لا يمر علي يوم بليلته دون أن يمر ذكر ابن جرير على فمي، إما مشيدا به، أو ناقلا عنه، أو تاليا سيرته على جلسائي، أو مترحما عليه، ولا تنقضي عجائب هذا الإمام عندي،،، وكلما كنت في مجلس فدخل علينا مُسَلِّم فاختلف جلسائي في القيام أو القعود للسلام عليه يحضر ابن جرير للفصل في هذه المسألة في بحث كتبه في تهذيب الآثار ليس لأحد سواه مثله... ومن عجائب ربنا أنه لم يتصل بنا كل ما كتب هذا الإمام، ولو أنه وصل إلينا كل ما سطره قلمه لانقطع عمر طالب العلم - الفهم الثقف - قبل أن يقطع كتبه قراءة وتدبرا، ذاك لأنه حسبو لابن جرير عدة ما صنف مع عدة أيام حياته كلها منذ بلغ فكان لكل يوم 14 ورقة!! وقد مات ابن جرير عن نحو 86 سنة أي نحو 31025 يوم، أي أن مجموع ما ظهر للناس مما صنفه ابن جرير يساوي : 14× 31025 =434350 ورقة ..باعتبار ايام حياته منذ خلق واحسب إن شئت على اعتبار بلوغه فأنا ضعيف في الحساب. وهب أن الورقة منها كانت كورقة من تفسيره – من طبعة قديمة - . ثم هذا هو الذي ظهر للناس، وأما ما لم يظهر أو فُقد قديما أو خَص به بعض الناس دون بعض فلا يعلمه إلا الله.. وهذا الذي ظهر أتظن أنه وُلد مبيضا محررا، ما ظهر للناس إلا بعد مسودات كثيرة.. فرحم الله ابن جرير وأجزل مثوبته... وقبل مديدة سألني أحدهم عن الكائنة التي كانت بينه وبين الحنابلة، وعن التعصب الذي لقيه من البغاددة – سامحهم الله – فذكرت له القصة، وما جرى بينه وبين ابن أبي داود الحافظ من نزاع في تفسير قوله تعالى (عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا) وكنت قرأت تفسير ابن جرير مرات ، بل كتبه كلها قرأتها مرات ومرات، ولا عجب فالغر مثلي إذا تنزه في عقل كعقل ابن جرير يرتاع من هذا النمط المخيف! فاشتقت إلى النظر في هذا الموضع الذي حصل النزاع بينه وبين ابن أبي داود فيه، فاستفدت منه فوائد عظيمة.. وسأجعل نصيبي اليوم من ذكر ابن جرير مدارسة هذه المسالة معه. وقبل أن أبدأ أنقل تفصيل هذه المحنة التي حصلت له:
محنة ابن جرير مع الحنابلة وأهل بغداد كان بين ابن جرير وبين أبي بكر بن ابي داود (المولود سنة 230 – والمتوفى مع ابن جرير سنة 310) ما يكون بين الأقران، وكان ابن ابي داود من شيوخ الحنابلة في بغداد، وكانت بينهما منافسة أثمرت عن كتب وأجزاء حديثية طواها الدهر، فقد كتب ابن ابي داود جزءا في تضعيف حديث غدير خم، فكتب عليه ابن جرير كتابا في الفضائل بدأ بفضل الخلفاء الراشدين، ثم تكلم على حديث غدير خم واحتج لتصحيحه،،، وقد اطلع الذهبي على جزء منه فقضى العجب منه، وجزم بحدوث تلك القصة.. وكذلك كتب ابن جرير كتابا في فضائل القرآن والأعمال فكتب ابن ابي داود كتابا في فضائل القرآن.. - وما أحسن التنافس بين العلماء إذا أثمر مثل هذا - . قال الذهبي في السير (14/278):جمع ابن جرير طرق حديث:غدير خم، في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. قيل لابن جرير:إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي. فقال:تكبيرة من حارس. وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود، وكان كل منهما لا ينصف الآخر، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود، فكثروا وشغبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى أهـ. وأما بدء هذه المحنة فقد ذكره عبد العزيز بن هارون (كما في معجم الأدباء والوافي بالوفيات): قال: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضياً إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت يا أبا جعفر، ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد الله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثاً، وأغرب علي ثمانية عشر حديثاً . قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر بن سهل الدينوري وكان من العلماء والحفاظ للحديث فحدثته بذلك فقال: كذب، والله الذي لا إله إلا هو، لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي ودعا معه أهل العلم وكنت حاضراً ومعنا ابن حمدان فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من الاختلاف فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه، وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء. فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به، وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثاً، وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر: هذا خطأ من جهة كذا، ومثلي لا يذاكر به فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي ... وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافة فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحابا يُعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان ابن جرير قد كتب على بابه: سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس فأمر نازوك بمحو ذلك. وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث: لأحمد منزل لا شك عال ... إذا وافى إلى الرحمن وافد فيدنيه ويقعده كريماً ... على رغم لهم في أنف حاسد على عرش يغلفه بطيب ... على الأكباد من باغ وعاند له هذا المقام الفرد حقاً ... كذاك رواه ليث عن مجاهد فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يزل في ذكره إلى أن مات. ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجده مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء ..أهـ إلا ان هذا كله لم يرضِ الحنابلة عليه فكانوا يمنعون طلبة العلم من الدخول عليه. قال ابو عبدالله الحاكم: سمعت حسينك بن علي النيسابوري: أول ما سألني ابن خزيمة قال لي: كتبت عن محمد بن جرير الطبري قلت: لا. قال: ولم قلت: لأنه كان لا يظهر. وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه. فقال: بئس ما فعلت، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر . قال الحاكم:وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول:قال لي:أبو بكر بن خزيمة:بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت:بلى، كتبته عنه إملاء. قال:كله؟ قلت:نعم. قال:في أي سنة؟ قلت:من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومائتين. قال:فاستعاره مني أبو بكر، ثم رده بعد سنين، ثم قال:لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة أهـ. واستمرت نقمة العوام عليه حتى وفاته، ولذلك دفن في رحبة بيته، ولم يظهر للناس وصلى عليه خلق ورثي بشعر كثير.. وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ترجمة حسنة إلا انه لم يذكر هذه المحنة ، والله تعالى أعلم.
فائدة في الرواة عن الإمام أحمد: قول الإمام ابن جرير: ليس لأحمد رواة يريد رواة فقه على طريقة الفقهاء وأصحاب المذاهب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذين نقلة النصوص عن الإمام أحمد كالخرقي وغيره قد فاتهم كلام كثير ولم يبلغهم سائر النصوص، قال: فإن كلام احمد كثير منتشر جدا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل ؛ لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ العلم عنه . " وأبو بكر الخلال " قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه وأما ما جمعه من نصوصه فمن أصول الدين مثل : " كتاب السنة " نحو ثلاث مجلدات ومثل أصول الفقه والحديث مثل " كتاب العلم " الذي جمعه من الكلام على علل الأحاديث مثل " كتاب العلل " الذي جمعه من كلامه في " أعمال القلوب والأخلاق والأدب " ومن كلامه في " الرجال والتاريخ " فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه اهـ. وحتى هذه المسائل المروية عنه فقد كانت بحسب أحوال أصحابها. قال شيخ الإسلام: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه ؛ فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة واجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام مسجد دمشق أهـ.
