مختصر تفسير الرازي (سورة الأنفال)

إنضم
12/06/2004
المشاركات
456
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
المنهج العام في هذا الاختصار
هو الإبقاء على ما تميز به هذا التفسير من خير، وحذف ما أخذ عليه من شر.
فأبقيت على المعاني والفوائد والنكات والدرر..
وحذفت العقائد الباطلة، والأدلة الواهية، والردود الضعيفة، والشبهات النافذة..
وحذفت كثيرا من التفريعات والوجوه والمسائل مع تبسيط بعضها، وذكر ما يلزم منها..

ثم صغت التفسير منسبكاً مع مقاطع وجمل الآيات، وقسمته على فقرات، مسهلا بذلك الاستفادة من كنوز هذا السفر الكبير..
وإني أتوجه إلى المشرفين الأجلاء بالنظر والعناية لهذا المختصر، فإن كان نافعاً للمسلمين عملوا على طباعته ونشره، محتسبين النفع للمسلمين.
أسأل الله سبحانه أن ينفع به.
 
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ آيَةِ: 30 إِلَى غاية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: 1]
{يَسْأَلُونَكَ} كَانَ السَّائِلُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا، فَانْصَرَفَ هَذَا اللَّفْظُ إِلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَامًا لَهُمْ تُعَلُّقٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَنْفَالِ، وَهُمْ أَقْوَامٌ مِنَ الصَّحَابَةِ..
وَالْمَسْؤُولَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
والْأَنْفَال الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ وَالتَّنَافُسُ فِيهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ: قوله {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} لمَنْعِ الْقَوْمِ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمْ، وَقَوْلُهُ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ..
{عَنِ الْأَنْفَالِ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّفْلُ وَالنَّافِلَةُ مَا كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ، وَسُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فُضِّلُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ تَحِلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ، وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ نَافِلَةٌ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 72] أَيْ زِيَادَةً عَلَى مَا سَأَلَ..
وَلَمَّا قَالَ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ الْأَنْفَالِ: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الْأَنْفَالِ كَيْفَ مَصْرِفُهَا وَمَنِ المستحق لها..
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ: الِاسْتِعْطَاءُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ، (أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّه أَعْطِنِي كَذَا)، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه (يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ)..
ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْفَالِ الْغَنَائِمَ، وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْكُفَّارِ قَهْرًا، لما رُوي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ مَا غَنِمُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَعَلَى أَقْوَامٍ لَمْ يَحْضُرُوا أَيْضًا، فَوَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهِ مُنَازَعَةٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهَا، ولما رُوِيَ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ الشُّبَّانُ قَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَالْأَشْيَاخُ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْمَصَافِّ، فَقَالَ الشُّبَّانُ: الْغَنَائِمُ لَنَا لِأَنَّا قَتَلْنَا وَهَزَمْنَا، وَقَالَ الْأَشْيَاخُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْغَنَائِمِ دُونَنَا، فَوَقَعَتِ الْمُخَاصَمَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، ولِمَا قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ طَلَبَ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مَسْبُوقًا بِالْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ..
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَنْفَالِ مَا شَذَّ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَتَاعٍ، فَهُوَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وهو قول ابن عباس، أو الْخُمُسِ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّه لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: (فَالْقَوْمُ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْخُمُسِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ)، أو هِيَ السَّلَبُ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَى الْغَازِي زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ (مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ)، أَوْ يَقُولُ: (فَلَكُمْ نِصْفُهُ) أَوْ (ثُلُثُهُ) أَوْ (رُبُعُهُ)، وَلَا يُخَمِّسُ النَّفْلَ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: (قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلْتُ بِهِ سَعْدَ بْنَ الْعَاصِي وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَأَعْجَبَنِي، فَجِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «لَيْسَ هَذَا لِي، وَلَا لَكَ، اطْرَحْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَتْ فِيهِ الْغَنَائِمُ» فَطَرَحْتُهُ، وَبِي مَا يَعْلَمُهُ اللَّه مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي، فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَنِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: يَا سَعْدُ «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ صَارَ لِي فَخُذْهُ»..
قَالَ الْقَاضِي: وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ..
وَإِنْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى التعين قُضِيَ بِهِ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا..
وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنَفِّلَ غَيْرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا وَبَعْدَ حُصُولِهَا، لِأَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَقْوِيَةً لِلنُّفُوسِ، كَنَحْوِ مَا كَانَ يُنَفِّلُ وَاحِدًا فِي ابْتِدَاءِ الْمُحَارَبَةِ؛ لِيُبَالِغَ فِي الْحَرْبِ، أَوْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ، أَوْ يُعْطِيَهُ سَلَبَ الْقَاتِلِ، أَوْ يَرْضَخَ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ، وَيُنَفِّلَهُ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْتَصُّ بِهِ.. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الْمُرَادُ الْأَمْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ..
{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَهَا مُخْتَصٌّ باللَّه وَالرَّسُولِ يَأْمُرُهُ اللَّه بِقِسْمَتِهَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي قِسْمَتِهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ أَحَدٍ..
قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {فَأَنَّ للَّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا لِلرَّسُولِ، فَنَسَخَهَا اللَّه بِآيَاتِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ..
وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا للَّه وَلِلرَّسُولِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ.. الثَّانِي: أَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَالْأَنْفَالُ هاهنا مُفَسَّرَةٌ لَا بِالْغَنَائِمِ، بَلْ بِالسَّلَبِ، وَإِنَّمَا يُنَفِّلُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَعْضِ النَّاسِ لِمَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ..
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} فَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّهِ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّه، وَاتْرُكُوا الْمُنَازَعَةَ وَالْمُخَاصَمَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَارْضَوْا بِمَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} مِنَ الْأَقْوَالِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ وَاقِعَةً فِي الْبَيْنِ، قِيلَ لَهَا ذَاتُ الْبَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْرَارَ لَمَّا كَانَتْ مُضْمَرَةً فِي الصُّدُورِ قِيلَ لَهَا ذَاتُ الصُّدُورِ..
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَهَاهُمْ اللهُ تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ثُمَّ بَالَغَ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ فَقَالَ..
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: 1] وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاكُمُ الرَّسُولُ إِلَيْهِ وَرَغِبْتُمْ فِيهِ لَا يَتِمُّ حُصُولُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، فَاحْذَرُوا الْخُرُوجَ عَنْهَا.
 
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ مُسْتَلْزِمًا لِلطَّاعَةِ، شَرَحَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ..} الْآيَةَ..
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:..
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَ الْوَاحِدِيُّ يُقَالُ: وَجِلَ يَوْجَلُ وَجَلًا، فَهُوَ وَجِلٌ، وَأَوْجَلَ إِذَا خَافَ..
وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِذَا كَانَ خَائِفًا مِنَ اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}[الزُّمَرِ: 23]، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[الْمُؤْمِنُونَ: 57]، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}[الْمُؤْمِنُونَ: 2]..
وَالْخَوْفُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَوْفُ الْعِقَابِ، وَخَوْفُ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ..
أَمَّا خَوْفُ الْعِقَابِ فَهُوَ لِلْعُصَاةِ، وَأَمَّا خَوْفُ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ فَهُوَ لَا يَزُولُ عَنْ قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ المؤمنين؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالْمُحْتَاجُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْمَلِكِ الْغَنِيِّ يَهَابُهُ وَيَخَافُهُ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْهَيْبَةُ مِنَ الْعِقَابِ، بَلْ مُجَرَّدُ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ يُوجِبُ تِلْكَ الْمَهَابَةَ، وَذَلِكَ الْخَوْفَ..
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجَلِ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّه، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ عِقَابِ اللَّه، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلْزَامُ أَصْحَابِ بَدْرٍ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ الرَّسُولِ فِي قِسْمَةِ الْأَنْفَالِ..
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجَلِ الْقِسْمَ الثَّانِيَ، فَذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّه، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى الإضمار..
فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}[الرَّعْدِ: 28] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَأَيْضًا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزُّمَرِ: 23]..
قُلْنَا: الِاطْمِئْنَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلْجِ الْيَقِينِ، وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، بَلْ نَقُولُ: هَذَانِ الْوَصْفَانِ اجْتَمَعَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزُّمَرِ: 23] وَالْمَعْنَى: تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّه، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ عِنْدَ رَجَاءِ ثَوَابِ اللَّه.. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:..
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً}[التَّوْبَةِ: 124]..
وزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى كَانَ أَزْيَدَ إِيمَانًا، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ وَقُوَّتِهَا يَزُولُ الشَّكُّ وَيَقْوَى الْيَقِينُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ» يُرِيدُ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ باللَّه أَقْوَى..
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الدَّوَامُ وَعَدَمُ الدَّوَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَدِلِّينَ لَا يَكُونُ مُسْتَحْضِرًا لِلدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ إِلَّا لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُدَاوِمًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ أَوْسَاطٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ..
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِكُلِّ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ مُتَوَالِيَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَاقِبَةً، فَعِنْدَ حُدُوثِ كُلِّ تَكْلِيفٍ كَانُوا يَزِيدُونَ تَصْدِيقًا وَإِقْرَارًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ إِنْسَانًا فِي شَيْئَيْنِ كَانَ تَصْدِيقُهُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ تَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَقَوْلُهُ: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا آيَةً جَدِيدَةً أَتَوْا بِإِقْرَارٍ جَدِيدٍ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ..
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2] هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ وَدَرَجَةٌ شَرِيفَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا يَبْقَى لَهُ اعْتِمَادٌ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى اللَّه..
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْسَنِ جِهَاتِ التَّرْتِيبِ؛ فَإِنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى هِيَ: الْوَجَلُ مِنْ عِقَابِ اللَّه، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الِانْقِيَادُ لِمَقَامَاتِ التَّكَالِيفِ للَّه، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ الِانْقِطَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّه، وَالِاعْتِمَادُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى فَضْلِ اللَّه، بَلِ الْغِنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّه تَعَالَى.. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ..
 
