محاضرتي: تاريخ نقد العهد القديم

إنضم
18/12/2005
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب
تاريخ نقد العهد القديم

من القرن 15 إلى القرن17​





ألقاها سمير القدوري بدار الحديث الحسنية بالرباط


يوم الأربعاء 20 أكتوبر 2010م




بنية المحاضرة

تمهيد:
- تعريف العهد القديم.
- ذكر بعض ما ألف في تاريخ نقد العهد القديم.
- معنى النقد الأعلى والنقد الأدنى.
القسم الأول من المحاضرة: كشف النصوص المابعد موسوية.
القسم الثاني من المحاضرة: رواد النقد في القرن 16) ومطلع القرن 17م:
كارلشتاد + ماسيوس + جورني + كورنيليوس ألابيد
القسم الثالث من المحاضرة: التأصيل لقواعد النقد الأعلى
توماس هوبز + سبينوزا + ريشار سيمون + يوحنا لوكلير.



التمهيد



المحور الأول​


التعريف بكتب العهد القديم​


"العهد القديم" مسمى أطلقه النصارى على الأسفار اليهودية, لتمييزها عن أسفارهم المقدسة المسماة بالعهد الجديد.
واليهوديطلقون على كتبهم لفظ المِقْرَا ويجعلونها ثلاثة أقسام هي: التوراة, والـ"نبيئيم“, والـ"كِتُبِيم".

القسم الأول = التوراة (خمسة أسفار):
1- التكوين.
2- الخروج.
3- اللاويون.
4- العدد.
5- التثنية.

القسم الثاني = النبيئيم يعني الأنبياء (وهم فئتان):
[1] الأنبياء الأولون وتشتمل على أسفار:
يوشع. والقضاة.وصمويل(1+2). والملوك(1+2).
[2] الأنبياء الآخرون (وهم درجتان):
[أ] الأنبياء الكبار وتشتمل على أسفار:
إشعياء,وإرمياء,وحزقيال.
[ب] الأنبياءالصغار اثنا عشر سفرا:
هوشع, ويوئيل, وعاموس, وعوبديا, ويونس, وميخا, وناحوم, وحبقوق, وصفنيا, وحجاي, وزكريا, وملاخي.

القسم الثالث = الكيتوبيم أي الكتب وبها أسفار:
المزامير. والأمثال. وأيوب. ونشيد الأنشاد. وراعوت. ومراثي إرميا. والجامعة. وإستير. ودانيال. وعزرا. ونحميا. وأخبار الأيام (1+2).



المحور الثاني​


ذكر بعض ما كتب في تاريخ نقد العهد القديم​


1) كتاب ”تاريخ الدراسة النقدية التاريخية للعهد القديم“

Hans–Joachim Kraus, Geschichte der historisch-kritischen Erforschung des Alten Testaments, Neukirchen 1982.


ألفه بالألمانية هانز جواكيم كراوس في مجلد من نحو600ص, طبع لأول مرة سنة 1956م ثم أعيد طبعه ثلاث مرات في الأقل.
2) كتاب ”الأسفار المقدسة والنقد العقلاني: تاريخ ورد اعتراضات غير المؤمنين على الكتب المقدسة“
تأليف فولكران فيغورو Fulcran Vigouroux وهو في خمسة أسفار ضخمة باللسان الفرنسي, أفرد السفرين الأولين منه لتاريخ النقد, وأفرد الباقي للرد على الاعتراضات الموجهة لكتب العهد القديم منذ القرون الأولى للمسيحية وإلى القرن 19م, طبع في باريس ما بين 1890-1886.
3) كتاب رتشارد إيليوت فريدمان: ”من ألف الكتاب المقدس“

Richard Elliot Friedman


Who Wrote the Bible


New York, 1987.

4) كتاب ”تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصرالحديث“
صدر بالعبرية تحت إشراف زالمان شازار, ثم ترجم الجزء الأول منه فقط للعربية على يد أحمد محمود هويدي, ونشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة, عام 2000م. وهي ترجمة شديدة السقم لغة وعلما لأنها حذفت جميع حواشي الكتاب ولائحة مصادره ومراجعه.
5) كتاب نويل مالكولم: ”أوجه هوبز“

Noel MALCOLM


Aspects of Hobbes,


Oxford, 2004.

قدم فيه عرضا تاريخيا لابأس به لحركة النقد الكتابي في أوروبا قبل وزمان توماس هوبز.



المحور الثالث من المحاضرة​


التعريف بمفهوم النقد الكتابي بشقيه​


النقد الأعلى.


والنقد الأدنى.​


النقد الكتابي la Critique Biblique
النقد: ”هو التدقيق والتحقيق والتثبت في تصديق وتفسير ما يعرض
على نظر الباحث من مكتوب أو مسموع“.
وينقسم من جهة الكتاب المقدس إلى نقد العهد القديم ونقد العهد الجديد. ومن جهة المنهج إلى ضربين من النقد. النقد الأعلى والنقد الأدنى.
الضرب الأول: النقد الأعلى La Haute Critique
ويبحث في وجوه من المسائل

الوجه الأول في السؤال من أين أتتأسفار الكتاب؟
الوجه الثاني في السؤال عن هوية مؤلفيها؟
الوجه الثالث في السؤال عن: متى؟ وأين جمعت تلكالأسفار؟ ولأي غرض؟ ومن جمعها؟
الوجه الرابع في السؤال عن دخولها في الكتب المقدسة

الضرب الثاني: النقد الأدنى La basse Critique

يتناول السؤال عن حال نص تلك الكتب:
هل نقل إلينا نصها على الحال التي كان عليها في الأصول أم أنه اعترته الشوائب بعد طول الأمد, كالزيادة والنقصان, والتصحيف والتحريف؟
وتقعيد الأصول العلمية لتحقيق النص وتحقيق الألفاظ.
La Critique textuelle ou La Critique verbale

والكلام في هذا الضرب الثاني محتاج لمحاضرة خاصة قصد استيفاء مسائله وأغراضه ومناهجه والحديث عن رجاله. لذلك أرجئت الحديث عنه إلى محاضرة أخرى.


القسم الأول من المحاضرة


كشف النصوص المابعد موسوية وقرع زناد النقد الأعلى

استخرجبعض حذاق أحبار الأندلس من الأسفار الخمسة نصوصا دالة على تدوينها بعد موسى بقرون, لكنهم طلبا للسلامة فضلوا القول بأنها نصوص ألحقت في التوراة بعد وفاة موسى.“
نذكر منهم:
1) الحبر الطبيب إسحاق بن يشوش الطليطلي ( - 1040م)وهو اكتشف فقرةمن سفر التكوين [ 36 : 31 – 39] نصها: "وهؤلاء هم الملوك الذين حكموا أرض أدوم قبل أن يُتَوَّجَ ملك في إسرائيل. إلخ..." فقال أن ذلك الكلام كتب بعد أن صار لبني إسرائيل ملوك [بعد وفاة موسى بقرون]. ثم قابل تلك الفقرة بسفر الملوك الأول [11: (14- 19)]ليبرهن أن ملوك الأدوميين المذكورين في التكوين عاصروا حكم يهوشفاط ملك يهوذا [الذي نصب ملكا نحو السنة 596 لوفاة موسى].
2) الحبر المفسر إبراهيم بن عزرا الغرناطي (1084- 1164م)نبه على عدة مواضع في التوراة وقال بأنه "علىمن عرف سرها ألا يبوح به".وهي المواضع التي صارت تعرف لدى النقاد بـ النصوص: المابعد موسوية postmosaicaيعني الملحقة بعد زمن موسى. نذكر منها:ما في نصي التكوين 12: 6و 13: 7(وكان الكنعانيون حينذاك يقطنون تلك الأرض).وما في التكوين 50: 10, العدد 22: 1, التثنية1: 1...5(عبر نهر الأردن).وما في التكوين 40: 15(أرض العبرانيين).وما في التثنية 3: 14 و 34: 6(إلى هذا اليوم).

3) ثم تلاهما ألفُونْسُ توستادو Alfonso Tostado (1400- 1455م):وهو أسقف مدينة آبلة. اعتنى بتأصيل القواعد التي بها تستخرج المواضع المابعد الموسوية Post-mosaica.
في صدر حاشيته على سفر التثنية سأل: "من صنف سفر التثنية؟ هل هو موسى, أم عزرا, أم يوشع بن نون؟ثم أجاب: "لقد شك جماعة من العلماء فيمن صنف ذلك السفر". ثم ساقتفسيره لتلك المواضع المابعد موسوية بقوله: "أنا لا أنكر أن موسى كتب ذلك السفر ... لكن بعد الخراب وحرق التوراة بأيدي البابليين, تولى عزرا النبي كاتب الشريعة, تقييد التوراة -حين فقدت- بوحي من روح القدس وزاد فيها تلك الأشياء وأمثالها."
لذلك عد توستادو من أهم الحلقات الواصلة بين أحبار الأندلس وبين النقاد المسيحيين.





القسم الثاني من المحاضرة



رواد النقد الأعلى في القرن 16ومطلع القرن 17م


1) أندريا بودنشتاين كارلشتاد (1486- 1541م)A. B. Karlstadt
وهو قسيس ألماني رافق لوثر زمانا ثم فارقه وأسس طائفة جديدة تعرف بـ الأتقياء les Piétistes
ومن آرائه النقدية التي وصلت إلينا:
[1] بشأن الفصل من سفر التثنية [34: 5- 12] الذي يحكي تفاصيل وفاة موسى ودفنه. قال بأن موسى لم يكتبه.
[2] قال بأن مؤلف الأسفار الخمسة لا يعرف ولن يعرف وليس لموسى في تلك الأسفار من نصيب إلا الشيء اليسير.
2) أندرياس ماسيوس (1514 – 1573م) Andreas Masius
وهو قسيس كاثوليكي بلجيكي من أصل فلاماني تعلم العبرانية في Louvain ثم العربية في روما على يدي المستشرق غيوم بوستيل, ثم تعلم السريانية سنة 1553م على يدي موسى المارديني من بطاركة السريان بمدينة أنطاكية.فمن آرائه النقدية ما ورد في شرحه على سيرة يوشع بن نون(نشره باللسان اللاطيني عام 1573م). قال فيه: بأنه لا يظن أن موسى ألف الأسفار الخمسة التي بين أيدينا, وأن عزرا ورفقاؤه هم من جمع تلك الأسفار من وثائق حوليات كتاب الديوان لأمة العبرانيين.

3) نويل جورني Noël Journet (1554 – 1582م)
وهو مدرس لغة فرنسية, انتمى للكنيسة الكالفينية لثلاث أو أربع سنين, كانت له دراية بالألمانية. ثم قضى بهولندة مدة من حياته وهناك تشرب نقد العهد القديم, فجهر ببعض ذلك, وألف فيه كتابين سرا, لكن خصومه الكالفينيين وشوا به إلى رجال محاكم التفتيش, فحكم عليه بالموت شنقا وحرقا سنة 1582م هو وكتبه على رؤوس الأشهاد في مدينة ميتز.
وقد وصلنا من آرائه النقدية نحو 14 اعتراضا ورد بعضها في محاضر المحاكمة, وبعضها الآخر في الكتاب الذي ألفه القسيس يوحنا شسانيو Jean Chassanion راعي كنيسة ميتز Metz في الرد على جورني.
بعض آراء نويل جورني النقدية:
يعتقد جورني أن الأسفار الخمسة لم يكتبها موسى:
لأنها تحكي وفاته ودفنه.(التثنية 34).
ولأن سفر التثنية ألف في أرض كنعان, وموسى لم يدخلها قط. ( فقرة: ”عبر الأردن“ في التثنية4 : 47).
ولأن سفر التكوين (35: 25) يطلق على بعض الأماكن أسماء لم تحملها إلا بعد وفاة موسى, كقرية أربع التي يسميها حبرون وإنما سماها بذلك كالب بن يوفنا بعد موت موسى (على ما في سفر يوشع بن نون 14: 13- 15و 15: 13).

4) كورنيليوس ألابيد (1567- 1637م) Cornélius a Lapide
وهو قسيس يسوعي بلجيكي أتم دراساته العليا في ألمانيا وفرنسا, ثم عين سنة 1596م مدرسا للفلسفة واللاهوت في بلجيكا, وفي السنة التي تلتها أعطى دروسا في العهد القديم واللغة العبرية. ثم استدعي للتدريس في روما سنة 1616م.وفي سنة 1623م طلب أن يعفى من مهامه للتفرغ لتحرير شرح تام للكتاب المقدس.
بعض آراء كورنيليوس النقدية
في شرحه على التوراة قال بأن موسى كتب الأسفار الخمسة في صورة بسيطة فجعلها بمثابة يوميات أو حوليات, ثم رتبها يوشع بن نون وقسمها إلى كتب, ثم أضاف إليها وألحق بها جملا يسيرة.
لكنه أثناء شرحه لسفر عزرا تمسك بالرأي القائل بأن عزرا الكاتب هو مصحح جميع العهد القديم, وأنه هو من أدرج عبارة ”إلى هذا اليوم“ حيثما وردت في الكتاب.
ولقد نال شرحه على التوراة شهرة واسعة لدى الكاثوليك والبروتستانت على السواء حتى أنه طبع عشر مرات ما بين 1617- 1661م فساهم في شهرة النصوص المابعد موسوية.