قال تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعك ربك مقاما محمودا) بدأ ابن جرير رحمه الله تفسير الآية كعادته بذكر الأقوال مسندة إلى أصحابها: فذكر في تفسير المقام المحمود قولين: الأول: قول أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم أهـ واستدل له بما ورد في السنة. ثم ذكر القول الثاني: فقال: وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه على عرشه. ثم رواه عن مجاهد من طريق ابن فضيل عن ليث... ومن هذه الطريق رواه ابن ابي شيبة في مصنفه كذلك (31652). مناقشة قول مجاهد: وهذه المناقشة تتناول الإسناد والمتن. فليث الذي رواه عن مجاهد مضطرب الحديث كما لا يخفى، وقد تفرد به عنه. وقد روى ابن جرير وغيره عن مجاهد قولا آخر بإسناد على شرط الصحيح، من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مقاما محمودا شفاعة محمد يوم القيامة.. ولو أعملنا قواعد الحديث على هذين الخبرين عن مجاهد لم نجد بدا من أن نحكم على أن الرواية الأولى من تخاليط ليث بن أبي سليم، وخبره على اصطلاح أهل الحديث منكر، لا يلتفت إليه. ولنكارته تجنبه ابن أبي حاتم فلم يخرجه في التفسير لا سيما أنه من رواية ابن فضيل عنه!، وابن فضيل فيه ما فيه. وقد لخص ابن كثير أقوال أهل العلم في هذه الآية من تفسير الطبري ولكنه لم يذكر قول مجاهد هذا بل ضرب عنه صفحا ! نعم قد جاء هذا عن غير مجاهد: قال الطبراني (في الكبير 10/208) حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح , حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح , حدثني ابن لهيعة , عن عطاء بن دينار الهذلي , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , أنه قال: في قول الله عز وجل:"عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا"[الإسراء آية 79] , قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل , ويشفع لأمته , فذلك المقام المحمود. وهذا منكر من تخاليط ابن لهيعة، وعطاء بن دينار ضعيف، وروايته عن ابن جبير خاصة أشد ما تكون ضعفا. ورواه الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال : يجلسني معه على السرير " وهذا حديث موضوع ولا شك، ولا تحل روايته إلا ببيان وضعه.
ثم إن ابن جرير رجح بين القولين فقال: و أولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله. وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) سئل عنها، قال: "هِىَ الشَّفاعَةُ". حدثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا مَكّيّ بن إبراهيم، قال: ثنا داود بن يزيد الأوْدِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"... ثم ساق الأحاديث... ولو أدعى مدع أن تفسير المقام المحمود بالشفاعة متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لما أبعد، ونظرة عجلى على ما نقله ابن كثير في تفسير هذه الآية من الروايات يثبت هذا ويقرره. ثم تلطف ابن جرير غاية التلطف فختم المبحث بقوله: وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما. وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على أرضه، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه. وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها، هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى مباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه. فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده (معه). حدثني عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن الجريريّ، عن سيف السَّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ تبارك وتعالى ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه ، قيل: أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه، أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ ولا مباين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك أهـ. فواعجبا لابن جرير ما حمله على هذا الشطط في آخر قوله إلا ما كان يلقى من العامة، فقد كان عندهم أن من لم يثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متهم في دينه، متجهم في عقيدته، غير محب للنبي، ومع أن ابن جرير أراد أن يبين لهم أن التشريف ليس بالمكان بل بالمكانة فإنه تكلف بالاستدلال بخبر لا يبت عن عبدالله بن سلام. وقد نقل القرطبي هذا القول عن ابن جرير وعلق بشيء لا بد لك من قراءته فقال: القول الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، وروت في ذلك حديثا. وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد. ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبى داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله. - قلت: وسيأتي الحديث عن ابن أبي داود بعد أن أفرغ من هذه المقالة – قال أبو عمرو بن عبدالبر: مجاهد وإن كان أحد الائمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثانى في تأويل قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر اهـ. قلت – أي القرطبي - : ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروى عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال: يجلسه على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل، لان الله تعالى كان قبل خلقه الاشياء كلها والعرش قائما بذاته، ثم خلق الاشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا. قيل: هو الآن على الصفة التى كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الارض، لان استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الاحوال من القيام والقعود والحال التى تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه. وأما قوله في الاخبار: " معه " فهو بمنزلة قوله: " إن الذين عند ربك "، و " رب ابن لى عندك بيتا في الجنة ". " وإن الله لمع المحسنين " ونحو ذلك. كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان أهـ. وقال الواحدي : هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه. الأول : أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد. الثاني : لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً. الثالث : أنه قال {مَقَامًا} ولم يقل مقعداً {مَّحْمُودًا} ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود. الرابع : أن الحمقى والجهال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه. الخامس : أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى باختصار أبي حيان (البحر المحيط 6/52).
