د. جمال القرش
Member
مدارسة سورة الشورى من كتاب تيسير المنان مخختصر جامع البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، المتفرد بنعوت الجلال والإكرام والخلق والأمر فلا يشرك في حكمه أحدا.... والصلاة والسلام على رسولنا الكريم وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد
فقد امتن الله عز وجل
على أمة الإسلام بأفضل رسله وخير كتبه، فجعله خاتما لها، ومصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا، وجمع بين ثناياه العطرة ما اجتمع للأولين والآخرين.
وندب الشارع الحكيم إلى النظر في آياته وأحكامه، والتأمل في وجوه إعجازه وإحكامه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) [ص: 29]، ولذا كانت علوم القرآن العظيم - ومنها علم التفسير- أكرم أصناف العلوم عند الله مكانة، وأوفرها فضلا
وقد تأملت في كتب التفاسير فوجدت كتاب الإمام العالم الجليل العلامة أبي جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير ابن غالب الطبري الموسوم بـ(جامع البيان في تأويل القرآن) من أجلها وأعظمها، وأكثرها فوائد وأقيمها، فهو صاحب التصانيف المشهورة، أبرز الأئمة الذين اعتنوا بالتفسير الإمام الجليل، المجتهد المطلق، إمام عصره، من أهل آمل طبرستان، وُلِدَ بها سنة 224 هـ ، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، وتوفي 310 هـ وطوَّف في الأقاليم، قال عنه ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير.
سُمِعَ بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقي بها إلى أن مات سنة 310 هـ. [طبقات المفسرين للسيوطي، 83]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تفسير محمد بن جرير الطبري أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي اهـ (1)
وقد رغبت في انتقاء و اقتباس نفائس ودرر من هذا التفسير العظيم مع شيء من التصرف اليسير، وقد اسميته بـ [ تيسير المنان المنتقى من تفسير الإمام الطبري].
وكان من أبرز ما قمت به ما يلي:
أن يعفو عنا هو ولي ذلك والقادر عليه .
ولا يسعني إلا الشكر والتقدير لكل من ساهم في إخراج هذه العمل، وأخص بالذكر فضيلة الشيخ الفاضل المحقق/ أشرف على خلف وفقه الله.
أسأل الله - جل وعلا
- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ويرزقنا منه الثواب الأوفى، وأن يعيننا على استكماله على الوجه الذي يرضيه عنا، إنه مولانا القادر على ذلك نعم المولى ونعم النصير، رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذرتي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن سار على سنته إلى يوم الدين.
وكتبه أفقر العباد
جمال بن إبراهيم القرش
سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)- (2)- (3)- ( حم * عسق * كَذَلِكَ ) هكذا ( يُوحِي إلَيْكَ ) يا محمد ( وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ) من أنبيائه ( اللَّهُ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه ( الحَكِيمُ ) في تدبيره خلقه.
(4) ( لَهُ ) ملك ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) من الأشياء كلها( وَهُوَ الْعَلِيُّ ) ذو علوّ وارتفاع عَلَى كل شيء، والأشياء كلها دونه، لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته ( الْعَظِيمُ ) الَّذِي له العظمة والكبرياء والجبرية.
(5)- ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ ) يتشققن ( مِن فَوْقِهِنَّ ) من فوق الأرضين، من عظمة الرحمن وجلاله ( والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته ( وَيَسْتَغْفِرُونَ ) ويسألون ربهم المغفرة ( لِمَن فِي الْأَرْضِ ) لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به ( أَلاَ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ ) لذنوب مؤمني عباده ( الرَّحِيمُ ) بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها
(6)- ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ) يا محمد من مشركي قومك ( مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ) آلهة يتولونها ويعبدونها ( اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) يحصي عليهم أفعالهم، ويحفظ أعمالهم، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم ( وَمَآ أَنتَ ) ولست أنت يا محمد ( عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) عليهم بحفظ أعمالهم، إنما أنت منذر، فبلغهم ما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
(7)- ( وَكَذَلِكَ ) وهكذا ( أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) يا محمد ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) بلسان العرب، لأن الَّذِينَ أرسلتك إليهم قوم عرب، فأوحينا إليك هَذَا القرآن بألسنتهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، لأنا لا نرسل رسولا إلا بلسان قومه، ليبين لهم ( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) وهي مكة ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) من سائر الناس ( وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ) وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) لا شكّ فيه ( فَرِيقٌ ) منهم ( فِي الْجَنَّةِ ) وهم الَّذِينَ آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله ( وَفَرِيقٌ ) منهم ( فِي السَّعِيرِ ) الموقدة من نار الله المسعورة عَلَى أهلها، وهم الَّذِينَ كفروا بالله، وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
(8)- ( وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ولو أراد الله أن يجمع خلقه عَلَى هدى، ويجعلهم عَلَى ملة واحدة لفعل( وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ ) من عباده ( فِي رَحْمَتِهِ ) بتوفيقه إياه للدخول في دينه، الَّذِي ابتعث به نبيه محمدا × ( وَالظَّالِمُونَ ) والكافرون بالله ( مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ ) يتولاهم يوم القيامة ( وَلاَ نَصِيرٍ ) ينصرهم من عقاب الله حين يعاقبهم، فينقذهم من عذابه، ويقتص لهم ممن عاقبهم
(9)- ( أَمِ اتَّخَذُوا ) هؤلاء المشركون بالله ( مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ) من دون الله يتولونهم ( فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) وليّ أوليائه، وإياه فليتخذوا وليا لا الآلهة والأوثان، ولا ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا ( وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى ) من بعد مماتهم، فيحشرهم يوم القيامة ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) والله القادر عَلَى إحياء خلقه من بعد مماتهم وعلى غير ذَلِكَ، إنه ذو قدرة عَلَى كل شيء.
(10)- ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) أيها الناس فتنازعتم بينكم ( فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) فإن الله هو الَّذِي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم ( ذَلِكُمُ الله رَبِّي ) هَذَا الَّذِي هذه الصفات صفاته ربي، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر عَلَى شيء ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) في أموري، وإليه فوضت أسبابي، وبه وثقت ( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي.
(11)- ( فَاطِرُ ) خالق ( السَّمَاوَاتِ ) السبع ( وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم ) زوّجكم ربكم ( مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم ( وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجًا ) من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ذكورا وإناثا، ومن كل جنس من ذَلِكَ ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ليس هو كشيء ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لما تنطق به خلقه من قول ( الْبَصِيرُ ) لأعمالهم، لا يخفى عليه من ذَلِكَ شيء، ولا يعزب عنه علم شيء منه، وهو محيط بجميعه، محصٍ صغيره وكبيره
(12)- ( لَهُ مَقَالِيدُ ) مفاتيح خزائن ( السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وبيده مغاليق الخير والشر ومفاتيحها، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) يوسع رزقه وفضله ( لِمَن يَشَآءُ ) عَلَى من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه ( وَيَقْدِرُ ) ويقتر عَلَى من يشاء منهم فيضيقه ويفقره ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ) بكل ما يفعل من توسيعه عَلَى من يوسع، وتقتيره عَلَى من يقتر، ومن الَّذِي يُصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه ويفسده، وغير ذَلِكَ من الأمور ( عَلِيمٌ ) ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه.
(13)- ( شَرَعَ لَكُم ) ربكم أيها الناس ( مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) أن يعمله ( والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) يا محمد، فأمرناك به ( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) اعملوا به عَلَى ما شرع لكم وفرض ( وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ) ولا تختلفوا في الدين الَّذِي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ) بالله من قومك يا محمد ( مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من إخلاص العبادة لله، وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ ) يصطفي ( مَن يَشَآءُ ) من خلقه، ويختار لنفسه، وولايته من أحبّ ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ ) ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق ( مَن يُنِيبُ ) من أقبل إلى طاعته، وراجع التوبة من معاصيه.
(14)- ( وَمَا تَفَرَّقُوا ) المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا ( إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ ) بأن الَّذِي أمرهم الله به، وبعث به نوحا، هو إقامة الدين الحقّ، وأن لا تتفرّقوا فيه ( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) بغيا من بعضكم عَلَى بعض وحسدا وعداوة عَلَى طلب الدنيا ( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ) ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب، ولكنه أخر ذَلِكَ ( إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) يوم القيامة ( لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ) لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحق الَّذِي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به، بإهلاكه أهل الباطل منهم، وإظهاره أهل الحقّ عليهم ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ ) الَّذِينَ آتاهم الله كتابه التوراة والإنجيل ( مِن بَعْدِهِمْ ) من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ ( لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) من الدين الَّذِي وصَّى اللهُ به نوحًا، وأوحاه إليك يا محمد، وأمركما بإقامته ( مُرِيبٍ )
(15)- ( فَلِذَلِكَ ) فإلى ذَلِكَ الدين الَّذِي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد ( فَادْعُ ) عباد الله ( وَاسْتَقِمْ ) عَلَى العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه ( كَمَآ أُمِرْتَ ) كما أمرك ربك بالاستقامة ( وَلاَ تَتَّبِعْ ) يا محمد ( أَهْوَآءَهُمْ ) أهواء الَّذِينَ شكُّوا في الحقّ الَّذِي شرعه الله لكم من الَّذِينَ أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه ( وَقُلْ ) يا محمد ( آمَنتُ ) صدّقت ( بِمَآ أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ ) كائنا ما كان ذَلِكَ الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذَلِكَ تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض ( وَأُمِرْتُ ) وأمرني ربي ( لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الَّذِي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ( اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) مالكنا ومالككم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ( لَنَآ أَعْمَالُنَا ) لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال ( وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) ولكم ثواب ما اكتسبتم منها ( لاَ حُجَّةَ )لا خصومة ( بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
(16)- ( وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي الله ) يخاصمون في دين الله الَّذِي ابتعث به نبيه محمدا × ( مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ ) من بعد ما استجاب له الناس، فدخلوا فيه من الَّذِينَ أورثوا الكتاب ( حُجَّتُهُمْ ) خصومتهم التي يخاصمون فيه ( دَاحِضَةٌ ) باطلة ذاهبة ( عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) من الله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) وهو عذاب النار.
(17)- ( اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ ) هَذَا ( الكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يعني القرآن( وَالْمِيزَانَ ) وأنزل الميزان وهو العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم فيهم بحكم الله الَّذِي أمر به في كتابه ( وَمَا يُدْرِيكَ ) وأيّ شيء يدريك ويعلمك ( لَعَلَّ السَّاعَةَ ) التي تقوم فيها القيامة ( قَرِيبٌ )
(18)- ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا ) يستعجلك يا محمد بمجيئها ( الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ) لا يوقنون بمجيئها، ظنا منهم أنها غير جائية( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) وَالَّذِينَ صدّقوا بمجيئها، ووعد الله إياهم الحشر فيها( مُشْفِقُونَ مِنْهَا ) وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها( وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين، لا يمترون في مجيئها ( أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ ) يخاصمون ( فَي السَّاعَةِ ) في قيام الساعة ( لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ) لفي جَور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد، بعيد من الصواب.
(19)- ( اللهُ لَطِيفٌ ) ذو لطف ( بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ) فيوسع عليه ويقتر عَلَى من يشاء منهم.( وَهُوَ الْقَوِيُّ ) الَّذِي لا يغلبه ذو أيد لشدته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته ( العَزِيزُ ) في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه. (20) ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ ) من كان يريد بعمله الآخرة ( نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) نزد له في عمله الحسن، فنجعل له بالواحدة عشرا، إلى ما شاء ربنا من الزيادة ( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا ) ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة ( نُؤْتِهِ مِنْهَا ) ما قسمنا له منها ( وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) للكافر عذاب أليم. (21)- ( أَمْ لَهُمْ ) أم لهؤلاء المشركين بالله ( شُرَكَاءُ ) في شركهم وضلالتهم ( شَرَعُواْ لَهُمْ ) ابتدعوا لهم ( مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ ) ما لم يبح الله لهم ابتداعه ( وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل ) ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) عذاب مؤلم مُوجع يوم القيامة.
(22)- ( تَرَى ) يا محمد ( الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله يوم القيامة ( مُشْفِقِينَ ) وَجِلين خائفين من عقاب الله ( مِمَّا كَسَبُواْ ) عَلَى ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة ( وَهُوَ ) عذاب الله ( وَاقِعٌ بِهِمْ ) نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا ( فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ) البساتين في الآخرة ( لَهُمْ ) للذين آمنوا وعملوا الصالحات ( مَّا يَشَآءُونَ ) ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم ( عِندَ رَبِّهِمْ ) في الآخرة ( ذَلِكَ ) هَذَا الَّذِي أعطاهم الله من هَذَا النعيم، وهذه الكرامة في الآخرة ( هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) الَّذِي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها عَلَى بعض.
(23)- ( ذَلِكَ ) هَذَا الَّذِي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة ( الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ ) البشرى التي يبشر الله عباده ( الَّذِينَ آمَنُواْ ) به في الدنيا ( وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وعملوا بطاعته فيها ( قُل ) يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ ) أيها القوم ( عَلَيْهِ ) عَلَى دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الَّذِي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ( أَجْرًا ) ثوابا وجزاء، وعوضا من أموالكم تعطونني [إياه] ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) ومن يعمل حسنة، وذلك أن يعمل عملا يطيع الله فيه من المؤمنين ( نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) نضاعف عمله ذَلِكَ الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب ( إِنَّ اللهُ غَفُورٌ ) غفور لذنوب عباده ( شَكُورٌ ) شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
(24)- ( أَمْ يَقُولُونَ ) هؤلاء المشركون بالله ( افْتَرَى ) محمد ( عَلَى اللهِ كَذِبًا ) فجاء بهذا الَّذِي يتلوه علينا اختلاقا من قبل نفسه ( فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ ) يطبع ( عَلَى قَلْبِكَ ) فتنس هَذَا القرآن الَّذِي أُنزل إليك ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ) ويذهب الله بالباطل فيمحقه ( وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ ) التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) إن الله ذو علم بما في صدور خلقه، وما تنطوي عليه ضمائرهم، لا يخفى عليه من أمورهم شيء
(25)- ( وَهُوَ ) والله ( الَّذِي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ) قبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) ويعفو له أن يعاقبه عَلَى سيئاته من الأعمال، وهي معاصيه التي تاب منها ( وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) من خير وشر، لا يخفى عليه من ذَلِكَ شيء، وهو مجازيكم عَلَى كل ذَلِكَ جزاءه، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروا أن تركبوا ما تستحقون به منه العقوبة.
