مدنية العرب، ومفاهيم تتعلق بالقرآن وحقائق التاريخ، الكاتب : محمد رشيد رضا

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمد رشيد رضا
يوليه 1900
مدنية العربة(خمس حلقات متتابعة لرشيد رضا)
النبذة الأولى
مقدمة تمهيدية
اليوم نبدأ بالوفاء بما وعدنا به في الجزء التاسع من الكلام في مدنية العرب ,
ولهذا الكلام فوائد ننبه عليها في فاتحة القول ؛ لأن العلم بالفائدة والثمرة ينبغي تقديمه
كما قالوا ليكون الطالب على بصيرة فيما يطلب فينتفع به .
( الفائدة الأولى )
وهي أهمها ، بيان أن
تلك المدنية ما نالها العرب إلا بدينهم لأنهم كانوا قبل
الإسلام أبعد الأمم عنها , وبهذا تسقط شبهة الذين يزعمون أن دين الاسلام هو
الحجاب المسدول بين المسلمين وبين المدنية الحاضرة في هذا العصر ؛ لأن الشيء
الواحد لا تصدر عنه آثار متناقضة متباينة . وهؤلاء الزاعمون كلهم لا يعرفون
حقيقة الإسلام , وإن كان منهم من ينتسب إليه ويلبس لباس خواص أهله .
( الفائدة الثانية )
إزالة شبهة الذين يحتقرون هذا الشعب ( العربي ) الشريف , ويتوهمون أنه
لا قابلية فيه للمدنية والارتقاء , وإن تسنى له من أسبابهما ما تسنى لأن له طبيعة
خاصة به , وهي الجهل والتفرق والبعد عن النظام والاستبداد بالحكم وغير
ذلك من النعوت القبيحة التي يرمينا بها الجاهلون بتاريخنا وبطبائع الملل .
( الفائدة الثالثة )
استنهاض الهمم وحث النفوس على إحياء مجد أمتنا السابق واسترجاع ما
استأثر به الأجانب من تراث سلفنا الصالح ، وهو العلوم النافعة والأعمال الرافعة
والسجايا الحميدة والمآثر المفيدة ؛ لنُساير بذلك الأمم الحية ونُجاري الشعوب
المرتقية قبل أن تغمرنا سلطتها ونذوب فيها ذوبانًا حتى لا يبقى لنا هيئة ملية
نتميز بها .
( الفائدة الرابعة )
معرفة التاريخ الصحيح على الوجه الذي يعطي صاحبه البصيرة ويمنحه
الاعتبار , فإن ما كتب في التاريخ العربي لم يكتب على الطريقة الحديثة التي تتجلى
فيها الحوادث بعللها وغاياتها , وتتمثل الحقائق بمقدماتها ونتائجها , ويوضع كل
شيء في موضعه , ويقرن كل أمر بملائمه ومناسبه , ويتبع هذه الفائدة ما في
التاريخ من الفوائد الكثيرة .
العناية بتاريخ العرب والعمل لإحياء مجد العرب هو عين العمل للوحدة
الإسلامية التي ما وجدت في القرون الأولى إلا بالعرب , ولن تعود في هذا القرن إلا
بهم متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس لأن المقوم لها هو الدين الإسلامي نفسه
وإنما الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام , وهما عربيان , ولا
يفهم الدين من لا يفهمهما فهمًا صحيحًا , ولا يفهمهما أحد على هذا الوجه إلا اذا كان
يفهم لغتهما الشريفة , ومن كان له هذا الفهم فهو عربي باصطلاحنا لأننا لا نعني
بالعرب من لهم نسب يتصل بإحدى القبائل العربية فقط ؛ إذ ليس غرضنا التعصب
للجنسيات , بل إن هذا مما نُنَفِّر عنه ونذمه , وننتقد كل من يقول به .
