هذا سؤال حول الاستدلال بقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة/105]) في المحافل ،حيث يكثر هذا ،وقد سمعت بعض طلبة العلم يستدل بها في محفل خيري ،ورأيتها تكتب في واجهة بعض المداخل .
وفي النفس من هذا شيء ، فإن الآية لا يصح تنزيلها على مثل هذه الأحوال ، لأنها في شأن المنافقين ،وهو ـ كما هو ظاهر والله أعلم ـ متضمن معنى التهديد .
والسؤال : أين رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا العمل ؟!
فإن كان هذا في الدنيا ،فلا يصح الاستدلال بها إلا في حياته .
وإن قيل : إن الأعمال تعرض عليه ! فيقال : إن العرض إنما هو ـ والله أعلم ـ لمجمل أعمال الأمة من الأحداث الكبار ، لا لتفاصيل الأمور .
وإن قيل هذا يوم القيامة : فيقال : إن هذا لا يساعده السياق ؛ لأن الله تعالى قال بعد ذلك : (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
هذا ما بدا لي ـ بعد تأمل ومذاكرة مع بعض الأفاضل ـ .
وقد سمعت شيخنا العثيمين يبدي رأيه في هذه المسألة ،ولكن لا أحب أن أذكره إلا بعد أن أرى بعض المداخلات .
يظهر - والله أعلم - أن الآية هي من باب الحض والترغيب للمؤمنين والترهيب للمنافقين والكافرين ،وهو ما أشار إليه الشيخ ابن عاشور رحمه الله بقوله عند الآية الأولى :"وسيرى الله عملكم ورسوله " قال : فالإخبار برؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في "الكناية" عن الترغيب في العمل الصالح والترهيب من الدوام على حالهم ،والمراد تمكنهم من إصلاح ظاهرأعمالهم " ثم قال عند الآية المسئول عنها :"وتفريع "فسيرى الله عملكم " زيادة في التحضيض ،وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى ،قال :وعطف (ورسوله ) على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم،وعطف(المؤمنون) أيضاً لأنهم شهداء الله في أرضه 0اهـ والله أعلم
ثم وجدت ما يؤيد القول بالجواز ، وذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ فيما علقه البخاري ،ووصله عبدالرزاق بسند صحيح ـ قالت : إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ،ولا يستخفنك أحد .
هكذا رواه البخاري مختصراً ،وهو عند عبدالرزاق 11/447 ح (20967) مطولاً من حديث عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ قال :
قال دخلت علي عائشة أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار ، فذكرت عثمان :
فقالت : يا ليتني كنت نسيا منسيا !!
والله ما انتهكت من عثمان شيئا الا قد انتهك مني مثله ! حتى لو أحببت قتله لقتلت !
ثم قالت : يا عبيد الله بن عدي ! لا يغرنك أحدٌ بعد النفر الذين تعلم ، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نجم القراء الذين طعنوا في ى عثمان !
فقرأوا قراءة لا يُقرأ مثلها !
وصلوا صلاة لا يُصلى مثلها !
وصاموا صياما لايصام مثله !
وقالوا قولا لا نحسن أن نقول مثله !
فلما تدبرت الصنع إذاهم ـ والله ـ ما يقاربون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فإذا سمعت حسن قول امرئ فقل : (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ولا يستخفنك أحد.
تنبيه : وقع في المطبوع أغلاط صوبتها من عدة مصادر ،ولم أشأ التنبيه عليها حتى لا يطول الكلام.
والشاهد من هذا أن كلام عائشة رضي الله عنها صريح في جواز الاستدلال بها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وعليه : فيمكن أن يقال : إن الرؤية هنا بمعنى العلم ،وليست رؤية البصر ،وأن النبي صلى الله عليه وسلّم سيرى هذه الأعمال يوم القيامة ـ أما في البرزخ فسبق الكلام فيه ـ كما أن طائفة من المؤمنين سيرونها في الدنيا والآخرة ،والله أعلم.
وبعد هذا .. وبما أن الصديقة فهمت الجواز ،فأنا أرجع عن الاستظهار الذي سبب طرح هذا الموضوع ،وعندي أن البحث ما زال قائماً ،والله المستعان.
أما رأي شيخنا العثيمين ـ رحمه الله ـ فهو لا يرى جواز الاستدلال بهذه الآية للسبب الذي أشرت إلى جزء منه في الموضوع الأصلي.
قال الرازي في تفسيره لهذه الآية : ( اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب، وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله ....
فقوله: {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ} ترغيب عظيم للمطيعين، وترهيب عظيم / للمذنبين، فكأنه تعالى قال: اجتهدوا في المستقبل، فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً. أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة. فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده. )
وسياق الآية لا يظهر منه أنها نزلت في المنافقين ، وهذا هو سياقها :
والآية التي تخبر عن حال المنافقين هي قوله تعالى : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) }
وقد ذكر ابن العربي في أحكامه في التفريق بين الآيتين ما خلاصته : قوله سبحانه: {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين ، ومعناها: الأمر، أي: ٱعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه، وأمَّا الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة:94] و{وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ؛ فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين، ومعناها: التهديد؛ وذلك لأن النفاق موضِعُ ترهيبٍ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم. انتهى بتصرف .
وجاء في تفسير ابن عاشور : التحرير والتنوير ما نصه : ( عطف على جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ} (التوبة: 104) الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا، أي بعد قبول التوبة، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما قُبلت توبتهم كان حقاً عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يَلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود، ولذلك كان حذف مفعول {ٱعْمَلُواْ} لأجل التعويل على القرينة، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح. والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية. وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.
وتفريع {فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ} زيادة في التحْضيض. وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى. وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: «هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». )
وهو صريح في ارتباط الآية بما قبلها من الدعوة إلى التوبة ، وأنها في شأن المؤمنين .
وعليه ؛ فالقول بأن الآية المسؤول عنها نزلت في المنافقين فيه نظر . والله أعلم
أخي العزيز أبا محمد المسيطير : اطلعت على الرابط ، فجزاك الله خيراً.
لكن ـ مع أن ما ذكره مشايخنا رحمهم الله هو المتبادر للذهن بسبب نزولها في المنافقين ـ إلا أنه لا يمكن إهمال فهم عائشة رضي الله عنها لهذه الآية ،وهي أعلم من كل من ذكر في الرابط بملابسات نزولها ،والسند إليها صحيح كالشمس .
ثم وجدت ما يؤيد القول بالجواز ، وذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ فيما علقه البخاري ،ووصله عبدالرزاق بسند صحيح ـ قالت : إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ،ولا يستخفنك أحد .
هكذا رواه البخاري مختصراً ،وهو عند عبدالرزاق 11/447 ح (20967) مطولاً من حديث عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ قال :
قال دخلت علي عائشة أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار ، فذكرت عثمان :
فقالت : يا ليتني كنت نسيا منسيا !!
والله ما انتهكت من عثمان شيئا الا قد انتهك مني مثله ! حتى لو أحببت قتله لقتلت !
ثم قالت : يا عبيد الله بن عدي ! لا يغرنك أحدٌ بعد النفر الذين تعلم ، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نجم القراء الذين طعنوا في ى عثمان !
فقرأوا قراءة لا يُقرأ مثلها !
وصلوا صلاة لا يُصلى مثلها !
وصاموا صياما لايصام مثله !
وقالوا قولا لا نحسن أن نقول مثله !
فلما تدبرت الصنع إذاهم ـ والله ـ ما يقاربون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم !
[color=#FF0000 قال:
فإذا سمعت حسن قول امرئ فقل : (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ولا يستخفنك أحد[/color].
جزاك الله خيرا ياشيخ عمر هذه فائدة قيمة ولاشك أن فهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقدم .