْ :{ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } عِبَادَةً ، وَكَانَ وَليُّ الأَمرِ يَستَشعرُ أنَّه رَاعٍ وَمَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، لم يَكُنْ للفقراءِ في الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ قَضيةٌ، لأنَّ العِلاجَ الرَّبَّانِيِّ لمشكِلةِ الفَقرِ كَانَ يُطبقُ في الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ عِبَادَةً للهِ!
وَيَوْمَ كَانَتْ { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } عِبَادةً، لم تكُنْ للمرأةِ المُسلِمةِ قَضيَّةُ، لأنَّ كُلَّ الحُقوقِ والضَمَانَاتِ التي أمَرَ اللهُ لها بها كَانَتْ تُؤدى إِلَيْهَا طَاعَةً للهِ، وعِبادةً للهِ! .
قُلْتُ :ويُمْكِنُ الْقَوْلُ بأنَّه يَومَ كَانَتْ :{ اقْرَأْ } عِبَادَةً , لَمْ تَكثرْ الْمَعْبُودَاتُ في بَاطِنِ الْأَرْضِ وَمِن فَوْقِهَا , وَلَم يُبتلَ الْمُسْلِمُونَ بوُلَاةِ السُّوءِ الَّذِينَ أبعَدوهُم عَن دِينِهِم ثُمَّ استَعبَدُوهُم .
وَيومَ نَقتَدِي بالقُرآنِ ونَهتَدي بهِ حَقاً ,عِندَها نَفتَدِي أَنْفُسَنَا وَنُحَققُ العُبُودِيَّة للهِ ونَتَحَررُ مِن عُبُوديَّةِ غَيرِه , وَإِلَّا سَنُستَعْبَدُ حَتْما ,{ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }.
 
قَاَلَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُقَدِّمَةِ تَفسيرِهِ عَن القُرآنِ:
فَجَعَلَهُ لَهُمْ فِي دُجَى الظُّلَمِ نُورًا سَاطِعًا، وَفِي سَدَفِ الشُّبَهِ شِهَابًا لَامِعًا، وَفِي مَضَلَّةِ الْمَسَالِكِ دَلِيلًا هَادِيًا، وَإِلَى سُبُلِ النَّجَاةِ وَالْحَقِّ حَادِيًا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة: 16] . حَرَسَهُ بِعَيْنٍ مِنْهُ لَا تَنَامُ، وَحَاطَهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَا يُضَامُ، لَا تَهِي عَلَى الْأَيَّامِ دَعَائِمُهُ، وَلَا تَبِيدُ عَلَى طُولِ الْأَزْمَانِ مَعَالِمُهُ، وَلَا يَجُورُ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ تَابِعُهُ، وَلَا يَضِلُّ عَنْ سُبُلِ الْهُدَى مُصَاحِبُهُ. مَنِ اتَّبَعَهُ فَازَ وَهَدَى، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى. فَهُوَ مَوْئِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَئِلُونَ، وَمَعْقِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ يَعْتَقِلُونَ، وَحِصْنُهُمُ الَّذِي بِهِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ يَتَحَصَّنُونَ، وَحِكْمَةُ رَبِّهِمْ الَّتِي إِلَيْهَا يَحْتَكِمُونَ، وَفَصْلُ قَضَائِهِ بَيْنَهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ، وَعَنِ الرِّضَا بِهِ يَصْدُرُونَ، وَحَبْلُهُ الَّذِي بِالتَّمَسُّكِ بِهِ مِنَ الْهَلَكَةِ يَعْتَصِمُونَ. اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَنَّ أَحَقَّ مَا صُرِفَتْ إِلَى عِلْمِهِ الْعِنَايَةُ، وَبَلَغَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ الْغَايَةُ، مَا كَانَ لِلَّهِ فِي الْعِلْمِ بِهِ رِضًا، وَلِلْعَالِمِ بِهِ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ هُدًى، وَأَنَّ أَجْمَعَ ذَلِكَ لِبَاغِيهِ، كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَتَنْزِيلُهُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، الْفَائِزُ بِجَزِيلِ الذُّخْرِ وَسَنَى الْأَجْرِ تَالِيهِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
 