القسم الثالث من المحاضرة​


التأصيل لقواعد النقد الأعلى في القرن 17م على يدي​


توماس هوبز, وسبينوزا, وريشارد سيمون, ويوحنا لوكلير

1) توماس هوبز (1588- 1679م) فيلسوف بريطاني ألف سفرا ضخما في سياسة الدولة سماه كتاب ”المادة وشكل وسلطة الحكومتين الكنسية والمدنية“ ألفه بلسان الأنجليز وطبع سنة 1651م. والفصل 33 منه
سطر هوبز نتائج نقده الأعلى لجملة أسفار العهد القديم باتت أصولا نسج على منواله سبينوزا وغيره ممن أتى بعد هوبز, ونحن نوجز الأصول التي بنى عليها نقده على الصفة التى ترونها الآن:
1: ”لا أسلم إلا بلائحة كتب العهد القديم التي سلمت بصحتها كنيسة إنجلترا“ (غرضه بهذا الأصل التخلص من الأسفار الخفية المرفوضة).
2: ”ليس لدينا جواب جلي ولا شهادة تاريخية قاطعة على من هم مصنفو الأسفار المقدسة“.
3: ”الأسفار المقدسة التي سميت كتب فلان النبي, فذلك غير كاف ولا شاف للجزم بأنه مصنفها إذ لا برهان على أنها من تأليفه “.
4: ”إن لم يستطع العقل تحديد هوية مصنفي تلك الأسفار فلا غنى مع ذلك عن العقل لمعرفة متى كتب هذا السفر أو ذاك“.
5: ”النصوص المابعد موسوية ليست مجرد زيادات على الأصل الذي ألفه موسى, كما يدعي البعض, بل هي شواهد قاطعة على أن ”أسفار موسى“ كتبت بعد زمان,ه وأنه لم يؤلف جميع ما فيها بالصورة التي هي عليها اليوم“.
6: ”موسى لم يحرر بنفسه إلا طرفا يسيرا من تلك الأسفار, ولعله سفر الشريعة المضمن على ما يبدو في سفر التثنية (فصول من 11- 27).
7: ”سفر الشريعة ذاك قد فقد زمانا طويلا بعد موسى ثم وجده حلقيا الكاهن (سفر الملوك الثاني 22: 8) فأرسله إلى الملك اليهوذاني يوشيا بن آمون فقرأه الملك على رعيته وجدد لهم ميثاقاهم مع الرب (الملوك الثاني 23: 1- 3).
8: ”سفر يوشع بن نون كتب كذلك بعد زمانه على ما يستنبط من مواضع شتى في السفر نفسه“.
9: ” الطرق المأصلة من قبل سارية المفعول على سائر الأسفار“.
2) باروخ سبينوزا (1632- 1677م)Spinoza فيلسوف يهودي من أصل برتغالي ولد في هولندة
ألف كتبا كثيرة منها الرسالة في اللاهوت والسياسة كتبها باللسان اللاطيني وطبعت عام 1670م. وقد شرح في الفصل الثامن وحتى الفصل العاشر منها التأصيل للنقد الأعلى.
فبرهن في الفصل الثامن على زيف نسبة الأحد عشر سفرا الأولى من العهد القديم لمن تنسب لهم في العادة مستندا إلى شواهد من داخل تلك الأسفار, فبدأ بالتوراة ثم ثنى بسفر يوشع وهكذا إلى أن وصل لسفري الملوك.
وفي الفصل التاسع منها بحث مسألة هل كان عزرا آخر من حرر تلك الأسفار؟ ثم أجاب بالنفي, وبين أن عزرا جامع لروايات وجدها عند كتاب متعددين حشرها في مجموع واحد بلا فحص ولا نقد ولا ترتيب.
ثم في الفصل العاشر منها طبق سبينوزا نفس المنهاج النقدي على بقية أسفار العهد القديم.
وأما مسألة نقل سبينوزا لما في كتاب توماس هوبز فلا شك فيها لمن عقد المقارنة بينهما ثم إن مؤرخي النقد الأروبيين بينوا أن كتاب هوبز المذكور نقل للسان الهولندي على يدي صديق حميم لسبينوزا وفي حياته.
وللحديث بقية إن شاء الله مع ما حققه القسيس الفرنسي رشارد سيمون في كتابه "التاريخ النقدي للعهد العتيق" ومنافسه السويسري يوحنا لوكلير في كتابه "آراء لبعض علماء هولندة في كتاب التاريخ النقدي للعهد العتيق للأب ريشارد سيمون".
 
