(1) موضوع مهم أراه نافعا نقلته من مرجعين، لكنني أنبه على ملحوظتين تتصلان بـ: أ- بعض الأمثلة الواردة التي تأتي حسب علم الكلام. ب- الاقتصار على المتواتر، لكن المتبع عند أهل السنة والجماعة أن خبر الآحاد الصادق يفيد العلم واليقين. (2)
1- "روضة الناظر وجنة المناظر" ابن قدامة
مدارك النفس خمسة:
الأول- الأوليات
وهي العقليات المحضة التي قضى العقل بمجرده بها من غير استعانة بحس وتخيل كعلم الإنسان بوجود نفسه وأن القديم ليس بحادث واستحالة إجتماع الضدين فهذه القضايا تصادف مرتسمة في النفس حتى يظن أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصولها على أمر سوى مجرد العقل.
الثاني- المشاهدات الباطنة
كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وسائر أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فليست حسية ولا هي عقلية؛ إذ تدركها البهيمة والصبي والأوليات لا تكون للبهائم.
الثالث المحسوسات الظاهرة
وهي المدركة بالحواس الخمس وهي البصر والسمع والذوق والشم واللمس فالمدرك بواحد منها يقيني كقولنا الثلج ابيض والقمر مستدير، وهذا واضح لكن يتطرق الغلط إليها بعوارض كتطرق الغلط إلى الآبصار لبعد أو قرب مفرط أو ضعف في العين وخفاء في المرئي، وكذلك ترى الظل ساكنا وهو متحرك وكذلك الشمس والقمروالنجوم والصبي والنبات وهو في النمو لا يتبين ذلك وأسباب الغلط في الأبصار المستقيمة منها الانعكاس كما في المرآة والانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج وغير ذلك.
الرابع- التجريبات
ويعبر باطراد العادات ككون النار محرقة والخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر والحجر هاو وهي يقينية عند من جربها وليست هذه محسوسة فإن الحس شاهد حجرا يهوى بعينه أما إن كان كل حجرها هاويا فقضيته عامة ولم يشاهدها وليس للحس إلا قضية في عين.
الخامس- المتواترات
كالعلم بوجود مكة وبغداد وليس هو بمحسوس إنما للحس أن يسمع أما صدق المخبر فذلك إلى العقل.
2- "المستصفى في علم الأصول" للغزالي
الأول- الأوليات
وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها، مثل علم الإنسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وأن الاثنين أكثر من الواحد، ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد، ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا. والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض مثل أن القديم حادث فيكذب بالعقل به، وأن القديم ليس بحادث فيصدق العقل به فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب.
الثاني- المشاهدات الباطنة
وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وجميع الأحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس، فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل وكذا الصبي والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان.
الثالث- المحسوسات الظاهرة
كقولك: الثلج أبيض والقمر مستدير والشمس مستنيرة، وهذا الفن واضح لكن الغلط يتطرق إلى الأبصار لعوارض مثل بعد مفرط وقرب مفرط أو ضعف في العين وأسباب الغلط في الأبصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط، واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن. فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج فتراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر.
الرابع- التجربيات
وقد يعبر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والخبز مشبع والحجر هاو إلى أسفل والنار صاعدة إلى فوق والخمر مسكر والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم لاختلافهم في التجربة فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الماء مرو وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه وهذه غير المحسوسات؛ لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى الأرض وأما الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة لا قضية في عين وليس للحس إلا قضية في عين وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك إلا شربا وسكرا واحدا معينا فالحكم في الكل إذا هو للعقل ولكن بواسطة الحس أو بتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذ المرة الواحدة لا يحصل العلم بها فمن تألم له موضع فصب عليه مائعا فزال ألمه لم يحصل له العلم بأنه المزيل إذ يحتمل أن زواله بالاتفاق بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص فزال فربما يخطر له أن إزالته بالاتفاق فإذا تكرر مرات كثيرة في أحوال مختلفة انغرس في النفس يقين وعلم بأنه المؤثر كما حصل بأن الاصطلاء بالنار مزيل للبرد والخبز مزيل لألم الجوع وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ولم يشعر بذلك القياس؛ لأنه لم يلتفت إليه ولم يشغله بلفظ وكأن العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر ولو كان بالاتفاق لاختلف وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات وقد نبهنا على غورها في كتاب تهافت الفلاسفة والمقصود تمييز التجربيات عن الحسيات، ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها وهذا كما أن الأعمى والأصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة حتى يقدر الأعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الأرض فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع.
الخامس- متواترات
كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلوات الخمس بل كعلمنا بأن من مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي فإن هذا أمر وراء المحسوس؛ إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة، وأما الحكم بصدقة فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرر السماع ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر.