محاولة لدراسة الإعجاز الصوتي

إنضم
08/02/2009
المشاركات
174
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
كان للعلماء الأقدمين إشارات خاطفة في أثر الصوت القرآني على النفس البشرية وإن لم يفصلوا فيه ؛ إلا أن بعضهم قد اعتنى اعتناء كبيرا بصوت اللفظ المفرد الذي انعزل عن النظم وانسلخ عن التركيب ؛ فأفضى ذلك إلى إغفال الكل من جهة وإلى الخطأ في معرفة أسباب التأثير من جهة أخرى وإل غموض هذا العلم من جهة ثالثة ، ولكن مهما يكن من شئ فإنه عندما تتوالى الأصوات ويتجانس اللفظ - تظهر الفصاحة ويتبين علو الدرجة ورفعة الشأن ؛ فاللفظ هو الذي يظهر حلاوة الكلام وطلاوته وحسنه وبهاءه ؛ ولأجل هذه المزية الواضحة تجد مسموع القرآن يتميز بصورة لا تخفى عن مسموع سائر الكلام مهما ارتقى في درجات الفصاحة ، ولاشك أن لانتظام الحروف بصفاتها ومخارجها وحركاتها وسكناتها أثر في النفس واضح ووقع في الأسماع بيِّن ، وكل ذلك قد شكّل في القرآن جانباً جعل هذا الصوت الإلهي متماسك الأجزاء متلاحم الأصداء مستقيم الوقع في الأسماع لا ينبو فيه حرف ولا ينكر منه صوت. ولا شك إن الصوت القرآني أكثر إراحة للنفس وأحسن أثراً وأجود مسموعاً من كل صوت سواه ؛ وهو لذلك دلالة معجزة لكل من يسمعه ، وليس الأمر مقتصرا على العلماء الذين ينقبون في المعاني والتراكيب فحسب ؛ وإن كانت الأذهان تأخذ منه على قدر القرائح والفهوم ؛ ولما كان القرآن - في نفسه - دليلا ساطعا وبرهانا واضحا وشاهدا قائما على أنه من عند الله تعالى ؛ إذ أنه مبين ظاهر الإعجاز–فقد ذهب ابن تيمية إلى أن : "مجرد العلم بهذه الآيات يوجب علماً ضرورياً بأن الله جعلها آية بصدق هذا الذي استدل بها ؛ وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة ؛ وأنه لا يمكن معارضتها" ولهذا كانت دلالة القرآن واضحة للكافة ؛ مثل فلق البحر وإحياء الموتى ؛ قال تعالى : " وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ " ولما كان القرآن دلالة ظاهرة - فإن هذا يترتب عليه أن الإعجاز لايقتصر على وجه دون وجه ولا على جانب دون آخر ؛ إذ أن المتأمل في القرآن العظيم ليجد أن لهذا الكلام الإلهي المتفرد حسناً ومزية يفوق بها سائر أنواع الكلام البشري ، وما هذا الجمال الظاهر وما تلك المزية القاهرة إلا لكمال مصدر القرآن نفسه . وقد تحيّر العلماء كثيراً أمام هذا الحسن الظاهر والجمال الباهر الذي يخلب الألباب فتقشعر له الجلود ؛ يقول الباقلاني - عند حديثه عن الجمال القرآني - : " ومتى ما عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيّا والإكثار في وصفه تقصيراً … وضلّ أعرابي في سفر له ليلاً وطلع القمر فاهتدى ؛ فقال : ماذا أقوال نوّرك الله ؛ وقد نوّرك ؟! أم أقول جملّك الله ؛ وقد جملّك ؟!"
ويقول سيد قطب : "إن في هذا القرآن سرا خاصا ، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء ، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها ؛ إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن ؛ يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير ، وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن ؛ يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنه على كل حال موجود ، وهذا العنصر - الذي ينسكب في الحس - يصعب تحديد مصدره: أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة ؟ ...... أم إنه هو وشيء آخر وراءه غير محدود ؟! ذلك سر مودع في كل نص قرآني ، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ، ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله"
ولما كان الصوت القرآني شديد التأثير في النفس البشرية على إطلاقها - إذ ثبت أن البشر سواء كانوا مؤمنين أوغبر مؤمنين وسواء كانوا ناطقين بالعربية أوغيرها ذوو تأثر واضح بهذا الصوت الإلهي المتفرد –فإن هذا الصوت يغدو بلا أدنى شك معجزة للنبي "r" ودلالة على صدقه في دعواه النبوة عند الكافة ؛ وهنالك كثير جدا من الأمور التي تنهض أدلة على ما ذهبنا إليه قي هذا المضمار ؛ ومن ذلك على سبيل المثال :
1- يقول سيد قطب :"إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري ؛ إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري ؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً ، وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل ، ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ؛ ولكني أذكر حادثا وقع لي: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم ، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة ، وقد يسر لنا قائد السفينة أن نقيم صلاتنا ... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ؛ والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا ، ولكن سيدة من هذا الحشد كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها ، جاءت تشد على أيدينا بحرارة ؛ وتقول:- في إنجليزية ضعيفة - .......أي لغة هذه التي كان يتحدث بها "قسيسكم"؟ ....... إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب وإن كنت لم أفهم منها حرفا ، ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول:ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه ، إن الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن "الإمام" كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه ؛ نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا ، هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيّ رعشة وقشعريرة ، إنها شيء آخر كما لو كان الإمام مملوءا من الروح القدس - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها - وتفكرنا قليلا ، ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ، وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا . ووقوع هذه الحادثة وأمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته ........ ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة "
2- في أحد السجون السويدية كان المشرف مسلما جديدا ، وقد تعوّد على تشغيل أسطوانة من القرآن وفي إحدى الليالي كان صوت القرآن يسري بين جنبات السجن والليل ضارب بأرواقه والصمت مطبق ؛ فإذا بالسجناء يطالبون - وبشدة - برفع الصوت ، ثم جاءوا إلى المشرف يقسمون له في الصباح : أنهم لم يستطيعوا النوم إلا بعد سماعهم لهذا الصوت الذي يتغلغل إلى الأعماق ويسري في الوجدان وتطمئن له الأفئدة وترتاح القلوب، علما بأن السجون السويدية يتوفر فيها من وسائل الترفيه ما لا يتوفر في بقية سجون العالم كله.
3- كفّ لبيد بن أبى ربيعة –وهو أشعر العرب- عن قول الشعر منذ سماعه لنغمة القرآن ؛ فقال عندما طلب منه عمر بن الخطاب الإنشاد : " ما قلت شعراً منذ سمعت الله عزّ وجلّ يقول : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ "
4- إن للقرآن انسجامه الصوتي وتناسبه النغمي ؛ ولهذا فإن العرب الذين أدركوا الجمال الصوتي للشعر حق الإدراك قد علموا - للوهلة الأولى - مفارقة الصوت القرآني لصوت الشعر وجرسه ؛ إذ أن الصوت القرآني نغمة إلهية سماوية واضحة لا تضاهيها في جمالها وعذوبتها نغمة ، ولما كان الأمر كما ذكر فقد جاء في صحيح مسلم في قصة إسلام أبى ذر الغفاري رضي الله عنه : أن أخاه أنيسا كان شاعراً مجيداً ؛ فذهب إلى مكة فسمع القرآن فقارن بين هذا الصوت الإلهي وبين صوت الشعر ؛ فقال : " لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد يدّعي أنه شعر"
5- إن الدراسات الحديثة في هذا المضمار تؤكد أيضا أن للصوت القرآني المجرد أثره البالغ على النفوس البشرية على اختلافها وتباينها " وقد استعملت أجهزة إلكترونية مزودة بالكمبيوتر لمراقبة وقياس أيّ تغيرات فسيولجية عند عدد من المتطوعين الأصحاء – متحدثين بالعربية وغير متحدثين بها – أثناء استماعهم لتلاوة قرآنية ؛ فأثبتت التجارب المبدئية وجود أثر مهدئ للقرآن في 97% من التجارب في شكل تغيرات فسيولجية تدلّ على تخفيف توتر الجهاز العصبي التلقائي ، ويمكن أن يعزى ذلك إلى صوت الألفاظ القرآنية ؛ بغضّ النظر عما إذا كان المستمع قد فهمها أو لم يفهمها ؛ وبغضّ النظر عن إيمان المستمع"
6- اكتشف العلماء - بواسطة أحد الأجهزة الحديثة - أن للمخ البشري موجات أربع ، ولكل موجة منها سرعة في الثانية الواحدة ، ففي حالة اليقظة يتحرك هذا المخ بسرعة 13 ـ25 موجة في الثانية ، أما في حالة الهدوء النفسي الشديد والتفكير العميق فيتحرك بسرعة 8ـ12 موجة في الثانية، وفي حالة الهدوء النفسي العميق ومرحلة الخلود إلى النوم يتحرك المخ بسرعة موجة في الثانية، وفي النوم العميق يتحرك بسرعة نصف إلى 3 موجات في الثانية. كما وجدوا أن الصوت القرآني يعمل على خفض الموجات الدماغية بشكل سريع إلى منطقة 8ـ12 موجة في الثانية لدى أشخاص لا يفهمون منه حرفا أي أنه يبلغ بالإنسان درجة من الهدوء النفسي العميق .
7- في دراسة حديثة عن الطب النفسي بالمستشفى الأكاديمي في العاصمة الهولندية "أمستردام" أثبت الباحث الهولندي البروفيسور "فان دير هوفين" أن قراءة القرآن وخاصة حروف معينة منه يعالج أصعب الأمراض النفسية ويبعث على هدوء الأعصاب لدى الإنسان.
8- إن للألفاظ الفرآنية ظلالا وأرواحا تخلعها على النص فتضفي عليه جماليات رائعة ؛ وإذا ما جرّدت هذه النصوص من أجراس الألفاظ فقدت جزءاً مقدراً من خصائصها الفنية ؛ وصارت معان وأفكاراً مجردة ؛ يقول سيد قطب : " إني لأنظر في القرآن - أعلى قمة في التعبير الأدبي في اللغة العربية بعض النظر عن القداسة الدينية – حين تنقل بعض آياته الفنية إلى لغة أخرى وحين تتخلّف عن الترجمة صوره وظلاله وإيقاعاته ؛ إنه يفقد جماله الفنيّ ؛ وإن بقيت قيمته المعنوية ، ويستحيل حينئذ تقدير قيمته من هذه الوجهة. أما نقل صورهـ وظلاله فهو عمل أراه أعسر من العسر لدقة هذه الخصائص وتسامي آفاقها "
10- لما تحيّر الوليد بن المغيرة – وهو مشرك لم يؤمن قط - وصف القرآن وصفا فريدا والأمر مشهور معروف
11- ليس أدل على ظهور هذا الجانب الصوتي المتميز في القرآن من أن الكفار قد حاولوا اللغو عند تلاوته -كما حكى عنهم القرآن "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" وذلك حتى لا يتسلل ذلك الصوت المميز الذي ليس له من مثيل إلى قلوبهم.
12- قال تعالى عن الجن الذين تزاحموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن حتى كادوا يكونون عليه لبدا : "فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا" أي : عجيبا في فصاحة كلامه الذي لا يوجد مثله
13- قال عز وجل : "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ" فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه كما ذكر الباقلاني
ولا شك أن هذه النماذج التي عرضناها تحتاج إلى دراسة وتحليل وتعليل يسبر أغوارها ويعيّن أسبابها ، وإذا رجعنا إلى تراثنا القديم - لتحديد معايير دقيقة تساهم في عملية التحليل هذه - فإن أقرب علم إلى دراسة مثل هذه الظواهر هو علم الفصاحة ؛ ولكن هل يمكن لمعايير هذا العلم أن تمنحنا التفسير الكافي لمثل تلك النماذج ؟
حسب دراستي لهذا الأمر أشك في ذلك وأترك الأمر للنقاش ربما تتفتح لنا فيه بإذنه تعالى آفاق أخرى
 
موضوع جدير بالنقاش
ليت الدكتور الفاضل يتحفنا بالشواهد
وليت الأعضاء الكرام يتحفوننا بالمدارسة واالنقاش
 
الأخت لطيفة شكرا لاهتمامك ، وسوف أعرض هنا نقدا لمعايير الفصاحة بشكلها القديم وأعرض نقد من هاجموا أصحابها نحو عبد القاهر الجرجاني ذلك العلامة المتميز في دراسة الإعجاز القرآني .
ولا شك أن هذه النماذج التي عرضناها سابقا في هذا الموضوع تحتاج إلى دراسة وتحليل وتعليل يسبر أغوارها ويعيّن أسبابها ، وإذا رجعنا إلى تراثنا القديم - لتحديد معايير دقيقة تساهم في عملية التحليل هذه - فإن أقرب علم إلى دراسة مثل هذه الظواهر هو علم الفصاحة ؛ ولكن هل يمكن لمعايير هذا العلم أن تمنحنا التفسير الكافي لمثل تلك النماذج ؟ والإجابة عن هذا السؤال تكمن في الجزء الآتي من هذه الدراسة التي تقوم ابتداء على اختبار تلك المعايير ؛ وذلك بتطبيقها على النص القرآني ؛ فإن صلحت وأثبتت جدواها ونهضت البراهين الدالة على صحنها وفعاليتها - عولت هذه الدراسة عليها ؛ وإلا عادت الدراسة تارة أخرى إلى تحديد المفهوم من خلال القرآن وأقوال العلماء الأوائل ثم عولت على هذا المفهوم الثاني وعملت على تطبيقه داخل النص القرآني ؛ وتفصيل ذلك كالآتي :
مفهوم الفصاحة عند العلماء الأقدمين :
الفصاحة مشتقة من الفصح ، وهو خلوص الشيء مما يشوبه ، وأصله في اللبن ، يقال : فصح اللبن وأفصح ؛ فهو فصيح ومفصح : إذا تعرى من الرغوة ، قال الشاعر:
وتحت الرغوة اللبن الفصيح
ومنه استعير فصح الرجل : إذا جادت لغته.
أما المعنى الاصطلاحي للفصاحة فهو معنى شديد الغموض متشعب المسالك كثير التعريفات متعدد الاتجاهات ، وما زال العلماء يختلفون فيه قديماً وحديثاً ؛يقول ابن الأثير : )اعلم أن هذا باب متعذّر على الوالج ومسلك متوّعر على الناهج ، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه ...... ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه) وما ذاك إلا لأن علماء البلاغة الأقدمين - الذين أسسوا هذا العلم ووضعوا لبناته الأولى - قد عرفوا هذه الفصاحة تعريفاً غامضاً لا يكاد يبيّن مرادهم فيه ؛ يقول الجرجاني: (لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة ......وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها - فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج) ويقول أيضا : (إنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جلّه أو كلّه رمزاً ووحياً وكناية وتعريفاً وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا من غلغل الفكر وأدقّ النظر ومن يرجع من طبعه على ألمعية يقوى معها على الغامض ويصل بها إلى الخفي ؛ حتى كأن بسلأ حراماً أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها وبادية الصفحة لا حجاب دونها وحتى كأن الإفصاح بها حرام وذكرها إلا على سبيل الكناية غير سائغ)
وقد جاءت تعريفات البلاغيين للفصاحة متنازعة بين الإفراد والتركيب واللفظ والمعنى ، وأفضى ذلك إلى خلاف لا يكاد ينتهي وإلى نزاع لا يكاد ينحسم ؛ ولذلك ترى هذا المفهوم في كتبهم يتداخل مع مفهوم البلاغة تارة ويتقاطع معه تارة وينفصل عنه تارة أخرى ؛ يقول الرازي : (وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما ، ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ ويقول أيضا : (وقد اختلف الناس في الفصاحة ؛ فمنهم من قال إنها راجعة إلى الألفاظ دون المعاني ، ومنهم من قال إنها لا تخصّ الألفاظ وحدها) ويقول ابن الأثير : (البلاغة شاملة للألفاظ والمعاني وهي أخص من الفصاحة) ويرفض الجرجاني أي تعلّق للفصاحة باللفظ والصوت والأصداء ومن اعتقد ذلك فهو - عنده - واهم ، يقول : (لا تعلّق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف)
معايير الفصاحة عند اللفظيين :
اهتم اللفظييون باللفظ المفرد اهتماماً كبيراً ووضعوا معايير لفصاحته ؛ ولكل معيار من هذه المعايير نقيضه الذي إذا توفر في اللفظ اختل أمره ولم يعد فصيحاً ، وهذا العيوب عندهم كالآتي:
أ-تنافر الحروف :
وهذا التنافر بين الحروف هو ما تكون الكلمة بسببه ثقيلة على اللسان ، وهو على درجات عندهم : منه المتناهي في الثقل نحو "العهخع" وما دون ذلك نحو مستشزرات في قوله امرئ القيس
غدائره مستشزرات إلى العلا
وذلك لتوسط الشين بين التاء والزاي
وهذه القاعدة تقوم على أن مخارج الحروف إذا تقاربت كانت أثقل منها إذا تباعدت ؛ لأنها إذا تقاربت كلّفت اللسان جرساً واحداً ، ولذلك جعل ابن سنان تباعد الحروف شرطاً للفصاحة
ب-الغرابة :
وهو أن تكون الكلمة وحشية غريبة لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة ؛ كقول عيسى بن عمر النحوي ) :ما لكم تكأكأتم عليّ تكأكؤم على ذي جنة افرنقعوا )
ج- مخالفة القياس :
وهو مخالفة القواعد التي تجري عليها المفردات العربية كلفظ "ا الأجلل"في قول الشاعر:
الحمد لله العلى الأجلل
والقياس : الأجلّ
د- طول الكلمة :
وهي من الشروط التي ذكرها ابن سنان ومثّل لها بلفظ "سويداواتها" في قول المتنبي :
إن الكرام بلا كرام منهم مثل القلوب بلا سويداوتها
هـ- الكراهة في السمع :
وذلك بأن يجد السمع كراهة عند سماع اللفظ كما يجد ذلك عند سماع الأصوات المنكرة ؛ يقول ابن الأثير : (إن الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن ، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح ، ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ويكره صوت الغراب وينفر عنه وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس ، والألفاظ جارية هذا المجرى ؛ فإنه لا خلاف في أن لفظه المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرها السمع ، وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر ؛ وهي تدلّ على معنى واحد )
وكما عابوا لفظة "البعاق" فإنهم عابوا أيضا كلمة "الجرشي" في قول المتنبي:
كريم الجرشي شريف النسب
أي : كريم النفس
و- الابتذال :
ارتبط الابتذال الذي عده اللفظيون مما يخل بفصاحة المفردة عندهم ارتباطاً وثيقاً بالعامة ؛ وذلك لأنهم قسموا المتحدثين بالعربية من حيث المكانة ومن حيث الزمان فقسموهم إلى : عامة وخاصة وعرب ومحدثين ، ثم صنفوا المفردات بحسب ذلك ، وقد قسموا المفردات إلى تسعة أقسام ؛ وهي:
الأول : ما استعملته العرب دون المحدثين وكان استعمال العرب له كثيراً في الأشعار وغيرها ، فهذا حسن .
الثاني : ما استعملته العرب ولم يحسن في التأليف ؛ فهذا لا يحسن إيراده
الثالث : ما استعملته العرب وخاصة المحدثين دون عامتهم فهذا حسن جداً ، لأنه خلص من حوشية العرب وابتذال العامة .
الرابع : ما كثر في كلام العرب وخاصة المحدثين وعامتهم ؛ فهذا لا بأس به .
الخامس : ما كان كذلك ، ولكنه كثر في ألسنة العامة ؛ فهذا يقبح استعماله لابتذاله .
السادس : ما كثر عند العامة والخاصة وليس له اسم آخر ؛ فهذا لا يقبح ولا يعدّ مبتذلاً .
السابع : ما كان كذلك ، ولكنه كثر عند العامة ؛ فهذا مبتذل.
الثامن : ما كان عند العرب لمعنى وعند المحدثين لمعنى آخر ؛ فهذا يجب تجنبه.
التاسع : ما غيرته العامة وكان عند العرب والمحدثين ؛ فهذا مع التغيير مبتذل قبيح وعلى ما نطقت به العرب مقبول .
نقد معايير اللفظيين :
من الملاحظ أن أحكام اللفظيين هذه قد انصرفت إلى المفردة المنعزلة عن السياقات والنظوم ؛ فلم تتم دراستها إلا باعتبارها مفردة لغوية مجردة ، ولهذا لم تسلم من العيوب التي تقدح في صحتها ابتداء ، ومن المعلوم أن هذه المعايير التي يمكن أن تصادم القرآن والحديث بل وكافة روائع الأدب في عصر الاحتجاج كما سيأتي -قد تأت باستنباط المتأخرين ، ولا يعقل - إطلاقاً - أن تكون هذه القواعد معيارا لتلك القمم إلا إذا استقام أمرها فيها وجرت على أصول تلك القمم نفسها ، ومن الأمور التي تقدح في تلك القواعد الآتي :
1- إذا كان تقارب الحروف مخلاً بالفصاحة فلم لم يقبح لفظ (أعهد) في قوله تعالى : )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ( رغم أنها مكونة من ثلاثة أحرف حلقية متتالية ؟ وليس ذلك فحسب بل إن بعض المفردات قد تعد قبيحة وهي متباعدة المخارج والعكس كذلك ؛ يقول ابن الأثير : ( لو كان التباعد سبباً للحسن لما كان سبباً للقبح ؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان ، فمن ذلك أن يقال ملع : إذا عدا ؛ فالميم من الشفة والعين من حروف الحلق واللام من وسط اللسان ، وكل ذلك متباعد ، ومع هذا فإن في هذه اللفظة نكتة غريبة ، وهو إذا عكسنا حروف هذه اللفظة صارت "علم"وعند ذلك تكون حسنة لا مزيد على حسنها ، وما ندري كيف صار القبح حسناً؟ لأنه لم يتغير من مخارجها شيء ) والحق أن الجمال الصوتي صفة ملازمة لمفردات هذه اللغة الشريفة ، يقول ابن الأثير : ( إن أكثر اللغة مستعمل على غير مكروه ولا تقتضي حكمة هذه اللغة الشريفة التي هي سيدة اللغات إلا ذلك ، ولهذا أسقط الواضع حروفاً كثيرة في تأليف بعضها - مع بعض استثقال واستكراه ، فلم يؤلف بين حروف الحلق كالحاء والخاء والعين وكذلك بين الجيم والقاف ولا بين اللام والراء ولا بين الزاي والسين) ويذهب الجاحظ إلى أن هذا الجمال الذاتي في مفردات اللغة يتمثل في أن مفردات هذه اللغة الشريفة لا يلتق فيها من الحروف ما ينشأ عنه صوت قبيح ناشز، فالجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الفاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير ، والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا تأخير ، ويقول الجاحظ عن ذلك : ( هذا باب كبير وقد يكتفى فيه بذكر القليل حتى يستدلّ به على الغاية التي إليها يجرى) أما كلمة (العهخع) التي زعموا فهي كلمة معاياة لا أصل لها ولم يتفق على لفظها أيضا ؛ ولهذا فإن مفردات اللغة كلها حسنة جميلة ؛ وإنما تقبح المفردات أو تحسن بعد ذلك بحسب موضعها ، ولو كانت هذه القاعدة حقيقية لتعسر الانتقاء جداً عند التأليف ؛ يقول القلقشندي : (لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند الألفاظ أهي متباعدة أم متقاربة - لطال الخطب في ذلك وعسر (
2 – إن الغرابة - التي يدّعونها - ضد الإلفة وكثرة الاستعمال ، وهذه الغرابة أمر نسبي ؛ ولذلك لا تصلح معياراً ؛ يقول بهاء الدين السبكي : (الغرابة بالنسبة إلى العرب العرباء لا بالنسبة إلى استعمال الناس ، وإلا كان جميع ما في الكتب من الغريب غير فصيح والقطع بخلافه) ومعلوم أيضا أن القرآن العظيم والحديث الشريف قد حوى بعض هذا الغريب - فلا يمكن الحكم بعدم فصاحتها ، أما نفي الجاحظ للفصاحة من خلال قول يزيد بن المهلب : (إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة بعرائر الآودية وأهضام الغيطان وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه) فإنه إنكار للتكلف وليس إنكاراً للغرابة . ولما كان الأمر كذلك فإن التمسك بهذه القاعدة يفضي إلى قول الزوزني : (إن اللفظ غير الفصيح قد يقع في القرآن) الأمر الذي جعل السبكي يصفه بأنه زلة قدم 2 ومن ذلك أيضا ما يحكي ابن الأثير عن هذه القاعدة ، فيقول : (وحضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة ؛ فقال ذلك الرجل : وأي فصاحة هناك وهو يقول : )تلك تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( فهل في لفظة (ضيزى) من الحسن ما يوصف ؟ فقلت له : اعلم أن لاستعمال الألفاظ أسرار لم تقف عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلهم مثل أرسطاطاليس وأفلاطون )
3- مخالفة القياس :
إن مقاييس اللغة قد وضعت باستقراء كلام العرب الفصحاء في عصر الاحتجاج ، وعصر الاحتجاج هو عصر البلاغة باتفاق ، فإذا خالف القياس لفظ في عصر الاحتجاج وعند العرب الذين يعتد بكلامهم – فلا يمكن عقلاً أن نحكم بعدم فصاحته ناهيك عن ما إذا وقع هذا اللفظ في القرآن نحو "استحوذ"و "سرر " ولما كان الأمر كذلك فقد برر اللفظيون هذه القاعدة واستثنوا منها ؛ الأمر الذي يدلّ على أنها غير مضطردة ، والقاعدة غير المضطردة لا تصلح حكماً ؛ يقول بهاء الدين السبكي : (ما خالف القياس وكثر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح )
4- أما طول الكلمة أو قصرها فلا يصلح معياراً لحسنها أو قبحها ولا ينهض دليلاً على فصاحتها أو رداءتها ؛ يقول القلقشندي : (إن اعتبار ابن سنان تركيب الكلمة من أقل الأوزان تركيبا - غير معتبر) وإذا كانوا قد استدلوا بلفظ "سويداواتها" على أن الطول علة للقبح ؛ فإن صحّ ذلك لقبح كل لفظ طويل والأمر بخلاف ذلك ؛ يقول ابن الأثير : (ليس الأمر كما ذكر فإن قبح هذه اللفظة "أي : سويداواتها" لم يكن بسبب طولها ؛ وإنما لأنها في نفسها قبيحة .... والدليل على ذلك أنه قد ورد في القرآن الكريم ألفاظ طوال ؛ وهي مع ذلك حسنة ؛ كقوله ):فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ( فإن هذه اللفظة تسعة أحرف وكقوله ):لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم( فإن هذه اللفظة عشرة أحرف وكلتاهما حسنة رائقة ، ولو كان الطول مما يوجب قبحاً لقبحت هاتان اللفظتان وليس كذلك ، ألا ترى أنه لو أسقط من لفظة "سويداواتها" الهاء والألف اللتين هما عوض عن الإضافة لبقي ثمانية أحرف ، ومع هذا فإنها قبيحة ، ولفظة )لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم( عشرة أحرف وهي أطول منها بحرفين ، ومع هذا فإنها حسنة رائقة
5- أما الكراهة في السمع فهو معيار نسبي فضفاض لا يكاد يتفق عليه الناس أصلاً ، وقاعدة كهذه لا تصلح معياراً للجمال أو عدمه ، ثم إن كلمة "الجرشي" التي استدلوا بها في هذا الباب - فهي لم تقبح لكراهة السمع لها ؛ بل قبحت لأنها لا تلائم بقية المفردات في السياق ، ولو أن المتنبي قال :
خبيث الجرشي وضيع النسب
لما قبحت اللفظة أصلاً
6- أما الابتذال فإن هذه الأقسام لا تصلح فيه ؛ بل الذي يمكن أن يفهم من الابتذال هو تغيير العامة للكلمة سواء في اللفظ أو المعنى أو توليدهم لها أو وضعهم لها ، وهذا معيار لصحة الاستخدام فحسب ، وفرق بين معيار صحة الاستخدام وبين معيار الحسن والجمال ؛ إذ أن المفردة لا تكون حسنة فصيحة إلا بعد أن تكون صحيحة ؛ أي أن الفصاحة درجة فوق الصحة ؛ فالمفردة الصحيحة سواء استخدمها العامة أم لم يستخدموها فهي فصيحة إذا وضعت موضعها المناسب من النظم والتركيب؛ وإلا فلا.
هجوم الجرجاني على قواعد اللفظيين :
إن آراء اللفظيين هذه لا تكاد تشكل منهجاً لدراسة الفصاحة ولا نظرية لسبر أغوارها ، ولهذا واجهت كثيراً من الانتقادات ، ومن أكابر العلماء الذين تصدوا لها عبد القاهر الجرجاني الذي كره الاتجاه الصوتي المحض ومقت دراسة الأصداء المجردة والأجراس الخالصة ، وذهب إلى أن فصاحة اللفظ إنما هي مزية من أجل معناه لا من أجل جرسه وصداه ، وحتى يسد الجرجاني الذريعة الصوتية من أصلها فقد حاول من كل وجه ومن كل طريق أن يبطل كون الفصاحة وصفاً للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان، وليس ذلك فحسب بل عدّ التوافر على دراسة الأصوات والأجراس والأصداء داء دوياً يسرى في العروق ويفسد مزاج البدن وذهب إلى أن السبب في ذلك هو أن القدماء من البلاغيين عندما وصفوا اللفظ بالشرف وجرت العادة بذلك واستمر عليه العرف فتح ذلك على المتأخرين الذين لم يفهموا جيداً - بابا من الفساد لا يمكن وصفه؛ يقول : (إن أردت الصدق فإنك لا ترى في الدنيا شأناً أعجب من شأن الناس مع اللفظ ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار إحدى طبائعها أغرب من فساد رأيهم في اللفظ ؛ فقد بلغ من ملكته لهم وقوته عليهم أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم وغيبوا عن عقولهم وحيل بينهم وبين أن يكون فيما يسمعونه نظر ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر ، فلست ترى إلا نفوساً قد جعلت ترك النظر دأبها ووصلت بالهوينا أسبابها فهي تغتر بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل وتلقى بأيديهم في الشبه وتسرع إلى القول المموه ) ويذهب الجرجاني إلى أن من فساد الظن التوهم بأن المزية في مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان ؛ يقول : (ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطرح النظم والمحاسن .... وصدّ بوجهه عنها جميعاً وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل ، كيف وهو يؤدى إلى السخف والخروج عن العقل ) ؛ ولهذا رفض الجرجاني تماماً معايير الفصاحة عند اللفظيين مثل الغرابة والحوشية وتنافر الحروف وغيرها
وذهب الجرجاني إلى أن الفصاحة لا تظهر في اللفظ المفرد المقطوع المرفوع عن الكلام وإنما يوجبها للفظة موصولة بغيرها فليس الفصاحة – عنده – هي العلم باللغة ومفرداتها ؛ بل المزية والخصائص في النظم والتركيب ؛ يقول : (اعلم أن ليس لنا إذا تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل ولا هي منا بسبيل ؛ وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب )
نقد رأي الجرجاني :
رغم أن نظرية الجرجاني قد كانت أميز النظريات وأحسنها في دراسة الإعجاز القرآني على الإطلاق ، إذ لم يسبق لها في تاريخ هذا العلم مثيل ولم يأت بعدها ما هو أحسن منها أو يضاهيها ، إلا أن الطابع الكلامي الذي أسبغ عليها واهتمامها بالرد على الخصوم قد أكسبها سمة ظرفية معينة في بعض الجوانب ، وقد أراد الجرجاني أن يهدم آراء اللفظيين بصورة لا تجعل لهم عرقا ينبض من جانب وأن يبني هذا العلم بناء جديداً من جانب آخر ، وإذا كان الجرجاني قد عدّ الاشتغال باللفظ داء دوياً ينبغي علاجه فإنه قد عالجه علاجاً شافياً ، إلا أن هذا العلاج قد كانت له آثاره الجانبية - كما يقولون - ومن ذلك الآتي :
1 - خالف الجرجاني - من أجل معركته – كافة آراء البلاغيين قبله وجعل الفصاحة صفة للمعنى دون اللفظ والجرس وأصداء الحروف ، ولما كانت رشاقة الألفاظ وحلاوة الأجراس وجزالة المفردات وصلصلة الحروف لا تمثل عند الجرجاني شيئاً ذا بال حتى يعتد بها – فقد جعل كلا من البلاغة والفصاحة مزية للمعنى ؛ وليس لها من تعلّق بالألفاظ والأصوات وما شابه ذلك ؛ ولهذا يقول : ( إن الكلام إنما يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه)
2 - كره الجرجاني الاتجاه اللفظي كراهية - جعلته يجترئ على القراءات القرآنية ويقلل من شأنها ؛ يقول : ( وهل يكون أضعف رأياً وأبعد من حسن التدبر منك - إذا أهمك أن تعرف الوجوه في )أأنذرتهم( والإمالة في )رأى القمر (وتعرف )الصراط(و)الزراط( وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ولا يدفعك عن بيان ولا يدخل عليك شكاً ولا يغلق دونك باب معرفة ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل و إلى خطأ في تأويل ) ورغم إقرارنا بأن هذه الأمور التي ذكرها أكثر أهمية من القراءات الصوتية ؛ إلا أن للقراءات والأصوات والأجراس والأصداء القرآنية أهميتها أيضا وليس العلم بها ضعفاً في الرأي .
وكما رفض الجرجاني الاعتداد بصوت المفرد – وهو اتجاه صحيح – فإنه رفض الاعتداد بصوت النظم ومسموعه أيضا ، يقول : (ما مثل من يزعم أن الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان ، ثم يزعم أن يدعيها لمجموع حروفه دون آحاده إلا مثل من يزعم أن ها هنا غزلاً إذا نسج كان أحمر ، وإذا فرّق ونظر إليه خيطاً خيطاً لم تكن فيه حمرة أصلاً )
وبهذا رفض الجرجاني الجانب الصوتي جملة وتفصيلاً سواء في المفردة أو النظم والتركيب ، وإذا كان النظم لا يغيـّر طبيعة المفردات في ذاتها وكذلك النسج والنقض لا يغيران من طبيعة الخيوط شيئا – فإنه يمكن الردّ على مثال الجرجاني بأن : هنالك ثوباً فيه شكل طائر ؛ وهو منسوج ؛ فإذا فرّق ونظر إليه خيطاً خيطاً لم يكن لهذا الطائر من أثر ، ولعل الذي دفع الجرجاني إلى هذه المغالطة هو أنه قد اتجه اتجاهاً معنوياً ورفض ما سواه من آثار النظوم ؛ ولذلك يقول صراحة
ما من سبيل إلى إثبات معجزة
في النظم إلا بما أصبحت أبديه
وما أبداه هو أنه جعل النظم هو توحي معاني النحو وأحكامه، وضرب صفحاً عما يحدثه هذا النظم من الأصوات والأصداء والأجراس .
