مدرسة رمضان

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام ، تتبعها الأسابيع والشهور والأعوام ؛ هكذا قدَّر الله تعالى أمر الدنيا ، فجعلها سريعةَ الزوال ، لا تدوم على حال ، ولا يدوم فيه امرؤ وإن احتال ؛ وهذه سُنة الله في خلقه ، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى و{ لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] .
ولما كان أولو الألباب هم الذين يدركون تلك الحقائق ؛ كان حريًّا بهم أن يأخذوا من تعاقب الأزمان أعظم معتبر ، وأن يستلهموا من ذهاب الليالي والأيام أكبرَ مزدجر ، يقول الله عز وجل : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] .
وهكذا يأتي على الناس شهر رمضان في كل عام ثم يذهب ليعود مرة أخرى على من كتبت له حياة ، فيأخذ منه المسلم ما يكون له زادًا إلى أخراه ؛ من تهذيبٍ لنفسه ، وتقويةٍ لإرادته ، وتطهيرٍ لقلبه ، ومغفرةٍ لذنبه ، ووعيٍ وإدراك لقضايا أمته .
إنها مدرسة الصيام التي يتعلم فيها المسلم من رمضان ، فيترجم هذا التعليم في واقعه ، فيكون بذلك المسلم الرباني الذي يرجو بعمله وجه الله تعالى ، ويحتسب الأجر عند ربه عز وجل ... وللحديث صلة .
 
لو قال قائل : إن للصيام أثرًا عظيمًا في تربية النفوس على الإخلاص والصبر ، وقوة الإرادة ، والخوف والرجاء ، والبر والصلة ، والذكر والدعاء ، والمراقبة والحياء ، والتوبة والاستغفار ، وتهذيب الغرائز وتربية النفس ، والدعوة والجهاد ، والجود والإحساس بالفقراء ، وغير ذلك من الفضائل والمكارم ؛ لما كان مبالغًا .
نِعِمَّ مدرسة الصيام ، إنها حقًّا مدرسة الأخلاق ، ومجمع المكارم ، وملتقى الفضائل ؛ يتعلم فيها الصائم القناعة والزهد والتعفف والرضا ، فتقوى لديه الجوانب الروحية على المادية ، فيستعلي على الملذات والشهوات والإشباع المادي والجسدي ؛ ويحقق بذلك طهارة باطنه وصفاء سريرته .
فالصائم يربي نفسه على ( الإخلاص ) وهو يستجيب لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ؛ فلا يصوم رياءً ولا سمعة ولا مجرد تقليد للصائمين ؛ بل يصوم مخلصًا لله راجيًا لثوابه ؛ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ عز وجل : إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي " ؛ فأي درس في الإخلاص أعظم من هذا ؟
إن الصيام عبادة خفية ، هي سر بين العبد وربه ؛ ولهذا قال بعض العلماء : إن الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله ، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه ، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها .ا.هـ . أي أن الصائم لا يدري أحد أنه صائم إلا إذا تحدث بذلك ؛ وهذا إما أن يكون على سبيل بيان الحال لسبب ما ، وهذا لا يؤثر ؛ وإما على سبيل التسميع ليعرف الناس أنه صائم ؛ فهذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ " .
 
مدرسة الصيام ( 3 )
في الصوم درس عملي للصبر على خلاف ما تشتهي النفس ؛ وهو صبر اختياري أجره عظيم ؛ فالمؤمن يصوم رمضان إذعانًا لأمر ربه ، طواعية من نفسه ، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس لله تعالى .
وفي إمساكه عن أعظم شهواته ترويض للنفس وتهذيب للغرائز ، وتقوية للإرادة على الإمساك عن ما حرم الله تعالى ؛ فعند الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا : " ليس الصيام من الطعام والشراب ، إنما الصيام من اللغو والرفث " .
وفي ذلك - أيضًا - طرد للجشع والطمع .
ومن يُطعم النفسَ ما تشتهي ... كمن يُطعم النار جزل الحطب​
وفي الصيام تدريب الصائم على تحمل الأذى والحلم والصفح لمن أساء إليه مكتفيًّا بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله : " فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " ؛ إن الصائم تهدأ نفسه ويسيطر على مشاعره ، ويستعلي عن الرد على جهل الآخرين عليه ، ولا يُستفز فينتقم لنفسه ، بل يعفو ويصفح ويتجاوز ويغفر ؛ وهذا مقود الحلم وزمامه ، وإنما يسود من يسود بقدر حلمه وعلمه .
وما قَتَلَ السفاهةَ مثلُ حِلْمٍ ... يعودُ بهِ على الجهلِ الحليمُ
فلا تسفهْ وإنْ مُلِّئْتَ غَيظًاً ... على أحدٍ فإنَّ الفحشَ لومُ​
وكم هو فضل الله تعالى على من يملكون زمام أنفسهم بالحلم والصفح ، وإن قدروا على المجازاة والانتقام ... وللحديث صلة .
 
ومن أثار الصيام في نفس المؤمن تقوية الرجاء والخوف ، وهما عبادتان قلبيتان مهمتان في حياة المؤمن ؛ فمن علم ما في الصيام من الأجر ؛ وأن في الجنة بابًا للصائمين ؛ رجا هذا الثواب وهذا الفضل ، وخاف أن يفوته ؛ وسعى للحصول عليه ، وتعلق رجاؤه بالله تعالى أن يقبل صيامه وأن يثيبه عليه ، وخاف أن يقع فيما يفسد عليه ذلك ، فيرد عليه صيامه ، ولا ينال من فضل الله تعالى الذي أعده للصائمين شيئًا .
فلا شك أن الصوم من بواعث الخوف ، ومحفزات الرجاء ؛ فيا له من درس عظيم يغفل عنه الغافلون ، ويسعى إليه المؤمنون الصادقون .
وكم للصيام من أثر بالغ في خُلق ( المراقبة ) ، فهو يزكيه ويُرْبِيهِ ؛ ذلك لأن الصائم يمسك عن المفطرات كلها - الحسي منها والمعنوي - طيلة النهار ؛ فتراه حافظًا لذلك رقيبًا على نفسه ، متمثلا هيبة مولاه ، موقنًا بعلمه تعالى بكل حركاته وسكناته ، وأنه تعالى يراه حيث كان ؛ فلا يخطر بباله أن يخرم صيامه ولو توارى عن الأعين ، وتلك منزلة الإحسان العظمى ، وثمرة المراقبة في شهر الصيام .
 
وفي الصيام تنمية لخلق الحياء ، لمن أراد أن يؤدب نفسه ويجاهدها ، وهو أثر لمراقبة العبد ربه ، ومتابعة قلبه ، ويتولد الحياء من الله - جل ذكره - أصلا من النظر في نعم الله تعالى ، والتقصير في أداء شكر هذه النعم ؛ ثم ينمو ويربو بجهاد النفس ومراقبة القلب .
والحياء خلق يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ؛ وتعاليم الصيام تدعو إلى ذلك وتزكيه ؛ فالصائم بحفظه لصيامه يراقب الله ويستحيي منه ، إذ كيف يقدم على منكر من القول أو الفعل وهو صائم ؟ كما يستحيي أن يؤذي مسلمًا بقول أو فعل وهو صائم ، وهكذا يغلب الحياء كلما همت نفسه الأمارة بالسوء أن يقدم على قول أو فعل لا يتناسب مع شهر الصيام ؛ فيجمع بذلك أنواع الحياء الثلاثة ؛ الحياء من الله تعالى ، والحياء من النفس ، والحياء من الناس .
وهذا درس تربوي عظيم للنفس إذ تكتسب ما يضاف إلى حيائها فيزيده ؛ وزيادة الحياء زيادة في إيمان العبد ، إذ الحياء من الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن حكم الشعر :
إذَا قَلَّ ماءُ الوجهِ قَلَّ حياؤه ... ولا خَيرَ في وجهٍ إذا قَلَّ ماؤهُ
حياءَك فاحْفَظُهُ عليك فإنَّما ... يَدُلُ على فِعْلِ الكريمِ حياؤهُ
وقال آخر :
ورُبَّ قبيحةٍ ما حـالَ بيني ... وبينَ ركـوبِهَا إلا الحياءُ
إذا رُزِقَ الفتى وَجْهًا وَقَاحًا ... تَقَلَبَ في الأمورِ كما يشاءُ
 
في مدرسة رمضان درس عظيم في الجود والكرم ، إنه درس عملي ، وإشارة روحية ، فالصائم عندما يشعر بالجوع والظمأ في يوم صومه ، ويدوم ذلك معه شهرًا كاملا ، فإن ذلك يذكره بأن هناك من إخوانه المسلمين من يمكن أن يجوع أكثر العام ؛ فإن كان هو يجوع طواعية ليجد بعد ذلك طعامًا يشبعه وشرابًا يرويه ؛ فمن المسلمين من يجوع جبرًا ولا يجد ما يسد رمقه ويقيم أوده ، فتتحرك عاطفة الرحمة لتترجم جودًا وكرمًا ، وعطاء وبذلا ، رحمة بهؤلاء وطلبا لرحمة الله ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ؛ وقد كان الرسول e أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان .
 
أما الجهاد بأنواعه ففي مدرسة رمضان متسع له ؛ كيف لا ، ورمضان معترك جهاد النفس ، ومغالبة الشهوات ، والانتصار على دواعي الرذيلة ومنكرات الأقوال والأفعال ؛ وهو الذي يعد به المسلم لأنواع الجهاد الأخرى .
قد كانت أول معركة فاصلة بين الحق والباطل ( بدر ) في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وهي ذات السنة التي فرض فيها الصيام ؛ وقد كان الفتح الأعظم ( فتح مكة ) في رمضان من السنة الثامنة للهجرة ؛ وما زال التاريخ يحدثنا عن جهاد للمسلمين في رمضان .
وجهاد المسلم في رمضان لا يقف عند حد المعارك الحربية ، بل يتعداها إلى جهاد النفس ؛ فمع جهاد نفسه لكفها عن الحلال الذي حَرُم بالصيام ، يجاهدها - أيضًا - لحفظ لسانه عن الكذب والغيبة وقول الزور ولغو الكلام ، ويحفظ سمعه وبصره عن السماع والنظر الحرام ، أيًّا كان شكله ومهما كانت دواعيه ، كما يحفظ رجله عن المشي للحرام ، ويده من تناول الحرام ؛ ويحفظ باطنه عن التفكير في الحرام ؛ وبهذا يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى .
وهكذا ينتصر الصائم في معركة الشهوات والشبهات ، ويجاهد نفسه وشيطانه فتكتمل له أسهم من مراتب الجهاد .
فما أجمل أن يجاهد المرء نفسه لنجاة نفسه ؛ قال تعالى : ] وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ [ العنكبوت : 6 ] ؛ وقال Y : ] وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [ [ فاطر : 18 ] ؛ وهؤلاء المجاهدين أنفسهم هم من المحسنين ، والله U - من فضله - يوفق هؤلاء ويهديهم ويُسددهم : ] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ [ العنكبوت : 69 ] .
هذا غيض من فيض مدرسة الصيام ؛ فهل يكون لهذه الدروس العظيمة أثر دائم في نفوس الصائمين ؟
 
عودة
أعلى