(26)- ( وَيَسْتَجِيبُ ) ويجيب ( الَّذِينَ آمَنُواْ ) بالله ورسوله ( وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه لبعضهم دعاءَ بعض ( وَيَزِيدُهُم ) ويزيد الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ مع إجابته إياهم دعاءهم، وإعطائه إياهم مسألتهم ( مِّن فَضْلِهِ ) بأن يعطيهم ما لم يسألوه ( والكافرون ) بالله ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) يوم القيامة عذاب شديد عَلَى كفرهم به.
(27)- ( وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ ) فوسعه وكثره عندهم ( لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ ) فتجاوزوا الحدَّ الَّذِي حدَّه الله لهم إلى غير الَّذِي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم ( ولكن يُنَزِّلُ ) رزقهم ( بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ) بقدر لكفايتهم الَّذِي يشاء منه ( إِنَّهُ ) إن الله ( بِعِبَادِهِ ) بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار، وغير ذَلِكَ من مصالحهم ومضارهم ( خَبِيرٌ ) ذو خبرة، وعلم ( بَصِيرٌ ) بتدبيرهم، وصرفهم فيما فيه صلاحهم (28)- ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغيث ) والله الَّذِي ينزل المطر من السماء فيغيثكم به أيها الناس ( مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ) من بعد ما يئس من نزوله ومجيئه ( وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) ينزل رحمته يعني المطر ( وَهُوَ الولي ) الَّذِي يليكم بإحسانه وفضله ( الحميد ) بأياديه عندكم، ونعمه عليكم في خلقه.
(29)- ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) ومن حججه عليكم أيها الناس أنه القادر عَلَى إحيائكم بعد فنائكم، وبعثكم من قبوركم من بعد بلائكم ( خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ ) فرّق ( فِيهِمَا ) في السموات والأرض ( مِن دَآبَّةٍ ) الناس والملائكة ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ) عَلَى جمع ما بث فيهما من دابة ( إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ) ذو قدرة لا يتعذر عليه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه
(30)- ( وَمَآ أَصَابَكُمْ ) أيها الناس ( مِّن مُّصِيبَةٍ ) في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم ( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ( وَيَعْفُواْ ) لكم ربكم ( عَن كَثِيرٍ ) من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها.
(31)- ( وَمَآ أَنتُمْ ) أيها الناس ( بِمُعْجِزِينَ ) بمفيتي ربكم بأنفسكم إذا أراد عقوبتكم عَلَى ذنوبكم التي أذنبتموها، ومعصيتكم إياه التي ركبتموها هربا ( فِي الْأَرْضِ ) فمعجزيه، حتى لا يقدر عليكم، ولكنكم حيث كنتم في سلطانه وقبضته، جارية فيكم مشيئته ( وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ ) يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم عَلَى معصيتكم إياه ( وَلا نَصِيرٍ ) ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم منه، فاحذروا أيها الناس معاصيه، واتقوه أن تخالفوه فيما أمركم أو نهاكم، فإنه لا دافع لعقوبته عمن أحلها به.
(32)- ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر عَلَى كل ما يشاء، وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده ( الجوار ) السفن الجارية في البحر ( فِي البحر كالأعلام ) كالجبال
(33)- ( إِن يَشَأْ ) الله الَّذِي قد أجرى هذه السفن في البحر أن لا تجري فيه ( يُسْكِنِ الريح ) التي تجري بها فيه ( فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ ) فثبتن في موضع واحد ووقفن ( عَلَى ظَهْرِهِ ) عَلَى ظهر الماء لا تجري، فلا تتقدّم ولا تتأخر ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) في جري هذه الجواري في البحر بقُدرة الله ( لآيَاتٍ ) لعظة وعبرة وحجة بينة عَلَى قُدرة الله عَلَى ما يشاء ( لِّكُلِّ صَبَّارٍ ) ذي صبر عَلَى طاعة الله ( شَكُورٍ ) لنعمه وأياديه عنده.
(34)- ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ ) يهلكهنّ بالغرق ( بِمَا كَسَبُوا ) بما كسبت ركبانها من الذنوب، واجترموا من الآثام ( وَيَعْفُ ) ويصفح تعالى ( عَن كَثِيرٍ ) من ذنوبكم فلا يعاقب عليها.
(35)- ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ) يخاصمون رسوله محمدا × من المشركين ( في آيَاتِنَا ) في آيات الله وعبره وأدلته عَلَى توحيده ( مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ) من عقاب الله إذا عاقبهم عَلَى ذنوبهم، وكفرهم به، ولا لهم منه ملجأ.
(36)- ( فَمَآ أُوتِيتُمْ ) أعطيتم أيها الناس ( مِّن شَيْءٍ ) من رياش الدنيا من المال والبنين ( فَمَتَاعُ الحياة الدنيا ) فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم في معادكم ( وَمَا عِندَ الله ) لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة ( خَيْرٌ ) مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها ( وأبقى ) لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باق غير نافد ( لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) في أمورهم، وإليه يقومون في أسبابهم، وبه يثقون، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا.
(37)- ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) ١ ( وَإِذَا مَا غَضِبُواْ ) عَلَى من اجترم إليهم جرما ( هُمْ يَغْفِرُونَ ) لمن أجرم إليهم ذنبه، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه.
(38)- ( وَالَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمْ ) أجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده، والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه( وَأَقَامُواْ الصلاة ) المفروضة بحدودها في أوقاتها ( وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )
(39)- ( وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي ) إذا بغى عليهم باغ واعتدى عليهم ( هُمْ يَنتَصِرُونَ ) بحقّ ممن بغى عليهم.
(40)- ( وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه، فهي مساءة له ( فَمَنْ عَفَا ) عمن أساء إليه إساءته إليه، فغفرها له، ولم يعاقبه بها، وهو عَلَى عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله ( وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ) فأجر عفوه ذَلِكَ عَلَى الله، والله مثيبه عليه ثوابه ( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) الَّذِينَ يتعدّون عَلَى الناس، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه.
(41)- ( وَلَمَنِ انتصر ) ممن ظلمه ( بَعْدَ ظُلْمِهِ ) إياه ( فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ) لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة لا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحقّ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذَلِكَ له عليه، ولم يتعد، لم يظلم، فيكون عليه سبيل.