المدنية العربية التي نفتخر بها لم يكن رجالها من صميم العرب أصحاب
النسب الصريح , ولكن الأعجمي منهم لم تكن علومه ومعارفه بلغته الأعجمية ,
وإنما كان الباعث له عليها والراقي بهمته إليها هو النور الذي أشرق في أفق عقله
من سماء البلاد العربية , والديانة التي تلقاها باللسان العربي . ولقد صدق الحكيم
ابن خلدون في قوله : ( إن مثل الزمخشري و عبد القاهر من فرسان الكلام وجهابذة
اللسان العربي لم يكونوا أعاجم إلا في النسب فقط ) .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذه المقدمة أن بعض المتنفجين الذين يدَّعون
بأكثر مما عندهم يرون أن الكلام في مدنية العرب وتذكير هذا الشعب الذي يحكم
الفقه الإسلامي بأنه أفضل الشعوب بمجد سلفه وحثه على العلوم والأعمال النافعة -
كل ذلك مضر بالمسلمين لأن غايته نزع الخلافة الدينية من بني عثمان , وهو
تفريق يعود على الأمة بالخيبة والخسران , ويروج هذا القول الزائف على البسطاء
هذه الكلمة الصحيحة , وهي أن محاولة نزع الخلافة من العثمانيين فيه تفريق
المسلمين وبلاء كبير على الأمة , ولكن هذا التفريق وما يتبعه من البلاء والشقاء
ليس لازمًا من لوازم العلم والتهذيب والعمل والكسب التي يستحيل أن تنهض أمة
وتحفظ وجودها بدونها , ولو فرضنا أن ذلك من لوازمها لما كان لنا أن نتركها لأن
ترك هذا الملزوم أو الملزومات أشد ضررًا وأعظم خطرًا . وكأني بالأحمق الذي
يقول بهذا التَّرك يرتأي أن يبقى أشرف عناصر الأمة الإسلامية في الدرك الأسفل
من الجهل والغباوة والفقر والفاقة والذل والمهانة لأجل المحافظة على لقب ( خليفة )
في أسرة مخصوصة , وإنما قلت : المحافظة على اللقب ؛ لأن الخلافة الحقيقية لا
تثبت لآل عثمان فضلاً عن غيرهم إلا بقوة الملة والدين , وهذه القوة منبعها العرب
وسياجها العلم والثروة , فيجب أن يكونا عامَّين في العرب كغيرهم بل العرب
أولى بهذا وأجدر . على أن الجهل والفاقة مثاران لكل بلاء وشقاء , فما دام العرب
على جهلهم وفقرهم لا نأمن أن يغش بعض أمرائهم غاش من الأجانب فيحمله على
طلب الخلافة , والأمة الجاهلة تكون مستعبدة لأمرائها وحكامها , فيتم بذلك التفريق
المخوف والعلم هدى ونور ، فإذا فشا في الأمة تأمن به كل غائلة ونائبة حتى إذا
تسنى لأجنبي أن يغش أميرًا منها لا يتسنى له أن يغش معه الرأي العام , وما دام
الرأي العام على بصيرة فلا خوف ولا خطر لأن القوة التي لا تبالغ ولا تقاوم هي
قوة الشعب والأمة .
وقد بينا رأينا في مسألة الخلافة من قبل , وفندنا أقوال المرجفين الذين
يزعمون أن من المسلمين من يسعى لها سعيًا , وأثبتنا أن هذه غاية لا تدرك بسعي
أمير من الأمراء أو جمعية من الجمعيات , وأن الخوض فيها مضر لأنه يوهم
البسطاء إمكان نزعها من قرابها وتحويلها من مكانها والأمر منوط برأي السواد
الأعظم من الأمة , وأين رأي السواد الأعظم من لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين
وأي جاهل يقول : إن السواد الأعظم إذا أقرّ على شيء يكون ذلك الشيء تفريقًا ؟
وهل للاجتماع والاتحاد معنى إلا هذا ؟ .