ويبدو أن الجرجاني قد كان على وعي بذلك ، ولهذا تراه يعلل هذه الأمور في أجزاء متفرقة من كتابه ، ومن الأسباب التي ذكرها الآتي :
1- إغلاق منافذ الخصوم ؛ يقول : (أحببت لذلك أن لا أدع شيئاً مما يحوز أن يتعلق به متعلق ويلجأ إليه لاجئ ويقع في نفس سامع شك إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه)
2- الخوف من الضرر الذي يلحق آراءه المتعلقة بالمعنى الذي هو شديد الأهمية لديه ؛ يقول : ( إذا أخذنا بأن يكون تلاؤم الحروف وجهاً من وجوه الفضيلة وداخلاً في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة - لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى الفصاحة فنخرجها من حيز البلاغة )
الخوف من قصر المزية على الأصوات ، يقول : (اعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان فيما يوجب الفضيلة وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز ، وإنما الذي ننكره رأي من يذهب إلى أن يجعله معجزاً به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات )
 
مجرد محاولة لدراسة الإعجاز الصوتي
هذه محاولة حسبي فيها أنني بينت الطريق وهنالك من هم أقدر مني في دراسة هذه الجوانب الصوتية وتأسيس نظرية الفصاحة القرآنية بصورة أكثر إتقانا وجودة وأنا أضع هذه الدراسة المتواضعة بين أيديهم بعد أفرغت ما مكنني الله فيها من جهد .وكما بينت سابقا فإن "الفصاحة" شيء آخر غير "البلاغة" كما اتضح من دراستنا السابقة لهذين المفهومين .
مفهوم الفصاحة في القرآن الكريم :
ورد لفظ الفصاحة في القرآن الكريم في قوله تعالى : "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا" وقد وصف اللسان هنا بـ(الفصاحة) ، وهذا يشير - وبصورة مباشرة - إلى أن الفصاحة متعلقة بالصوت واللفظ وليس لها أي تعلق بالمعنى -خلافا لما ذهب إليه الجرجاني ، ويقال أن موسى عليه السلام كان في حجر فرعون - وهو صبي وليد - فلطم فرعون لطمة قوية ، وأخذ بلحيته فنتفها ؛ فغضب فرعون ودعا الذباحين الذي كان يأمرهم بذبح أبناء بني إسرائيل ؛ فقالت امرأة فرعون : على رسلك ؛ فإنه صبى لا يفرق بين الأشياء ، ثم أتت بطستين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر ؛ فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه على لسانه ؛ فأحدث ذلك في لسانه رتة أو لثغة ولهذا كان فرعون يسخر منه عندما أرسل بقوله : " أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ " فالفصاحة هنا هي سلامة الصوت ، وليس سلامة المعنى بحال ، وهذا المفهوم يوافق تماماً مفهوم الفصاحة عند الجاحظ ، حيث تراه يتحدث عن العيوب الصوتية كالتمتمة واللجلجة واللتغة والحبسة والحكلة واللفف والرتة والتقعير وغيرها من العيوب، وإذا كانت هذه الأمور الصوتية بالغة الأهمية عند الجاحظ فإنه قد استشهد بقول الشاعر في مدح خطبة:
صحت مخارجها وتمّ حروفها فله بذاك مزية لا تنكر
ومن المهم جداً ملاحظة أن الجاحظ لا يتناول صوت المفردة المجردة إطلاقاً؛ وإنما يتناول صوت الكلام مضموماً إلى بعضه عند النظم ؛ ولهذا فإن مفهوم الفصاحة هو: جمال صوت الحروف وصوت المفردات وصوت الجمل عند النظم والتركيب ، ومعلوم أن أهم محاسن الكلام - أن يرتبط بعضه ببعض وتلتئم أجزاؤه وتتفق مبانيه وتتناسب أطرافه وتنسجم مكوّناته ؛ ويغدو سلس النظام خفيفا على اللسان حتى لكأنه بأسره كلمة واحدة ؛ فيسلم بذلك من التفرّق والتنافر والتباين والاختلاف ؛ يقول سيد قطب : (والتناسق المطلق الشامل هو الظاهرة التي لا يخطئها كل من تدبّر القرآن أبداً) ويقول ابن عطية - الذي جعل الصوت أحد وجوه المزية- :(وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه) ، ولا شك أن تجانس الألفاظ وانسجام أصواتها أمر تتفاوت فيه الأعمال الإبداعية تفاوتا بينا ؛ حتى يصل إلى درجة الإعجاز في القرآن ؛ حيث تكاد الأصوات المجردة أن تعبر عن معانيها من شدة دلالتها عليها. وهذا المفهوم البسيط هو المفهوم الذي نعتمده في هذه الدراسة ، ولكن ذلك يستلزم شروطاً لا بد من مراعاتها ، وهي :
1/ القرآن هو معيار الفصاحة :
اتفق أهل اللغة على أن الاعتداد بصحة اللغة وجعلها معياراً ينحصر في حقبة زمنية معينة ؛ وهي العصر الذي سموه بعصر الاحتجاج ؛ وأجمعوا على أن القمة التي لا تدرك والشأن الذي لا ينال في ذلك العصر هو القرآن ، أي :أنه أفصح الفصيح ؛ ولهذا فإن الجاحظ عندما فاضل بين لغة أهل البصرة وأهل مكة إنما فاضل بينهما بقربهما أو بعدهما عن القرآن ، ولما كان الأمر كذلك ؛ فليس من المعقول أن تصادم قواعد المتأخرين - الذين لم يعاصروا الفصاحة – القرآن ؛ فنسلم بصحتها ابتداء ، بل نقول بعدم صحة استنباطهم ؛ وإن كانت هنالك أمور كثيرة غير ذلك تقدح في ذلك الاستنباط أيضا .
2/ الإعجاز مزية تجددت في اللغة :
معلوم أن مفردات اللغة ليست بمعجزة ؛ وإن كانت مأخوذة من القرآن ؛ إذ أنها مفردات متاحة ومستخدمة عند كل أحد من العرب ؛ فلا يمكن الإعجاز فيها بحال ، وهذا يقتضي أن يكون هنالك سبب حدث ومزية قد تجددت عند استخدام هذه المفردات في القرآن ؛ يقول الجرجاني : (إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن وأمرا لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة) أي: هو في النظم بلا شك .
3-النظم
لما كان النظم هو المعجز دون المفردات – فإن المفردة اللغوية الواحدة تختلف اختلافاً ظاهراً من نظم إلى نظم ومن تركيب إلى آخر ؛ يقول الجرجاني : (إنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موقع ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير ، وإنما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح - مزية تحدث من بعد أن لا تكون وتظهر في الكلام بعد أن يدخلها النظم ، وهذا شيء إن أنت طلبته فيها - وقد جئت بها أفراداً لم ترم فيها نظماً ولم تحدث لها تأليف - طلبت محالاً ) ويقول أيضا : (هل رأيت أحداً يقول : هذه اللفظة فصيحة ؛ إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وفضل مؤانستها لأخواتها)
وبهذا فقد اتضح أن الفصاحة لا تعلّق لها بمفردات اللغة في ذاتها ؛ بل تكتسب ذلك من النظم والتركيب ، ومعلوم أن المتكلم لا يفعل في مفردات اللغة شيئاً ولا يغير هيئاتها ؛ وإنما يستخدمها كما هي ؛ فلو أن كلمة "ضرب " في اللغة كانت "ربض" لما جاز للمتكلم أن يصلحها بل إنه إن فعل ذلك أفسد على نفسه وأفسد اللغة
ولما كانت الفصاحة ليست بصفة ذاتية في الألفاظ فإنك ترى الكلمة لطيفة جداً وفصيحة – حسب اللغة وحسب معايير اللفظيين - حتى إذا دخلت النظم اختلف بها الحال فقبحت ؛ وإذا أردت مثالاً بيناً على ذلك فانظر إلى ألفاظ مثل (كنت ، ولكن ، كتم ، ذاك ، كما ، كان) فهي كلمات فصيحة لا قبح فيها فإذا انضمت إلى بعضها وتلاقت ودخلت في التركيب والنظم وتكاملت قبحت كما في قول الشاعر :
لو كنت كتمت الحب كنت كما
كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن
وانظر كذلك في قول الآخر :
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
وقول الآخر :
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
وقول الآخر
فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل
كما أن المفردة قد تحلو في تركيب وتقبح في تركيب آخر ؛ ومن ذلك لفظ "يؤذى" في قوله تعالى : "فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ " فإنك تراها جميلة رائقة حتى إذا نظرت إليها في قول المتنبي:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذّ له الغرام
فإنك تراها قد جاءت في البيت ضعيفة فحطت من قدره ؛ يقول ابن الأثير : (هذا موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة وإمعان نظر ...وهذه اللفظة التي هي (تؤذي) إذا جاءت في الكلام فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به ؛ كما في قوله تعالى ، أما قول المتنبي فقد جاءت فيه منقطعة ثم جاء بعدها بكلام مستأنف) ولأجل ذلك تراها في الحديث وقد أضيف إليها كاف الخطاب فأصلحها وأزال ما بها من ضعف وركة ؛ وهو قول صلى الله عليه وسلم : (بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك) ومن ذلك أيضا لفظ "الأخدع" في قول الشاعر :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا
وفي قول الآخر
وإني وإن بلغتني شرف الغنى
وأعتقت من رقّ المطامع أخدعي
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن ، ثم إنك تتأملها في بيت أبى تمام.
يا دهر قوّم أخدعيك فقد
أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هنالك من الروح والخفة والإيناس والبهجة ، ورغم أن الجرجاني قد أتى بهذا النموذج لإثبات هذا الدليل في النظم المعنوي الذي يتوخى فيه معاني النحو – إلا أن هنالك في الأبيات جانباً صوتياً شديد الأهمية ؛ وهو أن الحروف في البيتين الأوائل قد خفت أجراسها ولطفت فجاء مسموعها كوقع نسيم الآصال ، أما بيت أبي تمام فإنك ترى في نظمه أصواتا شديدة الوقع (القافات التي تكررت ثلاث مرات ، والتشديد في "قوّم" وتكرير الجيم ، وتكرير الخاء وتكرير الدال وتكرير الهاء) هذا فضلاً عن تثنية "أخدعيك" الشديدة الثقل ، ولا بد لكلمة بثقل أخدعيك إذا دخلت على نظم ثقيل التركيب أن تزداد قبحاً فتمجها الآذان ، ولهذا فإن للتركيب والنظم أثره الكبير جداً على المفردة ، ولذلك يقول الجرجاني : (فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض)
4/ الاعتداد بالنظم الصوتي :-
عوَّل الجرجاني على النظم في دراسة الإعجاز تعويلاً كبيراً ؛ بل عدَّه الأصل الذي يدور عليه الأمر كله ؛ إلا أنّ فكرة النظم باعتبارها محدداً للإعجاز لم تكن فكرة جديدة ابتدعها الجرجاني، وإنما تناولها قبله الكثيرون؛ وقد كان لهذه الفكرة تفسيرات متعددة وإيضاحات متنوعة لم يرض عنها الجرجاني ولم يعتد بها؛ ولأجل ذلك يقول: ( إنّ المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه - وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها ولا يسلك المسالك التي نهجناها- في عمياء من أمره) ؛ ولهذا تراه يرفض قول القاضي عبد الجبار : ( إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلم وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة ) وذلك لأن النظم عند القاضي لم ينتهج فيه نهج الجرجاني ؛ ولهذا يقول الجرجاني أيضا : ( ليس من عاقل يفتح عين قلبه إلا ويعلم ضرورة أنّ المعنى في ضمّ الكلم بعضها إلى بعض وتعليق بعضها ببعض لا أن ينطق بها في إثر بعض )
ورغم اعتصام الجرجاني الشديد بالمعنى ونبذه للصوت وراء ظهره ؛ إلا أن لهذا الصوت أهميته أيضا ؛ إذ أنه آلة الكلام والجوهر الذي يقوم به التقطيع ، ومعلوم أن الكلام لا يكون كلاماً إلا بهذا التقطيع ، ولما كان أمر الصوت على هذه الدرجة العالية من الأهمية - فقد أولى علماء القرآن مخارج الحروف عناية فائقة ، وميّزوا بين الحروف في الصفات والمخارج فكان منها المهموس والمجهور وحروف الاستعلاء والاستفالة وغيرها.