وفي تفسير ابن جرير لهذه الآية من الفوائد ما يلي: اولا-أن التهجد لا يكون إلا بعد نوم ورقدة، لأن الهجود في الأصل هو النوم، واستدل على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبأقوال السلف. ثانيا-ان التهجد على النبي صلى الله عليه وسلم فريضة وللأمة نافلة، وروى عن مجاهد : قال: النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها، فليست للناس نوافل. ثم قال: وأولى القولين بالصواب في ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته ، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرَفه من الحديبية، وأنزل عليه( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) عام قبض. وقيل له فيها( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) فكان يُعدُّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرّة ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد. ثالثا-تعليل معنى قول أهل العلم عسى من الله واجبة، وقال: وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه، إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة. وهذا نصيب ابن جرير مني هذا اليوم، ولعلي اعود إليه قريبا، فالعود إليه أحمد... ولابن أبي داود حديث يأتي إن شاء الله ..
وقد كان من بعض حنابلة بغداد في القرن الرابع -رحمهم الله-شيء من البغي الذي يدخل أصحاب الحق خاصة إن كانت معهم دولة.. وقد تأملت مراراً فيما صنعوه مع الطبري،وفيما فعله البربهاري مع أبي الحسن الأشعري،وتحسرتُ على ما يصنعه البغي إذا خالط صاحب الحق فبغى به.. وكم لذلك في أيام الناس من نظائر..
أخي ابافهر السلفي - رزقني وإياك أحوال السلف - أهل الفضل والعلم يعرفون مقامات العلماء، ويعرفون الحق لأهله، ولكن غالب الشغب يكون من الطغام وحشْوية المذاهب..
وهؤلاء زبد يذهب جفاءا
وفي أحيان قليلة يعمي الحسد عن رؤية الحق، وتمنع المنافسة عن الاعتراف بالفضائل، ويقوى حظ النفس، وهوى الزعامة فيقع بعض العلماء في ما واجبهم الترفع عليه، والتجافي عنه..والانصاف عزيز..
ومع ذلك فأين نحن - في هذا الزمان - من هذا وذاك، اعني طلاب العلم في هذا الزمان فقد ابتلوا بالقيل والقال..والطعن بحق وبغير حق، فلا الطاعن فينا عالم ولا المطعون سالم..
والله المستعان..ولا حول ولا قوة إلا به..
وأما ما تفضلت به مما جرى بين البربهاري والأشعري فقد يكون مدخله غير هذا الذي نحن فيه..
ولعلنا نتواصل لاحقا حول هذا الموضوع..
يهمني الآن أن أكتب شيئا عن الإمام أبي بكر بن أبي داود فأستأذنك أخي.
تعرض المصلح وحامل السنة والناطق بالحق القائم به على خلاف ما عليه الناس للفتن = سنة جارية غالبة على أحوال المصلحين المجددين..
غير أنه ليس من مقامات الكمال أن يقصد العالم لتعريض نفسه للمحن والأرزاء وفتن العامة،وإنما محل النظر فيما إذا ازدحم البيان والبلاء من غير سعي منه ولا تعرض..