نعم لقائل أن يقول : إن المنار قام منذ إنشائه يدعو إلى الوحدة الإسلامية
ويخاطب بكلامه الأمة كافة وينعي على من يقول بالوطنية والجنسية , فكيف قام في
هذه الأشهر ينوّه بالعرب خاصة ويخاطبهم بالإصلاح من دون سائر الأجناس ؟
والجواب عن هذا يفهمه الذكيّ النبه من المقالات السابقة , ونزيده إيضاحًا مراعاة
لسائر الأفهام فنقول :
إننا في مقالاتنا ( الوحدة العربية ) و ( الترك والعرب ) لم نخرج عن التوحيد
والتأليف بين العناصر كلها , وإنما أشرنا إلى عرض نزعات التعصب الجنسي عند
الترك لأن الطبيب لا بدّ له من تشخيص المرض والتعريف بالداء قبل وصف
الدواء وطرق العلاج , و ( من كتم داءه قتله وأماته ) ولا شيء يقربنا من
إخواننا الأتراك ويجعل لنا قيمة في نفوسهم وبهاء في أعينهم ، إلا اعتقادهم بأننا
شعب يفهم ويشعر ، فيُسر بالكرامة ويتألم من الإهانة , وأن مسرته نافعة لهم
وتألمه ضار بهم ( ومن لم يكرم نفسه لا يكرم ) وقد صرحنا من قبل بأننا لا
نعني بالوحدة العربية أن ينفصل العرب عن سائر المسلمين أو عن الترك خاصة ,
بل نعني به أن كل شعب يجتهد في ترقية نفسه ملاحظًا أن في ترقيه ترقيًا لسائر
الشعوب التي تتكون منها الأمة , وسعادته من متمات سعادتهم , ولكننني لا أنكر
أنني أرجو أن يظهر تأثير كلامي في قومي ( العرب ) الذين يقرءونه ويفهمونه ,
وهذا ما يحملني على أن أخصهم بالذكر أحيانًا , وأن من الجرائد الإسلامية من لا
يتكلم في المواضيع الإرشادية إلا مع أهل بلاده خاصة حتى إنه لا يتجاوز ذلك إلى
إرشاد جيرانها من الناطقين بلغتها كما ترى في أكثر الجرائد المصرية بالنسبة للبلاد
السورية والحجازية والمغربية وذلك أن الإنسان يراعي في مثل هذا الأقرب
فالأقرب , على أننا اقترحنا في مقالات الإصلاح الديني التي نشرت في المجلد
الأول أن يكون بين علماء المسلمين وخطبائهم وكتابهم روابط وتعارف ومشاركة في
الفكر لأجل أن يكون الإرشاد على طريقة واحدة والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(3/289)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
النبذة الثانية
الجهاد في الإسلام كان للضرورة . الميل للعلوم والفنون استفاده العرب من
القرآن . زيغ العقيدة ليس من لوازم العلوم الطبيعية . فساد الأخلاق والأعمال ليس
من لوازم الفقه . الخلاصة أن مدنية العرب من دينهم .
كان أول أثر للإسلام في العرب جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم وتأليف قلوبهم ,
وهذه هي الغاية القصوى من المدنية التي من شأنها ألا تحصل إلا بعد ما تقضي
الأمة زمنًا طويلاً في مزاولة تعميم التربية والتعليم , ومن هنا نقول : إن الوحدة
العربية لأول عهدها كانت بإمداد سماويّ وعناية إلهية لا بسياسة القيّم الكسبية
وبراعة الداعي الطبيعية , ولذلك قال تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام :
{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ( الأنفال : 63 ) ولقد حسدتهم الأمم على هذه النعمة , وناوأتهم الشعوب للاختلاف في
الدين فاضطروا إلى المدافعة , ثم أُمروا بالدعوة بالتي هي أحسن
فقابلهم المدعوون
بالتي هي أسوأ لما كانت عليه جميع الأمم لذلك العهد من الفساد والإفساد والبغي في
الأرض بغير الحق فاضطروا لمكافحتهم وكتب الله لهم النصر { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحج : 40 )
ثم كان لهم ولوع بالفتوح وهي سنة
الكون : العالِم يستولي على الجاهل , والضعيف ذو الإصلاح يغلب القوي ذا
الإفساد . فلما تمكنوا في الأرض وأمنوا المناصبة والمواثبة
؛ ظهر فيهم الميل إلى
ما يرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض ورغبوا في الكمال في
هذا النظر ؛ فاهتدوا بذلك إلى الاستعانة بعلم من كان قبلهم فترجموا الكتب اليونانية
وغيرها وصححوا غلطها وزادوا عليها ما شاء الله أن يزيدوا كما سيأتي تفصيله .
يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان
من طبيعة الملك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن , ويتهم بعضهم المسلمين
بأنهم هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية اكتفاءً بالدين عن كل ما عداه . وقد جاءوا
بقولهم هذا ظلمًا وزورًا . فإن ما ورد في القرآن من الحث على النظر في ملكوت
السموات والأرض والانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة هو أكثر مما
ورد في أحكام الصلاة والصيام أو أي عبادة أخرى . ومن هؤلاء الجاهلين من يزعم
أن العلم الذي كثر الترغيب فيه في هذا الكتاب العزيز إنما هو علم الأحكام الفقهية ,
ولكن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال : إن أفضل العلوم العلم بالله تعالى
وبسننه في خلقه , وإنما كمال العلم بالله تعالى تابع لكمال العلم بأسرار صنعه وإبداع
خلقته وتدخل في هذا جميع العلوم الطبيعية , واتلُ عليهم إن شئت قوله تعالى :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر :
27-28) فذِكر العلماء بهذه المنقبة الجليلة بعد الاستلفات إلى إنزال المطر وإخراج
الثمرات به وإلى اختلاف ألوان الجماد والحيوان والإنسان - يدل على أن
المراد بالعلم الذي يورث الخشية هو العلم بهذه المخلوقات من جماد
ونبات وحيوان التي لها في هذا العصر أسماء كثيرة منها : التاريخ الطبيعي
والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والنبات وغير ذلك .
فإن قيل : إننا نرى المشتغلين بهذه العلوم لهذا العهد لا توجد عندهم خشية الله
تعالى ، بل يقال : إن منهم من ينكر وجوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون
علوًّا كبيرا . فالجواب أن المشتغلين بالعلم الذين يسمونه فقهًا ربما كانوا أبعد من
هؤلاء عن الخشية ، فإن هؤلاء المتفقهة اتخذوا الدين حيلة للكسب وأحبولة لصيد
الحطام يحتالون على الله , ويعلمون الناس الحيل لأكل الحقوق , وقد فشا فيهم
الكذب والخيانة والطمع وغيرها من الصفات الخسيسة التي يتنزه عنها في الغالب
العالمون بعلوم الخليقة , ولا يصح أن نضيف هذا الفساد لعلم الفقه كما لا يصح أن
نضيف ما عليه بعض علماء الكون من زيغ العقيدة إلى أنه من لوازم العلوم الكونية
لأنه لا دليل على وجود البارئ وكماله إلا هذه الأكوان البديعة التي خلقها في أحسن
نظام , ولكن الفساد في الأخلاق والأعمال والزيغ في العقائد يرجعان إلى فساد
التربية التي يؤخذ بها الإنسان من نشأته الأولى . وقد صرّح الفيلسوف سبنسر بأن
العالم بأسرار الخليقة يجب أن يكون أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم تعظيمًا له ، قال :
وهذا هو الدين الصحيح المرضي عنده تعالى , وهذا القول صحيح لكن الذي قاله
هو أساس الدين لا كل الدين .
وإن تعجب فعجب قولهم : إن من يتعلم العلوم الطبيعية يفسد اعتقاده ، قياسًا
على بعض فاسدي العقيدة من علمائها , وهو قياس مع الفارق ولا يخاف على دينه
إلا من لم يكن في عقائده على يقين فإن الموقن لا يخطر على باله أن يزول اعتقاده
لأنه جازم بأنه الحق المطابق للواقع , والواقع لا يزول . والإيمان بغير يقين لا
يقبل من أحد فقد قال تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا } ( يونس : 36 )
وقال تعالى حاكيًا عن الذين لا إيمان لهم : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } ( الجاثية : 32 ) إن أكثر مسائل العلوم الطبيعية العصرية مبنية على المشاهدة
والاختبار فهي ثابتة يقينًا , واليقين لا يناقض بعضه بعضًا فيخاف على العقيدة من
شبه فيها وأما المسائل النظرية التي تخالف بعض قضايا الدين فهي غير مقطوع بها
عند أهل العصر ويسهل علينا أن لا نُعلِّم الأحداث هذه المسائل إلا بعد معرفة
البراهين الصحيحة على عقائدهم فتكون العقيدة أقوى منها . ولو كانت هذه العلوم
في عصر العلماء المتقدمين الذين ذموا الفلسفة كما هي في هذا العصر ولها من
الفوائد مثلما لها الآن ؛ لكان كلامهم فيها غير الذي كان . ولقد خضنا في هذا
الموضوع مرارًا فلا حاجة للإطالة فيه بعد ذلك .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(3/319)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة ثالثة

السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين . العلم في الدولة
العباسية
. من عضده في الشرق من دونهم . العلم في الأندلس وفي مصر . العلوم
الفلكية عند العرب . التنجيم والكهانة .
السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي
الدين عنه
. العلم قبل الإسلام . الساعة الدقاقة . أخذ العلم للعمل . التحول بالعلم عن
العمل إلى النظريات وسببه . مشاهير الفلكيين . الاكتشافات والاختراعات
الإسلامية .
***
لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه
والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية ،
فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى
غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في
آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية . وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار
الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط
الآخر ( عدم المانع ) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم
البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء
نور دعوتهم ، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت
كلمته ونفذت شوكته ، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم
والعرفان . وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به .
قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم ,
ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة
وإفشاء أسرار الخليقة , واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب
الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه , وجرى
من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من
حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه , ولذلك بقي قائمًا
على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم
ملكهم زلزالاً . نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف
الفتن وشدتها . وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء
على العباسيين و عضد الدولة و شرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم
ويمد إليه ساعد المساعدة . وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات
العلمية لترقية الفنون . ولا ننسى فضل ملكشاه و محمد شاه من السلجوقيين وأشد ما
مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها
أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار . وما كان مثل العلم في الإسلام
إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر , وإذا سدله مجرى
تحول إلى مجرى غيره ، فلا تزول بالمرة أثباجه ( مجاريه ) ولا تنقطع أمواجه .
تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام
وفي شيراز و سمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان
من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد
الآخرون .
تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من
مشرقه بهاء , ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في
الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا . ورفعوا للمعارف صرحًا
عاليًا ومنارًا . وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا . فكانت أشبيليه و قرطبه و
غرناطه و مرسيه و طليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع . ولقد علا
مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه و فاس و مراكش و سبته من
معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس .
وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من
العلم بعيدًا من حظ الجناحين ، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت
دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب
الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز .
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً .
***
العلوم الفلكية
كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم
الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات
الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال
على حكمة مبدعه ومدبره , ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى
بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً , وحب الإشراف
على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى
الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين
والمنجمين . لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب
ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه . ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به
على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة , وقد جعل العرب كل واحد من هذين
علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية .

لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في
النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس
و سقراط و جالينوس و إقليدس و بطليموس وغيرهم ، وقد أحسن المهدي و الرشيد
صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم , ثم وجد في المسلمين من يحسن
الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية ,
ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما
صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم ، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام .
أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين ( ما شاء الله ) الفلكي
المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية و أحمد بن محمد النهاوندي وأول من
أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس . تناول العرب هذه الكتب
من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر ,
ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات , فكان من
بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف : ( من عمل بما علم
ورثة الله علم ما لم يعلم ) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة
الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم
أوربا لعهده , ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت
فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع .
ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا
لاستمرار الترقي فيه , ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها : مزج الدين بالعلم
وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة
فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج .
واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون . استخرج هذا الإمام لقومه
العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين
وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر
والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس ، و تيودوس , وأبولوينوس
وإيسيقليس و مينيلوس , وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها ,
وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي , وكان هذا قد ألف أرصادًا
مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ ، وهذان هما اللذان
قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر ,
وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب ، وحسبوا
الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس
ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر
المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد , ورصد
أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى
الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية , ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا
بالاكتشاف والاختراع , وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء
موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح , وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس
في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم ( رصدخانه )
المبني على قنطرة بغداد , وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض
القمر , وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد
زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة ( المتوفى سنة 287هـ ) كتاب المجسطي ثانية ,
وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات
مفيدة , وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح
المجسطي ، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون ,
وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من
بعده مدة قرن واحد , ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني ,
والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين ( المتوفى سنة 317هـ ) .
وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره , وألف أربعة أرصاد
في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة , ومنهم علي بن
أماجور وأخوه ، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة
لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب
من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما
أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم و عبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم
منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة
( وقد مر ذكرهما ) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون .
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(3/385)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة رابعة

مدرسة بغداد وطريقة علمائها . اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل . الأرصاد
المأمونية . أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته . التتار واهتداؤهم
ونصرهم للعلم . مرصد مراغة وامتيازه . الفلك في مصر . ابن يونس والزيج
الحاكمي ومرصد المقطم . اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة . الفلك في
الأندلس و المغرب .. ..
ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من
الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره
ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم
تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا . ولا يزال
فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق . قال بعض مؤرخي الإفرنجة : إن العرب
استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد
واتبعوا قواعدهم
وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية
والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما
اتضحت صحته وعرفت حقيقته ,
ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف
ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم
علم الفلك ,
ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية
من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب ( تلسكوب ) ولا إسطرلاب
.
ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون .
ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع
العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة
البروج ( الأكليتيك ) سنة 385هـ - 995 م برفع دائرة نصف قطرها خمسة
عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري
السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا , وأظهر في حساب سير القمر
اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه ( تيكو براحه ) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء
الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف
كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما
اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها
المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر ,
وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره
وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل . ومن مشاهيرهم البيروني و أبو سهل
الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة .
***
الفلك في أعاجم المسلمين
جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء
زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا
المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء
فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق
دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل
تسابق العلم والدين إلى عقولهم
فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني , وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول , ولا غرو
فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول . جمع هلاكو خان ( وقد اختلف
المؤرخون في إسلامه ) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير
الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد ، والشام ,
والموصل , وخراسان , وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف
بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل
فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله . وجعل
في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع
أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء . وبنى ألوغ بيك مرصدًا في
دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها ,
وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده , ولا ننسى أن
تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان
مشهورًا .
***
علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى
قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة
الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس
العباسيين على ما بينا قبل . ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار
المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب
وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب
الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة 389هـ .
جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته
ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي ( الذي نوهنا به
في النبذة الثالثة ) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله
واستفاد من أزياجه , وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد
خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في
الفرس من بعده بنحو سبعين سنة . ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي ,
وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا
في الأرصاد ، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس , وقد انتفع بأزياجه
المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه
أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت
إلى 30 سنة .
وأما الأندلس , وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك ، وقد اقتبس
منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق
وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا
ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي ، وظن أن نقطةً
سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد .
ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي , وابن أبي طلحة الذي عمل في
ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي
فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد 402 وأرصاد أخرى لمبادرة حركة
الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية ( نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس )
والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة , ومنهم جابر
ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية .
ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى
عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك
فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية
الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون , ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات
والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر
ارتفاع القطب الشمالي في 41 مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد
المغرب وآخرها القاهرة , فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة
الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار ؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم
يجاوبني قائلاً : إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين .
حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين . عندما يرونهم سائحين ومؤلفين
ومخترعين ومكتشفين . وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون ,
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(3/409)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
نبذة خامسة

الإرجاء في مقالات الموضوع الواحد . تاريخ علم الحساب . اعتراف
الإفرنج للعرب بأنهم أساتذتهم فيه . نسبتهم الأرقام الحسابية للعرب . إضافة
العرب المتأخرين لها إلى الهنود خطأ . أقدم كتاب توجد فيه هذه الأرقام . وضع
العرب لعلم الجبر والمقابلة . حظ من سبقهم منه . كيف توضع العلوم . علماء الجبر
وكتبه . الهندسة . استبدال أنصاف أوتار الأقواس بأوتار الأقواس . مساحة
المثلثات . الخطوط المماسة . حساب الأقواس . القانون الخامس لحل مثلثات
الزوايا القائمة . علماء الرياضة المسلمين . العلوم الرياضية عند المسلمين اليوم .
أكثر المواضيع التي نكتب فيها واسعة الميدان . كثيرة الفروع والأفنان . فإذا
أخذنا في موضوع منها يعارضنا في الاسترسال بتحقيقه . ومتابعة السير في طريقه
التفادي من ملل القراء الكرام . وسنوح المناسبة لمقال آخر يقتضيه المقام . ومن
المواضيع التي تركنا الكتابة فيها قبل أن نبلغ منها ما نريد كرامات الأولياء ومدنية
العرب , وقد طال العهد على الأولى وما هو من الآخرة ببعيد . فنعود إلى القريبة
العهد ثم نكر على البعيدة من بعد . وقد كان آخر ما كتبناه عن العرب تقدمهم في
العلوم الفلكية . ونعقبه الآن ببيان شأنهم في الفنون الرياضية . لما بين الرياضة
والفلك من الولاء والحب بل من الإخاء والقرب .
العلوم الرياضية
علم الحساب أو العدد
هذا العلم قديم في البشر لا يعلم واضعه لأنه من الضروريات التي تهدي
الإنسان إليها فطرته , ولا بد أنه كان معروفًا للكلدانيين الذين هم من أقدم الأمم فيما
يعرف من التاريخ لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك وهو يتوقف على الحساب ,
ولكن لا يعرف للأمم القديمة فيه آثار ومصنفات ترجع إليها الأمم المتمدنة الآن وتعد
تلك الأمم هي المفيدة لها هذا العلم الذي هو سلك عقد الاجتماع البشري ولا يعرف
الإفرنج إمامًا لهم فيه إلا العرب حتى إنهم يسمون الأرقام المستعملة عندهم الآن
الأرقام العربية ويعترفون بأنهم أخذوها عن العرب وهذه الأرقام هي التي تقدم بها
علم الحساب وكانوا قبلها يشيرون إلى الأعداد بحروف المعجم , وهذه الأرقام
الإفرنجية قريبة الصورة من الأرقام العربية واستعمالها أسهل من استعمال الأرقام
الرومانية , بل استعمال الحروف أسهل من هذه , وأهل المغرب الأقصى الإسلامي
يستعملون الآن الأرقام التي يستعملها الإفرنج , ولعل أهل الأندلس كانوا يستعملونها
أيضًا , وعنهم أخذ الإفرنج , ومن الغريب أن العرب من عهد بعيد إلى اليوم يسمون
الأرقام العربية بالأرقام الهندية , والمعروف عند مؤرخي الإفرنج أن الهنود أخذوها
عن أوربا من زمن ليس ببعيد وأن أهل أوربا أخذوها عن العرب كما قلنا آنفًا .
وأقدم مصنف في الحساب استعملت فيه هذه الأرقام هو كتاب الرئيس ابن سينا
الفيلسوف الإسلامي الشهير ويوجد في المكتبة الخديوية بمصر .

الجبر والمقابلة
هذا الاسم عربي ظاهر وهو يدل على أن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
واخترعوه , وبذلك قال بعض المؤرخين والإفرنج يعترفون بأنهم أخذوه عن العرب
باسمه ومسماه . ومن المؤرخين من فند القول بأن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
وقالوا : إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف فيه ,
وكتبه لم تزل موجودة إلى الآن والحق أن هذه الكتب وهى ستة ليس فيها إلا
قواعد استخراج القوات وطريقة حل المسائل , وليس فيها أصول الفن وقواعده
الأساسية التي امتاز بها وصار فنًّا مستقلاًّ . وإنما فعل ذلك العرب وأكثر العلوم
والفنون ما اهتدى واضعوها إلى جعلها علومًا ممتازة وأصَّلوا أصولها واستخرجوا
منها الفروع إلا بعد ما اهتدى قبلهم الناس إلى بعض مسائلها . وينقل عن سيدنا علي
عدة مسائل حلها بالجبر , واعتبر ذلك بفنون البلاغة التي قالوا : إن مؤسسها
وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني تجد أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في
بعض مسائلها , ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علمًا كما جعلها . قال الحكيم
العربي ابن خلدون : إن أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده
أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه , وكتابه في مسائله الست من
أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا . وأما موافقة
كتاب محمد بن موسى في الجبر لطريقة أهل الهند فلا يدل على أن العرب أخذوا
الجبر عن الهنود , وأول من ألف فيه من أهل أوربا لوكاس باتشيولوس دي بورغو
الإيطالي ( طبع كتابه سنة 1494م ثم سنة 1523 ) وذكر في مصنفه أن ليونرد
وبوناتشيو التاجر تعلم الجبر في أوائل القرن الثالث عشر من العرب في سواحل
أفريقية والشرق , والعرب هم الذين طبقوا الجبر على الهندسة , ويوجد في كتب
الجبر العربية التي لا مجال للقول بأن أصحابها أخذوا عن الإفرنج استعمال
الحروف في الجبر بدلاً من الأرقام وهو يدل على أن العرب هم الذين سبقوا إلى
هذا الاختراع خلافًا للذين يقولون : إنه من استعمال الإفرنج .