والحق أن انسجام الأصوات وتناغم الحروف سمة ظاهرة معلومة لكل من عرف القرآن وأكثر سماعه ؛ ولهذا جعل ابن عطية توالي هذه الأصوات حين يتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة أحد المزايا التي يتبدى بها الإعجاز، ولما كان الأمر على الوجه الذي سبق – فإن القرآن العظيم قد بلغ الغاية في التقاء الصوتي وحسن الوقع في الأسماع ؛ إذ أن له نظامه الصوتي الخاص الذي يشكّل اتساقاً في الصوت ليس بعده اتساق ؛ ولأجل ذلك تجد العلماء قد تشددوا في الأداء والتجويد فلم يتركوا إدغاماً ولا إخفاء ولا مدّا ولا حرفاً من الحروف إلا أعطوه حقه ، وما ذاك إلا لأن للقرآن نظاماً معيناً به تظهر روعة الصوت وجمال الجرس والنغمات .
وإذا كان القرآن في حلاوة الألفاظ وفصاحتها قد بلغ القمة فإن ذلك ليس بالأمر القاصر على موضع معين ؛ بل هو أمر شامل ينتظم القرآن من أوله إلى آخره ، ولاشك أن هذه الملازمة هي التي تجعل مسموع القرآن متميزاً عن مسموع سائر الكلام ؛ وبهذا أيضا وقع التحدي وحصل التعجيز
وقد ذكر الله تعالى الحروف الهجائية التي تتركب منها الألفاظ في أوائل السور تحديا للبشر بأن يركبوها وينظموها فيأتوا بمثل القرآن؛ يقول ابن كثير: ( ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ؛ هذا مع أنه مرّكب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ؛ وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره والمبرد والمحققون ، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا ووزره الزمحشري في كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية)
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله عن ذلك : ( إن الحروف المذكورة في أوائل السور هي حروف المعجم التي استغنى بذكر ما ذكر منها عن بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين … ومجموع هذه الحروف (المذكورة) أربعة عشر حرفاً … يجمعها قولك ( نص حكيم قاطع له سر ) وهي نصف الحروف عدداً ؛ والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف ؛ وهذه الحروف الأربعة عشر على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة … ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبدي لا معنى له بالكلية - فقد أخطأ خطأ كبيراً)
ويقول سيد قطب : (هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن ، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات ، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثلها). وقال القاضي أبو بكر (إنما جاءت على نصف حروف المعجم كأنه قيل : من زعم أن القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن ، وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق)
ولما كانت ألفاظ العرب التي نزل عليها القرآن مكونة من حرف وحرفين وثلاثة أحرف وأربعة وخمسة لا أكثر ، فقد جاءت تلك الحروف الاستفتاحية كذلك ؛ إذ أن منها ما جاء على حرف نحو:
(ص ، ن ، ق)
ومنها ما جاء على حرفين نحو :
( حم )
ومنها ما جاء على ثلاثة أحرف نحو :
( ألم ) و ( ألر )
ومنها ما جاء على أربعة أحرف نحو :
( ألمر ) و ( ألمص )
ومنها ما جاء على خمسة أحرف نحو :
( كهيعص ) و ( حمعسق )
وإذا كانت هذه الحروف قد جاءت على نظام معين وطريقة مخصوصة – فإن ذلك لأبلغ دليل على الإعجاز الصوتي الذي يدل دلالة واضحة على أن للقرآن اتساقاً صوتياً ونظاماً متحدى به ، ولأجل ذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى : ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ ( بأن كون القرآن مثانى متشابها، أي : يشبه الحرف فيه الحرف في نمط معين ونظام مخصوص يدل على اتساق صوتي مؤثر ليس له من مثيل ولا نظير.
5- تعلّق الألفاظ "كأصوات" بمعانيها :
رغم أن هذه النظرية تستند استناداً أساسيا على الألفاظ والأصوات والأجراس والأصداء ، إلا أن الصوت يتعلّق أشد ما يكون التعلّق بمعناه ؛ إذ أن الألفاظ خدم للمعاني ومصرفة على حكمها كما يقول الجرجاني ، ولهذا لا يمكن عزل المعاني عن الأصوات والاهتمام بالألفاظ دون معانيها .
وإذا كانت اللغات الإنسانية عموماً هي أصوات متقطعة يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم فقد ذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن جنى إلى أن هنالك تناسباً بين أصوات اللغات وأصوات الطبيعة ؛ بل هي محاكاة لها وتقليد لأصواتها نحو دويّ الريح وأزيز القدر وخرير الماء ونعيق الغراب وصهيل الفرس ؛ قال ابن جني : ( كأنما توهّموا أن في صوت الجندب استطالة فقالوا (صرّ) وفي صوت البازي تقطيعا فقالوا (صرصر ) وقد اختار العرب –حسب رأي هولاء العلماء – لأكل الرطب (الخضم ) ولأكل اليابس القضم فاختاروا الخاء - لرخاوتها - للرطب ، والقاف – لصلابتها- لليابس ) ويقول ابن القيم : ( ولقد كنت لا أعلم موضوع اللفظ وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه ؛ فحكيت لشيخ الإسلام ( أي ابن تيمية ) هذا عن ابن جني ؛ فقال : وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك ، ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف والمتوسطة للمتوسط ؛ فيقولون : عزّ يعزّ بفتح العين إذا صلب وأرض عزاز صلبة ، ويقولون : عزّ يعزّ بكسرها : إذا امتنع ؛ والممتنع فوق الصلب فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره ، ثم يقولون : عزّه يعزه : إذا غلبه ؛ قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام ): وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ( والغلبة أقوى من الامتناع ؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا من عدوه ولا يغلب غيره ؛ فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط ).
ويقول ابن القيم أيضا : (تأمل الألفاظ التي فيها الميم ؛ كيف تجد الجمع معقودا بها؟ ؛ مثل : لم ّ الشيء يلمّه : إذا جمعه ومنه : لم الله شعثه ؛ أي : جمع ما تفرق من أموره ، ومنه قولهم : دار لمومة ؛ أي : تلمّ الناس وتجمعهم ، ومنه : (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا) وجاء في تفسيرها : يأكل نصيبه ونصيب صاحبه ؛ وأصله من اللم وهو : الجمع ، كما يقال : لفه يلفه ، ومنه ألم بالشيء : إذا قارب ، ومنه اللمم وهو : مقاربة ، ومنه الملمة وهي : النازلة التي تصيب العبد ، ومنه اللمة وهي : الشعر الذي قد اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ، ومنه تمّ الشيء وما تصرف منها ؛ ومنه بدر التم : إذا كمل واجتمع نوره ، ومنه التوأم للولدين المجتمعين في بطن ، ومنه الأم ؛ وأم الشيء : أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له ، وبه سميت مكة أم القرى والفاتحة أم القرآن واللوح المحفوظ أم الكتاب)
ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله : (وهذا أكثر من أن يحاط به وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى ، ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها)
وقد ذهب ابن سينا إلى أن كل حرف من حروف اللغة يحكى صوتاً في الطبيعة ؛ فالعين تشبه صوت إخراج هواء بعنف من مكان رطب ، والقاف تسمع مثالها من فلق الأجسام وشقّها ، والراء من تدحرج كرة على لوح
والحق أن العبرة ليست بدلالة صوت الحروف أو الكلمات المفردة على معانيها وإنما العبرة يدلالة صوت النظوم والجمل الكبرى على معانيها ؛ وهذه مزية لا تتوفر في غير القرآن إلا نادرا جدا ، ولما كان الأمر على الوجه الذي سبق فليس العبرة في تخيّر اللفظ لغرابته وإنما العبرة بتصويره للمعنى العام وانسجامه مع بقيه العناصر المكونة للكلام ؛ ولذلك انتفت صفة الجزالة أو العذوبة المفردة وكانت العبرة بتكامل هذه المفردات وانسجام حروفها لتشكل كلا متكاملاً ، وإذا أردت دليلاً بيناً على ذلك فانظر إلى تخيّر المفردات في القرآن حيث تتكامل المفردات فتحدث صوتاً ذا دلالة خاصة تناسب المعنى العام ، وفي هذه الحالة لا تستقل المفردة يحرسها عن بقية المفردات ؛ فإذا ما قرأت سورة الناس متوالية وجدت الألفاظ تصور وسوسة ( الوسواس الخناس) تصويراً كاملاً ، ومثلها سورة العاديات فإنك تجد في موسيقاها خشونة ودمدمة وفرقعة تناسب الجو الصاخب المعفر ؛حتى تكاد تسمع فيه وقع السنابك وبعثرة القبور ، والأمر كذلك في بعض الأعمال الإبداعية إذا بلغت في بعض جوانبها شأوا بعيداً من الإبداع ؛ انظر إلى قول لبيد:
حتى إذا قلقت رحالتها وأسبل نحرها
وابتلّ من زبد الحميم حزامها
ألا ترى الحاءات المتتالية التي تكاد تسمع منها أنفاس الفرس وحمحمته
ولاشك أنك إذا تأملت قوله تعالى :
)َواشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا(
فإنك واجد صوت الاشتعال السريع الذي بصوره صوت الهمزة بانضمامها إلى الشين والتاء في (واشتعل) مضافاً إليها صوت السين والشين والياء في ( الرأس شيباً) وقد حكى كل ذلك صوت النار في اشتعالها – ولعل ابن الفارض قد أحسّ بذلك فأراد اقتفاء أثره فأخفق في قوله:
سهم شهم القوم أشوي ، وشوى سهم ألحاظكم أحشـائي شيء
أي شيء مبرد حرا شـــوى للشوى حشو أحشائي أي شيء
لقد خانه التعبير فاصطدمت القصيدة بأبيات تخدش السمع بموسيقاها المتنافرة التى كأنها شوك يتقصف بين مشفري بعير
ولما كانت الألفاظ المفردة لا تعتبر لوحدها ولا تعرف المزية في أنفسها وإنما يعرف ذلك من خلال انضمامها إلى سائر أجزاء الكلام – فإن حلاوة الصوت أو جزالته وقوته ينبغي أن ينظر إليها من خلال تأديتها للمعنى العام ومن خلال النظم التي هي جزء لا يتجزأ منه.
وهذا المفهوم الذي حدّد للفصاحة في هذه الدراسة - بشروطه المتعددة- يمكن أن يطبّق في دراسة فصاحة القرآن ؛ من خلال الكلمة داخل النظم والجمل والفواصل والسور وغيرها ، وهذا التقسيم إنما هو تقسيم لأجل الدراسة ؛ ، وتفصيل ذلك كالآتي :
فصاحة المفردات القرآنية :
إن المفردات المترادفة - وإن تقاربت معانيها جدا - فإنها من ناحية الصوت والجرس تختلف اختلافا كبيرا ؛ ولذلك فإن المفردات قد تحسن في النظوم من أجل صوتها ؛ إذ يمكن بذلك أن تشكل مع المفردات الأخرى صوتا مميّزا يكون أكثر دلالة على المعنى ؛ ولهذا فإن المفردات القرآنية لا يحسن غيرها إن وضع في مكانها ؛ إذ أن نظم القرآن قد أحكم إحكاما معجزا سواء من ناحية المعنى أو ناحية اللفظ والجرس ؛ يقول القرطبي : ( لو نزعت منها لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد )
وإذا كان اللفظييون قد أنكروا – بمعاييرهم السقيمة نلك – بعض الألفاظ لطولها أو ثقلها أو غير ذلك مما ذكروا ؛ فإنك نجد في نظم القرآن كلمة طويلة أو ثقيلة لا يحسن غيرها إن جعل في مكانها ؛ إذ تكون هي أنسب الألفاظ على الإطلاق في ذلك الموضع من حيث أداؤها وجرسها وغير ذلك ، وإذا أردت دليلا واضحا على ذلك فانظر إلى لفظ (أنلزمكموها ) في قوله تعالى : ) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ( ألا تحسّ أن اللفظ نفسه يصور جو الإكراه بإدماج هذه الضمائر وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون وهم عنه نافرون
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة ( اثا قلتم )بكل تقلها داخل النظم القرآني في قوله تعالى : ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ( ألا تجد أن لفظ ( اثاقلتم ) قد رسم صورة شاخصة يتصوّر فيها الخيال ذلك الجسم المتثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في تقل ؛ ولو أنك خفّفت الجرس وقلت ( تثاقلتم ) مثلاً أو عدلت إلى لفظ آخر أكثر خفة لضاع الأثر وتوارت الصورة المطلوبة ثم انظر إلى قوله : )الأَرْضِ أَرَضِيتُم (الذي يصور هولاء المتثاقلون وكأنهم التصقوا بالأرض التصاقا ؛ وهذا النوع من التعبير هو الذي يسميه البلاغيون بتجنيس الإطلاق
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (القصم ) في قوله تعالى الذي يعرض مشهدا حيا من الاستئصال: )وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ( والقصم : أشد حركات القطع ، أو هو : كسر الشيء الصلب ، وجرسها اللفظي يصور معناها ، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة ؛ فإذا هي مدمرة محطمة . ومن الملاحظ أن الله تعالى قد أوقع الفعل (القصم) على (القرى) ؛ ليشمل ما فيها ومن فيها ، وعند الإنشاء أوقع الفعل على (القوم) الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (خرقوا ) في نظم قوله تعالى : )وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ( وخرقوًا أي:اختلقوا ، وفي لفظها جرس خاص وظل خاص ؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق وخرقوا له بنين عند اليهود والنصارى :عزير و المسيح ، وعند المشركين بنات هنّ الملائكة ، وقد زعموا أنهم إناث ، ولا يدري أحد طبعا لماذا هم إناث ! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (كبكبوا) في نظم قوله تعالى : )فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ( وأصل الكلمة (كببوا)، ولكنه عذل عنها - في اللغة – إلى (كبكبوا) ؛ فأبدل من الباء كافا استثقالا للتضعيف ، ولا شك أننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ ( كبكبوا ) المعدول إليها صوت تكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام و(كبكبوا) أي : قلبوا على رءوسهم ، وقيل طرح بعضهم على بعض ، فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (الصاخة ) في نظم قوله تعالى : )فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ......... ( والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن ، وهو يشق الهواء شقا ، حتى يصل إلى الأذن صاخا، وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه:مشهد المرء يفر وينسلخ من أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط والوشائج تمزيقا وتقطعها تقطيعا
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (أيان) في نظم قوله تعالى : َ)بلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ( والسؤال بأيان - هذا اللفظ المديد الجرس - يوحي باستبعاده لهذا اليوم ؛ وذلك تمشيا مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره ، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة أيان أي متى؛ ولكنه عدل من اللفظ القصير إلى الطويل للاستبعاد ، ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها سريعا خاطفا حاسما ، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم وجرس الألفاظ . وكان مشهدا من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية ، والمشاهد الكونية: )فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( فالبصر يخطف ويتقلب سريعا سريعا تقلب البرق وخطفه ، والقمر يخسف ويطمس نوره ، والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق ويختل نظامهما الفلكي المعهود ؛ حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.
وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (حاصبا ) في نظم قوله تعالى : )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا( والحاصب:الريح تحمل الحصا، ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة ، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد
وليس الأمر كما ذكرنا فحسب ؛ بل إن بعض المفردات القرآنية قد تأخذ شكلا مختلفا من الناحية الصوتية حتى ليبدو أنه نقيض لمعناه الجزئي أحيانا ؛ وذلك ليناسب المعنى العام أو الجو العام ؛ ومن ذلك قوله تعالى –الذي يتناول علم الله تعالى بالخفيات-: "سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ "وكلمة (سارب) تكاد بظلها تعطي عكس معناها ، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء . والسارب:الذاهب ؛ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : السارب الذاهب الظاهر ؛ فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء ، هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو : جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار ، فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء
فصاحة الجمل القرآنية :
سبق أن تخيّر المفردة حتى تناسب حروفها غيرها ؛ فيصير الكلام كأنما سبك سبكاً واحداً وأفرغ إفراغاً واحداً – لهو أمر في غاية الأهمية عند تلمس الفصاحة ، ولاشك أن القرآن قد بلغ في ذلك حدا تعجز عنه قوى الخلق وتتقاصر دونه ملكاتهم ؛ إذ أنه قد تخيّر - في تأدية المعنى - من المفردات ما هو أحسنها في جانبها الصوتي وما هو أكثرها ملاءمة لصوت الآية عموماً ، فأخرج بذلك صوتاً متلائماً ليس مثله من صوت حتى يعبر بهذا الصوت عن المعنى العام ؛فضلا عن الخصائص الأخرى التي ليس من شأننا الخوض فيها بهذا الموضع ؛ ولهذا فإنه لا انفصال بين الدلالة المعنوية والدلالة الصوتية في القرآن ؛ إذ هما يتكاملان تكاملا في إخراج المعنى المراد ، وإذا أردت أدلة بينة لذلك فانظر إلى قوله تعالى : )كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ( تجد أن تكرار القافات والراءات والسينات كأنما يصور القرقرة والسكرات وخروج الروح ، إنه مشهد الاحتضار ، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر ، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ. وكذلك قوله تعالى :" مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً" انظر فيها إلى عبارة (مذبذبين بين) التي يسميها البلاغيون بالجناس المذيل أو المتوج ، وإلى عبارة ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) تجد أن اللفظ يصور بجرسه موقف الذبذبة ، والأرجحة والاهتزاز وعدم الاستقرار والثبات ، وهي صورة كريهة - بلا شك - في حس المؤمنين ؛ إذ تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز
وانظر كذلك إلى قوله تعالى :" أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" إن عبارة (جرف هار فانهار) التي يسميها البلاغيون بالجناس المرفق تصور بالفاءات المتكررة صوت الانزلاق وبالراءات المتكررة صوت التدحرج وبالهاءت والألفات المدى البعيد في الهاوية ، إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات ، والحركة في هذا المشهد سريعة عنيفة، إن البنيان قائم على حافة جرف مخلخل مستعد للانهيار ، إن الصوت يصوره وكأننا نبصره ؛ إنه يتأرجح ؛ إنه ينهار ؛ إنه ينزلق ؛ إنه يهوي ؛ إن الهوة تلتهمه ؛ يا للهول ! إنها نار جهنم.
وكذلك فوله تعالى : "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ" انظر إلى هذه العبارة العذبة (فروح وريحان) التي تثير بحروفها الهامسة اللينة في النفس انبساطا وانشراحا ليس بعده انبساط وانشراح ؛ يقول سيد قطب : (الألفاظ ذاتها تقطر رقة ونداوة وتلقي ظلال الراحة الحلوة ، والنعيم اللين والأنس الكريم )
وانظر كذلك إلى قوله تعالى : )فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا( ومعلوم أن لفظي ( اسطاعوا واستطاعوا) بمعنى واحد وهو الإشارة إلى القدرة والإمكان ؛ إلا أنك تجد أنهما قد اختلفا اختلافاً بيناً في الناحية الصوتية ، حيث جاء لفظ ( اسطاعوا) الذي كأنه يصور صوت انزلاق القدم على السطح الأملس مع ذكر (يظهروه) أي : يعلوه ، ومن الواضح أنهم لم يكن لهم من حيلة فيه من صعود لارتفاعه وانملاسه ، ولكن التعبير القرآني قد عدل عن الإدغام في الموضع الآخر (استطاعوا) في مقام الخرق ؛ وكأن فك الإدغام (تطا) إظهاراً لصوت الحفر في معدن السدّ ، فانظر كيف اختلف الجانب الصوتي في اللفظ الواحد باختلاف المقامات والمواضع.
وانظر كذلك إلى قوله تعالى : "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ"تجد أن الجو كله يسر وراحة ونعيم . والألفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم ، حتى "الحزن" لا يتكأ عليه بالسكون الجازم . بل يقال "الحزَن" بالتسهيل والتخفيف والنصب واللغوب لا يمسانهم مجرد مساس ، والإيقاع الموسيقي للتعبير كله هادئ ناعم رتيب . ثم نتلفت فجأة إلى الجانب الآخر فنرى القلق والاضطراب وعدم الاستقرار على حال: فيطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء ، إنه صوت المنبوذين في جهنم: وهم (يصطرخون) فيها وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً.
وليس ذلك فحسب ؛ بل إن التعبير القرآني قد يعدل عن اللفظ السهل إلى اللفظ غير المألوف إذا كانت المفردات الأخرى في النظم كذلك ، والأمر بالعكس أيضا ، وإذا أردت دليلاً واضحا في ذلك فانظر إلى قوله تعالى : "قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا"فمن الملاحظ أن الله سبحانه تعالى لما أتى بأغرب أنواع القسم ( التاء ) التي هي أقل استعمالاً وأبعد عن أفهام العامة من الباء والواو – فقد قرن ذلك بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار ( تفتأ) ، ومعلوم أن (كان) وما قاربها أعرف عند الكافة من (تفتأ) وكذلك لفظ (حرضا) أغرب من جميع ألفاظ الهلاك الأخرى ، فاقتضى حسن الوضع أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال توخياً لحسن الجوار حتى تتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم ، ألا ترى أن الله تعالى قال في غير هذا الموضع : "وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ"وذلك لأنه لما كانت الألفاظ المجاورة لهذا القسم كلها مستعملة متداولة فإنه لم يأت فيه لفظ غريب يفتقر إلى مجاورة ما يشاكله في الغرابة
ومن الملاحظ أن الآيات أو الجمل القرآنية لا تثقل أو تقبح أبدا ؛ وإن اشتملت على كافة الحروف العربية ؛ ومن ذلك - على سبيل المثال –قوله تعالى : )ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( ولاشك أن في هذه الآية ملاحظات تكشف الوضع الصوتي المنتظم والانسجام الدقيق لحروف القرآن ، وهذه الملاحظات تتمثل في الآتي :
1. جمعت الآية جميع حروف الهجاء الثمانية والعشرين واشتملت على أجناس الحروف الثقيلة منها ؛ ومع ذلك لم تفقد سلاستها بل زادها ذلك جمالاً وروعة ومزج نغمة الفصاحة فيها.