ريشارد سيمون

ريشارد سيمون

ريشارد سيمون (1638- 1712م) Richard Simon

ولد بمدينة دييب Dieppe بفرنسا تلقى تعليمه الأول في الدراسات الإنسانية والفلسفة بمدرسة أئمة الصلوات والخطباء les Oratoriens بمدينته, فأتقن اللسان اللاطيني واللسان اليوناني ودرس المنطق لمدة سنة, وساعده أحد أساتذته لما رآى فيه من مخائل النباهة والنجابة والذكاء الوقاد فتدبر له أمر الحصول على منحة مالية ليتابع دراسة علم اللاهوت بباريس, فالتحق بها عام 1658م فقضى بها سنة كاملة لكنه لسبب غير معلوم لم يكمل السنة الثانية كما تقتضيه العادة الجارية وعاد منكسر الخاطر لمسقط رأسه فما إن بلغ الخبر لمسامع أحد أصدقائه حتى عاده في مدينة دييب وشد من أزره وأقنعه بمصاحبته لإتمام الدراسة بجامعة السوربون, وهناك تابع ريشارد سيمون دراساته الواسعة بجد واجتهاد ونهم لمدة ثلاث سنين أولى فيها عنايته لدراسة العلوم الكتابية وأتقن العبرانية والسريانية بلا معلم.
وبتمام الثلاث سنين عاد إلى مسقط رأسه وهو لا يكل ولا يمل من البحث والمطالعة في بطون الكتب ليلا ونهارا فلما علم أنه بحاجة لمؤسسة علمية تحتضنه ليتمكن من متابعة طلب العلم التحق عام 1662م بجمعية الأئمة والخطباء فأرسل لباريس مرة ثانية بدار التربية الدينية لكنه ضجر من واجبات الرهبنة لأنها تعيقه عن مواصلة المطالعة في بطون الكتب, فتداركه الآب برتاد Berthad رئيس الدار وكان ذا بسطة في الحلم والعلم وأعفاه من تلك القيود الفردية بشرط حضوره جميع الأنشطة الجماعية للدار, بل هذا الأب كان يمد ريشارد سيمون بعدد وافر من الكتب وخصه بساعة في اليوم ليدارسه الكتاب المقدس باللغات الشرقية وقراءة أمهات تفاسير الآباء وكتب الحذاق من النقاد, فحينئذ تعاطى ريشارد سيمون تعلم العربية لكنه لم يتقنها أبدا كإتقانه للعبرانية والسريانية.
لكن مثل هذا التفضيل لطالب نبيه على سائر نزلاء الدار ما كان ليمر بلا مكائد ودسائس الحساد الذين وشوا بالتلميذ لدى المسؤول الأرفع شأنا وزوروا له الحقائق قائلين بأنه يدرس في كتب الخارجين عن الملة, لكن التلميذ تخلص من دسائسهم بشفاعة شيخه الذي تابع تدريسه لتلميذه النجيب ونبهه على ما سيجره عليه ذكاؤه من محن, وأرشده إلى أناس يمكنه الاعتماد عليهم في الشدائد. وبعد تمام السنة بعث ريشارد سيمون ليلقي دروسا في الفلسفة في مدرسة أئمة وخطباء بمدينة جويلي Juilly ولم يطل بها مقامه, إذ أشخصه المسؤول المذكور إلي باريس ليحرر فهرسا للكتب الشرقية في أكبر خزانة كتب تابعة لمؤسسة الخطباء. فصادف هذا العرض هوى لدى الشاب النجيب إذ كونه بين رفوف الكتب أقصى ما يرجوه طالب علم مثله فعكف على تلك الكتب بالقراءة والتلخيص وتسجيل الفوائد في كنانيش أعدها لذلك الغرض انتفع بها فيما بعد في سائر ما سيؤلفه من كتب.
نشر أول كتبه باللاتينة في باريس عام 1671م وبين فيه أن عقيدة الكنيسة اليونانية بشأن الأفخاريستيا لا تخالف ما عليه الكنيسة الجاثليقية (الكاثوليكية). وقبل ذلك تم ترسيمه كقسيس في سنة 1670م وفي العام نفسه حرر مذكرة للدفاع عن الدعوى المرفوعة بقصد طرد يهود مدينة ميتز Metz من البلاد بسبب اتهام تاجر يهودي يدعى رفائيل ليفي بقتل طفل نصراني.
وبعد ذلك صنف أحد أصحاب الباب الملكي يدعى أرنولد كتابا في أزلية عقيدة الكنيسة الجاثليقية بشأن الأفخاريستيا, فانهال عليه ريشارد سيمون بنقد لا يبقي ولا يذر, فجر على نفسه عداوتهم التي كانت وراء متاعبه المتلاحقة ما حيي. ثم جر على نفسه عداوة طائفة البينيديكتيين حين آزر صديقا له في قضية له ضدهم, وانضاف إلى ذلك توجس خصوم ريشارد سيمون منه شيئا من الميل إلى طائفة اليسوعيين.
والحديث يطول بنا إذا ذهبنا لاستقصاء تفاصيل حياة هذا الناقد لذلك سنعرج الآن على أهم كتاب خطه بيده أعني كتابه في التحقيق والتدقيق في تاريخ (تداول) أسفار العهد العتيق [منذ زمان موسى وإلى القرن السابع عشر الميلادي] والترجمة الحرفية لعنوان الكتاب هي:
"التاريخ النقدي للعهد العتيق" l'Histoire critique du Vieux Testament ظهرت طبعته الأولى بباريس سنة 1678م ثم منع تداوله في الحين وأعدمت نسخة في المهد حين حجزت في المطبعة ولم يسلم منه إلا خمس نسخ, ثم طبع الكتاب خلسة سنة 1680م عن نسخة خطية نقلت بخط اليد من إحدى النسخ الخمس التي أفلتت وكانت لدى بعض الناس في بريطانيا فجاءت الطبعة كثيرةالتحريف والتصحيف والسقط ولكنها مع ذلك ترجمت للاتينية ثم الأنجليزية فساهمت في ذيوع خبر الكتاب خاصة بين الجرمان, ثم أعيد طبعه طبعة مصححة ومزيدة في أمستردام سنة 1685م.
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام كبرى سماها المؤلف كتبا.
الكتاب الأول: (حال) النص العبراني منذ أيام موسى وإلى هذا اليوم.
ويشتمل على واحد وثلاثين فصلا.
الكتاب الثاني: في الكلام على ترجمات الكتاب المقدس الرئيسة.
وفيه سبعة وعشرون فصلا.
الكتاب الثالث: في بيان الخطة الأمثل لترجمة الكتاب المقدس, وفيه نبين كم هو ملتبس معنى الكتاب (المقدس) ثم ألحقنا بذلك تحليلا نقديا لما صنف اليهود والنصارى من كتب في على الكتاب (المقدس).
وفيه أربعة وعشرون فصلا.
ثم ألحق المؤلف بآخر الكتاب:
- لائحة بشأن الطبعات المتعددة من الكتاب المقدس ورأيه فيها بالجملة.
- فهرسا بأسماء المؤلفين اليهود المذكورين في متن كتابه.