(42)- ( إِنَّمَا السبيل ) إنما الطريق لكم أيها الناس ( عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ الناس ) يتعدّون عَلَى الناس ظلما وعدوانا، بأن يعاقبوهم بظلمهم لا عَلَى من انتصر ممن ظلمه، فأخذ منه حقه ( وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحق ) ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الَّذِي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون فيها ( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) مؤلم موجع يوم القيامة في جهنم.
(43)- ( وَلَمَن صَبَرَ ) عَلَى إساءة إليه ( وَغَفَرَ ) للمسيء إليه جرمه إليه، فلم ينتصر منه، وهو عَلَى الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه ( إِنَّ ذَلِكَ ) إن صبره وغفرانه ذنب المسيء إليه ( لَمِنْ عَزْمِ الأمور ) التي ندب إليها عباده، وعزم عليهم العمل به (44)- ( وَمَن يُضْلِلِ الله ) ومن خذله الله عن الرشاد ( فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ ) يليه، فيهديه لسبيل الصواب ويسدده ( مِّن بَعْدِهِ ) من بعد إضلال الله إياه ( وَتَرَى الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله يا محمد يوم القيامة ( لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ) لما عاينوا عذاب الله ( يَقُولُونَ ) لربهم ( هَلْ ) لنا يا رب ( إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ) ؟.
(45)- ( وَتَرَاهُمْ ) وترى يا محمد الظَّالِمِينَ ( يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) عَلَى النار ( خَاشِعِينَ مِنَ الذل ) خاضعين متذللين ( يَنظُرُونَ ) ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها ( مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ) ذليل، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب ( وَقَالَ الَّذِينَ آمنوا ) بالله ورسوله ( إِنَّ الخاسرين ) المغبونين ( الَّذِينَ خسروا ) الَّذِينَ غبنوا ( أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة ) في الجنة ( أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين يوم القيامة ( فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) عليهم، ثابت لا يزول عنهم، ولا يَبيد، ولا يخفّ.
(46)- ( وَمَا كَانَ لَهُم ) ولم يكن لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة ( مِّنْ أَوْلِيَآءَ ) يمنعونهم من عذاب الله ( يَنصُرُونَهُم ) ولا ينتصرون لهم من ربهم عَلَى ما نالهم به من العذاب ( مِّن دُونِ الله وَمَن يُضْلِلِ الله ) ومن يخذله عن طريق الحق ( فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ) فما له من طريق إلى الوصول إليه، لأن الهداية والإضلال بيده دون كلّ أحد سواه.
(47)- - يقول تعالى للكافرين به: ( استجيبوا لِرَبِّكُمْ ) أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به واتبعوه عَلَى ما جاءكم به من عند ربكم ( مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ) يوم القيامة ( لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ) لا شيء يرد مجيئه إذا جاء الله به ( مَا لَكُمْ ) أيها الناس ( مِّن مَّلْجَأٍ ) من معقل تحترزون فيه، وتلجئون إليه، فتعتصمون به من النازل بكم من عذاب الله عَلَى كفركم به، كان في الدنيا ( يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ) ناصر ينصركم.
(48)- ( فَإِنْ أَعْرَضُواْ ) عما أتيتهم به من الحق ودعوتهم إليه من الرشد، فلم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم ( فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) رقيبا عليهم، تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها ( إِنْ عَلَيْكَ ) ما عليك يا محمد ( إِلاَّ البلاغ ) إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من الرسالة، فإذا بلغتهم ذَلِكَ، فقد قضيت ما عليك ( وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ) إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من عندنا سعة ( فَرِحَ بِهَا ) سر بما أعطيناه من الغنى، ورزقناه من السعة وكثرة المال ( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) فاقة وفقر وضيق عيش ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) بما أسلفت من معصية الله عقوبة له عَلَى معصيته إياه ( فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ ) جحود نعم ربه، يعدد المصائب ويجحد النعم.
(49)- ( لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ) سلطان السموات السبع والأرضين يفعل في سلطانه ما يشاء ( يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ) يخلق ما يحبّ خلقَه( يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ) من خلقه ( إِنَاثًا ) دون الذكور، بأن يجعل كل ما حملت زوجته من حمل منه أنثى ( وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور بأن يجعل كل حمل حملته امرأته ذكرا لا أنثى فيهم.
(50)- ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ) يخلط بينهم ( ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) أن تلد المرأة غلاما، ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما، ثم تلد جارية ( وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ) لا يولد له ( إِنَّهُ عَلِيمٌ ) ذو علم بما يخلق ( قَدِيرٌ ) عَلَى خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
(51)- ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ ) وما ينبغي لبشر من بني آدم ( أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا ) يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهاما ( أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ) أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه × ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ) من ملائكته، إما جبرائيل، وإما غيره ( فَيُوحِيَ ) ذَلِكَ الرسول إلى المرسل إليه ( بِإِذْنِهِ ) بإذن ربه ( مَا يَشَآءُ ) أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذَلِكَ من الرسالة والوحي ( إِنَّهُ عَلِيٌّ ) ذو علو عَلَى كل شيء وارتفاع عليه، واقتدار ( حَكِيمٌ ) ذو حكمة في تدبيره خلقه
(52)- ( وَكَذَلِكَ ) وكما كنا نوحي في سائر رسلنا ( أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) أوحينا إليك يا محمد هَذَا القرآن ( رُوحًا ) وحيا ورحمة ( مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي ) يا محمد ( مَا الكتاب ) أي شيء الكتاب ( وَلاَ الإيمان ) اللذين أعطيناكهما ( ولكن جَعَلْنَاهُ ) جعلنا هَذَا القرآن ( نُورًا ) ضياء للناس، يستضيئون بضوئه الَّذِي بين الله فيه، وهو بيانه الَّذِي بين فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة ( نَّهْدِي بِهِ ) نسدد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله ( مَن نَّشَآءُ ) هدايته إلى الطريق المستقيم ( مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي ) يا محمد عبادنا ( إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) وهو الإسلام، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم ( صِرَاطِ الله ) طريق الله الَّذِي دعا إليه عباده ( الَّذِي لَهُ ) ملك جميع ( مَا فِي السماوات وَمَا فِي الْأَرْضِ ) لا شريك له في ذَلِكَ ( أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور ) تصير أموركم في الآخرة، فيقضي بينكم بالعدل.
برنامج مع القرآن
تفسير سورة الشورى
https://youtu.be/h1QkXSDACJY
للمشاركة في منصة مدارسة سور القرآن الكريم
https://www.facebook.com/permalink.p...&id=1226774898
(1) مقدمة في التفسير : ص : (68) .