2. تكرر كل من الألف والياء – وهي أخف حروف الهجاء وتنقلب أحدهما إلى الأخرى – إحدى وعشرين مرة في هذه الآية .
3. معلوم أن الميم والنون ( مع التنوين ) متشابهتان ويمكن أن تحلّ كل واحدة محل الأخرى ، وهذان الحرفان قد ورد كل منهما في هذه الآية ثلاث وثلاثين مرة .
4- أن الطاء والضاد والذال والزاي حروف متآخية حسب المخرج والصفة وقد ورد كل واحد منها مرتين في هذه الآية الكريمة.
5- أن الصاد والسين والشين حروف متآخية حسب المخرج والصفة ؛ وقد ورد كل واحد منها ثلاث مرات.
6- معلوم أن الهمزة والهاء متآخيتان في المخرج ولكن الهاء أخف من الهمزة بدرجة ، ولأجل ذلك ذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة والهاء أربع عشر مرة.
فصاحة الفواصل القرآنية :
للفواصل القرآنية جماليات وفنون ودلالات ومعاني خاصة ولا يدانيها في ذلك قوافي الشعر ولا نهايات الأسجاع ؛ وقد تأخذ هذه الفواصل أشكالا معينة عند كل معنى من المعاني ؛ يقول سيد قطب : (إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر ، ففي القرآن القافية ليست حرفا متحدا ، ولكنها إيقاع متشابه - مثل: " بصير ، حكيم ، مبين ، مريب" و "الألباب ، الأبصار ، النار ، قرار" و "خفيا ، شقيا ، شرقيا ، شيئا" .......إلخ ، وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير ، والثانية في مواضع الدعاء ، والثالثة في مواضع الحكاية ) وهذه الملاحظة دقيقة جدا ؛ إذ أن هذه الفواصل القرآنية قد تأخذ أشكالا متعددة بحسب المعنى كما سيأتي ، ونهايات الآي هذه أو الفواصل لا تسمى قوافي ولا سجعا عند كثير من العلماء ؛ وذلك لأسباب جوهرية ؛ ولاشك أن المشابهة السطحية بين فواصل القرآن وبين أسجاع العرب قد توهم الناظر غير المتأمل أن الأمرين واحد ، ولكن عند النظر الدقيق يتبين الفرق الشاسع والبون البعيد بينهما ؛ ولأجل ذلك اختلف العلماء في تسمية الفواصل سجعاً فانقسموا فريقين : فريق لم ير بأساً في ذلك وفريق تشدد في ذلك غاية التشدد نحو الإمام الباقلاني والرماني وغيرهما.
ولاشك أن صاحب النظر المتعجل ليحسب أن هذه الآراء المتشدّدة ما هي إلا تزمّت وتحكّم ، ولكن الأمر عند إنعام النظر يختلف ؛ وذلك لأن الفواصل القرآنية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمور في غاية الأهمية ؛ وتفصيل ذلك كالآتي :-
1. إن الفواصل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل الجملة القرآنية ؛ وليست هي بأمر صوتي محض يحدد النهايات ؛ إذ أنها جزء من كلٍ معجز ، وليس للجزء إذ ما تجرد عن الكل من حكم ولا معنى ؛ كما سبق.
2. إن الفواصل القرآنية ترتبط بالمعنى ارتباطاً محكماً ، ولأجل ذلك فإنها قد تتغير بحسب تغير المعنى، كما سيأتي .
3. إن الفواصل القرآنية ليست بجارية على قانون السجع الذي تتوافق فيه الحروف النهائية توافقاً مضطّرداً .
4. إن السجع يأتي في أغلب الأحيان متكلّفاً سمجاً وليست كذلك فواصل القران ، ومن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السجع المتكلف وأنكره ؛ وما إنكاره صلى الله عليه وسلم لهذه الظاهرة إلا لأجل إكراه المعاني ومراعاة اللفظ ، وليس العيب في السجع نفسه كما ذكر الجاحظ
والحق أن الفواصل القرآنية ما جاءت مضطردة أو متنوعة إلا لأجل المعنى ، فهي لا تستكره المعاني مراعاة للألفاظ والأجراس أصلاً ، بل إن الجانب المعنوي واللفظي للإعجاز قد ارتبطا في القرآن ببعضهما ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يمكن أن يضام أحدهما لأجل الآخر ، إلا أن الفواصل القرآنية قد تعدل عن المعتاد وتسلك مسالك أخرى من التعبير ؛ وقد أحصى الباحث من كلام المفسرين والعلماء أكثر من عشرين شكلاً من أشكال العدول في الفواصل القرآنية ، وهذه الأشكال قد توهم غير المتأمل أنها مراعاة للفواصل والأسجاع ، ولكن الأمر بخلاف ذلك عند إنعام النظر ، ومن أشكال العدول الكثيرة في الفاصلة القرآنية ما يأتي :
1/ إفراد ما حقه التثنية :وذلك نحو قوله تعالى : "فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى"
2/ إفراد ما حقه الجمع :وهذا نحو قوله تعالى : "فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ"
3/ إيثار أغرب اللفظين :وذلك نحو قوله تعالى : "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى"
4/ إيقاع صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل: نحو قوله تعالى : "جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" أي: ساتراً .
5- حذف كلمة أو صفة : قد تحذف من الجملة القرآنية صفة أو كلمة لتكون الكلمة التي هي قبلها فاصلة ؛ وذلك نحو قوله تعالى : "بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ"أي : شراب كثير .
ورغم أن العدول قد يبدو لغير المتأمل أنه مراعاة للصوت الجزئي في أواخر الآيات دون المعنى ؛ إلا أن الأمر أعمق من ذلك بكثير ، حيث أن الفاصلة إنما جاءت كذلك لأن المعنى يقتضي هذا العدول وبصورته التي بها جاءت ، فلو ذهبت تنزع هذه الفواصل وتأتي بغيرها لم يحسن المعنى ، ثم إن الاعتبار إنما هو بصوت المفردات القرآنية كلها ، وليس لمراعاة مفردة واحدة من معنى كما سبق.
وإذا كان الأمر كما سبق فإنه يمكن النظر إلى معاني تلك الفواصل التي عدلت عن الأسلوب المعتاد ، ففي إفراد ما حقه التثنية في قوله تعالى : )فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى( كان الخطاب لآدم عليه السلام وزوجه حواء ؛ ولكن الله تعالى قد ثنى في قوله ( يخرجنكما ) ثم أفرد في ( تشقى) وذلك لأن النفقة كما قررها الله تعالى أصلاً على الزوج، ولأجل ذلك لم يقل ( فتشقيان) ؛ وهذا الأمر جار في أبناء آدم وبنات حواء ؛ إذ أن النفقة الواجبة على الزوجة في الشريعة هي : الطعام والشراب والسكن والكسوة بدلالة قوله تعالى : " إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى" فإن زاد الزوج على ذلك فهو مأجور ، وبهذا فقد اتضح أنه لم يبق لمن يتوهم أن الإفراد كان لمراعاة الفاصلة – من قول.
أما إفراد ما حقه الجمع في قوله تعالى : "فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ" فقد ذهب المفسرون إلى أن النهر هو الضياء والسعة ومنه اشتق النهار ؛ وليس المقصود الماء ، وهذا يدل على أن الجنة لا ظلام فيها ، ويقول سيد قطب : " لفظ في جنات ونهر يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب ، وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة "نهر" بفتح الهاء . بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير"
أما إيثار أغرب اللفظين في قوله تعالى : "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" فمعلوم -كما سبق - أن المفردات القرآنية قد تأتي مألوفة أو غريبة مراعاة للمعنى ، وقد جاء اللفظ الغريب هنا لأنه أقوى في الدلالة وأحسن في التعبير من المألوف ، ولو قال (ظالمة) أو (جائرة) لتواري الأثر المنشود ؛ إذ أن المشركين لما جاءوا بأغرب الأفعال وهي رغبتهم في البنين ورفضهم للإناث ؛ فإذا يشّر أحدهم بأنثى ظل وجهة مسوّداً وهو كظيم ؛ وهو مع ذلك يقول إن الملائكة بنات الله ، فهل من المعقول أن يكره الإنسان أمراً ثم يرضاه لله تعالى ! إن ذلك لأمر غريب ، ولما جاء المشركون بأغرب الأفعال عبّر الله تعالى عنها بأغرب الألفاظ ؛ وهذا أمر يدل على الترابط القوي بين الألفاظ والمعاني في القرآن العظيم.
أما إيراد صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل قي قوله تعالى : "جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" فمعلوم في اللغة والقرآن وقوع صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل ووقوع صيغة الفاعل موقع صيغة المفعول كثيراً ؛ بل من المعروف أن لذلك قاعدة بلاغية وهي المجاز العقلي ، ولهذا فليس من الغرابة في شيء وقوعها في الفاصلة ، وليس ذلك فحسب يل إن هناك وجها أكثر قوة من ذلك؛ حيث إن هذه القاعدة نفسها للباحث فيها نظر ؛ يقول الإمام الطبري: ( وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول - في قوله تعالى حِجَابًا مَّسْتُورًا - : حجاباً ساتراً ولكنه أخرج – وهو فاعل – في لفظ مفعول ... وكان غيره من أهل العربية يقول : معناه حجاباً مستوراً عن العباد فلا يرونه ، وهذا القول الثاني أظهر بمعنى : أن المستور هو الحجاب ) وهذا المعنى أبلغ من ذلك الأول .
أما حذف الصفة في قوله تعالى : )بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ( فمعلوم أن الحذف من الأمور البلاغية التي تقع في القرآن ، ومعلوم عند علماء البلاغة أن الحذف أبلغ من الذكر، ولما كان الأمر كذلك فإن وقوع الحذف في الفاصلة كوقوعه في غير الفاصلة وذلك كما في قوله تعالى : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ" أي : شيء نافع. وقوله : "يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" أي : كل سفينة صالحة ، ولو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة أو غير صالحة لما خرقها العبد الصالح لتخرج عن طلب الملك.
ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكرنا فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الفواصل أعمق بكثير من كونها سجعاً صوتياً جزئياً ، ولهذا يقول الإمام الزمحشري : ( أنه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعنى على سدادها وعلى النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه كما لا يحسن تخيّر الألفاظ المؤنقة في السمع السلسة على اللسان إلا مع مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة ؛ إما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور إلى مؤداه – فليس من البلاغة في فتيل أو نقير)
ولما كان الأمر يدور حول المعنى دوراناً لا انفكاك عنه فقد عرّف الإمام الزركشي الفاصلة القرآنية بهذا الاعتبار وفرّق بينها وبين السجع ؛ لمراعاة هذا الجانب ؛ يقول : ( الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعنى وهذا يفرق بينها وبين السجع)
ولما كانت الفاصلة القرآنية تابعة للمعنى فإن هذا التبعية من شأنها أن تجعل لهذه الفاصلة خصائص معينة لا يدانيها فيها السجع ، إذ أن من الملاحظ أن الفاصلة القرآنية قد تتغير بحسب تغير الموضوع وإذا أردت دليلاً بيناً على ذلك فانظر إلى سورة مريم فإنك تجد أن السورة لما بدأت بذكر الأنبياء وخصالهم الحميدة انتظمت الفاصلة ذات الياء المشددة والألف ( زكريا ، خفيا ، شقيا … الخ) حتى إذا ما جاء إلى ذكر عيسى وأمه عليهما السلام واستمرت الفاصلة كما كانت - تجدها فجأة قد تغيرت عند جدال قومه فيه وتأليهم إياه "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" ثم يلي ذلك الفواصل الآتية ( يكون ، عظيم ) حتى إذا انقضى الموضوع ودخلت قصة إبراهيم تجد الفاصلة الأولى قد عادت كما كانت عليه في أول السورة ، كأنما كان ذكر الأنبياء وتوحيدهم وإخلاصهم هو الأصل ؛ حتى إذا خرج قوم عيسى عليه السلام عن هذا الأصل خرجت بخروجهم الفاصلة عن أصلها وموضعها . ثم يستمر حال الفاصلة كما كان حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغير جرس القافية مرة أخرى : " قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا....الخ" وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال:"تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا .......الخ " وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى .
ومثل ذلك أيضا تجده واضحاً في سورة طه التي بدأت بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقصة موسى عليه السلام وكانت الفاصلة بالياء المقصورة ( تشقى ، يخشى ، العلا ، استوى ، الثرى) حتى إذا دخلت قصة السامري وذكر انتكاس بني إسرائيل على يده تحولت الفاصلة إلى الياء المنقوصة (السامري ؛ فنسي ) حتى إذا ما انتهت قصة السامري عادت الفاصلة كما كانت ( نسفاً ، علماً ).
وإذا كان شرط السجع - كما هو معروف – التماثل في الحرف الأخير نوعاً وإعراباً فقد خالفت الفواصل القرآنية كلا الوصفين ، إذ جاءت في بعض الأحيان مختلفة الإعراب ، وجاءت في أحيان أخرى غير متماثلة الحرف
فصاحة السور القرآنية :
إن لكل سورة من سورة القرآن طابعها الخاص ولها إيقاعها وجرسها المميز ؛ ولهذا يقول سيد قطب : (يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أنّ لكل سورة من سوره شخصية ؛ لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ، ولها جو خاص يظلّل موضوعاتها كلها.....ولها إيقاع موسيقى خاص إذا تغير في ثنايا السياق - فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة ، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً ) ويقول البروفسير عبد الله الطيب: ( الحق أن الناظر في سور القرآن يجد فيها ألواناً من طرق الإيقاع الغريب الوقع ؛ مثلاً سورة الكهف و(قل أوحى) لها إيقاع متشابه ، وسورة الإسراء والفرقان و ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر) فيهن إيقاع متشابه ، وسورة ص و ق متشابهتي الجرس)
ولعل الذي يحدث هذا الجرس هو نوع الحروف في السورة وطريقة سوقها فيها ؛ وإن كان في كل من سورة ص وق – رغم تشابههما في الجرس ومعنى المفاعلة بين طرفين – بعض الاختلافات الجوهرية في هذا الجرس المتشابه ؛ يقول الزركشي عن سورة ق : ( وسورة ق مبنية على ذلك الحرف الذي ابتدأت به ؛ ولهذا تجدها قد اشتملت على الكلمات القافية من ذكر القرآن و الخلق وتكرار القول والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين وقول العتيد وذكر الرقيب وذكر السابق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين وذكر القلب والقرن والتنقيب في البلاد وذكر القتل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وغير ذلك . ثم إن معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح) ويقول عن سورة ص : (وتأمل ما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات المتعددة ؛ فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم أجعل الآلهة إلها واحدا إلى آخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود ؛ ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم)
والحق أن كل سورة لها جرسها الذي يناصر معناها ويشكل ظلها وطابعها المميز ؛ فالظل الغالب في جو سورة مريم - مثلا - هو ظل الرحمة والرضا والاتصال ، وإنك لتكاد تحس من جرس لفظها لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته
وإذا أردت دليلا آخر فانظر إلى سورة غافر ذات الرنين الخاص والإيقاعات المعينة التي كأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع ، مستقرة المقاطع ؛ هذا فضلا عن ما اشتملت عليه من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها ، وإن كان هذا الرنين قد يرقّ أحيانا ؛ يقول سيد قطب : (وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف ، وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين ، وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق ، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية)
وانظر كذلك إلى رنة الإعلان التي تتجلى في بناء سورة (الرحمن) كله ، وفي إيقاع فواصلها ؛ تتجلى هذه الرنة في إطلاق الصوت إلى أعلى ، وامتداد التصويت إلى بعيد ؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار ، والآية الأولى )الرَّحْمَنُ ( كلمة واحدة ؛ مبتدأ مفردا ؛ كلمة واحدة في معناها الرحمة وفي رنتها الإعلان ، إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ؛ إعلان ينطلق من الملأ الأعلى ، فتتجاوب به أرجاء الوجود ويشهده كل ما في الوجود ؛ يقول سيد قطب : (هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ ؛ إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة في جميل صنعه وإبداع خلقه ؛ وفي فيض نعمائه وفي تدبيره للوجود وما فيه ؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم ، وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين: (الإنس والجن) المخاطبين بالسورة على السواء ، في ساحة الوجود ، على مشهد من كل موجود ، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضا لها ، وساحة الآخرة كذلك)
وانظر كذلك إلى سورة المرسلات ؛ إنها سورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار ؛ حيث تتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل بلذعها الخاص ، وعنفها الخاص ؛ واحدة إثر واحدة ، وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر بنفس العنف وبنفس الشدة ، ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة ؛ وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام ، والسورة توقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات التي تنفذ إليه كالسهام المسنونة ، وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ، وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: )وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ( ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة . وهو لازمة الإيقاع فيها . وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد ، وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعما مميزا حادا
وانظر كذلك إلى الضخى حيث أطلق الجرس فيها جوا من الحنان اللطيف والرحمة الوديعة والرضا الشامل والشجى الشفيف ، ولا شك أن ذلك الحنان وتلك الرحمة وذاك الرضا وهذا الشجى تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة الرقيق اللفظ ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير ، الموسيقى الرتيبة الحركات الوئيدة الخطوات الرقيقة الأصداء الشجية الإيقاع ، فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف ولهذه الرحمة الوديعة ولهذا الرضا الشامل ولهذا الشجي الشفيف - جعل الإطار من الضحى الرائق ومن الليل الساجي ؛ أصفى آنين من آونة الليل والنهار وأشفّ آنين تسري فيهما التأملات ، وصورهما في اللفظ المناسب ؛ فـ(الليل) هو (اللَّيْلِ إِذَا سَجَى)، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه ، الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو ، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف والتأمل الوديع كجو اليتم والعيلة ، ثم ينكشف ويجلي مع (الضحى) الرائق الصافي ؛ فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار ، ويتم التناسق والاتساق.
المراجع : -
1/ الأبشيهي: شهاب الدين : مفيد محمد قميحة : المستطرف في كل فن مستظرف ط/1 دار الكتب العلمية بيروت 1986
2/ ابن الأثير : ضياء الدين : المثل السائر ، تحقيق محمد محي الدين ، ط/1 المكتبة العصرية بيروت 1995م.
3/ابن أبي الأصبع : بدائع القرآن : تحقيق حفني شرف ط: مطبعة الرسالة ، القاهرة 1957م.
ا4/لأصفهاني : أبو الفرج الأغاني : تحقيق سمير جابر ط/ دار الفكر بيروت.
5/ الباقلاني: أبو بكر بن الطيب : إعجاز القرآن :تحقيق السيد أحمد صقر ، ط/ دار المعارف ، القاهرة (د.ت)
6/ البيضاوي: عبد الله بن عمر الشيرازي: تفسير البيضاوي : ط/ دار الفكر بيروت ، سنة 1996م
7/ ابن تيمية النبوات تحقيق محمد عبد الرحمن عوض ط /1 دار الكتاب العربية بيروت 1985م
8/ الجاحظ: عمرو بن بحر : البيان والتبيين : فوزي عطوي : دار صعب بيروت 1968م
9/ الجرجاني: عبد القاهر:
(أ)دلائل الإعجاز: تحقيق محمد التنجي ط/1 دار الكتاب العربي بيروت 1995م
(ب) الشافية بزيل دلائل إعجاز ، تحقيق محمود محمد شاكر ، ط/ 3 ، مكتبة القاهرة 1992
10/ ابن جنى : أبو الفتح عثمان : الخصائص تحقيق محمد علي النجار دار الكتب والمعرفة القاهرة 1952م.
11/ ابن الجوزي : عبد الرحمن بن علي : زاد المسير ، ط/3 المكتب الإسلامي بيروت
12/ حاجي : خليفة : كشف الظنون. ط/ مكتبة المثني ، بغداد
13/ الزركشي : بدر الدين: محمد بن بهادر : البرهان في علوم القرآن: تحقيق مجمد أبو الفضل إبراهيم دار المعرفة بيروت 1399هـ
14/ الزمخشري : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل ، ط/ دار الفكر سنة 1977م
15/ السبكي : بهاء الدين : عروس الأفراح ط/ دار السرور .
16/ سيد قطب إبراهيم :
(أ) في ظلال القرآن ، ط/دار الشروق ( بدون تاريخ)
(ب) النقد الأدبي ، ط/دار الشروق ( بدون تاريخ)
17/ السيوطي : جلال الدين :
(أ‌) الإتقان : تحقيق خليل محمد العربي ، ط/ دار الفاروق الحديثة القاهرة 1415هـ
(ب) الاقتراح في أصول علم النحو ، تحقيق محمد سليم الحمصي ومحمد أحمد قاسم ط/1 جروس برس 1988م
(ج) المزهر: تحقيق فؤاد على منصور ، ط/ دار الكتب العلمية بيروت 1998م.
18/ الشوكاني : محمد بن علي : فتح القدير ط/ دار الفكر بيروت " د.ت".
19/ الطبري :محمد بن جرير: جامع البيان : ط/ دار الفكر بيروت سنة 1405هـ
20/عبد الله الطيب : المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ، ط/1 بيروت 1970م .
21/ العكبري: أبو البقاء : التبيان في إعراب القرآن إحياء الكتب العربية ، تحقيق علي محمد البجاوي
22/القرطبي : الجامع لأحكام القرآن : تحقيق أحمد عبد العليم البردوني ، ط/3 دار الكتب المصرية
23/القزويني : جلال الدين : الإيضاح ، ط/ دار إحياء العلوم بيروت 1998 م.
24/ القلقشندي : محمد بن على : صبح الأعشى ، تحقيق يوسف على الطويل ط/ دار الفكر دمشق 1987م.
25/ ابن كثير : إسماعيل بن عمر :
(أ)تفسير القرآن العظيم ، ط/ دار الفكر سنة 1981م
(ب‌) البداية و النهاية ، ط/ مكتبة المعارف بيروت
26/ المصري : شهاب الدين : التبيان في تفسير غريب القرآن : تحقيق فتحي أنور الدابولي ، دار الصحابة للتراث القاهرة 1992م
27/ النحاس : معاني القرآن تحقيق محمد علي الصابوني ط/ 1جامعة أم القرى مكة المكرمة 1409هـ
28 /النورسي : بديع الزمان سعيد: المعجزات القرآنية ( سلسلة رسائل النور)تحقيق حسان قاسم الصالحي ط /2 دار سوزلر استانبول 1996م .
29/ الهمداني :عبد الجبار : المغني : تحقيق أمين الخولي ط/ الأولى دار الكتب 1960م
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى