محاضرات ملتقى " القرآن الكريم"

إنضم
13/04/2007
المشاركات
161
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
وقعت بين يدي مجموعة من المحاضرات التي ألقيت في ملتقى الفكر الإسلامي الخامس عشر " ملتقى القرآن الكريم " الذي انعقد بالجزائر العاصمة في الفترة من 02 إلى 08 ذو القعدة 1401 هـ الموافق 01 إلى 07 سبتمبر 1981م، وهي مكتوبة بالآلة الراقنة.
وسأقوم – إن شاء الله - بكتابتها ونشرها للفائدة.
ملاحظة: نقلتها كما هي بأمانة تامة ما عدا بعض الإضافات من عندي بين معقوفتين هكذا [ ]
المحاضرة الأولى:
" ترجمة معاني القرآن [ الكريم] وتقييم الترجمات"
الدكتور عبد الله عباس الندوي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز آل سعود
مكة المكرمة
-----------
"أيها السيدات والسادة
قبل الخوض في ترجمة معاني القرآن [ الكريم] أرى أن الموضوع يتطلب مقدمو وجيزة تشتمل على بيان حقيقة الترجمة ومقدرتها على نقل المعاني والبيان إلى لغة أخرى، واستعراض خصائص العربية حتى يتسنى لنا البحث في ترجمة معاني القرآن الكريم وبيان مشكلاتها، واستعراض طرق اختارها المترجمون والنظر في أسس تفيد تقييما للترجمات.
ايها السادة:
أ)- الترجمة ضرورة علمية لا غناء عنها لقوم مهما كان مبلغهم في العلوم والآداب، واللغات على اختلافها ومنذ العصور القديمة، تنمي ثروتها بالأخذ والعطاء عن طريق الترجمات، ولكنه في الوقت نفسه، ومع الاعتراف بقيمة الترجمة وأهميتها أثبتت التجارب أنها تنقل المعاني والأصول من اللغات المترجم منها، وهي غير قادرة على نقل ما في اللغة من فصاحة، وبلاغة القول لأن البلاغة تأتي من التراكيب النحوية، والتراكيب النحوية تختلف من لغة إلى أخرى، وهي ليست كالمفردات التي نجد لها نظائر في كل لغة.
ولأجل هذا فإننا نرى أن الذين حاولوا ترجمة العلوم والفلسفات والآراء والسير والأخبار حالفهم النجاح والقبول، أما الذين حاولوا ترجمة المأثورات من بدائع القول المشتمل على تصوير الأخيلة الدقيقة وتصوير المعاني الرقيقة اضطروا إلى أخذ الجوهر واللب من اللغة المترجم منها، وإلباسها حللها من البلاغة التي تخص اللغة المترجم إليها.
ونجاح ابن المقفع مثلا في ترجمة روايات بيدبا الفيلسوف الهندي كان مرده أنه أخذ جوهر القصة من الترجمة الفارسية ثم صاغها بالأسلوب العربي البليغ، هكذا كان فعل كل من الرصافي في ترجمة شعر الخيام، والمرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام في ترجمة شعر محمد إقبال.
وجملة القول أن ترجمة المعاني سهل ميسور، أما ترجمة نتائج الفكر ووحي الخيال تحتاج إلى عملية مزدوجة، أخذ المعنى من الأصل واختيار الأسلوب البليغ من لغة المترجم إليها.
ب) – اللغة العربية هي لغة قريش الناضجة المهذبة التي نزل بها القرآن الكريم لم تمسسها يد الأحداث والتطورات، وصمدت على أصالتها عبر القرون، لا تضاهيها لغة في العالم في الاحتفاظ بقيمها، وهي تحتفظ خصائص اللغات السامية من ناحية البناء والاشتقاق، وتفضل أخواتها اللغات السامية بحلاوة الجرس، وغزارة المادة، وتوسع المعنى، وإحكام النظم.
