ماجد بن محمد العريفي
New member
٣- عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ "فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)}. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ: "زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ". قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ.
**************
١- الأول: قولها: (مِنَ الوَحْيِ) في (من) هنا قولان:
- أحدهما: أنها لبيان الجنس.
- وثانيهما: للتبعيض،
- قَالَ القزاز بالأول، كانها قالت: من جنس الوحي، وليست الرؤيا من الوحي حتَّى تكون (من) للتبعيض، ورده القاضي، وقال: بل يجوز أن تكون للتبعيض، لأنها من الوحي، كما جاء في الحديث أنها جزء من النبوة،
٢- والوحي: الإعلام كما سلف، فرؤيا المنام إعلام وإنذار وبشارة، ورؤيا الأنبياء حق وصدق.
٣- قال المهلب :الرؤيا الصالحة هي تباشير النبوة؛ لأنه لم يقع فيها ضغث، قال: وهي التي لم يسلط عليه فيها ضغث ولا تلبيس شيطان (فيتساوى) مع الناس في ذَلِكَ بل خص - صلى الله عليه وسلم - بصدقها كلها، قَالَ ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ، وكان - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه دون قلبه ، فكان صدق الرؤيا في النوم في ابتداء النبوة مع رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ثم أكمل الله لَهُ النبوة بإرسال الملك في اليقظة، وكشف لَهُ عن الحقيقة كرامةً لَهُ منه - صلى الله عليه وسلم -.
٤- قَالَ القاضي وغيره: وإنما ابتدئ - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة فلا تحتملها قوى البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا مع سماع الصوت وغيره.
٥- في هذا تصريح من عائشة رضي الله عنها بأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة أقسام الوحي، وهو محل وفاق.
٦- قولها: (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) جاءت الرؤيا مشبهة فلق الصبح أي: ضياءه إِذَا أنفلق وانماز عن ظلام الليل، وذلك حتَّى يتضح فلا يشك فيه.
وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين، يقال: هو أبين من فلق الصبح، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، حكاه البخاري في كتاب التعبير عنه ، وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره؛ لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا، إلى أن تم برهانها وظهرت أشعتها.
٧- قولها: (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ) هو بالمد أي: الخلوة، وهو شأن الصالحين، والحب: الميل. قَالَ الخطابي: إنما حبب إليه الخلوة؛ لأن معها فراغ القلب، وهي معينة عَلَى الفكر، والبشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر، فينسى المألوفات من عادته، فيجد الوحي منه مرادًا سهلًا لا حزنًا وعِرًا، ولمثل هذا المعنى كانت مطالبة الملك لَهُ بالقراءة وضغط.
٨- الغار: النقب في الجبل، وهو قريب من معنى الكهف، وجمعه: غيران، وتصغيره غوير، والمغار والمغارة بمعنى الغار.
٩- حراء: وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسارك إِذَا سرت إلى منًى،
١٠- (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ). وقد فسر في الحديث بأنه التعبد، وهو صحيح، وأصله اجتناب الحنث -وهو: الإثم- وكأنّ المتعبد يلقي بعبادته عن نفسه الإثم،
وقال ابن هشام: التحنث: التحنف يبدلون الفاء من الثاء يريدون الحنيفية ،
وقال أبو (أحمد) العسكري: رواه بعضهم: يتحنف -بالفاء-
ثمَّ نقل عن بعض أهل العلم أنه قَالَ: سألت أبا عمرو الشيباني عن ذَلِكَ فقال: لا أعرف يتحنث، إنما هو يتحنف من الحنيفية أي: يتتبع دين الحنيفية، وهو دين إبراهيم عليه السلام.
١١- قولها: (قَبْلَ أَنْ يَنْزعَ إِلَى أَهْلِهِ). هو بكسر الزاي أي: يرجع، وقد رواه مسلم كذلك فقال: نزع إلى أهله إِذَا حَنّ إليهم فرجع إليهم، ونزعوا إليه: حنوا إليه، وهل نزعك غيره؟ أي: هل جاء بك وجذبك سواه! وناقة نازع: إِذَا حنت إلى أوطانها ومرعاها،
١٢- قولها: (ثمَّ يَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ). قَالَ أهل اللغة: الزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر ويقال: زودته فتزود.