قال الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُقَدِّمَةِ تَفسِيرِهِ وهو يَتَكَلمُ عَن القُرآنِ : جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَيَتَدَبَّرُهُ حقَّ تَدبرِه، ويَقومُ بقِسطه، ويفي بِشَرْطِهِ، وَلَا يَلْتَمِسُ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، وَهَدَانَا لِأَعْلَامِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْقَاطِعَةِ الْبَاهِرَةِ، وَجَمَعَ لَنَا بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ في الفَتَاوَى الْكُبْرَى:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في سُورَةِ الْجُمُعَةِ:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَأَسْوَأُ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَنْ يَكُونُوا أُمِّيِّينَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أَنْ يُتْلَى عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتُ اللَّهِ , أَوْ عَنْ أَنْ يُعَلِّمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ أَجْهَلَ مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ , فَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعًا مِنْ تِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ , أَوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؟
والمُرادُ مِن كَلامِ الشَيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ – أنَّ اللهَ أنزَلَ هَذَا القُرآنَ على نَبيِّهِ مُخاطبا به وقتئذٍ مُجتَمعا أُميَّا وألزمَهم به عِلما وعَملا – فهل يجوزُ لأحدِنا بَعد هَذَا أن يَعتذرَ عَن تَعَلُّمِ القُرآنِ والعَملِ به ونحنُ نَقرَأُ وَنَكتُبُ وَقَد مَلأنَا الدُّنْيَا كَلَامَا .
وقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الفَتَاوى الْكُبْرَى:وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ ,فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ.وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في الفَتَاوى الْكُبْرَى :
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُسْأَلُ أَحَدُكُمْ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا الْقُرْآنُ- فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقد تَكَفَّلَ اللهُ لِمَن قَرَأَ القُرآنَ وَعَمِلَ بِمَا فيهِ أَن لَا يَضِلَّ في الدَّنيا وَلَا يَشقَى في الآخَرَةِ-كَمَا قَالَ السَّلَفُ.
قال ابنُ القيِّم رَحِمَهُ اللَّهُ في زَادِ المَعَادِ : قَالَ بَعْضُ السّلَفِ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ فَاِتّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ الْعَالِمُونَ بِهِ وَالْعَامِلُونَ بِمَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ . وَأَمّا مَنْ حَفِظَهُ وَلَمْ يَفْهَمْهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ أَقَامَ حُرُوفَهُ إقَامَةَ السّهْمِ . قَالُوا : وَلِأَنّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَفَهْمُ الْقُرْآنِ وَتَدَبّرُهُ هُوَ الّذِي يُثْمِرُ الْإِيمَانَ وَأَمّا مُجَرّدُ التّلَاوَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَدَبّرٍ فَيَفْعَلُهَا الْبَرّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا مُرّ. قُلْتُ: تَأَمَّلْ السَطرينِ الأَخيرينِ جَيدا .
وفي كِتَابِ الفَوائدِ – قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: اذا أردتَ الانتِفَاعَ بالقُرآنِ فاجمَع قلبَكَ عند تِلَاوَتِهِ وسَماعِه وألقْ سمعَك واحضُر حُضورَ مَن يُخاطبه به مَن تَكلمَ به سُبْحَانَهُ مِنه إليه - فإنَّه خطابٌ مِنه لكَ عَلِى لِسانِ رَسُولِه.
قال في التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ: قَالَ فَخْرُ الدِّينِ : قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ (أَيْ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ) الْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ. وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لِي بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ (يَعْنِي التَّفْسِيرَ) .
 
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ النَّحْلِ :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
وفيها:{ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ النَّحْلِ:{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلُهُ: {وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلَّ عِلْمٍ، وَكُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الْأَعْرَافِ:{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
قالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ} يَعْنِي الْقُرْآنَ." فَصَّلْناهُ" أَيْ بَيَّنَّاهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ تَدَبَّرَهُ وَقِيلَ: فَصَّلْناهُ" أَنْزَلْنَاهُ مُتَفَرِّقًا. {عَلى عِلْمٍ } مِنَّا بِهِ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ سَهْوٌ وَلَا غَلَطٌ.
 
قال الشَّيْخُ الشَّعرَاوي رَحِمَهُ اللَّهُ: والعَجيبُ في مَسألة حِفْظ القُرآنِ أنَّ الذي يَحفَظُ شيئاً يحفَظُه ليكونَ حُجةً له، لا حُجةً عليه، كما تحفظُ أنتَ الكمبيالةَ التي لك على خَصمِك، أمَّا الْحَقُّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد ضَمِن حِفْظ القُرآنَ، والقُرآنُ يُنبئ بأشياء سَتوجَدُ فيما بَعدُ، والْحَقُّ سُبْحَانَهُ لا يحفَظُ هَذَا ويُسجِّله على نَفسِه، إلا إذا ضَمِن صِدْق وتحقُّق ما أخبرَ به وإلا لما حَفِظه، إذن: فحِفْظُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ للقُرآنِ دليلٌ على أنَّه لا يَطرأ شيء في الْكَوْنِ أبداً يناقضُ كَلامَ اللهِ في القُرآنِ:{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً .} فاللهُ هو مُنزلُ القُرآنِ وهو خَالقُ الْكَوْنِ ,وبالتالي لَن تَتعارضَ حَقيقةٌ شَرعيةٌ مَع حَقيقية ٍكونيةِ .
ومن أسرَارِ عَظمةِ القُرآنِ أنَّ البعضَ مِمَّنْ يحفظونه لا يَملِكونَ أية ثقافة، ولو وَقفَ الواحدُ مِن هؤلاء عندَ كلمةٍ؛ فهو لا يَستطيعُ أن يَستَكمِلَها بكَلمةٍ ذاتِ معنى مُقَارب لها؛ إلى أنْ يَردّه حَافظٌ آخرُ للقُرآنِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِن أَجمَعِ الكَلامِ وَأَنصَفِه في مَسأَلَةِ حِفظِ القُرآنِ .
وَمَعنى ذَلكَ أنَّ اللهَ تَعَالى - قَد حَفِظَ القُرآنَ حِفظا مُطلقا غَيرَ مُقيدٍ بزَمَنٍ – كَمَا قَالَ العَلَمَاءُ.
جَاءَ في التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ وَغَيرِهِ :وَمِنْ لَطَائِفِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادَ مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي –الْمَدَارِكِ- ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ يَوْمًا فَسُئِلَ: لِمَ جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . فَتَعَهَّدَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْمُحَامِلِيِّ، فَقَالَ: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ.
 
إنَّ القُرآنَ رِسَالةٌ مِن اللهِ , وَكلُّ رِسَالةٍ لها هَدفٌ ولها مَضمونٌ ,فمِن المُحالِ أن تَقرأ أو تَكتبَ رِسَالةً وأنت عاجزٌ عن فَهمِ ما فيها – وإن عَجزتَ ,فإنَّك تسألُ مَن حَولك لتستفيدَ - كذلك القُرآنُ – فعيبٌ عَلينا أن تأتيَنا رِسَالةٌ من اللهِ ثُم لا نَقرأُها –أو نَقرأها ولا نَهتمَّ بما فيها أو نَتركَ العملَ بما جاء في رِسَالةِ ربنا جلَّ في علاه. إنَّكَ لا تَفعلُ هَذَا في كُلِّ رَسَائلِ الدَّنيا-فَكيفَ بِكَلامِ رَبنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وكَونُ هَذَا القُرآنِ خَاتمَ الكتبِ, فمعنى ذلكَ أنَّه حَوى الخيرَ كلَّه وَحَذَّرَ مِن الشرِ كلِّه ,فكيفَ نَتَبَاعَدُ عَنه ؟!
 
إنَّها رِسَالةٌ تَتَضمنُ طُرقَ النَّجاةِ وَمَفاتِحَ الخَيْرِ وَبَواعِثَ الأَمَلِ وَمَوارِدَ العِزَّةِ والكَرَامَةِ .
وَلَقَدْ جَمعتُ عددَ آياتِ كلِّ جُزءٍ من القُرآنِ , وكان كلُّ جزءٍ يزيدُ على المائةِ آية ,وَيَتَجَاوَزُ بَعضُهم المائتينِ وَلَقَدْ تجاوزَ - جزءُ عمَّ- الأربعمائة آيةٍ ,فكيف تقرأُ رِسالةً من اللهِ بهَذَا العددِ ثمَّ لا تخرجُ مِنها بشيء ,إنَّ هَذَا لشيءٌ عجابٌ ؟ إنَّ في القُرآنٍ ما نُسَميهِ اليومَ بالقَرَاراتِ المَصيريةِ الحَقيقيةِ - فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ .
ولك أن تَعلمَ أنَّ القُرآنَ رِسالةٌ مِن جَبارٍ مُقتدرٍ لا يُخلفُ الميعَادَ ولا يَظلمُ أحدا .
إنَّ الذي يَرثُ عَن أبيه حِرفةً ما, تَجده مُتقِنا لها خَبيرا بها, وربما يَكونُ قد تعلَّمَها في سَنواتٍ مَعدودةٍ – أمَّا نَحنُ الْمُسْلِمِينَ فَلَقَدْ توارثنا القُرآنَ مِن أكثر مِن أربعةٍ عَشر قَرنا, ومَع ذلك فإنَّ خبرَتنا فيه مُحزِنةٌ ومُخزيةٌ وغير مُجزية .إننا نعاني من ضعفٍ مهين فيما يتعلقُ بالقُرآنِ .فإنَّ كلَّ مكانٍ في الْأَرْضِ يَحتاجُ مؤهلاتٍ وخبراتٍ حتى يَقبلَنا ويَعتمدنا ,فبأيِّ مؤهلٍ وبأي خبرةٍ يا تُرى سَنَكونُ جَديرينَ بأن نَكونَ أمةً القُرآنُ كتابُها ودُستُورُها ؟!
إنَّه بِموجِبِ عَقدِ { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ }-أصبَحَ كلُّ شيء مِلكا لِمن اشترى .
ليسَ هُناكَ استِثناءٌ في أمرٍ دُونَ أمرٍ . { الْمَالُ النَّفْسُ الْوَقْتُ }- فهل ما زلنا على عَهدِنا ؟
إنَّ الوقتَ والمالَ الذي يَبخلُ به الْمُسْلِمُونَ على دِينِهِم – يَنتزِعُهُ اللهُ مِنهم انتزاعا مِن مَعايشهِم – وذلك في الموَاصَلاَتِ والمَشَافي والمخَابزِ وبَقيةِ أطوارِ حَياتِهم اليوميَّةِ – فَتَجِدُهُم يَحارونَ في الأمرِ البَسيطِ .
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في مَجموعِ الفَتاوي: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ : ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وَقَالَ:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }وَقَالَ: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ .وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ.
 
قال صاحبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ في مُقَدمته : وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاؤُنَا فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَفَهُّمٍ ,انتهى .
 
مثال له مطلق العجب على نفع تدبر كلام الله :
ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره، وهو رؤيا الملك.
قال تعالى في سورة يوسف :{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}
قال السعدي رحمه الله :
لما أراد الله تعالى أن يُخرج يوسفَ من السجن، أرى اللهُ الملكَ هذه الرؤيا العجيبة، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة، ليكون تأويلها على يد يوسف، فيظهر من فضله، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها، لارتباط مصالحها به.
تأمل كلام السعدي رحمه الله :{ لما أراد الله تعالى أن يُخرج يوسفَ من السجن، أرى اللهُ الملكَ هذه الرؤيا العجيبة }
هي مجرد رؤيا كانت سببا في تغيير الأمور في أمة كاملة ....!!
فلله في أقدراه عجائب وله في كونه وقائع فوق قوة جمع العقول .
وقال رحمه الله عن عدم قدرة الملأ على تأويل الرؤيا :
وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام. فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتما لها غاية، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما.
 
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ :{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ، وَمُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرَفُكم.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَدِيثُكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُكُمْ.
قال السعدي رحمه الله ورفع قدرَه في عليين :
لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - كتابا جليلا وقرآنا مبينا { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، { أَفَلا تَعْقِلُونَ } ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق، التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.
وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب.
 
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) }
قال في مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى:{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } بما يُذكرهم، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ باسٍ: أيْ: بما فيه فَخرُهُم وَشَرفُهُم، يَعْنِي القُرآنَ.
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ .
قال في فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَيْ: بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَالْمَعْنَى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ، وَيُقْبِلُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى بِذِكْرِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ ثَوَابُهُمْ وَعِقَابُهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بِذِكْرِ مَا لَهُمْ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ.
قال الشَّعرَاوي رَحِمَهُ اللَّهُ: والذكْر هنا: الشرفُ والصِّيتُ والمكانةُ العاليةُ، كما جاءَ في قَوْلِهِ تَعَالَى عَن القُرآنِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ. }وقولُه تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فكانَ يجبُ عليهم أن يحتضنوا هَذَا القُرآنَ، ويرفَعوه فوقَ رؤوسِهم، ففيه مجدُهم وشرفُهم وعِزَّتُهم، والعَرَبُ بدونِ القُرآنِ لا ذِكْرَ لهم، فقد كانوا أمَّةً أُميَّةً تعيشُ على الترحالِ والتنقلِ، ولا تستقرُ إلا على مَنابعِ الماءِ ومواضعِ الكلأ، كانوا بَدْواً تنتشرُ فيما بينهم الحروبُ والغاراتُ وقَطْعُ الطَّرِيقِ، كان الواحدُ منهم يَسرقُ ليُكرمَ ضَيفَه بما سرقَ. وَهَذِه مِن الأُمورِ العَجَيبةِ في عَاداتِ العَربِ في الجَاهِليَّةِ، فلم يكن لَديهِم منهجٌ يَحكمُ حياتَهم، عجيبٌ أنْ ترى حُبَّ الغارةِ والاعتداءِ مَع الشَهامةِ والكرمِ في طبيعةٍ واحدةٍ، فهو يفعلُ ما يخطرُ بِبالهِ .
إذن: فذِكْرُ العَرَبِ وشرفُهم ومجدُهم وكرامتُهم في القُرآنِ، ومَع ذلكَ لم يَعملوا حَتَّى لِمصلَحَتِهم، ولم يهتموا بهَذَا القُرآنِ، إنَّما أعرضوا عَنه {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} . أَيْ: عَن القُرآنِ، و هَذَا دليلٌ أنهم كانوا مُغفلينَ، لا يَعرِفونَ حَتَّى مَصلحَتِهم .
 
قالَ في الظِّلَالِ: وقد ظَلَّت أُمَّةُ العَربِ لا ذِكْرَ لها في تَاريخِ العَالمِ حَتَّى جاءَهَا الْإِسْلَامُ. وَقَد ظَلَّ ذكرُها يُدوي في آذانِ القُرونِ طالما كَانت به مُستَمسِكةً. وَقَد تَضاءلَ ذِكْرُهَا عِندَمَا تخَلت عَنه، فَلَمْ تَعُدْ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ , وَلَن يَقومَ لهَا ذِكْرٌ إلَّا يَومَ أن تَفيء إلى عُنوانِها الكَبيرِ .
 
وفي سُورَةِ الزُّخْرُفِ :{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}
قال البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّهُ، يَعْنِي القُرآنَ، لَذِكْرٌ لَكَ، أي لَشَرَفٌ لَكَ، وَلِقَوْمِكَ، مِنْ قُرَيْشٍ، نَظِيرُهُ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 10] ، أَيْ شَرَفُكُمْ، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، عَنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ شُكْرِهِ.
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ ص :{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلُهُ: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أَيْ: وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وقيل : {ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشَّرَفِ أَيْ: ذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ.وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ.
وفي سُورَةِ ص :{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}
قال في مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ: أي :قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، هُوَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، نَبَأٌ عَظِيمٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ ، وَقيلَ: هو يَعْنِي الْقِيَامَةَ كَقَوْلِهِ: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) }[النبأ: 1- 2 ]
وفي آخرِ السُّورَةِ :{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي: الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19] ، وَكَقَوْلِهِ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُودٍ: 17] .وَقَوْلُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أَيْ: خَبَرَهُ وَصِدْقَهُ {بَعْدَ حِينٍ} أَيْ: عَنْ قَرِيبٍ. قَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ، عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ.
 
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ ص :{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
قال الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى، وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذّ ، إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذّ . والهذ: سرعة القراءة.
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قال الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، لَا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ.
 
قال في البداية والنهاية :
فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مُعْجِزٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ، وَنَظْمِهِ، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ المحكمة الجلية، والتحدي بِبَلَاغَةِ أَلْفَاظِهِ يَخُصُّ فُصَحَاءَ الْعَرَبِ، وَالتَّحَدِّي بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ الْكَامِلَةِ- وَهِيَ أَعْظَمُ فِي التَّحَدِّي عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَّاءِ- يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الملتين أهل الكتاب وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُقَلَاءِ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَالْفَرَسِ وَالْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ فِي سَائِرِ الأقطار والأمصار وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْإِعْجَازَ إِنَّمَا هُوَ مَنْ صَرْفِ دَوَاعِي الْكَفَرَةِ عَنْ معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم عَلَى ذَلِكَ، فَقَوْلٌ بَاطِلٌ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَخْلُوقٍ ومخلوق، وقولهم: هذا كفر وباطل وليس مطابقا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، تَكَلَّمَ بِهِ كَمَا شَاءَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ تَعَاضَدُوا وتناصروا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ لَا تَقْدِرُ الرُّسُلُ الَّذِينَ هم أفصح الخلق وأعظم الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ، أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن الله، أسلوب كلامه لَا يُشْبِهُ أَسَالِيبَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وأساليب كلامه عليه السلام الْمَحْفُوظَةُ عَنْهُ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ إِلَيْهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ أَسَالِيبِهِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فِيمَا يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة، بل وأسلوب كلام الصحابة أَعْلَى مِنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ التَّابِعِينَ، وَهَلُمَّ جَرًّا إلى زماننا. و علماء السلف أفصح وأعلم، وأقل تكلفا، فيما يرونه مِنَ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ وَهَذَا يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ بِكَلَامِ النَّاسِ كَمَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ أَشْعَارِ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيْنَ أَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ الثَّابت فِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَائِلًا: حدَّثنا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، حدَّثني سَعِيدُ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَالَ: مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحَيًّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ.
 
وَمَعْنَى هذا أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ أُوتِيَ مِنَ الْحُجَجِ والدَّلائل عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَحُجَّةٌ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا بِهِ فَفَازُوا بِثَوَابِ إِيمَانِهِمْ أَوْ جَحَدُوا فَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ، أَيْ جلَّه وَأَعْظَمُهُ، الْوَحْيُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، الحجَّة الْمُسْتَمِرَّةُ الدَّائمة الْقَائِمَةُ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ، فإنَّ الْبَرَاهِينَ الَّتِي كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ انْقَرَضَ زَمَانُهَا فِي حَيَاتِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْخَبَرُ عَنْهَا، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ حجَّة قَائِمَةٌ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ السَّامع مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُجَّةُ اللَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ فِي حَيَّاتِهِ عليه السلام وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لِاسْتِمْرَارِ مَا آتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الحجَّة الْبَالِغَةِ وَالْبَرَاهِينِ الدَّامغة، فَلِهَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا.
 
قال ابن كثير رحمه الله :
وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فُنُونًا ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هُودٍ: 1] ، فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ وَفُصِّلَتْ مَعَانِيهِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَافِ، فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَصِيحٌ لَا يُجَارَى وَلَا يُدَانَى، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبَاتٍ مَاضِيَةٍ وَآتِيَةٍ كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ كَمَا قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الْأَنْعَامِ: 115] أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، فَكُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَةٌ وَلَا كَذِبٌ وَلَا افتراء،كَمَا يُوجَدُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمُجَازَفَاتِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا، كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْرِ: إِنَّ أَعْذَبَهُ أَكْذَبُهُ، وَتَجِدُ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ الْمَدِيدَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَ غَالِبُهَا فِي وَصْفِ النِّسَاءِ أَوِ الْخَيْلِ أَوِ الْخَمْرِ، أَوْ فِي مَدْحِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ كَائِنَةٍ أَوْ مَخَافَةٍ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ شَيْئًا إِلَّا قُدْرَةَ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَبِّرِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَلَى الشَّيْءِ الْخَفِيِّ أَوِ الدَّقِيقِ أَوْ إِبْرَازُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْوَاضِحِ، ثُمَّ تَجِدُ لَهُ فِيهَا بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هِيَ بُيُوتُ الْقَصِيدِ وَسَائِرُهَا هَذَرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ حَلَا وَعَلَا لَا يَخلق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَمَلُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ، وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَحُ الْقُلُوبَ وَالْآذَانَ، وَيُشَوِّقُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17] وَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 71] ، وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الْإِسْرَاءِ: 68] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الْمُلْكِ: 16، 17] وَقَالَ فِي الزَّجْرِ: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 40] ، وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 205 -207] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَوْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ مَا يُأْمَرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يُنْهَى عَنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 157] ، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ؛ وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وَزَهَّدَتْ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَتْ فِي الْأُخْرَى، وَثَبَّتَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رِجْسَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا قَدْ أعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ
إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ: "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا" أَيِ: الَّذِي اخْتَصَصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُعَارِضُوهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُعْجِزَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
 
وَقَدْ قَرَّرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِعْجَازَ بِطَرِيقٍ يَشْمَلُ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الصُّوفِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ وَلَا فِي قُوَاهُمْ مُعَارَضَتُهُ، فَقَدْ حَصَلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ فِي إِمْكَانِهِمْ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِصَرْفِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْضِيَّةً لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ مُعَارَضَتَهُ، كَمَا قَرَّرْنَا، إِلَّا أَنَّهَا تَصْلُحُ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَافَحَةِ عَنِ الْحَقِّ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَجَابَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سُؤَالِهِ فِي السُّوَرِ الْقِصَارِ كَالْعَصْرِ وَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} .
{انتهى كلام ابن كثير رحمه الله من كتاب البداية والنهاية }
 
قالَ صاحبُ تفسيرِ المنارِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَتْلُو أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ هِدَايَتِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ.
سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ حَاضِرِي الدَّرْسِ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أُنْزِلَ لِذَلِكَ وَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَاللهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ يَقُولُ إِنَّهُ أَنْزَلَهُ: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} ، فَالْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ يُصَرِّحَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أُخِذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجُعِلَ مَعْنَاهُ - أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُطَالِبُ عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَذَكُّرٍ. وَقَدْ جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَصِفُ حَالَ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ { يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِرُ تَرَاقِيَهُمْ } وَقَدْ سَمَّاهُمْ شِرَارَ الْخَلْقِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ قَدِ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ الْأَغَانِي وَالْمُطْرِبَاتِ، وَإِذَا طَالَبْتَ أَحَدَهُمْ بِالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَاحْتَجَّ عَلَيْكَ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا فَلَانٌ أَوْ حُلْمٍ رَآهُ فُلَانٌ، وَهَكَذَا انْقَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ مَثَلًا رَجُلًا يُرْسِلُ كِتَابًا إِلَى آخَرَ فَيَقْرَؤُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ هَذْرَمَةً أَوْ يَتَرَنَّمُ بِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ إِجَابَةَ مَا طَلَبَ فِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ الرَّسُولَ أَوْ غَيْرَهُ: مَاذَا قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِيهِ، وَمَاذَا يُرِيدُ مِنْهُ؟ أَيَرْضَى الْمُرْسِلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِهَذَا أَمْ يَرَاهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ؟ فَالْمَثَلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يُقَاسُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُرْسَلُ لِأَجْلِ وَرَقِهِ، وَلَا لِأَجْلِ نُقُوشِهِ،وَلَا لِأَجْلِ أَنْ تُكَيِّفَ الْأَصْوَاتُ حُرُوفَهُ وَكَلِمَهُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ مُرَادَ الْمُرْسَلِ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِهِ.
قال الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ بِالْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ بِالتَّدَبُّرِ، وَأَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ - وَلَوْ قَلِيلَةً - بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمَنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْقَارِئِينَ أَنْ يَقْرَءُوا لَهُ الْقُرْآنَ وَيُفْهِمُوهُ مَعْنَاهُ،. بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ التَّشْكِيكِ فِيهِ.
 
قال السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِن فَوائدِ التَّدَبُرِ لكتابِ اللهِ: أنَّه بذَلِكَ يَصلُ العبدُ إلى دَرَجةِ اليقينِ والعلم بأنَّه كلامُ اللهِ، لأنَّه يَراه يُصدقُ بعضُه بَعضا، ويوافقُ بعضُه بَعضا. فإنَّه بالتَّدَبُرِ فيه والتأمُّل لمعَانيهِ، وإعادةِ الفكرِ فيها مَرةً بَعدَ مَرةٍ، تُدركُ بًركَتُه وخيرَه، وَهَذا يَدلُ علَى الحثِ عَلَى تَدَبُرِ القُرآنِ، وأنَّه مِن أفضل الأَعمالِ، وأنَّ القِراءةَ المشتَمِلةَ عَلَى التَّدَبُرِ أفضلُ مِن سُرعَةِ التِّلَاوَةِ الَّتي لا يحصلُ بها هَذَا المقصودُ.
وفي سُورَةِ النِّسَاءِ : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
قال الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ. فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِهِ إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى مَا يُسَوِّغُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ.
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في مَجمُوعِ الفَتَاوَي : قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}: لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْهُ نَهَى عَنْ تَدَبُّرِهِ. وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ الْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَطَلَبَ فَهْمَهُ وَمَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَمَدَحَ عَلَيْهِ.
وفي سُورَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
جاء في تَفسيرِ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:حدثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فَقَالَ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: بَلْ عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَفْتَحُهَا أَوْ يَفْرُجُهَا، فَمَا زَالَ الشَّابُّ فِي نَفْسِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى وُلِّيَ فَاسْتَعَانَ بِهِ .
قال في فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَإِضَافَةُ الْأَقْفَالِ إِلَى الْقُلُوبِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْفَالِ لِلْأَبْوَابِ .
وفي مَحَاسِنِ التَّأْوِيلِ للقَاسِمي : و {الأقفال} مجازٌ عما يمنعُ الوصولَ. وإضافتُها إلى الْقُلُوبِ لإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ الْمُمَيِّزِ لها عمَّا عَدَاهَا وللإشَارَةِ إلى أنَّها لا تُشبه الأقفَالَ المعروفةَ، إذ لا يمكن فتحُها أبدا. وفى إضافةِ الأَقفَالِ إلى الْقُلُوبِ - أَقْفالُها - إشارةٌ أخرى إلى أنَّ لهذه الْقُلُوبِ أقفالا خاصَّةً بها، مُقَدرَةً بقدرها.. فلكلِّ قَلبٍ قفلُه الذي يُلائمه..
قال في التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ: وَإِضَافَةُ (أَقْفَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ قُلُوبٍ نَظْمٌ بَدِيعٌ أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْأَقْفَالِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ، أَيْ مُلَازَمَتِهَا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قاسية.
 
جَاءَ في كِتَابَ -إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ- : فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَفَهْمٍ خَيْرٌ مِنْ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ، فَلْيَتَوَقَّفْ فِي التَّأَمُّلِ فِيهَا وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا أَسْرَارًا لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدَقِيقِ الْفِكْرِ عَنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ بَعْدَ صِدْقِ الْمُعَامَلَةِ.
جَاءَ في كِتَابِ -مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ لابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ - فلا شيءَ أنفعُ للقَلبِ من قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ ؛ فإنَّهُ جامعٌ لجميعِ منازلِ السَّائرينَ وأحوالِ العاملينَ ومقاماتِ العارفينَ ، وهو الذي يُورِثُ المحبَّةَ والشوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابةَ والتَّوكُّلَ والرِّضا والتَّفويضَ والشُّكرَ والصَّبرَ وسائرَ الأحوالِ التي بها حياةُ القلبِ وكمالُهُ .فلو عَلِمَ النَّاسُ ما في قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ لاشتَغلوا بها عن كلِّ ما سواها ، فإذا قرأَهُ بتفكُّرٍ حتى مرَّ بآيةٍ هو مُحتاجٌ إليها في شفاءِ قَلبهِ كرَّرَها ولو مِئةَ مرَّة ، ولو ليلةً ، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتَفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ خِتْمَةٍ بغيرِ تَدبُّرٍ وتَفهُّمٍ ، وأَنفعُ للقلبِ وأَدْعَى إلى حُصولِ الإيمانِ وذَوْقِ حلاوَةِ القرآن., وَهَذِه كَانَت عَادَة السّلف , يردد أحدهم الآية إلى الصَّباح , وَقد ثَبت عَن النَّبِي انه قَامَ بِآيَة يُرَدِّدهَا حَتَّى الصَّباح وَهِي قَوْله {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فقراءةُ الْقُرْآن بالتفكر هِيَ أصل صَلَاح الْقلب .
 
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ:{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) }
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَمِ تَفَهُّمِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَدَبُّرِهِمْ لَهُ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أَشْرَفَ، لَا سِيَّمَا وَآبَاؤُهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ كِتَابٌ وَلَا أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا فَعَلَهُ النُّجَبَاءُ مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} إذًا وَاللَّهِ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ زَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَوْ تَدَبَّرَهُ الْقَوْمُ وَعَقَلُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا بِمَا تَشَابَهَ، فَهَلَكُوا عند ذلك. ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَيْ: أَفَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نَشَأَ بِهَا فِيهِمْ، أَفَيَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَالْمُبَاهَتَةِ فِيهِ؟
قال في اللُّبَابِ: قولُه : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ} أيْ : يَتَدبَروا القَولَ , يَعْنِي ما جَاءَهُم مِن القَولِ وهو القُرآنُ مِن حيثُ إنَّه كان مبايناً لكلامِ العَربِ في الفصَاحَةِ , وَمُبرأٌ من التَنَاقُضِ مَعَ طولِه , فَيَعرِفوا مَا فيه مِن الدلالاتِ عَلَى صِدقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَعرِفَةِ الصَّانِعِ , والوَحدَانِيَّةِ , فَيَتركوا الباطلَ , وَيَرجِعوا إلى الحَقِّ . وَقَد أَفَاضَ صاحبُ تفسيرِ اللُّبَابِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِكَلامٍ طَيِّبٍ ولولا الْإِطَالَةِ لنقلتُه كلَّه .
 
عودة
أعلى