فالرأي : أنه متى تعين على العالم القيام بالحق وكان في قعوده فتنة عامة تعم الأمة = وجب قيامه ولو كان في ذلك ذهاب نفسه.. ومتى كان البلاء إنما هو في ازورار الناس عنه ونسبتهم إياه للمخالفة وطعنهم فيه بما لا يوقع الضرر عليه في بدن أو أهل أو مال = وجب عليه البيان وعدم الكتمان ؛إذا هذا الصنف من البلاء لا ينفك عنه بيان الحق غالباً.. أما متى كان كتمان الحق لا تترتب عليه فتنة عامة ويترتب على البيان أذى في البدن أو المال أو الأهل = فللعالم الرخصة في الكتمان والمداراة والرفق والتلطف،وفي سير بعض العلماء أخذ بالعزيمة،وكانت الرخصة تسعهم فعلى الله أجرهم.
والقدر المتفق عليه ألا يترتب على أخذهم بالعزيمة مضرة ومفسدة هي أعظم من مضرة أخذهم بالرخصة والعكس..
فهذه طبقات ثلاث ولها حواشي وزوائد وأطراف لا تخفى على الفقيه المتأمل.. وقانا الله وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن..
شكر الله لك وبارك فيك.
لا يخفى على شريف علمكم أن هذا يخضع لأمور كثيرة بحسب الأمر نفسه، ومدى مخالفته، ويضبطه قواعد مثل درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وقواعد أخرى،،
ويذكرني هذا بما حصل في دولة بني أمية لما أخروا الصلاة على الخطبة في العيدين واستمروا على ذلك حتى ظنه الناس سنة، وصار الذي يدعوا الى السنة بدعيا في نظرهم.
وحتى قال ابو داود السجستاني: لما جاء بنو العباس وقدموالصلاة على الخطبة خرج الناس وهو يقولون : بدلت السنة بدلت السنة!!
فالله المستعان..
وتفضل أخي عقيل بزيارتنا ...
أشكر أخي الكريم الدكتور أحمد السلوم على هذه المشاركة القيمة، ورحم الله العالم الجليل ابن جرير الطبري الذي نفع الله بعلمه.
ولدي سؤال حول هذه المسألة :
من العلماء الذين أخذ عنهم الطبري في أول طلبه للعلم اللغة والنحو الإمام أحمد بن يحيى الشيباني المشهور بثعلب، شيخ الكوفيين في النحو واللغة في زمانه ، وقد توفي سنة 291هـ، ولم أجد - حسب بحثي - ذكراً له في تفسير الطبري لا في مسائل النحو ولا في مسائل اللغة وشرح الشعر، فهل فعلاً لم يذكره الطبري ؟ وما هي العلة يا ترى في إغفاله وهو شيخه في أمورٍ لصيقة بالتفسير؟ هل يصح تعليل أحد الأصدقاء بأنه قد يكون سبب ذلك أن ثعلباً كان يحسب على الحنابلة، وأن الطبري أغفله مراعاة لهذه المحنة مع الحنابلة، ولا سيما أنه يملي تفسيره ببغداد ؟
أرجو إبداء الرأي في هذه المسألة مشكوراً .
اخي الكريم الدكتور عبدالرحمن الشهري وفقه الله...
ارجو ان تكون بصحة وعافية..
وأن تكون هديتي إليك (دلائل النبوة للحافظ المستغفري) قد وصلتك.
ورحم الله ابن جرير لقد مضى مقلا من الدنيا، عازفا عن ملذاتها، مقبلا على العلم والتعلم، والنصح لله وكتابه ورسوله ..
وهو أحد أربعة حفاظ من أهل قرنه من أربعي الحافظ أبي الحسن، الذين ذكرهم طبقة بعد طبقة..
اولا: لا يخفى على شريف علمكم أن الطبري رحمه الله كوفي المذهب، لكنه لا يتعصب لمذهبه، بل يذكر المذهبين مع حججها، ويرجح بإنصاف على نحو ما يفعل في مسائل الفقه والتفسير والقراءة..فهو مجتهد مطلق في كل العلوم التي تصدى لها..
نعم، قد يستخدم مصطلحات الكوفيين كأن يقول أجرت العرب هذا الحرف وما أجرت هذا ونحو ذلك، يريد ما ينصرف ومالا يصرف ..الخ.
ثانيا: ألحظ في تفسيره غالبا يجد أنه لا يذكر شيوخه إلا في رواية، يعني في إسناد، وغالب النحو الذي يذكره لا يضيفه لأحد بل يصوغه بعبارته، لأنه نحو عام يشترك فيه أهل الكوفة كلهم، والطبري موصوف بحسن العبارة، وجودة الصياغة.
وكذلك يذكر نحو البصرة دون أن ينسبه إلى شيخ واحد منهم، حتى حينما يذكر الأقوال الشاذة المشهورة بأصحابها فإنه يذكرها دون نسبة، وانظر لذلك تفسيره لقول الله عز وجل (ولات حين مناص) كيف ذكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - وهو كوفي المذهب- دون أن يسميه ثم ذكر حجته من كتابه
ثم رد عليه، وربما هذا يسجل في ورع هذا الشيخ وتوقيه، وفي منهجيته في التفسير، والشي نفسه ألحظه جليا في كتابه العجاب تهذيب الآثار، مع أنه يشرح في التهذيب لغة الحديث ويبين نحوه في فصل يعقده بعد كل رواية، ومع ذلك فإنه لا يسمي أحدا.
ثالثا: لا شك أن ابن جرير استفاد من ثعلب وغيره من شيوخه، لكن عدم ذكره ليس لأجل المحنة المذكورة قطعا، وهناك أدلة:
منها: أنه لم يذكر ثعلبا ولا غيره من الشيوخ في كتابه الا ما ندر...فهل يقال فيهم كما قيل في ثعلب!
ومنها: أن ثعلبا ليس من كبار شيوخ ابن جرير ..ولا لازمه ابن جرير طويلا..ولا أبعد إن زعمت أنه كان لابن جرير شيخ كتاب فحسب..، وهو يكبر ابن جرير بنحو 24 سنة تقريبا..
ومنها: أن ابن جرير ألف كتابه (التفسير) في حياة ثعلب، ثم أملاه سنة 83 إلى سنة 90 يعني قبل وفاة ثعلب، وابن جرير تعرض للمحنة آخر أيام حياته سنة 310 .
فإنه من المحنة ما استطاعوا اظهار جنازته للعامة فدفنوه في رحبة بيته.
ومعلوم أن المحنة لم تدم طويلا أبدا بل إن بعضهم ضرب صفحا عنها كأنه يشكك بها، أعني الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، تماما كما ضرب صفحا عن محنة الإمام أحمد فلم يذكرها.
ثم - سيدي الكريم - بين تأليفه للتفسير ووفاته 30سنة ، وقد تغير اجتهاده في المسألة ففي التفسير مع اعترافه بخطأ هذا التأويل إلا أنه لم يمنعه، وفي آخر حياته أنشد:
سبحان من ليس له أنيس ولا على كرسيه جليس،
فقد عد هذا القول مخالفا للتنزيه ولذلك ابتدأ بالتنزيه فقال: سبحان...
اليس كذلك؟!
اخيرا: حنبلية ثعلب ليست حنبلية مذهب، ومن أين لنا أن نثبت ذلك، ألمجرد كونه دخل على الإمام أحمد مرة فأنشده الإمام أبياتا من الشعر!! يعد حنبليا، وهل كان المذهب قد تبلور في مذهب آنذاك.
بل لو قلت إن ابن جرير أحق وأعلم بالإمام أحمد من ثعلب لما أبعدت..
أخي العزيز الدكتور أحمد السلوم وفقه الله : أشكرك على هذه الإجابة العلمية الموفقة ، وأشكرك على هديتك التي وصلتني في حينها، ولم أجد سبيلاً لشكرك لعدم تلقي أي ردٍّ من قبلُ على رسائلي التي أرسلها إليك عبر الهاتف الجوال أو البريد فتيقنت أَنَّني أُرسلُ لرقمٍ خاطئٍ أو بريدٍ خاطئ، فجزاك الله خيراً وتقبَّل منك.
وأمَّا ما تفضلتم به من الجواب فقد أحسنتم تصوير الموضوع لي، ولم أكن تتبعته من قبلُ بِهذه الصورة، وإنَّما أخذتُ كلام صاحبي عن حنبليَّة ثعلبٍ دون مراجعةٍ قبل أيامٍ، وكلامك وجيه .
وأما تتلمذ الطبري على ثعلب فقد ذكر أهل التراجم مثل ياقوت الحموي في معجم الأدباء (6/2451-2452) هذه العبارة في ترجمة ابن جرير الطبري :
(وقال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد: سَمعتُ ثعلباً يقول : قرأ عليَّ أبو جعفر الطبري شعرَ الشعراءِ قبل أن يكثرَ الناس عندي بِمدةٍ طويلةٍ. وقال أبو بكر بن المُجاهد، قال أبو العباس - أي ثعلب - يوماً : من بقي عندكم - يعني في الجانب الشرقي ببغداد - من النحويين؟ فقلتُ : ما بقي أحدٌ،مات الشيوخ. فقال : حتى خلا جانبكم؟ قلتُ : نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي : ابن جرير؟ قلتُ : نعم . قال : ذاك من حذاق الكوفيين. قال أبو بكر : وهذا من أبي العباس كثيرٌ، لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه)
ففهمتُ من هذه العبارات - ولا سيما كلام غلام ثعلب الزاهد - أن الطبري قد لازم ثعلباً في أول طلبه للعلم قبل ازدحام الطلاب على ثعلب نفسهِ بِمدةٍ طويلةٍ، وقرأَ عليه شعرَ الشعراء، وهذا - في نظري - لا يعني الاقتصار على قراءة الأشعار فحسبُ، وإِنَّما يعني الملازمة وفهم تلك الأشعار، ومعرفة غريبها، وقد يكون سبق ذلك دراسة للنحو على ثعلب والله أعلم فليس مجرد تلمذة كتاب كما يبدو. وأما إغفال الطبري لذكر شيوخه ما لم يرد ذلك في الأسانيد فهذا واضح في كتابه كما تفضلتم رحمه الله وغفر له .
أخي الدكتور عبدالرحمن:
نفعني الله وإياك بعلوم أئمتنا،،،
الأحظ من عمل الشيخ شاكر رحمه الله أن غالب الشواهد الشعرية التي يذكرها ابن جرير - لا سيما التي يستدل بها للكوفيين - يخرجها الشيخ من مجالس ثعلب..
فلا شك في استفادة شيخ الإسلام ابن جرير من ثعلب..رحمهم الله أجمعين..
وأعتذر إليك شيخ عبدالرحمن عن تقصيري بالتواصل مع الفضلاء من أمثالكم، ف(لعل له عذرا وأنت تلوم ) ، وندعوكم الى زيارتنا في حفر الباطن، وقضاء أيام في أجوائها الحارقة ..
وأتطلع للتواصل معكم، والتشرف بسماع صوتكم..والله يحفظكم ويرعاكم..
بارك الله فيكم يا دكتور أحمد وشكر لكم ، وقد تبين لي أن رقم الجوال الذي وضعته صحيح، ولكن يبدو أنك لا تجيب إلا الخواص.
يسعدني التواصل معكم بإذن الله ، وأسأل الله لكم التوفيق دوماً .
شكرا لك أخي تيسير على هذا التنبيه، فهو جمع قر في ذهني من بعض الكتب، فلنستبدله بما أحببت ، على أنه لا يوجد في اللغة ما أسميته بجمع النشاز، أليس كذلك؟ وشكرا لمطالعتكم مقالتي، ونستفيد من ملاحظاتكم.
أخي عبدالرحمن، المتصل إما أن يكون ذا مروءة مثلك إجابته فرض، وإما أن يكون ذا حاجة إجابته فضيلة، ولستُ ممن لا يجيب إلا على الخواص، أسعدك الله وأسبغ علينا وعليك لباس الستر والعافية.