١٣- فيه مشروعية اتخاذ الزاد ولا ينافي التوكل، فقد اتخذه سيد المتوكلين.
١٤- قولها: (حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ). أي: الأمر الحق وهو الوحي الكريم، (وللبخاري) في التفسير، ولمسلم: (حتَّى فجئه الحق) . أي: أتاه بغتة،
١٥- روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ابن أربعين سنة.
١٦- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("مَا أَنَا بِقَارِئٍ") ما هنا نافية، واسمها "أنا" وخبرها: "بِقَارِئٍ" والباء زائدة لتأكيد النفي أي: ما أُحْسِن القراءة، وقد جاء في رواية: "ما أُحْسِن أن أقرأ" وغلط من جعلها استفهامية لدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل عَلَى ما الاستفهامية، واحتج من (قَالَ) استفهامية بأنه جاء في رواية لابن إسحاق: "ما أقرأ؟ " أي: أيٌّ أقرأ؟ ولا دلالة فيه؛ (لجواز أن تكون ما) هنا نافية أيضًا.
وقال السهيلي في "روضه": قوله: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" أي: أنا أميٌّ، فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } أي: إنك لا تقرؤه بحولك ولا بصفة نفسك ولا بمعرفتك، ولكن اقرأه مفتتحًا باسم ربك مستعينًا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان. فالآيتان المتقدمتان والأخريان لأمته وهما قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم، وتعلمه نبيهم تلقيًا (من) جبريل نزله عَلَى قلبه (بإذن الله) ليكون من المرسلين .
١٧- قوله: ("فَغَطَّنِي") هو بغين معجمة، ثمَّ طاء مهملة مشددة أي: عصرني وضمني، يقال: غطَّني، وغتَّني، وضَغَطَني، وعَصَرَني، وغَمَرَني، وخَنَقَني، كلُّه بمعنًى.
والغط في الحديث: الخنق.
١٨- فيه المبالغة في التنبيه والحض عَلَى التعليم ثلاثًا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم عنه، وانتزع بعض التابعين، وهو شريح القاضي من هذا الحديث ألا يضرب الصبي إلا ثلاثًا عَلَى القرآن، كما غطَّ جبريل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا.
١٩- قوله: ("حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ") يجوز في الجهد ضم الجيم وفتحها ونصب الدال ورفعها، ومعناه: الغاية والمشقة، فعلى الرفع معناه: بلغ الجهد مبلغه، فحذف مبلغه، وعلى النصب معناه: بلغ الملك مني الجهد،
٢٠- الحكمة في الغط شَغْلُه عن الألتفات إلى شيء من أمور الدنيا، والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله (له)، وقيل: أراد أن يوقفه عَلَى أن القراءة ليست من قدرته، ولو أكره، وكلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه، فلما لم يكن عنده ما يقرأ كان ذَلِكَ (تنبيهًا لَهُ على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه، فكان الغط) تنبيهًا لَهُ كقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى }، لئلا يلحقه ريب عند انقلابها حية، فكذلك (أراد جبريل) أن يعلمه أن ما ألقي إليه ليس في قدرته إذ قَدْ عجز بعد الثلاث، وهي حَد (للإعذار)،
وقيل: سببه أن التخيل (والوهم) (٤) والوسوسة إنما تقع بالنفوس لا بالجسم فوقع ذَلِكَ بجسمه؛ ليعلم أنه من الله تعالى.
٢١- يؤخذ منه أنه ينبغي للمعلم والواعظ أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأمره بإحضار قلبه.
٢٢- قوله: ("فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ") هذا دليل الجمهور أنه أول ما نزل، وقول من قَالَ: إنما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } بعد {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، عملًا بالرواية الآتية في الباب، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} محمول عَلَى أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، كما هو ظاهر إيراد الحديث.
وذكر ابن العربي عن كريب قَالَ: وجدنا في كتاب ابن عباس: أول ما نزل من القرآن بمكة: اقرأ، والليل، ونون، ويا أيها المزمل، ويا أيها المدثر، وتبت، وإذا الشمس، والأعلى، والضحى، وألم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، والتكاثر، والدين، والكافرون، ثم الفلق، ثمَّ الناس، ثمَّ ذكر سورًا كثيرة،
وقال السخاوي: ذهبت عائشة (والأكثرون) إلى أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثمَّ: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {ويبصرون} و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، والضحى، ثم نزل باقي سورة اقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }، و {يَا أَيُّهَا المزمل}.
٢٣- (قولها): (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ). الضمير في (بها) يعود إلى الآيات: قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى آخرهن.
٢٤- ومعنى (يرجف): يخفق. والرَّجَفان: شدة التحرك والاضطراب.
٢٥- الفؤاد: القلب عَلَى المشهور، وفي قولِ: إنه عين القلب، وفي قولٍ: باطنه. وفي قول: غشاؤه. فهذِه أربعة أقوال فيه.
٢٦- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي") هكذا هو في الروايات بالتكرار، والتزمل: الاشتمال والتلفف، و (مثله) التدثر، ويقال لكل ما يلقى عَلَى الثوب الذي يلي الجسد: دثار، وأصلهما المتدثر والمتزمل، أدغمت التاء فيما بعدها،
٢٧- وللبخاري في التفسير من حديث جابر، ومسلم أيضًا: "دثروني وصبوا عليَّ ماءً باردًا فدثروني وصبوا عليَّ ماءً باردًا"، فنزلت:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }.
٢٨- قَالَ السهيلي: وفي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}: دليل من الفقه (وجوب) استفتاح القراءة ببسم الله، غير أنه أمر مبهم لم يبين لَهُ بأي اسم من أسمائه يستفتح حتَّى جاء البيان بعد (بقوله) : {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا} ثم في قوله: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثمَّ بعد ذَلِكَ كان (ينزل جبريل) ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة، وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة عَلَى ذَلِكَ،
٢٩- قولها: (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) (الروع) هو بفتح الراء: وهو الفزع.
٣٠- قولها: (والله مَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا). وهو من الخزي، وهو الفضيحة والهوان، وأصل الخزي عَلَى ما ذكره ابن سيده: الوقوع في بلية وشهرة تذله .
٣١- قولها: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) تحسن إلى قراباتك، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيفية صلة الرحم في بابها وبيان اختلاف طرقها.
٣٢- قولها: (وَتَحْمِلُ الكَلَّ)ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} وأصله من الكلال وهو الإعياء ويدخل في حمل الكل الإنفاق عَلَى الضعيف واليتيم والعيال وغير ذَلِكَ، والمعنى: إنك تنفق عَلَى هؤلاء وتعينهم، وقال الداودي: الكَلُّ: المنقطع.
٣٣- قولها: (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) معناه: تكسب غيرك المال المعدوم. أي: تعطيه له تبرعًا.
٣٤- (الْمَعْدُومَ) كما قاله صاحب "التحرير": عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب، وسماه معدومًا لكونه كالميت؛ حيث لم يتصرف في المعيشة،
٣٥- قولها: (وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الحَقِّ) أي: تعين بما تقدر عَلَى من أصابته نوائب حق أعنته فيها، والنوائب جمع نائبة: وهي الحادثة والنازلة،
وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأنها تكون في الحق والباطل، قَالَ لبيد - صلى الله عليه وسلم -:
فلا الخير ممدود ولا الشر لازب ... نوائب من خير وشر كلاهما
٣٦- معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله -سبحانه وتعالى- فيك من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، ومحاسن الشمائل. وذكرت ضروبًا من ذَلِكَ، وفي هذا أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء والمكاره، فمن كَثُرَ خيره حسنت عاقبته، ورجي لَهُ سلامة الدين والدنيا،
٣٧- وفيه مدح الإنسان في وجهه لمصلحة،
٣٨- ذكر البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" خصلة أخرى، وهي: وتَصْدُقُ الحديث وذكرها مسلم هنا، وهي من أشرف خصاله وكان يُدْعى بها من صغره،
٣٩- فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت لَهُ مخافة من أمر وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له، وأنّ من نزلت به نازلة لَهُ أن يشارك فيها من يثق بنُصْحِهِ ورأيه.