١- قال ابن جرير: فالكبائر إذن: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرّم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في )قول الزور )، شهادة الزور، وقذف المحصنة، واليمين الغموسُ، والسحر ، ويدخل في قتل النفس المحرَّم قتلها، قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه، والفرارُ من الزحف، والزنا بحليلة الجار. (تفسير الطبري) ( ج8 /235 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، المتفرد بنعوت الجلال والإكرام والخلق والأمر فلا يشرك في حكمه أحدا.... والصلاة والسلام على رسولنا الكريم وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد
فقد امتن الله عز وجل
وندب الشارع الحكيم إلى النظر في آياته وأحكامه، والتأمل في وجوه إعجازه وإحكامه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) [ص: 29]، ولذا كانت علوم القرآن العظيم - ومنها علم التفسير- أكرم أصناف العلوم عند الله مكانة، وأوفرها فضلا
وقد تأملت في كتب التفاسير فوجدت كتاب الإمام العالم الجليل العلامة أبي جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير ابن غالب الطبري الموسوم بـ(جامع البيان في تأويل القرآن) من أجلها وأعظمها، وأكثرها فوائد وأقيمها، فهو صاحب التصانيف المشهورة، أبرز الأئمة الذين اعتنوا بالتفسير الإمام الجليل، المجتهد المطلق، إمام عصره، من أهل آمل طبرستان، وُلِدَ بها سنة 224 هـ ، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، وتوفي 310 هـ وطوَّف في الأقاليم، قال عنه ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير.
سُمِعَ بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقي بها إلى أن مات سنة 310 هـ. [طبقات المفسرين للسيوطي، 83]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تفسير محمد بن جرير الطبري أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي اهـ (1)
وقد رغبت في انتقاء و اقتباس نفائس ودرر من هذا التفسير العظيم مع شيء من التصرف اليسير، وقد اسميته بـ [ تيسير المنان المنتقى من تفسير الإمام الطبري].
وكان من أبرز ما قمت به ما يلي:
- حذف الروايات المسندة، والشواهد اللغوية، والقراءات وتوجيهها.
- تقسيم الآية إلى مقاطع ليسهل فهمها:
- حذف التكرار ما أمكن:
- قد تفسير بعض الآيات التي فسرها في موضع سابق.
- يوضع الكلام الزائد في الغالب، بين قويسين [] كتوضيح بعض المفردات
- فصل الضمير المتصل عن عامله في بعض أحواله لتيسير فهمه على القارئ
- التقديم والتأخير في بعض الأحوال لتوضيح المعنى.
- حذف الخلافات، واعتماد ما رجحه الطبري في الغالب.
- تقسيم السورة إلى وحدات ومقاطع بحسب الوحدة الموضوعية للآيات
- لم يثبت شيء بشأن الحروف المقطعة أوائل السور ك(الم) و(كهيعص) ، و(يس) و(ن) والقول لدينا أنها إشارة إلى إعجاز القرآن; فقد وقع به تحدي المشركين, فعجزوا عن معارضته, وهو مركَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب
ولا يسعني إلا الشكر والتقدير لكل من ساهم في إخراج هذه العمل، وأخص بالذكر فضيلة الشيخ الفاضل المحقق/ أشرف على خلف وفقه الله.
أسأل الله - جل وعلا
وكتبه أفقر العباد
جمال بن إبراهيم القرش
سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)- (2)- (3)- ( حم * عسق * كَذَلِكَ ) هكذا ( يُوحِي إلَيْكَ ) يا محمد ( وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ) من أنبيائه ( اللَّهُ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه ( الحَكِيمُ ) في تدبيره خلقه.
(4) ( لَهُ ) ملك ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) من الأشياء كلها( وَهُوَ الْعَلِيُّ ) ذو علوّ وارتفاع عَلَى كل شيء، والأشياء كلها دونه، لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته ( الْعَظِيمُ ) الَّذِي له العظمة والكبرياء والجبرية.
(5)- ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ ) يتشققن ( مِن فَوْقِهِنَّ ) من فوق الأرضين، من عظمة الرحمن وجلاله ( والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته ( وَيَسْتَغْفِرُونَ ) ويسألون ربهم المغفرة ( لِمَن فِي الْأَرْضِ ) لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به ( أَلاَ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ ) لذنوب مؤمني عباده ( الرَّحِيمُ ) بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها
(6)- ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ) يا محمد من مشركي قومك ( مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ) آلهة يتولونها ويعبدونها ( اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) يحصي عليهم أفعالهم، ويحفظ أعمالهم، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم ( وَمَآ أَنتَ ) ولست أنت يا محمد ( عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) عليهم بحفظ أعمالهم، إنما أنت منذر، فبلغهم ما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
(7)- ( وَكَذَلِكَ ) وهكذا ( أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) يا محمد ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) بلسان العرب، لأن الَّذِينَ أرسلتك إليهم قوم عرب، فأوحينا إليك هَذَا القرآن بألسنتهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، لأنا لا نرسل رسولا إلا بلسان قومه، ليبين لهم ( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) وهي مكة ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) من سائر الناس ( وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ) وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) لا شكّ فيه ( فَرِيقٌ ) منهم ( فِي الْجَنَّةِ ) وهم الَّذِينَ آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله ( وَفَرِيقٌ ) منهم ( فِي السَّعِيرِ ) الموقدة من نار الله المسعورة عَلَى أهلها، وهم الَّذِينَ كفروا بالله، وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
(8)- ( وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ولو أراد الله أن يجمع خلقه عَلَى هدى، ويجعلهم عَلَى ملة واحدة لفعل( وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ ) من عباده ( فِي رَحْمَتِهِ ) بتوفيقه إياه للدخول في دينه، الَّذِي ابتعث به نبيه محمدا × ( وَالظَّالِمُونَ ) والكافرون بالله ( مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ ) يتولاهم يوم القيامة ( وَلاَ نَصِيرٍ ) ينصرهم من عقاب الله حين يعاقبهم، فينقذهم من عذابه، ويقتص لهم ممن عاقبهم
(9)- ( أَمِ اتَّخَذُوا ) هؤلاء المشركون بالله ( مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ) من دون الله يتولونهم ( فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) وليّ أوليائه، وإياه فليتخذوا وليا لا الآلهة والأوثان، ولا ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا ( وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى ) من بعد مماتهم، فيحشرهم يوم القيامة ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) والله القادر عَلَى إحياء خلقه من بعد مماتهم وعلى غير ذَلِكَ، إنه ذو قدرة عَلَى كل شيء.
(10)- ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) أيها الناس فتنازعتم بينكم ( فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) فإن الله هو الَّذِي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم ( ذَلِكُمُ الله رَبِّي ) هَذَا الَّذِي هذه الصفات صفاته ربي، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر عَلَى شيء ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) في أموري، وإليه فوضت أسبابي، وبه وثقت ( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي.
(11)- ( فَاطِرُ ) خالق ( السَّمَاوَاتِ ) السبع ( وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم ) زوّجكم ربكم ( مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم ( وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجًا ) من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ذكورا وإناثا، ومن كل جنس من ذَلِكَ ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ليس هو كشيء ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لما تنطق به خلقه من قول ( الْبَصِيرُ ) لأعمالهم، لا يخفى عليه من ذَلِكَ شيء، ولا يعزب عنه علم شيء منه، وهو محيط بجميعه، محصٍ صغيره وكبيره
(12)- ( لَهُ مَقَالِيدُ ) مفاتيح خزائن ( السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وبيده مغاليق الخير والشر ومفاتيحها، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) يوسع رزقه وفضله ( لِمَن يَشَآءُ ) عَلَى من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه ( وَيَقْدِرُ ) ويقتر عَلَى من يشاء منهم فيضيقه ويفقره ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ) بكل ما يفعل من توسيعه عَلَى من يوسع، وتقتيره عَلَى من يقتر، ومن الَّذِي يُصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه ويفسده، وغير ذَلِكَ من الأمور ( عَلِيمٌ ) ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه.