الهندسة والمساحة وفروعها
ذكرنا في النبذة الثالثة أن العرب ترجموا على عهد المأمون هندسة إقليدس
وتيودوس وأبولونيوس وإسيقليس ومينيلوس وشرحوا أيضًا مؤلفات أرشميدس في
الكرة والأسطوانة وغيرها , وذكر المحقق ابن خلدون وغيره أن كتاب إقليدس ترجم
في زمن أبي جعفر المنصور ثم اجتهد العرب في الفن اجتهادًا لم يدع لمن بعدهم إلا
تقليدهم , وأنت ترى أن أهل الغرب ما زادوا على العرب في نظريات الهندسة شيئًا ,
وإنما زادوا في الانتفاع بالهندسة عملاً لكثرة اختراعاتهم الطبيعية .
ومن علماء الرياضة في العرب البتاني الذي تقدم أن الإفرنج يسمونه
بطليموس العرب وهو الذي اخترع استبدال أنصاف الأوتار للأقواس المضاعفة
( وهى جيوب الأقواس المصورة ) بأوتار الأقواس التي كان يستعملها اليونانيون في
حساب المثلث وقال : إن بطليموس لم يكن يستعمل الأوتار الكاملة إلا لتسهيل
الإثبات والتوضيح . ووصل إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحة المثلثات الكروية
واستعملها في مواضع كثيرة . واخترع أيضًا عبارة جيب وتمام جيب - ولم يكن
يستعملها اليونان - ، والخطوط المماسة للأقواس وأدخلها في حساب الأرباع
الشمسية وسماها الظل الممدود وهو المعروف في كتب المتأخرين بالخط المماس
المستعمل في حساب المثلثات . ثم اهتدى العرب في زمن ابن يونس وزمن أبي
الوفاء ( وتقدم تاريخهما في علم الفلك ) إلى استعمال الخطوط المماسة في مساحة
المثلثات , واخترع ابن يونس حساب الأقواس التي سهلت قوانين التقويم وأغنت
عن كثرة استخراج الجذور المربعة . وشرح أبو الوفاء مسائل الجيوب واهتدى من
ذلك إلى معرفة خطوط أُخَر تتعلق بمساحة المثلثات واستعملها في كتابه لحل
نظريات في علم الفلك المطبق على الكرة .
ومن علماء الرياضة جابر الفلكي المتوفى سنة 442 ) الذي وضع القانون
الخامس من القوانين الستة المستعملة في حل المثلثات ذوات الزاوية القائمة ولم يكن
عند اليونان إلا أربعة قوانين . والذين ألفوا في الهندسة وفروعها كثيرون منهم ثابت
بن قرة ويوسف بن الحجاج والرئيس ابن سينا فقد أفرد لها جزءًا من الشفاء ,
وابن الصلت , وابنا شاكر , وابن الهيثم وأبو الحسن علي المهندس الفلكي وغيرهم
وقد عاد المسلمون إلى هذه العلوم بإلزام الحكومة تعليمها في مدارسها لحاجتها
إليها في أعمال كثيرة مدنية وحربية لا تقوم إلا بها , وأما أهل الأزهر الشريف فلا
يزال معظمهم يعاديها باسم الدين ولا بد أن يستدير بهم الزمان حتى يعودوا إلى ما
كان عليه أسلافهم الكرام , أو يلقيهم في زوايا الإهمال ، أو الإعدام ويقضي الله أمرًا
كان مفعولاً . ونسأل الله توفيق علماء هذه الأمة ، وعامتها إلى ما فيه خيرها
ورشدها إنه سميع الدعاء .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(3/529)
 
عودة
أعلى