محمد محمود إبراهيم عطية
Member
مدرسة الصيام
لو قال قائل : إن للصيام أثرًا عظيمًا في تربية النفوس على الإخلاص والصبر ، وقوة الإرادة ، والخوف والرجاء ، والبر والصلة ، والذكر والدعاء ، والمراقبة والحياء ، والتوبة والاستغفار ، وتهذيب الغرائز وتربية النفس ، والدعوة والجهاد ، والجود والإحساس بالفقراء ، وغير ذلك من الفضائل والمكارم ؛ لما كان مبالغًا .
نِعِمَّ مدرسة الصيام ، إنها حقًّا مدرسة الأخلاق ، ومجمع المكارم ، وملتقى الفضائل ؛ يتعلم فيها الصائم القناعة والزهد والتعفف والرضا ، فتقوى لديه الجوانب الروحية على المادية ، فيستعلي على الملذات والشهوات والإشباع المادي والجسدي ؛ ويحقق بذلك طهارة باطنه وصفاء سريرته .
فالصائم يربي نفسه على ( الإخلاص ) وهو يستجيب لدعوة رسول الله e : " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ؛ فلا يصوم رياءً ولا سمعة ولا مجرد تقليد للصائمين ؛ بل يصوم مخلصًا لله راجيًا لثوابه ؛ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ U : إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي " ؛ فأي درس في الإخلاص أعظم من هذا ؟
إن الصيام عبادة خفية ، هي سر بين العبد وربه ؛ ولهذا قال بعض العلماء : إن الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله ، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه ، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها .ا.هـ . أي أن الصائم لا يدري أحد أنه صائم إلا إذا تحدث بذلك ؛ وهذا إما أن يكون على سبيل بيان الحال لسبب ما ، وهذا لا يؤثر ؛ وإما على سبيل التسميع ليعرف الناس أنه صائم ؛ فهذا الذي قال فيه النبي e : " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ " رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وفي الصوم درس عملي للصبر على خلاف ما تشتهي النفس؛وهوصبراختياري أجره عظيم ؛ فالمؤمن يصوم رمضان إذعانًا لأمر ربه ، طواعية من نفسه ، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس لله تعالى .
وفي إمساكه عن أعظم شهواته ترويض للنفس وتهذيب للغرائز ، وتقوية للإرادة على الإمساك عن ما حرم الله تعالى؛ فعند الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: " ليس الصيام من الطعام والشراب ، إنما الصيام من اللغو والرفث " ؛ وفي ذلك - أيضًا - طرد للجشع والطمع .
ومن يُطعم النفسَ ما تشتهي ... كمن يُطعم النار جزل الحطب
وفي الصيام تدريب الصائم على تحمل الأذى والحلم والصفح لمن أساء إليه مكتفيًّا بما علمه النبي e أن يقوله : " فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " ؛ إن الصائم تهدأ نفسه ويسيطر على مشاعره ، ويستعلي عن الرد على جهل الآخرين عليه ، ولا يُستفز فينتقم لنفسه ، بل يعفو ويصفح ويتجاوز ويغفر ؛ وهذا مقود الحلم وزمامه ، وإنما يسود من يسود بقدر حلمه وعلمه .
وما قَتَلَ السفاهةَ مثلُ حِلْمٍ ... يعودُ بهِ على الجهلِ الحليمُ
فلا تسفهْ وإنْ مُلِّئْتَ غَيظًا ... على أحدٍ فإنَّ الفحشَ لومُ
فلا تسفهْ وإنْ مُلِّئْتَ غَيظًا ... على أحدٍ فإنَّ الفحشَ لومُ
وكم هو فضل الله تعالى على من يملكون زمام أنفسهم بالحلم والصفح ، وإن قدروا على المجازاة والانتقام .
ومن أثار الصيام في نفس المؤمن تقوية الرجاء والخوف ، وهما عبادتان قلبيتان مهمتان في حياة المؤمن ؛ فمن علم ما في الصيام من الأجر ؛ وأن في الجنة بابًا للصائمين ؛ رجا هذا الثواب وهذا الفضل ، وخاف أن يفوته ؛ وسعى للحصول عليه ، وتعلق رجاؤه بالله تعالى أن يقبل صيامه وأن يثيبه عليه ، وخاف أن يقع فيما يفسد عليه ذلك ، فيرد عليه صيامه ، ولا ينال من فضل الله تعالى الذي أعده للصائمين شيئًا .
فلا شك أن الصوم من بواعث الخوف ، ومحفزات الرجاء ؛ فيا له من درس عظيم يغفل عنه الغافلون ، ويسعى إليه المؤمنون الصادقون .
وكم للصيام من أثر بالغ في خُلق ( المراقبة ) ، فهو يزكيه ويُرْبِيهِ ؛ ذلك لأن الصائم يمسك عن المفطرات كلها - الحسي منها والمعنوي - طيلة النهار ؛ فتراه حافظًا لذلك رقيبًا على نفسه ، متمثلا هيبة مولاه ، موقنًا بعلمه تعالى بكل حركاته وسكناته ، وأنه تعالى يراه حيث كان ؛ فلا يخطر بباله أن يخرم صيامه ولو توارى عن الأعين ، وتلك منزلة الإحسان العظمى ، وثمرة المراقبة في شهر الصيام .
وفي الصيام تنمية لخلق الحياء ، لمن أراد أن يؤدب نفسه ويجاهدها ، وهو أثر لمراقبة العبد ربه ، ومتابعة قلبه ، ويتولد الحياء من الله Y أصلا من النظر في نعم الله تعالى ، والتقصير في أداء شكر هذه النعم ؛ ثم ينمو ويربو بجهاد النفس ومراقبة القلب .
والحياءخلق يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ؛ وتعاليم الصيام تدعو إلى ذلك وتزكيه ؛ فالصائم بحفظه لصيامه يراقب الله ويستحيي منه ، إذ كيف يقدم على منكر من القول أو الفعل وهو صائم ؟ كما يستحيي أن يؤذي مسلمًا بقول أو فعل وهو صائم ، وهكذا يغلب الحياء كلما همت نفسه الأمارة بالسوء أن يقدم على قول أو فعل لا يتناسب مع شهر الصيام ؛ فيجمع بذلك أنواع الحياء الثلاثة ؛ الحياء من الله تعالى ، والحياء من النفس ، والحياء من الناس .
وهذا درس تربوي عظيم للنفس إذ تكتسب ما يضاف إلى حيائها فيزيده ؛ وزيادة الحياء زيادة في إيمان العبد ، إذ الحياء من الإيمان كما أخبر النبي e .
ومن حكم الشعر :
إذَا قَلَّ ماءُ الوجهِ قَلَّ حياؤه ... ولا خَيرَ في وجهٍ إذا قَلَّ ماؤهُ
حياءَك فاحْفَظُهُ عليك فإنَّما ... يَدُلُ على فِعْلِ الكريمِ حياؤهُ
حياءَك فاحْفَظُهُ عليك فإنَّما ... يَدُلُ على فِعْلِ الكريمِ حياؤهُ
وقال آخر :
ورُبَّ قبيحةٍ ما حـالَ بيني ... وبينَ ركـوبِهَا إلا الحياءُ
إذا رُزِقَ الفتى وَجْهًا وَقَاحًا ... تَقَلَبَ في الأمورِ كما يشاءُ
إذا رُزِقَ الفتى وَجْهًا وَقَاحًا ... تَقَلَبَ في الأمورِ كما يشاءُ
وفي مدرسة رمضان درس عظيم في الجود والكرم ، إنه درس عملي ، وإشارة روحية ، فالصائم عندما يشعر بالجوع والظمأ في يوم صومه ، ويدوم ذلك معه شهرًا كاملا ، فإن ذلك يذكره بأن هناك من إخوانه المسلمين من يمكن أن يجوع أكثر العام ؛ فإن كان هو يجوع طواعية ليجد بعد ذلك طعامًا يشبعه وشرابًا يرويه ؛ فمن المسلمين من يجوع جبرًا ولا يجد ما يسد رمقه ويقيم أوده ، فتتحرك عاطفة الرحمة لتترجم جودًا وكرمًا ، وعطاء وبذلا ، رحمة بهؤلاء وطلبًا لرحمة الله ، ارحموامن في الأرض يرحمكم من في السماء؛ وقد كان الرسول e أجودالناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان .
أما الجهاد بأنواعه ففي مدرسة رمضان متسع له ؛ كيف لا ؟ ورمضان معترك جهاد النفس ، ومغالبة الشهوات ، والانتصار على دواعي الرذيلة ومنكرات الأقوال والأفعال ؛ وهو الذي يعد به المسلم لأنواع الجهاد الأخرى .
قد كانت أول معركة فاصلة بين الحق والباطل ( بدر ) في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وهي ذات السنة التي فرض فيها الصيام ؛ وقد كان الفتح الأعظم ( فتح مكة ) في رمضان من السنة الثامنة للهجرة ؛ وما زال التاريخ يحدثنا عن جهاد للمسلمين في رمضان .
وجهاد المسلم في رمضان لا يقف عند حد المعارك الحربية ، بل يتعداها إلى جهاد النفس ؛ فمع جهاد نفسه لكفها عن الحلال الذي حَرُم بالصيام ، يجاهدها - أيضًا - لحفظ لسانه عن الكذب والغيبة وقول الزور ولغو الكلام ، ويحفظ سمعه وبصره عن السماع والنظر الحرام ، أيًّا كان شكله ومهما كانت دواعيه ، كما يحفظ رجله عن المشي للحرام ، ويده من تناول الحرام ؛ ويحفظ باطنه عن التفكير في الحرام ؛ وبهذا يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى .
وهكذا ينتصر الصائم في معركة الشهوات والشبهات ، ويجاهد نفسه وشيطانه فتكتمل له أسهم من مراتب الجهاد .
فما أجمل أن يجاهد المرء نفسه لنجاة نفسه ؛ قال تعالى : ] وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[[العنكبوت:6]؛وقال Y : ] وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ[ [ فاطر : 18 ] ؛ وهؤلاء المجاهدون أنفسهم هم من المحسنين ، والله U - من فضله - يوفق هؤلاء ويهديهم ويُسددهم : ] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ [ العنكبوت : 69 ] .
هذا غيض من فيض مدرسة الصيام ؛ فهل يكون لهذه الدروس العظيمة أثر دائم في نفوس الصائمين ؟ أسأل الله تعالى ذلك .