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: 3]
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَحْوَالٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَالْبَوَاطِنِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى رِعَايَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ..
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} وَرَأْسُ الطَّاعَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الظَّاهِرِ وَرَئِيسُهَا: بَذْلُ النَّفْسِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي مرضاة اللَّه..
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: 3] ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة، وَالْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ.
 
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 4]
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَ: أَثْبَتَ لِلْمَوْصُوفِينَ بِهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:..
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} قَوْلُهُ: {حَقًّا} بِمَاذَا يَتَّصِلُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحَقِيقَةِ..
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ}، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: {حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ}..
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَلَا يَقُولُ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا..
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه..
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: إِذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ، فَكَأَنَّهُ مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لِيَصِيرَ هَذَا سَبَبًا لِحُصُولِ الِانْكِسَارِ فِي الْقَلْبِ وَزَوَالِ الْعُجْبِ..
الثَّانِي: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ عَلَى نَفْسِهِ بِحُصُولِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّه..
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْقَطْعُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ..
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه عَائِدًا إِلَى اسْتِدَامَةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَاسْتِحْضَارِ مَعْنَاهُ أَبَدًا دَائِمًا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحْتَمَلٌ..
الْخَامِسُ: أنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ حُصُولُ الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَجْهُولِ مجهل، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه..
السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّه عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ صَرْفُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْخَاتِمَةِ وَالْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ، إِلَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ فِي الْعَاقِبَةِ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَذَا الْمَعْنَى..
السَّابِعُ: أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الْفَتْحِ: 27] وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ هَذَا الْمَعْنَى، فكذا هاهنا، الْأَوْلَى ذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّه، حَتَّى يَحْصُلَ بِبَرَكَةِ هَذِهِ الكلمة دوام الإيمان..
الثامن: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ ذَكَرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَرَأَيْنَا لَهُمْ مَا يُقَوِّيهِ فِي كِتَابِ اللَّه وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فِي عِلْمِ اللَّه وَفِي حُكْمِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَمْعٍ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ، وَعَلَى وُجُودِ جَمْعٍ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، فَالْمُؤْمِنُ يَقُولُ: (إِنْ شَاءَ اللَّه) حَتَّى يَجْعَلَهُ اللَّه بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي..
أَمَّا الْقَائِلُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} فَقَدْ حَكَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا فَكَانَ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه يُوجِبُ الشَّكَّ فِيمَا قَطَعَ اللَّه عَلَيْهِ بِالْحُصُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ..
وَالْجَوَابُ عَنه: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَذَلِكَ الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ، فَهَذَا يُقَوِّي عَيْنَ مَذْهَبِنَا، واللَّه أَعْلَمُ..
الْحُكْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّه تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قَوْلُهُ تَعَالَى:..
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لَهُمْ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ..
وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قِسْمَانِ: الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ: هِيَ الصِّفَاتُ الْقَلْبِيَّةُ وَالْأَحْوَالُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الْخَوْفُ وَالْإِخْلَاصُ وَالتَّوَكُّلُ.. وَالِاثْنَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ هُمَا الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَخْلَاقُ..
وَلَا شَكَّ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ تَأْثِيرَاتٌ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ، وَفِي تَنْوِيرِهِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ كُلَّمَا كَانَ أَقْوَى كَانَتِ الْآثَارُ أَقْوَى، وَبِالضِّدِّ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ، كَانَتِ الْمَعَارِفُ أَيْضًا لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: {لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}..
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا عَلِمَ حُصُولَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لِلْفَاضِلِ وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغض عَيْشُهُ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِكَوْنِ الثَّوَابِ رِزْقًا كَرِيمًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي سَعَادَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَمْنَعُهُ مِنْ حُصُولِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ.. الْحُكْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنَّ..
{وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 4] وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمِنَ الرِّزْقِ الْكَرِيمِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ..
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَرِيمُ الْمَحْمُودُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، واللَّه تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ وَالْقُرْآنُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ}[النَّمْلِ: 29] وَقَالَ: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء: 7] [لقمان: 10] وَقَالَ: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً}[النِّسَاءِ: 31] وَقَالَ: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}[الْإِسْرَاءِ: 23] فَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ الشَّرِيفُ الْفَاضِلُ الْحَسَنُ..
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَهَنَاءِ الْعَيْشِ..
وَأَقُولُ: يجب هاهنا أَنَّ نُبَيِّنَ أَنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَكْمَلُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرِّزْقَ الْكَرِيمَ هُوَ اللَّذَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّه وَمَحَبَّتُهُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي عُبُودِيَّتِهِ..
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَبِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَأَدَاءِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ..
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَجَمِيعُ التَّكَالِيفِ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مِنَ الصِّفَاتِ الْبَاطِنَةِ التَّوَكُّلَ بِالذِّكْرِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَلَى التَّعْيِينِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، التَّوَكُّلُ وَأَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ.
 
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ][الأنفال: 5]
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَقِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا» لِيُرَغِّبَهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: (يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِكَ وَقَوْمِكَ فَدَوْكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنِ الْقِتَالِ جُبْنًا وَلَا بُخْلًا بِبَذْلِ مُهَجِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَشْفَقُوا عَلَيْكَ مِنْ أَنْ تُغْتَالَ فَمَتَى أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ مَا سَمَّيْتَهُ لَهُمْ بَقِيَ خَلْقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بغير شيء) فأنزل اللَّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}[الْأَنْفَالِ: 1] يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، فَأَمْسَكَ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الطَّلَبِ وَفِي أَنْفُسِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ، وَأَيْضًا حِينَ خَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا كَارِهِينَ لِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ -عَلَى مَا سَنَشْرَحُ حَالَةَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةِ-، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ رَضُوا بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْأَنْفَالِ، وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكِ بِالْحَقِّ} إِلَى الْقِتَالِ، وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا..
الثاني: قَالَ الْكِسَائِيُّ: «الْكَافُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وَالتَّقْدِيرُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ عَلَى كُرْهِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ هُمْ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ وَيُجَادِلُونَكَ فِيهِ ([1])..
وُرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى إِمَّا ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ اللَّذَيْنِ مَجْمُوعُهُمَا يُوجِبُ الْفِعْلَ، قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ: أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الْخُرُوجُ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَإِلْزَامِهِ، فَأُضِيفَ إِلَيْهِ.. قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حقيقته..
{مِنْ بَيْتِكَ} بِالْمَدِينَةِ أَوِ الْمَدِينَةَ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا مَوْضِعُ هِجْرَتِهِ..
{بِالْحَقِّ} وَسُكْنَاهُ بِالْحَقِّ، أَيْ إِخْرَاجًا مُتَلَبِّسًا بِالْحِكْمَةِ ..
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ][الأنفال: 5] وَالصَّوَابُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ أَخْرَجَكَ فِي حَالِ كَرَاهِيَتِهِمْ.. وكَانَتْ كَرَاهِيَةُ الْقِتَالِ حَاصِلَةً لِبَعْضِهِمْ لَا لِكُلِّهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ}.

([1]) رجحه الطبري.
 
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 6]
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} وَالْحَقُّ الَّذِي جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقِّي النَّفِيرِ لإيثارهم العير.. وَجِدَالُهُمْ قَوْلُهُمْ: مَا كَانَ خُرُوجُنَا إِلَّا لِلْعِيرِ، وَهَلَّا قُلْتَ لَنَا؟ لِنَسْتَعِدَّ وَنَتَأَهَّبَ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ..
{بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} الْمُرَادُ مِنْهُ: إِعْلَامُ رَسُولِ اللَّه بِأَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ..
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 6] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي فَرْطِ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُجَرُّ إِلَى الْقَتْلِ وَيُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِأَسْبَابِهِ نَاظِرٌ إِلَى مُوجِبَاتِهِ.. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ خَوْفُهُمْ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قِلَّةُ الْعَدَدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً، رُوِيَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسَانِ، وَثَالِثُهَا: قِلَّةُ السِّلَاحِ.
 
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال: 7]
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذْ} مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ (اذْكُرْ) {أَنَّهَا لَكُمْ} بَدَلٌ مِنْ {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}..
{إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } وَالطَّائِفَتَانِ: الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ..
{وَتَوَدُّونَ} أَيْ تَتَمَنَّوْنَ..
{أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} وَغَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ: الْعِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ فَارِسًا وَالشَّوْكَةُ كَانَتْ فِي النَّفِيرِ لِعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ..
{تَكُونُ لَكُمْ} يَكُونَ لَكُمُ الْعِيرُ؛ لِأَنَّهَا الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا حِدَّةَ لَهَا وَلَا شِدَّةَ، وَلَا تُرِيدُونَ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى..
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} وَلَكِنَّ اللَّه أَرَادَ التَّوَجُّهَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ..
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال: 7] الدَّابِرُ الْآخِرُ، مِنْ دَبَرَ إِذَا أَدْبَرَ.. وَقَطْعُ الدَّابِرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ.. وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْعِيرَ لِلْفَوْزِ بِالْمَالِ، واللَّه تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى النَّفِيرِ، لِمَا فِيهِ من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين.
 
عودة
أعلى