٤٠- فيه أيضًا أبلغ دليل وأظهر حجة عَلَى كمال خديجة، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وعظيم فقهها.
٤١- قولها: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزى ابن عَمِّ خَدِيجَةَ)، إنما كان ابن عمها: لأنها خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد.
٤٢- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تسبوا ورقة فإنه كان لَهُ جنة أو (جنتان) ".
٤٣- قولها: (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ). أي: صار نصرانيًا وترك عبادة الأوثان وفارق طرائق الجاهلية، والجاهلية: ما قبل نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالات.
٤٤- قولها: (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ) هكذا وقع هنا العبراني والعبرانية، ووقع في موضع آخر من "صحيح مسلم": العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل، وفي كتاب التعبير والتفسير من البخاري: يكتب الكتاب العبراني، فيكتب (بالعربية) من الإنجيل. وكله صحيح، أي: كان يكتب من الإنجيل ما شابهها لتمكنه من معرفة دينهم وكتابتهم، وقال الداودي: يكتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية بهذا الكتاب العربي، فنسبه إلى العبرانية إذ بها كان يتكلم عيسى -عليه السلام-.
٤٥- (وَكَانَ قَدْ عَمِيَ) فيه جواز ذكر العاهة التي بالشخص ولا يكون ذَلِكَ غيبة.
٤٦- (النَّامُوسُ) واتفقوا على أن جبريل يسمى الناموس وعلى أنه المراد في هذا الحديث، قَالَ الهروي: سُمِّي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي الذي لا يطلع عليه غيره .
٤٧- قوله: (جَذَعًا). يعني: شابًّا قويًّا حتَّى أبالغ في نصرتك ويكون لي كفاية تامة لذلك،
٤٨- إنما قَالً: "أو مُخْرِجِيَّ هم؟ ")؛ لأنها حرم الله، وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه، فأتى بهمزة الاستفهام على وجه الإنكار والتفجع لذلك والتألم.
فاستبعد - صلى الله عليه وسلم - إخراجه من غير سبب فإنه لم يكن منه فيما مضى ولا فيما يأتي سبب يقتضي ذَلِكَ، بل كان منه أنواع المحاسن والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله ما هو لائق بمحله ، لكن العادة أن كلما أتي للنفوس بغير ما تحب وتألف وإن كان ممن تحب وتعتقد تعافه وتطرده، وقد قَالَ تعالى حكاية عنهم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} .
٤٩- قوله: (نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ) يعني: أن أهل الحق لا يخلو من أهل باطل يعادونه، وذكره في التفسير بلفظ: أوذي، من الأذى، وقوله: (وإن يدركني يومك) أي: وقت (إخراجك) أو وقت انتشار نبوتك (أنصرك نصرًا مؤزرًا) هو بضم الميم ثمَّ بهمزة مفتوحة ثمَّ زاي مفتوحة، أي: قويًّا بالغًا من الأزر وهو: القوة والعون، ومنه قوله تعالى: {فَآزَرَهُ}، أي: قوَّاه.
٥٠- (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الوَحْيُ) أما ينشب فبياء مفتوحة ثمَّ نون ساكنة ثمَّ شين معجمة مفتوحة ثمَّ موحدة، ومعناه: لم يلبث، كأن المعنى فجئه الموت قبل أن ينشب في فعل شيء، وهذِه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة.
وفتر معناه: احتبس بعد متابعته وتواليه في النزول.
ولعل الحكمة في إبطائه ذهاب ما حصل لَهُ من الروع والتشوف إلى عوده كما سيأتي،
٥١- فيه جواز تزكية الرجل بما فيه من الخير للأوصاف السالفة التي ذكرتها خديجة، وليس بمعارض لحديث: "احثوا في وجوه المداحين التراب" فإن ذَلِكَ إذا مدح بباطل وبما ليس في الممدوح.
اختصره ماجد محمد العريفي
يوم الاثنين ١٨-٧-١٤٣٧
**************
١- الأول: قولها: (مِنَ الوَحْيِ) في (من) هنا قولان:
- أحدهما: أنها لبيان الجنس.
- وثانيهما: للتبعيض،
- قَالَ القزاز بالأول، كانها قالت: من جنس الوحي، وليست الرؤيا من الوحي حتَّى تكون (من) للتبعيض، ورده القاضي، وقال: بل يجوز أن تكون للتبعيض، لأنها من الوحي، كما جاء في الحديث أنها جزء من النبوة،
٢- والوحي: الإعلام كما سلف، فرؤيا المنام إعلام وإنذار وبشارة، ورؤيا الأنبياء حق وصدق.
٣- قال المهلب :الرؤيا الصالحة هي تباشير النبوة؛ لأنه لم يقع فيها ضغث، قال: وهي التي لم يسلط عليه فيها ضغث ولا تلبيس شيطان (فيتساوى) مع الناس في ذَلِكَ بل خص - صلى الله عليه وسلم - بصدقها كلها، قَالَ ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ، وكان - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه دون قلبه ، فكان صدق الرؤيا في النوم في ابتداء النبوة مع رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ثم أكمل الله لَهُ النبوة بإرسال الملك في اليقظة، وكشف لَهُ عن الحقيقة كرامةً لَهُ منه - صلى الله عليه وسلم -.
٤- قَالَ القاضي وغيره: وإنما ابتدئ - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة فلا تحتملها قوى البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا مع سماع الصوت وغيره.
٥- في هذا تصريح من عائشة رضي الله عنها بأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة أقسام الوحي، وهو محل وفاق.
٦- قولها: (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) جاءت الرؤيا مشبهة فلق الصبح أي: ضياءه إِذَا أنفلق وانماز عن ظلام الليل، وذلك حتَّى يتضح فلا يشك فيه.
وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين، يقال: هو أبين من فلق الصبح، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، حكاه البخاري في كتاب التعبير عنه ، وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره؛ لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا، إلى أن تم برهانها وظهرت أشعتها.
٧- قولها: (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ) هو بالمد أي: الخلوة، وهو شأن الصالحين، والحب: الميل. قَالَ الخطابي: إنما حبب إليه الخلوة؛ لأن معها فراغ القلب، وهي معينة عَلَى الفكر، والبشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر، فينسى المألوفات من عادته، فيجد الوحي منه مرادًا سهلًا لا حزنًا وعِرًا، ولمثل هذا المعنى كانت مطالبة الملك لَهُ بالقراءة وضغط.
٨- الغار: النقب في الجبل، وهو قريب من معنى الكهف، وجمعه: غيران، وتصغيره غوير، والمغار والمغارة بمعنى الغار.
٩- حراء: وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسارك إِذَا سرت إلى منًى،
١٠- (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ). وقد فسر في الحديث بأنه التعبد، وهو صحيح، وأصله اجتناب الحنث -وهو: الإثم- وكأنّ المتعبد يلقي بعبادته عن نفسه الإثم،
وقال ابن هشام: التحنث: التحنف يبدلون الفاء من الثاء يريدون الحنيفية ،
وقال أبو (أحمد) العسكري: رواه بعضهم: يتحنف -بالفاء-
ثمَّ نقل عن بعض أهل العلم أنه قَالَ: سألت أبا عمرو الشيباني عن ذَلِكَ فقال: لا أعرف يتحنث، إنما هو يتحنف من الحنيفية أي: يتتبع دين الحنيفية، وهو دين إبراهيم عليه السلام.
١١- قولها: (قَبْلَ أَنْ يَنْزعَ إِلَى أَهْلِهِ). هو بكسر الزاي أي: يرجع، وقد رواه مسلم كذلك فقال: نزع إلى أهله إِذَا حَنّ إليهم فرجع إليهم، ونزعوا إليه: حنوا إليه، وهل نزعك غيره؟ أي: هل جاء بك وجذبك سواه! وناقة نازع: إِذَا حنت إلى أوطانها ومرعاها،
١٢- قولها: (ثمَّ يَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ). قَالَ أهل اللغة: الزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر ويقال: زودته فتزود.
١٣- فيه مشروعية اتخاذ الزاد ولا ينافي التوكل، فقد اتخذه سيد المتوكلين.
١٤- قولها: (حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ). أي: الأمر الحق وهو الوحي الكريم، (وللبخاري) في التفسير، ولمسلم: (حتَّى فجئه الحق) . أي: أتاه بغتة،
١٥- روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ابن أربعين سنة.
١٦- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("مَا أَنَا بِقَارِئٍ") ما هنا نافية، واسمها "أنا" وخبرها: "بِقَارِئٍ" والباء زائدة لتأكيد النفي أي: ما أُحْسِن القراءة، وقد جاء في رواية: "ما أُحْسِن أن أقرأ" وغلط من جعلها استفهامية لدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل عَلَى ما الاستفهامية، واحتج من (قَالَ) استفهامية بأنه جاء في رواية لابن إسحاق: "ما أقرأ؟ " أي: أيٌّ أقرأ؟ ولا دلالة فيه؛ (لجواز أن تكون ما) هنا نافية أيضًا.
وقال السهيلي في "روضه": قوله: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" أي: أنا أميٌّ، فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } أي: إنك لا تقرؤه بحولك ولا بصفة نفسك ولا بمعرفتك، ولكن اقرأه مفتتحًا باسم ربك مستعينًا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان. فالآيتان المتقدمتان والأخريان لأمته وهما قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم، وتعلمه نبيهم تلقيًا (من) جبريل نزله عَلَى قلبه (بإذن الله) ليكون من المرسلين .
١٧- قوله: ("فَغَطَّنِي") هو بغين معجمة، ثمَّ طاء مهملة مشددة أي: عصرني وضمني، يقال: غطَّني، وغتَّني، وضَغَطَني، وعَصَرَني، وغَمَرَني، وخَنَقَني، كلُّه بمعنًى.
والغط في الحديث: الخنق.
١٨- فيه المبالغة في التنبيه والحض عَلَى التعليم ثلاثًا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم عنه، وانتزع بعض التابعين، وهو شريح القاضي من هذا الحديث ألا يضرب الصبي إلا ثلاثًا عَلَى القرآن، كما غطَّ جبريل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا.
١٩- قوله: ("حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ") يجوز في الجهد ضم الجيم وفتحها ونصب الدال ورفعها، ومعناه: الغاية والمشقة، فعلى الرفع معناه: بلغ الجهد مبلغه، فحذف مبلغه، وعلى النصب معناه: بلغ الملك مني الجهد،
٢٠- الحكمة في الغط شَغْلُه عن الألتفات إلى شيء من أمور الدنيا، والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله (له)، وقيل: أراد أن يوقفه عَلَى أن القراءة ليست من قدرته، ولو أكره، وكلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه، فلما لم يكن عنده ما يقرأ كان ذَلِكَ (تنبيهًا لَهُ على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه، فكان الغط) تنبيهًا لَهُ كقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى }، لئلا يلحقه ريب عند انقلابها حية، فكذلك (أراد جبريل) أن يعلمه أن ما ألقي إليه ليس في قدرته إذ قَدْ عجز بعد الثلاث، وهي حَد (للإعذار)،
وقيل: سببه أن التخيل (والوهم) (٤) والوسوسة إنما تقع بالنفوس لا بالجسم فوقع ذَلِكَ بجسمه؛ ليعلم أنه من الله تعالى.
٢١- يؤخذ منه أنه ينبغي للمعلم والواعظ أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأمره بإحضار قلبه.
٢٢- قوله: ("فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ") هذا دليل الجمهور أنه أول ما نزل، وقول من قَالَ: إنما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } بعد {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، عملًا بالرواية الآتية في الباب، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} محمول عَلَى أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، كما هو ظاهر إيراد الحديث.
وذكر ابن العربي عن كريب قَالَ: وجدنا في كتاب ابن عباس: أول ما نزل من القرآن بمكة: اقرأ، والليل، ونون، ويا أيها المزمل، ويا أيها المدثر، وتبت، وإذا الشمس، والأعلى، والضحى، وألم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، والتكاثر، والدين، والكافرون، ثم الفلق، ثمَّ الناس، ثمَّ ذكر سورًا كثيرة،
وقال السخاوي: ذهبت عائشة (والأكثرون) إلى أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثمَّ: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {ويبصرون} و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، والضحى، ثم نزل باقي سورة اقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }، و {يَا أَيُّهَا المزمل}.
٢٣- (قولها): (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ). الضمير في (بها) يعود إلى الآيات: قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى آخرهن.
٢٤- ومعنى (يرجف): يخفق. والرَّجَفان: شدة التحرك والاضطراب.
٢٥- الفؤاد: القلب عَلَى المشهور، وفي قولِ: إنه عين القلب، وفي قولٍ: باطنه. وفي قول: غشاؤه. فهذِه أربعة أقوال فيه.
٢٦- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي") هكذا هو في الروايات بالتكرار، والتزمل: الاشتمال والتلفف، و (مثله) التدثر، ويقال لكل ما يلقى عَلَى الثوب الذي يلي الجسد: دثار، وأصلهما المتدثر والمتزمل، أدغمت التاء فيما بعدها،
٢٧- وللبخاري في التفسير من حديث جابر، ومسلم أيضًا: "دثروني وصبوا عليَّ ماءً باردًا فدثروني وصبوا عليَّ ماءً باردًا"، فنزلت:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }.
٢٨- قَالَ السهيلي: وفي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}: دليل من الفقه (وجوب) استفتاح القراءة ببسم الله، غير أنه أمر مبهم لم يبين لَهُ بأي اسم من أسمائه يستفتح حتَّى جاء البيان بعد (بقوله) : {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا} ثم في قوله: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثمَّ بعد ذَلِكَ كان (ينزل جبريل) ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة، وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة عَلَى ذَلِكَ،
٢٩- قولها: (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) (الروع) هو بفتح الراء: وهو الفزع.
٣٠- قولها: (والله مَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا). وهو من الخزي، وهو الفضيحة والهوان، وأصل الخزي عَلَى ما ذكره ابن سيده: الوقوع في بلية وشهرة تذله .
٣١- قولها: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) تحسن إلى قراباتك، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيفية صلة الرحم في بابها وبيان اختلاف طرقها.
٣٢- قولها: (وَتَحْمِلُ الكَلَّ)ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} وأصله من الكلال وهو الإعياء ويدخل في حمل الكل الإنفاق عَلَى الضعيف واليتيم والعيال وغير ذَلِكَ، والمعنى: إنك تنفق عَلَى هؤلاء وتعينهم، وقال الداودي: الكَلُّ: المنقطع.
٣٣- قولها: (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) معناه: تكسب غيرك المال المعدوم. أي: تعطيه له تبرعًا.
٣٤- (الْمَعْدُومَ) كما قاله صاحب "التحرير": عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب، وسماه معدومًا لكونه كالميت؛ حيث لم يتصرف في المعيشة،
٣٥- قولها: (وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الحَقِّ) أي: تعين بما تقدر عَلَى من أصابته نوائب حق أعنته فيها، والنوائب جمع نائبة: وهي الحادثة والنازلة،
وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأنها تكون في الحق والباطل، قَالَ لبيد - صلى الله عليه وسلم -:
فلا الخير ممدود ولا الشر لازب ... نوائب من خير وشر كلاهما
٣٦- معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله -سبحانه وتعالى- فيك من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، ومحاسن الشمائل. وذكرت ضروبًا من ذَلِكَ، وفي هذا أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء والمكاره، فمن كَثُرَ خيره حسنت عاقبته، ورجي لَهُ سلامة الدين والدنيا،
٣٧- وفيه مدح الإنسان في وجهه لمصلحة،
٣٨- ذكر البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" خصلة أخرى، وهي: وتَصْدُقُ الحديث وذكرها مسلم هنا، وهي من أشرف خصاله وكان يُدْعى بها من صغره،
٣٩- فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت لَهُ مخافة من أمر وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له، وأنّ من نزلت به نازلة لَهُ أن يشارك فيها من يثق بنُصْحِهِ ورأيه.
٤٠- فيه أيضًا أبلغ دليل وأظهر حجة عَلَى كمال خديجة، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وعظيم فقهها.
٤١- قولها: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزى ابن عَمِّ خَدِيجَةَ)، إنما كان ابن عمها: لأنها خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد.
٤٢- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تسبوا ورقة فإنه كان لَهُ جنة أو (جنتان) ".
٤٣- قولها: (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ). أي: صار نصرانيًا وترك عبادة الأوثان وفارق طرائق الجاهلية، والجاهلية: ما قبل نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالات.
٤٤- قولها: (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ) هكذا وقع هنا العبراني والعبرانية، ووقع في موضع آخر من "صحيح مسلم": العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل، وفي كتاب التعبير والتفسير من البخاري: يكتب الكتاب العبراني، فيكتب (بالعربية) من الإنجيل. وكله صحيح، أي: كان يكتب من الإنجيل ما شابهها لتمكنه من معرفة دينهم وكتابتهم، وقال الداودي: يكتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية بهذا الكتاب العربي، فنسبه إلى العبرانية إذ بها كان يتكلم عيسى -عليه السلام-.
٤٥- (وَكَانَ قَدْ عَمِيَ) فيه جواز ذكر العاهة التي بالشخص ولا يكون ذَلِكَ غيبة.
٤٦- (النَّامُوسُ) واتفقوا على أن جبريل يسمى الناموس وعلى أنه المراد في هذا الحديث، قَالَ الهروي: سُمِّي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي الذي لا يطلع عليه غيره .
٤٧- قوله: (جَذَعًا). يعني: شابًّا قويًّا حتَّى أبالغ في نصرتك ويكون لي كفاية تامة لذلك،
٤٨- إنما قَالً: "أو مُخْرِجِيَّ هم؟ ")؛ لأنها حرم الله، وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه، فأتى بهمزة الاستفهام على وجه الإنكار والتفجع لذلك والتألم.
فاستبعد - صلى الله عليه وسلم - إخراجه من غير سبب فإنه لم يكن منه فيما مضى ولا فيما يأتي سبب يقتضي ذَلِكَ، بل كان منه أنواع المحاسن والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله ما هو لائق بمحله ، لكن العادة أن كلما أتي للنفوس بغير ما تحب وتألف وإن كان ممن تحب وتعتقد تعافه وتطرده، وقد قَالَ تعالى حكاية عنهم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} .
٤٩- قوله: (نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ) يعني: أن أهل الحق لا يخلو من أهل باطل يعادونه، وذكره في التفسير بلفظ: أوذي، من الأذى، وقوله: (وإن يدركني يومك) أي: وقت (إخراجك) أو وقت انتشار نبوتك (أنصرك نصرًا مؤزرًا) هو بضم الميم ثمَّ بهمزة مفتوحة ثمَّ زاي مفتوحة، أي: قويًّا بالغًا من الأزر وهو: القوة والعون، ومنه قوله تعالى: {فَآزَرَهُ}، أي: قوَّاه.
٥٠- (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الوَحْيُ) أما ينشب فبياء مفتوحة ثمَّ نون ساكنة ثمَّ شين معجمة مفتوحة ثمَّ موحدة، ومعناه: لم يلبث، كأن المعنى فجئه الموت قبل أن ينشب في فعل شيء، وهذِه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة.
وفتر معناه: احتبس بعد متابعته وتواليه في النزول.
ولعل الحكمة في إبطائه ذهاب ما حصل لَهُ من الروع والتشوف إلى عوده كما سيأتي،
٥١- فيه جواز تزكية الرجل بما فيه من الخير للأوصاف السالفة التي ذكرتها خديجة، وليس بمعارض لحديث: "احثوا في وجوه المداحين التراب" فإن ذَلِكَ إذا مدح بباطل وبما ليس في الممدوح.
اختصره ماجد محمد العريفي
يوم الاثنين ١٨-٧-١٤٣٧