(13)- ( شَرَعَ لَكُم ) ربكم أيها الناس ( مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) أن يعمله ( والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) يا محمد، فأمرناك به ( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) اعملوا به عَلَى ما شرع لكم وفرض ( وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ) ولا تختلفوا في الدين الَّذِي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ) بالله من قومك يا محمد ( مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من إخلاص العبادة لله، وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ ) يصطفي ( مَن يَشَآءُ ) من خلقه، ويختار لنفسه، وولايته من أحبّ ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ ) ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق ( مَن يُنِيبُ ) من أقبل إلى طاعته، وراجع التوبة من معاصيه.
(14)- ( وَمَا تَفَرَّقُوا ) المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا ( إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ ) بأن الَّذِي أمرهم الله به، وبعث به نوحا، هو إقامة الدين الحقّ، وأن لا تتفرّقوا فيه ( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) بغيا من بعضكم عَلَى بعض وحسدا وعداوة عَلَى طلب الدنيا ( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ) ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب، ولكنه أخر ذَلِكَ ( إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) يوم القيامة ( لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ) لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحق الَّذِي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به، بإهلاكه أهل الباطل منهم، وإظهاره أهل الحقّ عليهم ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ ) الَّذِينَ آتاهم الله كتابه التوراة والإنجيل ( مِن بَعْدِهِمْ ) من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ ( لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) من الدين الَّذِي وصَّى اللهُ به نوحًا، وأوحاه إليك يا محمد، وأمركما بإقامته ( مُرِيبٍ )
(15)- ( فَلِذَلِكَ ) فإلى ذَلِكَ الدين الَّذِي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد ( فَادْعُ ) عباد الله ( وَاسْتَقِمْ ) عَلَى العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه ( كَمَآ أُمِرْتَ ) كما أمرك ربك بالاستقامة ( وَلاَ تَتَّبِعْ ) يا محمد ( أَهْوَآءَهُمْ ) أهواء الَّذِينَ شكُّوا في الحقّ الَّذِي شرعه الله لكم من الَّذِينَ أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه ( وَقُلْ ) يا محمد ( آمَنتُ ) صدّقت ( بِمَآ أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ ) كائنا ما كان ذَلِكَ الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذَلِكَ تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض ( وَأُمِرْتُ ) وأمرني ربي ( لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الَّذِي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ( اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) مالكنا ومالككم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ( لَنَآ أَعْمَالُنَا ) لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال ( وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) ولكم ثواب ما اكتسبتم منها ( لاَ حُجَّةَ )لا خصومة ( بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
(16)- ( وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي الله ) يخاصمون في دين الله الَّذِي ابتعث به نبيه محمدا × ( مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ ) من بعد ما استجاب له الناس، فدخلوا فيه من الَّذِينَ أورثوا الكتاب ( حُجَّتُهُمْ ) خصومتهم التي يخاصمون فيه ( دَاحِضَةٌ ) باطلة ذاهبة ( عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) من الله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) وهو عذاب النار.
(17)- ( اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ ) هَذَا ( الكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يعني القرآن( وَالْمِيزَانَ ) وأنزل الميزان وهو العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم فيهم بحكم الله الَّذِي أمر به في كتابه ( وَمَا يُدْرِيكَ ) وأيّ شيء يدريك ويعلمك ( لَعَلَّ السَّاعَةَ ) التي تقوم فيها القيامة ( قَرِيبٌ )
(18)- ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا ) يستعجلك يا محمد بمجيئها ( الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ) لا يوقنون بمجيئها، ظنا منهم أنها غير جائية( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) وَالَّذِينَ صدّقوا بمجيئها، ووعد الله إياهم الحشر فيها( مُشْفِقُونَ مِنْهَا ) وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها( وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين، لا يمترون في مجيئها ( أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ ) يخاصمون ( فَي السَّاعَةِ ) في قيام الساعة ( لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ) لفي جَور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد، بعيد من الصواب.
(19)- ( اللهُ لَطِيفٌ ) ذو لطف ( بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ) فيوسع عليه ويقتر عَلَى من يشاء منهم.( وَهُوَ الْقَوِيُّ ) الَّذِي لا يغلبه ذو أيد لشدته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته ( العَزِيزُ ) في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه. (20) ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ ) من كان يريد بعمله الآخرة ( نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) نزد له في عمله الحسن، فنجعل له بالواحدة عشرا، إلى ما شاء ربنا من الزيادة ( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا ) ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة ( نُؤْتِهِ مِنْهَا ) ما قسمنا له منها ( وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) للكافر عذاب أليم. (21)- ( أَمْ لَهُمْ ) أم لهؤلاء المشركين بالله ( شُرَكَاءُ ) في شركهم وضلالتهم ( شَرَعُواْ لَهُمْ ) ابتدعوا لهم ( مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ ) ما لم يبح الله لهم ابتداعه ( وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل ) ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) عذاب مؤلم مُوجع يوم القيامة.
(22)- ( تَرَى ) يا محمد ( الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله يوم القيامة ( مُشْفِقِينَ ) وَجِلين خائفين من عقاب الله ( مِمَّا كَسَبُواْ ) عَلَى ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة ( وَهُوَ ) عذاب الله ( وَاقِعٌ بِهِمْ ) نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا ( فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ) البساتين في الآخرة ( لَهُمْ ) للذين آمنوا وعملوا الصالحات ( مَّا يَشَآءُونَ ) ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم ( عِندَ رَبِّهِمْ ) في الآخرة ( ذَلِكَ ) هَذَا الَّذِي أعطاهم الله من هَذَا النعيم، وهذه الكرامة في الآخرة ( هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) الَّذِي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها عَلَى بعض.
(23)- ( ذَلِكَ ) هَذَا الَّذِي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة ( الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ ) البشرى التي يبشر الله عباده ( الَّذِينَ آمَنُواْ ) به في الدنيا ( وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وعملوا بطاعته فيها ( قُل ) يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ ) أيها القوم ( عَلَيْهِ ) عَلَى دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الَّذِي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ( أَجْرًا ) ثوابا وجزاء، وعوضا من أموالكم تعطونني [إياه] ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) ومن يعمل حسنة، وذلك أن يعمل عملا يطيع الله فيه من المؤمنين ( نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) نضاعف عمله ذَلِكَ الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب ( إِنَّ اللهُ غَفُورٌ ) غفور لذنوب عباده ( شَكُورٌ ) شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
(24)- ( أَمْ يَقُولُونَ ) هؤلاء المشركون بالله ( افْتَرَى ) محمد ( عَلَى اللهِ كَذِبًا ) فجاء بهذا الَّذِي يتلوه علينا اختلاقا من قبل نفسه ( فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ ) يطبع ( عَلَى قَلْبِكَ ) فتنس هَذَا القرآن الَّذِي أُنزل إليك ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ) ويذهب الله بالباطل فيمحقه ( وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ ) التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) إن الله ذو علم بما في صدور خلقه، وما تنطوي عليه ضمائرهم، لا يخفى عليه من أمورهم شيء
(25)- ( وَهُوَ ) والله ( الَّذِي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ) قبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) ويعفو له أن يعاقبه عَلَى سيئاته من الأعمال، وهي معاصيه التي تاب منها ( وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) من خير وشر، لا يخفى عليه من ذَلِكَ شيء، وهو مجازيكم عَلَى كل ذَلِكَ جزاءه، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروا أن تركبوا ما تستحقون به منه العقوبة.
(26)- ( وَيَسْتَجِيبُ ) ويجيب ( الَّذِينَ آمَنُواْ ) بالله ورسوله ( وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه لبعضهم دعاءَ بعض ( وَيَزِيدُهُم ) ويزيد الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ مع إجابته إياهم دعاءهم، وإعطائه إياهم مسألتهم ( مِّن فَضْلِهِ ) بأن يعطيهم ما لم يسألوه ( والكافرون ) بالله ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) يوم القيامة عذاب شديد عَلَى كفرهم به.
(27)- ( وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ ) فوسعه وكثره عندهم ( لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ ) فتجاوزوا الحدَّ الَّذِي حدَّه الله لهم إلى غير الَّذِي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم ( ولكن يُنَزِّلُ ) رزقهم ( بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ) بقدر لكفايتهم الَّذِي يشاء منه ( إِنَّهُ ) إن الله ( بِعِبَادِهِ ) بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار، وغير ذَلِكَ من مصالحهم ومضارهم ( خَبِيرٌ ) ذو خبرة، وعلم ( بَصِيرٌ ) بتدبيرهم، وصرفهم فيما فيه صلاحهم (28)- ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغيث ) والله الَّذِي ينزل المطر من السماء فيغيثكم به أيها الناس ( مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ) من بعد ما يئس من نزوله ومجيئه ( وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) ينزل رحمته يعني المطر ( وَهُوَ الولي ) الَّذِي يليكم بإحسانه وفضله ( الحميد ) بأياديه عندكم، ونعمه عليكم في خلقه.
(29)- ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) ومن حججه عليكم أيها الناس أنه القادر عَلَى إحيائكم بعد فنائكم، وبعثكم من قبوركم من بعد بلائكم ( خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ ) فرّق ( فِيهِمَا ) في السموات والأرض ( مِن دَآبَّةٍ ) الناس والملائكة ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ) عَلَى جمع ما بث فيهما من دابة ( إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ) ذو قدرة لا يتعذر عليه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه
(30)- ( وَمَآ أَصَابَكُمْ ) أيها الناس ( مِّن مُّصِيبَةٍ ) في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم ( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ( وَيَعْفُواْ ) لكم ربكم ( عَن كَثِيرٍ ) من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها.
(31)- ( وَمَآ أَنتُمْ ) أيها الناس ( بِمُعْجِزِينَ ) بمفيتي ربكم بأنفسكم إذا أراد عقوبتكم عَلَى ذنوبكم التي أذنبتموها، ومعصيتكم إياه التي ركبتموها هربا ( فِي الْأَرْضِ ) فمعجزيه، حتى لا يقدر عليكم، ولكنكم حيث كنتم في سلطانه وقبضته، جارية فيكم مشيئته ( وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ ) يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم عَلَى معصيتكم إياه ( وَلا نَصِيرٍ ) ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم منه، فاحذروا أيها الناس معاصيه، واتقوه أن تخالفوه فيما أمركم أو نهاكم، فإنه لا دافع لعقوبته عمن أحلها به.
(32)- ( وَمِنْ آيَاتِهِ ) ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر عَلَى كل ما يشاء، وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده ( الجوار ) السفن الجارية في البحر ( فِي البحر كالأعلام ) كالجبال
(33)- ( إِن يَشَأْ ) الله الَّذِي قد أجرى هذه السفن في البحر أن لا تجري فيه ( يُسْكِنِ الريح ) التي تجري بها فيه ( فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ ) فثبتن في موضع واحد ووقفن ( عَلَى ظَهْرِهِ ) عَلَى ظهر الماء لا تجري، فلا تتقدّم ولا تتأخر ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) في جري هذه الجواري في البحر بقُدرة الله ( لآيَاتٍ ) لعظة وعبرة وحجة بينة عَلَى قُدرة الله عَلَى ما يشاء ( لِّكُلِّ صَبَّارٍ ) ذي صبر عَلَى طاعة الله ( شَكُورٍ ) لنعمه وأياديه عنده.
(34)- ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ ) يهلكهنّ بالغرق ( بِمَا كَسَبُوا ) بما كسبت ركبانها من الذنوب، واجترموا من الآثام ( وَيَعْفُ ) ويصفح تعالى ( عَن كَثِيرٍ ) من ذنوبكم فلا يعاقب عليها.
(35)- ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ) يخاصمون رسوله محمدا × من المشركين ( في آيَاتِنَا ) في آيات الله وعبره وأدلته عَلَى توحيده ( مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ) من عقاب الله إذا عاقبهم عَلَى ذنوبهم، وكفرهم به، ولا لهم منه ملجأ.
(36)- ( فَمَآ أُوتِيتُمْ ) أعطيتم أيها الناس ( مِّن شَيْءٍ ) من رياش الدنيا من المال والبنين ( فَمَتَاعُ الحياة الدنيا ) فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم في معادكم ( وَمَا عِندَ الله ) لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة ( خَيْرٌ ) مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها ( وأبقى ) لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باق غير نافد ( لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) في أمورهم، وإليه يقومون في أسبابهم، وبه يثقون، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا.
(37)- ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) ١ ( وَإِذَا مَا غَضِبُواْ ) عَلَى من اجترم إليهم جرما ( هُمْ يَغْفِرُونَ ) لمن أجرم إليهم ذنبه، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه.
(38)- ( وَالَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمْ ) أجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده، والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه( وَأَقَامُواْ الصلاة ) المفروضة بحدودها في أوقاتها ( وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )
(39)- ( وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي ) إذا بغى عليهم باغ واعتدى عليهم ( هُمْ يَنتَصِرُونَ ) بحقّ ممن بغى عليهم.
(40)- ( وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه، فهي مساءة له ( فَمَنْ عَفَا ) عمن أساء إليه إساءته إليه، فغفرها له، ولم يعاقبه بها، وهو عَلَى عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله ( وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ) فأجر عفوه ذَلِكَ عَلَى الله، والله مثيبه عليه ثوابه ( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) الَّذِينَ يتعدّون عَلَى الناس، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه.
(41)- ( وَلَمَنِ انتصر ) ممن ظلمه ( بَعْدَ ظُلْمِهِ ) إياه ( فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ) لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة لا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحقّ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذَلِكَ له عليه، ولم يتعد، لم يظلم، فيكون عليه سبيل.
(42)- ( إِنَّمَا السبيل ) إنما الطريق لكم أيها الناس ( عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ الناس ) يتعدّون عَلَى الناس ظلما وعدوانا، بأن يعاقبوهم بظلمهم لا عَلَى من انتصر ممن ظلمه، فأخذ منه حقه ( وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحق ) ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الَّذِي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون فيها ( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) مؤلم موجع يوم القيامة في جهنم.
(43)- ( وَلَمَن صَبَرَ ) عَلَى إساءة إليه ( وَغَفَرَ ) للمسيء إليه جرمه إليه، فلم ينتصر منه، وهو عَلَى الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه ( إِنَّ ذَلِكَ ) إن صبره وغفرانه ذنب المسيء إليه ( لَمِنْ عَزْمِ الأمور ) التي ندب إليها عباده، وعزم عليهم العمل به (44)- ( وَمَن يُضْلِلِ الله ) ومن خذله الله عن الرشاد ( فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ ) يليه، فيهديه لسبيل الصواب ويسدده ( مِّن بَعْدِهِ ) من بعد إضلال الله إياه ( وَتَرَى الظَّالِمِينَ ) الكافرين بالله يا محمد يوم القيامة ( لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ) لما عاينوا عذاب الله ( يَقُولُونَ ) لربهم ( هَلْ ) لنا يا رب ( إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ) ؟.
(45)- ( وَتَرَاهُمْ ) وترى يا محمد الظَّالِمِينَ ( يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) عَلَى النار ( خَاشِعِينَ مِنَ الذل ) خاضعين متذللين ( يَنظُرُونَ ) ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها ( مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ) ذليل، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب ( وَقَالَ الَّذِينَ آمنوا ) بالله ورسوله ( إِنَّ الخاسرين ) المغبونين ( الَّذِينَ خسروا ) الَّذِينَ غبنوا ( أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة ) في الجنة ( أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين يوم القيامة ( فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) عليهم، ثابت لا يزول عنهم، ولا يَبيد، ولا يخفّ.
(46)- ( وَمَا كَانَ لَهُم ) ولم يكن لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة ( مِّنْ أَوْلِيَآءَ ) يمنعونهم من عذاب الله ( يَنصُرُونَهُم ) ولا ينتصرون لهم من ربهم عَلَى ما نالهم به من العذاب ( مِّن دُونِ الله وَمَن يُضْلِلِ الله ) ومن يخذله عن طريق الحق ( فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ) فما له من طريق إلى الوصول إليه، لأن الهداية والإضلال بيده دون كلّ أحد سواه.
(47)- - يقول تعالى للكافرين به: ( استجيبوا لِرَبِّكُمْ ) أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به واتبعوه عَلَى ما جاءكم به من عند ربكم ( مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ) يوم القيامة ( لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ) لا شيء يرد مجيئه إذا جاء الله به ( مَا لَكُمْ ) أيها الناس ( مِّن مَّلْجَأٍ ) من معقل تحترزون فيه، وتلجئون إليه، فتعتصمون به من النازل بكم من عذاب الله عَلَى كفركم به، كان في الدنيا ( يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ) ناصر ينصركم.
(48)- ( فَإِنْ أَعْرَضُواْ ) عما أتيتهم به من الحق ودعوتهم إليه من الرشد، فلم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم ( فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) رقيبا عليهم، تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها ( إِنْ عَلَيْكَ ) ما عليك يا محمد ( إِلاَّ البلاغ ) إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من الرسالة، فإذا بلغتهم ذَلِكَ، فقد قضيت ما عليك ( وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ) إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من عندنا سعة ( فَرِحَ بِهَا ) سر بما أعطيناه من الغنى، ورزقناه من السعة وكثرة المال ( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) فاقة وفقر وضيق عيش ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) بما أسلفت من معصية الله عقوبة له عَلَى معصيته إياه ( فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ ) جحود نعم ربه، يعدد المصائب ويجحد النعم.
(49)- ( لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ) سلطان السموات السبع والأرضين يفعل في سلطانه ما يشاء ( يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ) يخلق ما يحبّ خلقَه( يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ) من خلقه ( إِنَاثًا ) دون الذكور، بأن يجعل كل ما حملت زوجته من حمل منه أنثى ( وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور بأن يجعل كل حمل حملته امرأته ذكرا لا أنثى فيهم.
(50)- ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ) يخلط بينهم ( ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) أن تلد المرأة غلاما، ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما، ثم تلد جارية ( وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ) لا يولد له ( إِنَّهُ عَلِيمٌ ) ذو علم بما يخلق ( قَدِيرٌ ) عَلَى خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
(51)- ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ ) وما ينبغي لبشر من بني آدم ( أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا ) يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهاما ( أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ) أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه × ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ) من ملائكته، إما جبرائيل، وإما غيره ( فَيُوحِيَ ) ذَلِكَ الرسول إلى المرسل إليه ( بِإِذْنِهِ ) بإذن ربه ( مَا يَشَآءُ ) أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذَلِكَ من الرسالة والوحي ( إِنَّهُ عَلِيٌّ ) ذو علو عَلَى كل شيء وارتفاع عليه، واقتدار ( حَكِيمٌ ) ذو حكمة في تدبيره خلقه
(52)- ( وَكَذَلِكَ ) وكما كنا نوحي في سائر رسلنا ( أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) أوحينا إليك يا محمد هَذَا القرآن ( رُوحًا ) وحيا ورحمة ( مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي ) يا محمد ( مَا الكتاب ) أي شيء الكتاب ( وَلاَ الإيمان ) اللذين أعطيناكهما ( ولكن جَعَلْنَاهُ ) جعلنا هَذَا القرآن ( نُورًا ) ضياء للناس، يستضيئون بضوئه الَّذِي بين الله فيه، وهو بيانه الَّذِي بين فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة ( نَّهْدِي بِهِ ) نسدد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله ( مَن نَّشَآءُ ) هدايته إلى الطريق المستقيم ( مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي ) يا محمد عبادنا ( إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) وهو الإسلام، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم ( صِرَاطِ الله ) طريق الله الَّذِي دعا إليه عباده ( الَّذِي لَهُ ) ملك جميع ( مَا فِي السماوات وَمَا فِي الْأَرْضِ ) لا شريك له في ذَلِكَ ( أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور ) تصير أموركم في الآخرة، فيقضي بينكم بالعدل.
برنامج مع القرآن
تفسير سورة الشورى
https://youtu.be/h1QkXSDACJY
للمشاركة في منصة مدارسة سور القرآن الكريم
https://www.facebook.com/permalink.p...&id=1226774898
(1) مقدمة في التفسير : ص : (68) .
١- قال ابن جرير: فالكبائر إذن: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرّم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في )قول الزور )، شهادة الزور، وقذف المحصنة، واليمين الغموسُ، والسحر ، ويدخل في قتل النفس المحرَّم قتلها، قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه، والفرارُ من الزحف، والزنا بحليلة الجار. (تفسير الطبري) ( ج8 /235 )