ج) – أما القرآن الكريم فله أسلوبه الخاص المتميز عن الأساليب المصطنعة، أسلوب بديع لا عهد للأذهان بمثله، فلا هو موزون مقفى، ولا هو سجع يتجزأ فيه المعنى في عدد من الفقر، ولا هو مرسل يطرد أسلوبه دون تقطيع ولا تسجيع، نزل منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة، على حسب ما يعرض من الحوادث، فلم يكن القرآن الكريم إذا خاضعا لقانون التأليف، ووحدة الموضوع، ووحدة الأسلوب، وعقد الأبواب على مقتضى الأغراض. إنما تجمّع على هذه الصورة ودوّن حسب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعا لما كان يجده منزلا إليه أولا فأولا، محفوظا في القلوب أو مسطورا في الصحف، ثم رتب بوجه التقريب على حسب الطول والقصر، لا على حسب تنزيله ولا على حسب موضوعه، فتكررت بعض القصص لتأكيد الإنذار، أو لتشابه الأسباب، وتشتت وحدة الموضوع والأسلوب لنزوله متفرقا في مكانين مختلفين ( مكة - والمدينة) وأزمان متراخية وأعراض متجددة.
وتشتمل السور المكية -وهي ثلثا القرآن- [الكريم] على أصول الدين، وتشتمل السور المدنية على أصول الأحكام، وأصول الدين جماعها الإيمان بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم] واليوم الأخر، والائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وهي أمور تتصل بالعاطفة والوجدان: فالدعوة إليها والحث عليها يقتضيان الأسلوب الواضح القوي الموثّق الفعال بالقلب بقصصه الواعظة، وحكمه البالغة وأمثاله السامية، ووعده الخالب، ووعيده المخيف، ولذلك تجد أسلوبها قصير الآي، كثير السجع، رائع التشبيه، قوي المجاز.
وأما أصول الأحكام من عبادات ومعاملات فهي موضوع السور المدنية، والتعبير عنها يقتضي الأسلوب المحكم الجزل الهادئ، وهدوء البيان يستلزم طول الجمل وتفصيل الآي، ووضوح الغرض، على أن القرآن [ الكريم] لا يصطنع في التشريع أساليب الفقه ولا تعريفات القانون، وإنما يسوق الأحكام في معرض الدعوة والهداية. لأن قصده الأول إنما هو إعلان التوحيد، وإظهار الدين، وتطهير القلوب من أوضار الضلالة والجهالة والشرك، ولأن الدولة الجديدة لم تكن في عهد الوحي من الاتساع وتشعب الاجتماع بحيث تطلب التشريع المفصل.
وبعد هذه العجالة من التمهيد نتعرض لتفسير القرآن الكريم بغير لغته، وهذا ما نعني به الترجمة التفسيرية أو الترجمة لمعاني القرآن [ الكريم] والترجمة كما أسلفنا ينحصر جدواها في نقل المعاني دون الأساليب، وكلمة " الترجمة " على وجه عام تطلق في اللغة على معنيين:
الأول: نقل الكلام من لغة إلى أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم، كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثاني: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال في تاج العروس: " والترجمان المُفَسِّرُ لِلِّسان، وقد تَرْجَمَهُ وتَرْجَمَ عَنْهُ: إِذا فَسَّر كَلامَه بِلِسانٍ آخَرَ، قاله الجوهريّ وقِيلَ : نَقَلَه مِن لُغَةٍ إلى أُخْرَى".
وقال الذهبي الترجمة تنقسم إلى قسمين: ترجمة حرفية وترجمة معنوية أو تفسيرية.
أما الترجمة الحرفية فهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى مع الموافقة في النظم والترتيب، والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
وأما الترجمة التفسيرية: فهي شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
- الترجمة الحرفية للقرآن [ الكريم] :
الترجمة الحرفية للقرآن [ الكريم] لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه، فإن القرآن [ الكريم] نزل على أسلوب الحوار والخطاب، وفي الحوار يعتمد علة فهم المُخَاطب ومعلوماته، فقد تفيد الإشارة إلى القصد بلفظ أو لفظين والمخاطب يفهم مغزى الكلام كله، ولأنه يعلم خلفيات الكلام والمدلول الصحيح للكلمات بحكم معرفته وسليقته.
وهذا لا يتيسر لقارئ الترجمة، اللهم إلا إذا كانت الترجمة مفسرة أو مذيلة بالشرح المستمد من الأحاديث النبوية الثابتة، وهناك آيات من القرآن [ الكريم] تؤكد لنا أن الترجمة الحرفية تكاد تكون بحكم المستحيل بالنسبة للقرآن الكريم.
المثال الأول: يقول الله سبحانه وتعالى: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } ( الأنفال: 7)
والقرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ولا في أي مكان أخر ما هو المقصود من الطائفتين وما هما؟ وأيهما كانت غير ذات الشوكة ؟ وما هو المقصود من ذات الشوكة وغير ذات الشوكة؟ وإذن لا يمكن استيفاء فهم الآية بالترجمة الحرفية إن لم تكن مصحوبة بالشرح والتفصيل.
المثال الثاني: جاء في سورة التوبة:{ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } ( التوبة: 118).
فمن كان هؤلاء الثلاثة يا ترى؟ إن القرآن [الكريم] لم يذكر اسماءهم ولم يذكر وقعة تبوك، وما جاء في القرآن [الكريم] قصة كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع، ومن هنا تعجز الترجمة الحرفية عن الدلالة الواضحة على مدلول الآية إلا باستعانة من الرويات الصحيحة.
والمثال الثالث: [قوله سبحانه وتعالى]: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ } ( التوبة : 107).
فلم يذكر القرآن [ الكريم] قصة أبي عامر الراهب الذي كان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، ثم بارز بعداوة الرسول [ صلى الله عليه وسلم] والمسلمين، وأقام مسجدا للتفريق بين المسلمين، ولا يمكن فهم مغزى الآية والمشار إليهم في الآية { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا...} إلا بالاستعانة بالحديث النبوي، والترجمة الحرفية غير قادرة على إعطاء صورة كاملة للقصة حتى يفهم القارئ سبب الردع وخطورة الوضع.
ولنقتصر على هذه الأمثلة الثلاثة، ونرى جوانب أخرى يتعرض لها المترجمون الذين أرادوا إيفاء المدلول الكامل لكل كلمة من كلمات القرآن الكريم، وقد وجدوا صعوبة في اختيار الكلمات المترادفة في لغاتهم التي ترجموا إليها. وقد وجد عجز المترجمين في اللغات الهندية والفارسية عن بحث كلمات تستوفي جميع المعاني التي توحي كلمة قرآنية أو تعبير عربي يخص القرآن الكريم، كما توجد نفس الصعوبة عند المترجمين للقرآن الكريم في اللغات الأوروبية، ونختار الانجليزية منها لإيضاح هذه النواحي، ويمكن أن نستعرض هذه المشكلات على النحو التالي:
1 – عجزت اللغة الانجليزية عن ترجمة حرفية لكثير من الأفعال العربية مثل بخل، صدق، استوى، أسرف، أبطل، منّ، طغى، أمات.فكل هذه الكلمات تترجم عادة بجملة مركبة من اسمين أو بفعل واسم، وعلى هذا تترجم:
يبخل is neggardly
صدق is thuthful
يستوي is equal
يسرف is extravagent
يبطل maketh vain or maketh void
منّ conferred a benefit
يطغى is exorbitant
يميت causes death
ومن المعلوم أن الفعل المضارع يخص العربية وحدها، وفي الانجليزية مثلا الفعل إما هو للحال أو للمستقبل، ولا يوجد نوع من الفعل يفيد معنى الحال والاستقبال معا، كما أن وجود التثنية بين المفرد والجمع يخص العربية وحدها، فالمترجم مضطر إلى إيضاح صيغ التثنية بإضافة كلمة أخرى فيقول the twain said مقابل كلمة واحدة " قالا" ولا شك أن الترجمة إن كانت بلفظ أو لفظين لا تؤثر في المعنى إذا استطاعت إفادة المعنى بكامله، ولكننا نرى أن الفعل إذا ترجم بالاسم، أو الاسم ترجم بفعل فهذا يجرح وجه الكلام ويبعد القارئ من روح النص، ومثال ذلك إذا ترجمنا فعل " يبخل " بكلمة معناها فيه بخل، أو فعل " قتل" بكلمة معناها أصبح سببا لموته، أو " جعله ميتا" لم تسعف القارئ بمدلول كلمة القرآن [ الكريم] إلا أنه استطاع من خلال الترجمة فهم المعنى التقريبي.
وهناك طائفة من الكلمات القرآنية لا توجد لها مرادفات في لغات أخرى فتترجم عادة بكلمة واحدة متقاربة المعنى، مثل:
الخوف، الخشية، إشفاق، الرهب، تقوى، لكل هذه الكلمات تجدون في الانجليزية كلمة واحدة fear وحيث تنبه المترجمون، وهم لا شك يعرفون معنى اللفظ وظلاله، ترجموا هذه الكلمات بألفاظ ليست لها صلة لغوية بلفظ النص، وعلى سبيل المثال نأخذ كلمة "التقوى" في آية: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } ( البقرة: 197)
So make provision for your selves - hereafter-; for the best provision is to ward off evil
فقد ترجمها محمد مارديوك بكهتال
أي معنى التقوى هو: to ward off evil الابتعاد عن الشر.
ويقول جورج سيل في ترجمة هذه الآية:
make provision for your journey; but the best provision is piety
أي معنى التقوى هو: piety
وترجم محمد علي اللاهوري:
And make provision for yourselves , the best provision beeing to keep one’s duty
أي معنى التقوى: beeing to keep one’s duty
وترجمة المفسر الهندي الشيخ عبد الماجد دريابادي هذه الآية:
And take provision for the journey; for verily the best provision is abstainent
أي معنى التقوى: abstainent
وترجم كل من ادبري، عبد الله يوسف علي رادديل كلمة التقوى the fear of god وإن كانت الكلمة fearأو the fear of god أو god fearing أقرب شيء إلى مفهوم التقوى من تعابير أخرى، ولكن بكتهال نظر إلى مدلول المادة ( وقى قي ) فترجم to ward off مع العلم أن الاسم المأخوذ من الفعل أصبح ذا دلالة مستقلة مفهومة عند العرب بجميع ملامحه.
أما الأستاذ محمد أسد فقد قرب إلى الأذهان المفهوم المتبادل لهذه الكلمة باختياره نهجا آخر لم يسبقه أحد من المترجمين، فهو يصرف النظر عن مدلول مادة الكلمة، ويعبر عن المعنى الشامل للكلمة، ولذا يترجم كلمة التقوى بتعبيره : God – conseiousnessولا شك أنه موفق فيما ذهب إليه، ولكن هذا لا يتيسر لمن يتقيد بوضع كلمة مكان كلمة حسب وصف المعاجم والقواميس، ولنرى كلمة أخرى وهي " الخشية" يقول الراغب الأصفهاني في تعريف هذه الكلمة: " الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[( فاطر: 28)].
وقال: { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى () وَهُوَ يَخْشَى } [(عبس: 8- 9)]، وقال: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } [(ق: 33)] ، وقال:{ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا } [(الكهف: 80) ]، وفي آية أخرى: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [(البقرة: 150)].
أما الخوف فهو عند الراغب الأصفهاني: " الخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة "
فظهر أن الخشية والخوف ليستا مترادفتين في العربية، ولكل منهما مدلول خاص، وهذا لا يتسنى للغة الأجنبية أن تفرق بينهما، والآن فلننظر إلى محاولة المترجمين ، يقول الله سبحانه وتعالى: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ( سورة البقرة، الآية: 150).
ترجم هذه الآية المفسر الهندي دريابادي so fear them not fear me
وترجم كلمة الخوف في آية: { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة: 112)
No fear shall come on them
ومعنى ذلك أن المترجم دريابادي اعتبر كلمتين الخشية والخوف مترادفتين
No shall they grieve
ويقول بكهتال، وعبد الله يوسف في ترجمتيهما:
so fear them not
{ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ( سورة البقرة، الآية: 150).
