محمد أركون.. ومأزق البحث الوجودي للباحث ياسر المطرفي

المستصفى

New member
إنضم
16/07/2006
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
محمد أركون.. ومأزق البحث الوجودي

ياسر بن ماطر المطرفي
جامعة الملك عبدالعزيز بجدة

تُشكِّل التساؤلات حول المعرفة والوجود أهم القضايا التي تسعى جميع الأديان والفلسفات للجواب عنها، والمفكرون هم تبعاً لذلك يبحثون عن أجوبة لتلك التساؤلات، ومن أهم المفكرين المعاصرين شديدي الصلة بالبحث في ذلك المفكر الجزائري محمد أركون.
والبحث في تحديد موقف أركون من هذه التساؤلات الكبرى له خصوصية تبعاً لخصوصية النص الأركوني، إذا ما قورن بنصوص أقرانه من المفكرين الحداثيين.
وتتمثل هذه الخصوصية في الترسانة المفاهيمية التي تحملها كتابات أركون، والتي تحوي متابعة لآخر تطورات المناهج الفلسفية التي تنتجها المنظومة الفكرية الغربية، وهذه المناهج التي تزخر بها كتاباته تُعَدُّ عند بعض المفكرين سر قوة النص الأركوني، إلاّ أنها تعتبر عند آخرين هي واحدة من أسباب ضعفه؛ لأن مسارعته لتلك المناهج ربما قادته إلى تبني نظريات لم تتشكل في طورها النهائي بعد حتى في الحقول التي نشأت فيها، بالإضافة إلى أنهم يعتبرون أن قصارى ما حصل في كتابات أركون هو عملية استعراض لمعرفته بجديد تلك المناهج دونما قدرة على تفعيل كثير منها في مشروعه.
كما أن النص الأركوني في مجمله نص مترجم من الفرنسية إلى العربية، وقد بذل مترجمه قدرة كبيرة في تطويع الجهاز المفاهيمي الغربي ونقله إلى العربية، وقد لقيت هذه الترجمة قبول كاتب النص الأصلي وإعجابه، وهي مع ذلك لم تسلم من نقد وُجِّه إليها من بعض النقاد الحداثيين؛ فطرابيشي يتردّد في فهم بعض سياقات أركون ويقول: «ولسنا ندري من يتحمل مسؤولية هذا الالتباس: أهو المؤلف نفسه أم مترجمه؟». [من النهضة إلى الردة 145].
لكن الزاوية الأهم التي أبديت حول ترجمته أن المترجم ربما مارس نوعاً من التخفيف لحدة الأفكار التي كان يطرحها أركون، وهذا ما جعل المفكر التفكيكي علي حرب-بالرغم من تقديره للجهد الذي بذله صالح في ذلك- أن يقول: «المهم أن تفسير صالح يقوّض مشروع أركون من أساسه وينسف مهمته النقدية... لاشك أن قراءة صالح للنص الأركوني تشكل حجباً للواقع والحقيقة، وهو حجب مضاعف؛ لأنه حجب لما أراد أركون معرفته والكشف عنه». [نقد النص65- 67].
إلاّ أن هذه التحفظات التي أُبديت حول ترجمته لا تقلل من شأنها-حتى عند منتقديه- خصوصاً أنها لقيت قبولاً من أركون نفسه، كما أن هاشم صالح إن مارس تخفيفاً لبعض أفكار النص الأصلي في بعض المواطن فإن أفكار أركون لن تساعده في مواطن أخرى من كتبه.
وإذا تجاوزنا مسألة الترجمة، وانتقلنا إلى مسألة طبيعة الخطاب فأركون يتراوح نصه بين الوضوح تارة والغموض تارة أخرى خصوصاً كلما اقتربنا من المناطق الخطرة، وهذا ما جعل أدونيس يقول: «إن أقرب مفكر على ملامسة هذه المسلمات، ولكن بشكل مداور وغير مباشر هو محمد أركون... إن محاولة أركون تحتاج إلى مزيد من الجرأة، وإلى مزيد من التوسّع، وإلى مزيد من البناء على الأطروحة التي يقدمها، وهو يعترف بذلك، وأنا ناقشته أكثر من مرة، ولديه خشية من أن يؤدي ما يقوله إلى أن يدفع حياته ثمنا لذلك، وهو ليس مستعداً كما قال لي، ليدفع هذا الثمن». [الحداثة وانتقاداتها إعداد محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي (ص90)].
ويشير إلى هذا المعنى علي حرب عندما يتحدث عن موقف أركون من موضوع القرآن حيث يقول: «يبدو لي أن أركون يتردّد في الإجابة، إنه يجيب كل مرة إجابة مختلفة، تُنبي عن الحرج والخشية في مواجهة هذه المشكلة الحسّاسة، بل هو يلجأ إلى الحيلة والمداورة، بمعنى أنه يجيب ولا يجيب...» [الممنوع والممتنع 119].
ولكننا بالرغم من ذلك نستطيع القول: إن أركون من خلال مجموع كتبه استطاع أن يقول أغلب ما لديه على أقل تقدير.
وحتى تتضح الملاحظة السابقة فللقارئ أن يلاحظ إشكالية الوضوح في هذا الحوار الذي يقول فيه أحد محاوري أركون: «هل أنت مستعد لأن تضع موضع الشك ولو آية واحدة من القرآن طبقاً لما فعلته منذ لحظة؟
أركون: إن هذا النص معترف به اليوم بأنه نص تاريخي من قِبل كل الباحثين سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم يهوداً، أم من أي اتجاه آخر، وهم مستعدون للاعتراف بأن النص الذي ظهر في القرن السابع الميلادي هو نفسه الذي يوجد بين أيدينا اليوم في هذا القرن العشرين. ونحن كمسلمين، هل نستطيع أن نضع موضع الشك هذه الآية التي قرأها أحد الحاضرين منذ بضع دقائق؟».
ولأنه لم يجب بشكل مباشر وواضح فإن محاوره يعيد السؤال مرة أخرى بشكل أكثر وضوحاً فيقول: «سؤالي واضح: بما أن القرآن كلام الله، فهل من الصحيح أم لا أن إبراهيم قد زار مكة... أود أن تجيبني بشكل قاطع لا لبس فيه ولا غموض: أي بنعم أو لا».
يعود أركون ليؤسس دفاعه عن عدم تحديد الجواب بناء على النظرية الفلسفية التي لا تؤمن بالمقابلة بين ثنائية الصواب والخطأ فيقول: «عجيب أمرك! إن إلحاحك على طلب الجواب بنعم أو لا، يدل على أنك لا تزال سجين الفكر الثنوي. كما ويدل على مدى صعوبة إحلال المنطق التعددي محل المنطق الثنوي الاستنباطي». [الإسلام، أوروبا، الغرب، محمد أركون (ص76)، الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون (ص 57)].
هذا التراوح بين الوضوح والتردّد في فكر أركون ينبغي أن يفهم أولاً في سياق تطور المناخ الفكري الذي يعيشه أركون، فما كان يتردّد في الإفصاح به في زمن، لم يعد يتردّد في كثير منه في زمن لاحق، كما أن ما تردّد في قوله في مناسبة، فإنه أفصح عنه في مناسبة أخرى، والموقف من وثوقية نص القرآن هو أكبر شاهد على هذه القضية، فإن موقف أركون من ذلك موقف حاسم، فهو يتلخص في أن القرآن انتهى إلى قرآنين: قرآن «ضاع إلى الأبد ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه أو يتعرف عليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث» ؛ وعليه «من الصعب تحديد مضمون القرآن أو محتواه».
وسبب هذه الصعوبة أن «هذا الظرف العام لا يمكن التوصل إليه إطلاقاً؛ لأننا لا نملك شريط تسجيل أو فيلماً مصوراً يبين لنا الرسول وهو يتحدث إلى أصحابه أو يتلو عليهم لأول مرة. هذا الشيء مضى وانقضى ولا حيلة لنا به. ففي ذلك الوقت لم تكن هناك آلات تسجيل ولا كاميرات تصوير».
أما القرآن الثاني وهو ما يُطلق عليه اسم المصحف فهو: «هذا المجلد المادي الذي ألمسه وأمسكه بيدي، وأنقله من مكان إلى آخر، وأقرؤه وأفسره بعد أن أقوم بفرائض الوضوء والطهارة».[القرآن من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، محمد أركون (ص 38- 188)، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون (ص90)].
وأخيراً ينبغي أن يفهم هذا التراوح في نص أركون بين الوضوح والتردّد في سياق النظرية الفلسفية التي يتبناها أركون في نظره وتقويمه للمفهوم الحقيقة، فعند أركون «لا توجد أصول دائمة وأبدية، وإنما هناك أصول متغيِّرة بتغير العصور لكي تتناسب مع المستجدات، وبالتالي فالتأسيس النهائي للحقيقة أو للعقل شيء مستحيل؛ لأن الحقيقة أصبحت نسبية، ولم تعد مطلقة وأبدية كما يتوهم الأصوليون من كل الأنواع والأجناس». [معارك من أجل الأنسنة، محمد أركون (ص 37، حاشية 2)].
ومن أجل ذلك فإن «الخطأ والكذب..ضروريان للحياة أكثر من الحقيقة» بل إن البشر «لا يعيشون فقط على الحقيقة، بل يمكن القول بأن الخطأ أو الوهم أو الخيال ضروري للحياة مثل الحقيقة إن لم يكن أكثر».[الإسلام، أوروبا، الغرب، محمد أركون (ص27)].
وبذلك يمكن أن نفهم كلام هاشم صالح عندما أراد أن يبين مجالات اهتمام أركون في نظره حول القرآن فقال: «ليس مهماً في نهاية المطاف هل هذه النصوص صحيحة أم لا؟ موثوقة أم لا؟ تعود على صاحبها والفترة المنسوبة إليها أم لا؟... أصبح الشيء الأساسي في نظره هو التالي: كيف استطاعت هذه النصوص أن تشغل وعي الناس وتسيطر عليهم طيلة قرون وأجيال؟...». [الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون (هامش - ص 58)].
وأخيراً-فيما يتعلق بخصوصية النص الأركوني- فإن نص أركون يختلف تبعاً لاختلاف الجمهور الذي يُوجّه إليه، فهو يقول عن أحد كتبه: «إني في هذا الكتاب أتوجّه إلى الجمهور الأوروبي، ولو توجّهت إلى الجمهور الإسلامي لتغيرت لهجتي إلى حد كبير». [الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ص 179].
وهذا الاختلاف قد يشكل ازدواجية ربما تؤثر في طبيعة فهم الخطاب وتحقيق مراداته، يشير إلى هذا المعنى جورج طرابيشي فيقول: «الازدواجية التي يصدر عنها أركون في قتاله على الجبهتين (=الأوروبية والعربية) تقابلها ازدواجية موازية في إستراتيجية الخطاب تبعاً للجمهور المخاطب... ومن هنا شعور القارئ الذي هو مثلي بأن أركون يسدّد ضرباته في غير محلها، ويخدم تكتيكياً إستراتيجية هي غير إستراتيجيته». [من النهضة إلى الردة 142].
وبالرغم من كل تلك الخصوصية فإن أركون ليس عصياً على الفهم، ومن خلال تجربة لا بأس بها مع فكره فإني وجدت أن أكثر ما يمكن أن يختصر على القارئ الذي يريد أن يعرف خلاصة فكر أركون هو النظر في حواراته والتي تزخر بها كتبه.
فالحوارات التي تُجرى مع أركون يمكن أن تكشف عن كثير من الأبعاد الفكرية التي ربما تغيب أثناء كتابته البحثية المجردة؛ لأنها توصل القارئ غير المتخصص إلى النهايات التي يريد أن يصل إليها دونما حاجة إلى كثير من التعب والعناء.
ولأن العملية النقدية التي تُمارس مع النص الأركوني تقع تحت طائلة عدم الفهم فأركون نفسه يذكر أن بعض القضايا لم تُفهم عنه فيقول: «لم يحاول أحد أن يفهم جيداً ما أريد قوله».[قضايا في نقد العقل الديني (ص 186)].
فإنني سأقف مع واحد من أهم الحوارات التي تعرضت للمسألة الوجودية في فكر محمد أركون، ومن أكثرها وضوحاً وبياناً، وهو حوار أجراه معه هاشم صالح في كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد [ص 301- 303].
وقد حرصت أن أختار هذا النص؛ لأنه بعيد عن التعقيدات الفلسفية التي كثيراً ما يرجع أركون عدم فهم قُرّائه لكلامه إليها؛ لأنهم لا يمتلكون تلك الأدوات الفلسفية التي تساعدهم على الفهم حيث يقول: «كل هذا الجهمور الطويل العريض من الطلاب لا يستطيع أن يستوعب كتاباً ككتابي عن نزعة الأنسنة في القرن الرابع، وإذا ما قرؤوه فسيلمون منه؛ لأنهم لا يمتلكون الأدوات المعرفية الضرورية من أجل فهمه واستيعابه». [قضايا نقد العقل الديني 302].
كما أنني حاولت أن أسير مع أركون إلى نهاية كلامه، وأن نستمع إلى شرحه وبيانه بكل هدوء، حتى نكون أقدر على فهمه الفهم الصحيح؛ لأن أركون يريد من قرائه أن ينتبهوا لما يبينه ويشرحه فيقول: «وهذا دليل على أن أصحابه لم يقرؤوا بإمعان ما كتبت، وإن قرؤوا فإنهم لم يدركوا ولم ينتبهوا إلى ما بيّنت وشرحت...». [الفكر الإسلامي واستحالة التأصيل لمحمد أركون (ص13)].
الحوار الذي سنتناوله بالتحليل قد تشعب بأركون وصالح إلى أن وصل إلى التساؤل حول الغاية والهدف الذي يمكن أن يحتل موقع الصدارة في تفكير الإنسان، وهو سؤال وجودي كبير يشكل محوراً أساسياً في تفكير الإنسان في جميع الثقافات والمجتمعات على اختلاف مرجعياتها الدينية.
وأدعو القارئ أن يحدد معي أين تقع منطقة الغموض ومنطقة الوضوح في هذا الحوار... هل هي في تساؤلات صالح أم في أجوبة أركون؟
لنبدأ من سؤال صالح حول هذه القضية الوجودية الكبيرة:
«صالح: البعض في المجتمعات الأوروبية الحديثة يقول إن الفن والموسيقا والمسرح والسينما والغناء والرياضة والرقص والحب وكل الفعاليات الجميلة، يمكن أن تحلّ محل الخطاب الديني أو تعوض عن الحاجة الدينية الموجودة في نفس كل إنسان... ».
هذا هو سؤال صالح، ويبدو أنه سؤال يمتلك قدراً كبيراً من المباشرة والوضوح.
فبماذا أجاب أركون عن هذا السؤال؟
يجيب أركون بجواب حاسم ينفي فيه أن تحل هذه الفعاليات محل الخطاب الديني فيقول:
«لا، لا يمكن أن تحل. هذه فعاليات تفيدنا في تمضية الوقت وترفيه أنفسنا دون أن نسيطر على هذا الوقت أو ذاك الزمن.
بمعنى أننا لا نستبصر غائية كل هذه الفعاليات، وفيما إذا كانت هناك من غائية تكمن وراءها».
ينتقل أركون بعد ذلك إلى تقديم رؤيته النقدية للموقف الذي يقدمه الخطاب الديني فيقول: «الخطاب الديني-وهنا تكمن خصوصيته- يتميز بتجديد الغائية والهدف النهائي. فالرجل المؤمن يقول ما معناه: هناك غائية مقصد أعلى لكل ما أفعله؛ فأنا سوف أبعث يوماً ما من القبر، وأواجه ربي، وستكون بعدئذ حياة أبدية لانهاية لها بعد أن أُحاسب على ما فعلته في هذه الحياة الدنيا، هذه الرؤيا الدينية سيطرت على البشرية الأوروبية طوال القرون الوسطى المتتابعة... وهي لا تزال مسيطرة على العديد من المجتمعات البشرية حتى الآن....
هذه الرؤية تعتبر تصورية رمزية بالنسبة للإنسان الحديث، ولكنها تشكل حقيقة واقعة بالنسبة للمؤمن (بالمعنى التقليدي الصارم للكلمة). هذا ليس مجازاً بالنسبة له... ».
وإلى هنا ينتهي أركون من عرض الموقفين، وقبل أن أستكمل حواره لنرى موقف أركون من الغايات البديلة، فإن هذه الرؤية التي يتحدث فيها أركون عن رؤية الخطاب الديني هي ليست رؤية مضافة للنص وفقاً لقراءة أصحاب الخطاب الديني، وليس بالإمكان في حالة كهذه الفصل بين الخطاب والدين نفسه، فالنص القرآني هنا لا يساعد على هذا الفصل الذي يقيمه أركون، فهو يبين بكل وضوح أن كل ما يفعله الإنسان له غاية ونهاية ومآل سيُحاسب عليه مهما دقت وصغرت فيقول: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه). [الزلزلة:7،8]
كما أن البحث عن هذه الغائية والهدف النهائي لم يكن مسيطراً على المجتمعات الأوربية وحسب، بل هي فكرة موجودة حتى في الأمم التي هي أسبق من هذه المجتمعات حيث يقول الله سبحانه عن الغاية النهائية على لسان واحد من أصحاب تلك الأمم: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا). [الكهف:36]
وهذه القضية بالنسبة للمؤمن لا تعتبر مجازية، لا لأن له موقفاً سلبياً من المجاز، ولكن لأن القضية نفسها لا تحتمل ذلك.
وكيف تحتمل المجاز والله سبحانه هو الذي يدعو إلى المسابقة لهذه القضية النهائية فيقول:
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم). [الحديد:21].
(وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم).[المزَّمل:20].
ويقول كذلك: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين). [النحل:30].
وكيف تحتمل المجاز وهو سبحانه يجعل أحد معايير الثناء على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أنهم يبتغون هذه الغايات النهائية فيقول:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)؟!
ثم يختم الآية السابقة ببيان أنه سيحقق لهم هذه الرغبة النهائية فيقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). [الفتح:29].
ويجعل أحد معايير الصدق هو الاتجاه نحو هذه الغايات فيقول: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون). [الحشر:8].
ويسلي نبيه عمّا يعانيه من عصيان قومه بمثل هذه الغايات النهائية فيقول: (تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا). [الفرقان:10،11].
إن تصرف هذه النصوص في سياقات شتى ومختلفة تبين أن هذه القضية تجاوزت مسألة المجاز إلى مسألة القطع في عدم المجاز، وإن هذه النصوص السابقة وغيرها الكثير تبين أن الدين هو الذي يقدم نفسه كذلك، وليس الخطاب الديني هو الذي يسعى لتطويع النص ليؤكد هذه الحقيقة.
نعود لاستكمال حوار أركون والذي يظهر فيه أنه لا يميل لأحد الموقفين السابقين (موقف الإنسان الحديث وموقف المؤمن التقليدي)، لكنه لم يُظهر أين موقعه من هذه القضية؟ ولذلك فهو يستمر في كلامه ليحدد موقعه فيقول: «بالطبع فأنا لا أهدف إلى إعادة هذا التصور من جديد، وإقناع المحدثين الأوربيين بالعودة إليه! هذا مستحيل وحنين ماضوي لا جدوى منه. ما مضى لن يعود. ويفضل أن تكون أبصارنا متركزة على الحاضر وإرهاصات المستقبل.
ما نريده الآن، ما أريد أكتشفه من خلال الكتاب (=الخطاب القرآني والفكر العلمي) هو معرفة الشيء الذي يمكن أن يحل محل الغائية التقليدية في خضم حياتنا المادية؟ ما هي البدائل؟...».
انتهى جواب أركون حول هذه القضية بنهاية لا تعطي جواباً حول هذا التساؤل.
ولما شعر هاشم صالح أنه لم يتحصل على جواب، أعاد عليه الخيار الذي قدّمه له في بداية سؤاله السابق، وأنه ربما يكون هو أقصى بديل ممكن، فيعيد عليه نفس البديل فيقول:
«قلت لك إنه الفن والاستمتاع بالحياة إلى أقصى حدّ ممكن».
لكن أركون يُصِّر على أن هذا الاستمتاع بالحياة لا يمكن أن يكون بديلاً صالحاً، ويبدي تبريره العلمي المنطقي لذلك فيقول:
«الفن يستنفد غائيته في المتعة التي يحدثها في النفس.
فعندما أتأمل في لوحة فنية أو أشاهد فيلماً سينمائياً أو أستمع إلى قطعة موسيقية فإني أستمتع بذلك ولاشك، ولكني لا أرى شيئاً آخر وراء هذه المتعة، ولا أعرف فيما إذا كان الفن يوجهني باتجاه ما أو يحدّد لي الهدف».
إلى هنا يقف جواب أركون مرة أخرى، لكن بغير جواب، صحيح أنه نقد فكرة الغائية فيما يتعلق بالفن والاستمتاع بالحياة، لكن السؤال المركزي لا يزال معلقاً يبحث عن جواب.
وهذا ما جعل صالح لا يتردّد في إعادة السؤال بطريقة أخرى وأكثر مباشرة فيقول: «وإذن فما هو البديل؟ وإلى أين وصلت؟».
أمام هذا السؤال الصريح لا يملك أركون إلاّ أن يقدم جواباً مباشراً لذلك فيقول:
«حتى الآن لا أزال في مرحلة البحث، ليس عندي بديل جاهز أقدمه.
وهنا تكمن في رأيي أزمة الإنسان اليوم.
هنا تكمن المعضلة الكبرى والأمر المحير».
أركون إذاً يؤكد أنه لا يملك بديلاً عن الغائية التي يطرحها الخطاب الديني.
وربما يظن القارئ أن القضية انتهت بمجرد ذكر أركون لهذا الجواب.
لكن هاشم صالح يدرك أن ثمة موقفاً فلسفياً كبيراً سيؤدي إليه هذا الجواب.. فهو سيؤدي إلى العدمية كما يراها تيار ما بعد الحداثة كنيتشه وغيره... ولذلك يبادره صالح بالحديث فيقول:
«وهذا ما يسبب العدمية أحياناً، أو بالأحرى هذا ما سبب العدمية التي تحدث عنها نيتشه في القرن التاسع عشر، وربما كانت السبب الذي أودى به...».
هذا الكلام جعل أركون أمام فكرة فلسفية متطرفة، وكثيراً ما يحاول أركون التهرب من نسبتها إليه تارة، ومحاولة تلطيفها تارة أخرى، الأمر الذي جعل أركون يبادر في التبري من هذا الموقف العدمي.
وأدعو القارئ أن يلاحظ معي طبيعة الخطاب الذي سيقدمه أركون عن هذه القضية، سيتحول الخطاب من جواب علمي عن مدى ارتباط رأي أركون بالنظرية العدمية إلى جواب فيه قدر من الذاتية المفرغة من جوهرها العلمي حيث بدأ أركون يتحدث فيها عن نفسه فيقول:
«لا. بالنسبة لي لا يسبب أي عدمية.
وليس عندي أي إحساس بالعدمية كما شاع في أوساط بعض المفكرين الأوربيين.
أنا أرفض العدمية كحل.
وعلى العكس فإن العمل الذي أقوم به في المجابهة والمقابلة بين الخطاب الديني وبين خطابات العلم الحديث يجعلني دائماً في حالة التأهب والاستعداد والأمل.
وهذه المجابهة تجعل الروح دائماً متحركة ومترقبة لشيء ما».
إلى هنا و أركون لم يقدم جواباً علمياً حول كلام صالح، كل ما في هذا الكلام تسجيل تجربة ذاتية، أنه لا يشعر ولا يحس بالعدمية، وبالتأكيد أن السائل لا يريد البحث عن الإحساس والشعور الداخلي بقدر ما يريد جواباً علمياً مقنعاً.