ولبيان ما لهذا الكتاب من المكانة في تاريخ نقد العهد القديم سأترجم لكم عناوين بعض فصول الكتاب الأول فقط.
- الفصل الثاني: القول فيمن هم مصنفو الكتب المقدسة؟ وما المهمة الموكلة لأنبياء بني إسرائيل, وفي مسألة أن لهم الزيادة والنقصان لما شاءوا من نص تلك الكتب المقدسة.
- الفصل الثالث: في أصل بعض التغييرات التي دخلت على نص العهد العتيق, وفي علة تكرار نفس الأخبار في أسفار متعددة.
- الفصل الرابع: في تعليل خاص للتغييرات التي وقعت في الكتب المقدسة وبخاصة بعد الجلاء إلى بابل, وكيف جُمِعَ العهد العتيق في مجموع واحد.
- الفصل الخامس: في الأدلة على حدوث زيادات وتغييرات أخرى على العهد العتيق وعلى الأسفار الخمسة بالخصوص, وأن موسى لا يمكن بحال أن يصنف كل ما في الأسفار المنسوبة إليه, وأمثلة متعددة لبيان ذلك.
- الفصل السادس: في بيان ما احتجت به اليهود لإثبات انفراد موسى بكتابة الأسفار الخمسة, والجواب على ذلك بأدلة معارضة لرأيهم.
- الفصل السابع: في البحث عن الكيفية التي كتبت بها أسفار التوراة, وفي الكلام عن الكتب التي نسبت لأسلاف بني إسرائيل قبل موسى, وكتب أخبار الصابئة وقدماء الكلدانيين.
- الفصل الثامن: في الكلام على باقي أسفار العهد العتيق والتي تنسبها اليهود إلى المجمع الذي ترأسه عزرا, والتحقيق في أمر ذلك المجمع, وفي أمر كل سفر على حدة.
- الفصل التاسع: في الكلام في التجزئة الكلية لأسفار العهد العتيق, وفي اتفاق علماء اليهود والنصارى على ذلك, وفي بيان معنى نفي اليهود نبوة دانيال وأنهم لا يخالفون النصارى في ذلك.
- الفصل العاشر: في الحجج التي استند عليها الحبر [الأندلسي] يوسف ألْبُو لنفي تحريف التوراة من قبل. وفي الكلام على التوراة السامرية, وهل لازالت بيدنا اليوم النسخ القديمة لأسفار موسى.
[...]
- الفصل السادس عشر: في بيان حال النص العبراني منذ جلاء اليهود إلى بابل وإلى أيام المسيح, وفي الكلام على فرقة الصدوقيين, وأنها قبلت جميع كتب العهد العتيق, وفي الكلام على الأصل العبراني الذي نقلت عنه ترجمة السبعين.
- الفصل السابع عشر: في بيان حال النص العبراني زمان المسيح وبدايات النصرانية, وزمن الفيلسوف اليهودي فيلون, ويوسف المؤرخ وبيان أنه مؤرخ قليل الدقة.
[...]
- الفصل العشرون: حال النص العبراني في القرون الأولى للنصرانية, والكلام على القراءات المتعددة من العهد العتيق الموجودة في متن التلموذ.
- الفصل الحادي وعشرون: في الكلام على مخطوطات النص العبراني, وفي اختلاف المخطوطات المستعملة في بيعات اليهود عن تلك التي بأيدي الخواص, وبيان ما هي أجود المخطوطات.
- الفصل الثاني وعشرون: في بيان قاعدة لتمييز أجود مخطوطات العهد العتيق (العبراني) عن الرديئة, وفي الكلام على بعض المخطوطات بالخصوص.
[...]
- الفصل السابع وعشرون: في الكلام على النقط والمدود التي هي الآن في المخطوطات العبرانية للعهد العتيق ومتى أحدث النقط فيها؟ ولماذ قبلت ذلك فرقة القرائين؟ وفي مسألة حجية النقط والمدود وأصلهما, وبيان الحق الذي يجب اعتقاده في كل ذلك.
- الفصل الثامن وعشرون: في الكلام على عد وتحديد الآيات على الصفة التي هي عليها اليوم في النص العبراني للكتاب المقدس, وفي الكلام على طرق أخرى في العد والتحديد, وتجلية ذلك كما يجب.
وللحديث بقية..
 
التعديل الأخير:
يوحنا لوكلير Jean Le Clerc

في كتابه المسمى: "آراء بعض علماء هولندة بشأن الكتاب المسمى التاريخ النقدي للعهد العتيق من تأليف الأب ريشارد سيمون" [عام 1685م] , غاص كثيرا في بحث مسألة أن كتب موسى الخمسة المسماة بالتوراة إنما صنفت بعده بدهر طويل جدا.
فأقام الحجج الدامغة التي تثبت أن سفر التكوين من تصنيف مؤلف متأخر جدا عن أيام موسى نذكر من بينها:


- 1) التكوين 2: 11- 12. حيث قال: "‏اسم أحدها فيشون وهو محيط بجميع بلد حويلة الذي به الذهب, وذهب ذلك البلد جيد,وبها اللؤلؤ وحجارة البلور‏."
علق لوكلير على هذا فقال: "يبدو أن هذه التفاصيل لا تخرج إلا من قلم مصنف وطأت قدماه تلك البلاد, أعني بلاد الكلدانيين [= العراق اليوم], لأن فيشون فرع من فروع نهر الفرات الذي يصب في بحر فارس [...] فليس من الجلي أن موسى –الذي لم يبعد عن مصر كثيرا- عرف بلدا بعيدا (كالعراق) في زمن كانت الرحلات فيه نادرة وعسيرة. بل يبعد أن الله أوحى له أن ذلك البلد "به الذهب, وذهب ذلك البلد جيد".

- 2) التكوين 10: 8- 13"وكوش أولد نمرود, هو ابتدأ أن يكون جبارًا في الأرض وهو كان جبارا مخوفا بين يدي الله ولذلك يقال كنمرود جبار مخوف بين يدي الله وكان أول ملكه بابل والبرس وأكاد وخلني في بلد الشينور ومن تلك الأرض خرج أشور فبنى نينوى وقرية الرحبة والأيلة والمدائن بين نينوى وبين الأيلة هي القرية العظيمة".
علق لوكلير فقال: "قيل إن هذه الدقة في وصف تخطيط مدن ما بين النهرين وآشور يشتم منها بقوة أسلوب مصنف كان نازلا بتلك البلاد, و لا يظهر مطلقا أن صاحب الوحي -كائنا من كان -وهو يتحدث على عموم الأمم وحتى عن الكنعانيين, قد شاء الدخول في تلك التفاصيل بشأن ذلك البلد (العراق), خاصة والمفروض [لدى أحبار اليهود] أن مصنف هذا الكلام [يعني موسى] قد عاش قبل قرون عديد من حدوث أدنى تناوش بين أمم ما وراء الفرات وبين بني إسرائيل...


- 3) والشيء نفسه يقال عما جاء في التكوين 11: 28 – 31, عن مدينة في العراق تسمى أور الكلدانيين, فيجب أن يلاحظ أن ذلك البلد دائما عرف لدى أسلاف بني إسرائيل باسم فدان آرام, وإنما الكُتاب الذين عاشوا وقت احتكاك بني إسرائيل بالكلدانيين أو كانوا في العراق هم من سمى ذلك المكان "بلد الكلدانيين" كما نقرأه صريحا في سفر حزقيال 1: 9.و 11: 24."
قلت: في كلام لكلير تشكيك في نسبة نص سفر التكوين لموسى وترجيح كونه كلاما صنفه يهودي عاش وقت جلاء اليهود للعراق.

- 4) قال لوكلير: "في سفر التكوين 14: 14. نقف على اسم مكان لم يكن معروفا به في زمان موسى وذلك قوله في الفقرة المذكورة: "وتعقبهم حتى بلغ دان", فمدينة دان لم يطلق عليها ذلك الاسم إلا بعد وفاة يوشع بن نون [وهو عندهم خلف موسى من بعده على بني إسرائيل], وإنما اسمها القديم لائش كما هو ظاهر من سفر القضاة 18: 29.[ودعوها دان باسم دان أبيهم الذي أنجبه إسرائيل, أما اسمها القديم فكان لايش].


- 5) ودليل مماثل نقف عليه في سفر التكوين 35: 21"وتابع إسرائيل رحيله ونصب خيامه وراء [مجدال عذر=] برج عِذْر" يعني برج الضأن أو برج القطيع أو برج الماشية, وهو اسم أطلق على برج كان على باب من أبواب بيت المقدس كما هو ظاهر من سفر ميخا 4: 8, و سفر نحميا 3: 1. قال لوكلير: "فالمصنف [لسفر التكوين] أراد أن يقول أن يعقوب نصب خيامه قبالة الموضع الذي بني فيه برج الضأن زمان تصنيفه لتلك القصة, ومن المحال أن ننسب هذا الكلام لموسى الذي لم تكن في زمنه قد بنيت لا بيت المقدس ولا أبراجها."


- 6) ثم يستشهد لوكلير بنفس الإشكال الذي أثاره الحبر إسحاق بن يشوش الطليطلي بشأن التكوين 36: 31. ويستدل به على تأخر تصنيف ذلك السفر عن زمان موسى.


- 7) ويضيف أيضا الاستشهاد بما ذكرنا من قبل من ورود ذكر قرية باسم حبرون في نص سفر التكوين 40: 15. وأنها لم تعرف بذلك إلا أيام كالب بن يوفنا زمان يوشع بن نون كما في الإصحاح 14: 13- 15و 15: 13 من السفر المنسوب له, وأن اسمها القديم هو قرية أربع.

ثم ختم لوكلير كلامه وقال: "فهذه علامات ظاهرة جدا تثبت أن موسى لم يصنف سفر التكوين أو لنقل لم يصنفه على الصفة التي عليها الكتاب اليوم. فإن كنا لا نجد في الأسفار الأخرى شيئا يصلها بموسى فذلك لا يعني أنها منه لأن مؤلف سفر التكوين [المتأخر عن زمان موسى] هو نفسه مصنف باقي الأسفار الخمسة فهي ليست كتب موسى. لكننا نجد أشياء كثيرة في تلك الأسفار من المحال أن يكتبها موسى". ثم ساق أدلته على هذا.

فهذه رعاكم الله لمحة خاطفة عن تطور النقد الأعلى للعهد القديم في أوروبا حتى نهاية القرن 17م, جمعنا شتاته من مصادر متفرقة ثم هذبناه ونظمناه في ما عرضناه عليكم ولعل الله تعالى ييسر لنا استتمام تاريخ نقد العهد القديم في بحوث قادمة بحول الله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
أخي الحبيب سمير القدوري رائع بارك الله فيك ونفع بك.....أخي الحبيب لو أردت أي مراجع متعلقة بالعهد القديم واليهوديات عيوني لك.....وكان لي طلب عندك أن ترفع كل المؤلفات التي ذكرتها في مشاركاتك وأعني كتب التراث في الرد على اليهود والنصاري فنحتاج اليها بشدة.....
 
عودة
أعلى