وكذلك بالنسبة للموقف من العدمية، فهو يسجل موقفاً اعتراضياً على العدمية فقط، دونما بيان لوجه المفارقة بين موقفه السابق في البحث عن غائية جديدة وبين الموقف العدمي.
واللافت في الأمر أن أركون يختم عبارته السابقة بعبارة موغلة عدمية... فهو يبحث ويتحرك ويترقب لشيء (ما).
ولكن ما هو هذا الشيء؟
لا جواب... وهنا تكمن العدمية التي ينفيها أركون.
إذاً لا يكفي أركون أن ينفي العدمية عن نفسه ما لم يقدم لذلك جواباً علمياً، وأركون ممن يتكرر عنده النزوع نحو الأجوبة الذاتية، وهذا ما دعا علي حرب أن يقول: «ليس من المهم ما يصرح به هذا الباحث الناقد، وإنما المهم منطق بحثه وبنية تفكيره. ليس المهم ما يقوله عن نفسه أو ما يعترف به، بل المهم معنى أقواله، والأهم ما يحجبه ويسكت عنه» [نقد النص 55].
يواصل أركون جوابه السابق بما يؤكد أنه يفر من العدمية إليها فيقول:
«وإذا كان هناك شيء ما يستطيع أن يحل محلّ الأخرويات التقليدية التي ذكرتها، فإنه توتر الروح أو تطلعها المستمر نحو معرفة أكثر اتساعاً وصحة ومطابقة للواقع.
وهذا التوتر الروحي أو الحيوية الداخلية يشبه ما كان قدماء المسلمين يدعونه بالعشق.
العشق هو حيوية الروح والكينونة، هو الرغبة الأبدية، الرغبة في الحب واليقين والخلود»
ربما يتصور أركون وهو يقدم هذا الجواب أنه جواب مغاير للجواب العدمي... لكن كل من يعرف الأدبيات العدمية يعرف أن أركون في كلامه السابق لم يغادرها...
العدمية و التوتر المستمر نحو غاية لا يدري الإنسان ما هي... هما وجهان لفكرة واحدة.
ومن المهم أن ندرك أن العشق والرغبة نحو الحب واليقين والخلود... لا تخرج الإنسان من موقفه العدمي... لأن القضية ليست في الرغبة... لكنها في تحقق تلك الرغبة على أرض الواقع؟
يعود أركون بعد كلامه الذاتي السابق ليخرج نتيجة من خلال مقدمات لا تساعد على صحتها، وهو يشعر أنه استطاع أن يجيب عن إشكالية العدمية فيقول:
«وبالتالي، فأنا محصن ضد العدمية جيداً.
وعلى عكس الكثير من المثقفين الأوروبيين فإني لم أشعر في حياتي كلها بأي شعور عدمي أو أني مهدد بالعدمية والعبثية».
طبعاً السؤال المنطقي الذي يطرحه العقل الناقد لهذا الكلام... لماذا قاد التفكير السابق من يتبناه من الأوربيين إلى العدمية... بينما بقي أركون محصّناً ضدها؟
هل لأركون خصوصية ذاتية ضد الوقوع في العدمية؟
لننظر في جواب أركون حيث يقول:
«وسبب ذلك هو التجربة الدينية –وهنا تكمن إيجابيتها الأساسية- لم تتخل عني في أي يوم من الأيام.
لقد كانت ترافقني باستمرار ولا تزال».
تعبير أركون السابق حول التجربة الدينية يُشعر بأن ثمة تجربة مختلفة هي التي حصّنته من الوقوع في شراك العدمية... ولكن يا ترى ما هي هذه التجربة؟
يمكننا معرفة ماهية هذه التجربة من كلامه الذي ساقه مباشرة بعد عبارته السابقة حيث يقول:
«إذن، فهناك غائية أجدها في هذه الحيوية، في هذا التوتر الروحي الموجّه نحو الكشف، نحو المزيد من المعرفة، والمزيد من الكمال والتمام.
وكل ما أفعله من محاضرات وبحوث مثير وخصب لدرجة أني لا أشعر بالفراغ.
هذه هي الحيوية، هذه هي الحياة.
وبالتالي فلا مكان عندي للعدمية».
يمكننا أن نقول إن حقيقة التجربة الدينية التي يشعر بها أركون تتلخص في (الشعور بالتوتّر الروحي)، و(الاتجاه نحو الاكتشاف)...
اكتشاف ماذا؟ وفي أي اتجاه؟
لا جواب...
وهذا ما يدعونا أن نكرر أن جواب أركون يمثل فقرات غير مترابطة، ولا يمكن بناء بعضها على بعض حتى نخرج بجواب منطقي مترابط.
لكننا في النهاية يمكن أن نقول إن الفرق بين العدمية في الخطاب الأركوني والخطاب النيتشوي هي أنها في الأولى عدمية ترتدي الحجاب بينما هي في الثانية عدمية سافرة.
وحتى أركون نفسه أراد أن يلبس عدمية نيتشه الحجاب عندما أوَّل عبارة نيتشه حول موت الله، وطالب بعدم التخوف منها، حيث يقول في معرض ثنائه على الحالة الفكرية الأوروبية: «وصل الأمر بمفكريهم إلى حدّ التحدث عن "موت الله" كما فعل نيتشه، ولكن حتى عبارة قاسية وصادمة للحساسية الجماعية لجماهير المؤمنين كهذه [إن الله قد مات] ينبغي أن لا تخيفنا كثيراً؛ لأنها لا تعني رفض الله أو رفض الإيمان بالله، وإنما تعني موت جينالوجيا معينة أو طريقة لغوية معينة للتعبير عن وجود الله، ما يموت ما هو تاريخي حقاً، هو تلك التصورات التي يشكلها البشر عبر مراحل تاريخية مختلفة عن الله». [قضايا في نقد العقل الديني 282].
«عبارة نيتشه لا تعني أن الله يموت بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما تعني أن هناك نمطاً محدداً من التقديس هو نمط القرون الوسطى قد مات وانهار». [الفكر الإسلامي نقد واجتهاد 266].
ولكن أركون على الرغم من تأويله لتلك العبارة إلاّ أنه تجاوز الدخول في تفاصيلها، ولو دخل فيها لظهر للقارئ: هل يستحق موقف نيتشه الخوف منه أم أنه لا يستحق ذلك؟
فهو لم يتحدث عن التصورات التاريخية التي أراد نيتشه محوها عن الإله واستبدالها بتصورات جديدة.
فهل التصور بأن الله رحيم بعباده هو تصور تاريخي ينبغي أن يتغير بتغير الزمن؟
نيتشه لا يرى تغير هذا المفهوم فحسب بل إن مفهوم الإله الرحيم «هو واحد من المفاهيم الأكثر فساداً حول الله» كما يقول في كتابه المسيح الدجال.
إذا كان كذلك فما هو المفهوم البديل الذي يقدمه نيتشه حول الإله؟
المفهوم الذي يقدمه هو الذي يقوله في كتابه عدو المسيح: «بأي شيء يفيد إله لا يعرف الغضب والانتقام والحسد والسخرية والمكر والعنف».
إذاً فكل القضية ترجع عند أركون إلى أنه لا يشعر بالعدمية، لكن هذا في الميدان العلمي لا يُعدّ جواباً علمياً فلا يلزم من عدم شعوره بذلك أن لا يعتقدها من حيث لا يشعر.
ربما كان السبب وراء غياب شعوره بذلك ما أشار إليه في كلامه السابق من حالة الصخب المستمر التي كانت تحيط بحياته والتي لم تترك له حالة من الفراغ، ولعله لو ابتعد قليلاً عن حالة الصخب التي كان يعيشها... وأخذ فترة من الفراغ الذي يدعوه للتأمل لربما شعر أن الفكرة السابقة التي يحملها هي فكرة عدمية بامتياز، فإن أكثر لحظات المعاناة عند الشخصيات العدمية هي لحظات الفراغ، ولذلك فهم يهربون منه.
نهاية القول هل أركون في بحثه الوجودي يمثل وجهة النظر الدهرية كما يقول بعض نقاده كعلي حرب وغيره...؟
هذا ما أدع جوابه للقارئ الكريم الذي أمضى معي رحلة التأمل القصيرة في هذا الحوار بين أركون ومترجمه.


المصدر

 
تحليل ممتاز، وإن كان الاعتماد على حوار واحد غير كاف لفهم فكر أركون..
ولذلك أتمنى على الكاتب لو تمكن من متابعة بحثه من خلال بقية مؤلفات الرجل..

والمقال يدعم ما ذكرته سابقا من أن أركون لم يتعامل البتة مع القرآن من زاوية العالم المؤمن به، وأن أركون ليس من نوعية المفكرين الذين يفصحون عن معتقداتهم "الدينية" أو "الفلسفية" (أقصد فلسفة الوجود).

وأعجبني كثيرا انتباه الكاتب إلى أن فهم الأفكار الحقيقية لأركون يجب أن يكون من خلال قراءة مؤلفاته بالفرنسية أساسا، لأن مترجِمه (د. هاشم صالح) لم يكن مترجما محايدا ودقيقا، وإنما يعرف عنه كثرة تدخّله في النص الأركوني، ولا يظهر ذلك من خلال التعليقات في الهوامش فقط، وإنما حتى في اختياراته اللفظية.
 
السلام عليكم انا اكتب بحثاً عن أركون ووجدت العديد من كتبة المترجمة لكنني لم استطع فهمة بشكل واضح ستطع الكتابة عنة حتى الآن أنا احتاج لبحث عنة يكون موثق اتمنى المساعدة .......والله ولي التوفيق
 
أتمنى المساعدة .................إذا أمكن والله ولي التوفيق
 
تعقيبا على ما ورد أعلاه :
" ... وأخيرا ينبغي أن يفهم هذا التراوح في نص أركون بين الوضوح والتردد في سياق النظرية الفلسفية التي يتبناها ..."

أقول:والذي نفس عبدالرزاق بيده لو كانت عند أركون " نظرية فلسفية " ولو غربية أوربية لرجع الى الحق آخر حياته.
لقد عرفت قبل عقود د. عبدالرحمن بدوي رحمه الله كان صاحب نظر فلسفي ومن أكبر سدنة الفكر الوجودي الفرنسي سابقا،خدم هذا الفكر خدمة عظيمة...،لكنه رجع عن ذلك كله، ووجدناه يسخر علمه وقلمه بعد 1988الى وفاته 2002م دفاعا عن القرآن والسنة..
أقول وأكرر لم تكن عند أركون نظرية فلسفية...بل كان منذ دخوله الى فرنسا 1962م ثم استقراره فيها تلميذا وفيا لتيار لاهوتي مسيحي كلما نشر أقطابه شيئا عن " كتابهم المقدس" بزعمهم، انتحله أركون وادعاه لنفسه بعد حذف الكتاب المقدس وتعويضه بالقرآن، وكل ما يدعيه من معرفة بالمناهج والفلسفات الغربية تكذبه الدراسة العلمية لمقالاته التي دأب على جمعها واعادة نشرها في كتب،ولتزاحم أدلة ذلك في مخيلتي أقف على أنموذج منها للعبرة:
قبل سنوات اقيمت في فرنسا ندوة بعنوان (الغريب والعجيب في اسلام القرون الوسطى)،شارك فيها أركون ب"بعرض" عنوانه( هل يمكننا الحديث عن عجائب القرآن" وهي منشورة ضمن كتاب الندوة وضمن كتاب قراءات للقرآن لأركون بالفرنسية...وهي في الأصل منتحلة من دراسة (لاهوتية مسيحية)فرنسية سعت آنذاك لتطبيق مناهج"سيميولوجيا الخطاب الديني" على نصوص من التوراة...

كان من بين مناقشي أركون في دعاويه العريضة التي كساها ثوب الفلسفات والمناهج الغربية الحديثة - حتى يلهي القارىء عن البحث في أصولها -المستشرق اليهودي الفرنسي مكسيم رودنسون (تـ 2004م ) فأنكر ما ذهب اليه أركون ونقض دعاويه أثناء تنظيم الندوة ذاتها،وبعد أن كشف جهله بهذه المناهج التي يدعيها لنفسه، جاء جواب أركون كالتالي أورده بالفرنسية ثم أترجمه حتى لا يدعي أحد أنني أفتري أو أتقول عليه:
M.Arkoun: je suis Evidemment d accord avec la plupart des choses qui viennent d être dites je voudrais simplement presiser que je n attends pas qu il y ait une sémiotique complète du langage religieux puisque je me suis jeté a l eau. je crois en vous proposant par exemple cette étude
قال أركون جوابا على انتقاد رودنسون: "انني متفق تماما مع جل الأشياء التي ذكرتموها،وأريد أن أؤكد على أنني لن أنتظر حتى توجد هناك (سيميولوجيا الخطاب الديني) لأنني ألقيت بنفسي في الماء،أرجوكم أن تتفهموا حين أقترح عليكم هذه الدراسة على سبيل المثال"
والنص الفرنسي لمن أراده فهو في "قراءات للقرآن بالفرنسية ص 118 طبعة 1982م.
هذا حال الرجل كان يواكب ما ينشره تيار ديني مسيحي أوربي ثم ينتحله أداء لدين قديم في ذمته يوم احتضنه هذا التيار حين فر من الجزائر قبيل استقلالها عن فرنسا،وقد أفصح لسانه بالفرنسية عن حقيقة حاله حين استعار مثلا فرنسيا قديما مؤداه(أن من غرق مركبه في البحر اما أن يلقي نفسه في الماء ممسكا بخشبة منه لتعلم السباحة واما أن يغرق)
وقد اعترف هنا للمستشرق رودنسون بأنه ألقى بنفسه في بحر هذه المناهج والفلسفات ويريد أن يتعلم السباحة عن طريق "الخوض" في القرآن وأرى أن آية من كتاب الله تعالى تصدق عليه هي قول الباريء تعالى:(...وكنا نخوض مع الخائضين)،فاذا كان للتيار المسيحي الذي يتبنى l humanisme chrétien ما يدفعه للخوض في التوراة والأناجيل...فقد تأسى به أركون بانتحال نفس الدعاوى لكن مع التسور على القرآن.
فأركون ليست عنده نظرية فلسفية،ولا يعرف من الفلسفة الغربية الا القشور...،ولو كان عنده ميل لها ما أغناه عن التتلمذ في الدكتوراه على شارل بيلا C Pellat الذي لم يكن سوى مستشرقا متخصصا في أدب الجاحظ وليس في الفلسفة حتى"الاسلامية" منها
 
عودة
أعلى