But fear me
{ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة: 112)
There no fear
Come upon them; neither
Shall they grieve
وهكذا ذهب جورج سيل، آريري، رادويل، بيل في ترجمة الكلمتين " الخشية والخوف" إلى أنهما مترادفتين بمعنى Fear الأنجليزية.
والحاصل أن هناك كلمات متقاربة المعنى بالعربية، ولكن لكل كلمة مدلول خاص واستعمال معين لا يمكن وضع كلمة مكان أخرى، ولكن المترجمون يجدون لغاتهم عاجزة لا تستطيع التفريق بينهما، ولا شك أن الأستاذ محمد أسد ترجم كلمة الخوف ب Fear والخشية بكلمة Awe وبذلك استطاع تغطية مدلول كلمة " خشية" حسب تفسير الراغب والرازي والكشاف
فقد نجد شرح الكلمة في قاموس Funk’s standared dictionary
To impess with reverential fear
إنها تشمل معنى الاحترام والتعظيم، ولنكتفي هنا بهذه الإشارة العابرة بما يعانيه المترجمون من فقر اللغات المترجم إليها إلى الألفاظ الدالة على مفاهيم الكلمة القرآنية، ونأتي على جانب أخر يحار فيه المترجمون الذين لا يحبون ألا تفوتهم كلمة من القرآن [ الكريم] إلا وقد ترجموها، ومن هذا القبيل نجد تنوع الضمائر، أو ما يسمونه في كتب النحو بانتشار الضمائر، والقرآن [ الكريم] يؤكد المعنى ويضغط على معنى الحصر بإرداف الضمائر المتوالية، ومثال ذلك:
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } [(يس: 12)].
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } [(ق: 43)].
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } [( الحجر: 9)].
فإذا أراد مترجم أن يكون أمينا للنص القرآني في ترجمة كل حرف جاء في القرآن [ الكريم]، ويرى لزاما عليه أن يقدم معاني القرآن [ الكريم] بدون أي تصرف منه، فالترجمة اللفظية تتطلب منه أن يقول مثلا:
أنا Verily we
نحن We
نحي We give life
طبعا هذا غير مستساغ عقلا أن يترجم أحد Verily we ; we we give life to dead
ولكنه لا يستطيع أن ينقل إلى ذهن القارئ تلك الروعة اللفظية والجلالة والهيبة التي تتجلى بتكرار الضمير في القرآن [الكريم]، وعلى هذا نجد المترجمين:
إما قالوا: Surely we give life
أوVerily we shall give life to dead
كما ترجم المرحوم عبد الله يوسف علي:
إنني عثرت على ترجمة واحدة فقط بين الترجمات وهي لمترجم غير معروف بين أوساط المترجمين، الذي تنبه إلى ضرورة تكرار الضمير حيث يفيد التأكد فقال:
Yes certainly it is We
Who raise thedead
ونظرا إلى أن القرآن [ الكريم] نزل على أسلوب الخطاب، فقد يجد الدارس صعوبة في ترجمة الآيات بدون إدخال كلمات تكمل الجمل على نسق الكتابة الحديثة ومثال ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ (الْأَنعام :1)].
فالمترجم مضطر إلى إضافة مفعول لفعل يعدلون، فيقول مثلا:
Nevertheless they who believ not in the
Lord the equalize other gods with him
فهذه الجملة الأخيرة: other gods with him
كما أضاف الأستاذ جورج سيل في ترجمة equalize others
أو كما ترجمه الدريابادي عبد الله يوسف علي، أما محمد علي اللاهوري فقد غير نظم الآية على وجه آخر فكتب:
Yes those who disbelieve set up equals to their lord
وهذا التصرف في نظم الآية ذهب بنسق القرآن [ الكريم]، فلا نستطيع أن نصف هذه الترجمة مطابقا لألفاظ القرآن [الكريم]، وهكذا نجد الأستاذ محمد أسد يفسر المفهوم للآية بكلمات لا علاقة لها بألفاظ القرآن [الكريم]، حيث ترجم الآية على النحو التالي:
And yet those who are bent on denying
The truth regards other powers as their
Sustainers equals
وهذا تفسير لا غبار عليه من ناحية الصحة، ولكنه لا يمكن أن يوصف بحال من الأحوال مطابقة لألفاظ القرآن الكريم.
أيها السادة قبل أن أنهي هذا الجزء من البحث حول الترجمة اللفظية للقرآن الكريم أرى أن ألخص نتيجة البحث على الوجه التالي:
إن الترجمة اللفظية أو الحرفية بالمثل حيث يترجم نظم القرآن [ الكريم] بلغة أخرى تحاكيه حذوا بحذو، تحمل المفردات والأساليب محل المفردات والأساليب حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية، غير ممكن على الإطلاق وذلك لأسباب:
1 – القرآن [ الكريممم] معجزة، وقد تناصرت الأدلة وانعقد الاجماع على أن القرآن [ الكريممم] معجزة، وإنما الخلاف في سبب إعجازه، فمن قائل أنه شرف الغرض، وتنوع المقصد، والأخبار بالغيب، ومن قائل أنه الفصاحة الرائعة، والمذهب الواضح، والأسلوب الموثق.
2 – الترجمة بإمكانها نقل اللب والجوهر من المعنى ولا تتحمل لأداء ما في الأصل من البلاغة وروعة البيان وذلك في كلام البشر فأنّى يتيسر ذلك في كتاب الله المعجز.
3 - القرآن [ الكريممم] نزل على أسلوب الخطاب والحوار، وهذا يعني أن هناك خلفيات للآيات لا يمكن نقلها في الترجمة بالمثل.
4 – اللغات الأجنبية فقيرة في كلمات تعبر عن مشاعر النفس والروح، في حين القرآن [ الكريممم] مليء بمثل هذه التعابير.
5 – يوجد عدد كبير من الكلمات لا توجد لها مرادفات في اللغات الأخرى.
6 – غزارة المادة وصيغها وخاصة بالعربية لا يمكن ترجمتها بكلمة مماثلة.
7 – في القرآن [ الكريممم] كلمات متقاربة المعنى، يوهم الأجنبي أنها مترادفة بعضها لبعض في حين أن هناك فروقا دقيقة، ولكن المترجم يضطر لفقر لغته إلى اعتبارها مترادفة.
8 – هناك محذوفات في القرآن [ الكريممم] لا يصعب فهمها على العربي لسليقته، ولكنها صعبة الفهم لغير العربي، فيضطر المترجم إلى أن يضيف كلمة أو كلمات لربط الجمل، أو بشرح من عنده بدون الاعتبار إلى النظم القرآني.
- الترجمة التفسيرية للقرآن [الكريم]
عقد الأستاذ محمد حسين الذهبي رحمه الله في كتابه التفسير والمفسرون فصلا بهذا العنوان قال فيه: " الترجمة التفسيرية عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانية المرادة منه، وذلك بأن نفهم المعنى الذي يراد من الأصل، م نأتي له بتركيب من اللغة المترجم إليها يؤديه على وفق الغرض الذي سيق له"
ولإيضاح الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية أتى الأستاذ الذهبي بمثال من القرآن الكريم:
{ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [(الإسراء: 29)].
وقال أن الترجمة الحرفية لهذه الآية في لغة أخرى قد تكون مثالا للضحك، فإنه لا يعقل أن يربط إنسان يده إلى عنقه، ويفهم موضع النهي من الآية، ولكنه إذا كانت الترجمة تفسيرية فيشرح المترجم أن تعبير القرآن [ الكريم] والقصد منه النهي عن الإسراف والتقتير، هذا هو ملخص ما قاله الذهبي في كتابه عن الترجمة التفسيرية.
والآن أرى أن استعرض الترجمات الحرفية والتفسيرية حتى يتبين لنا مدى صلاحية الترجمة التفسيرية، ثم نأتي على عرض بعض المشاكل في الترجمة التفسيرية.
من ترجموا هذه الآية ترجمة حرفية بدون تصرّف منهم الأستاذ محمد مارديوك بكهتال، فقد ترجم الآية كما يلي:
And let not thy hand be chained to thy neck nor open it with a complete opening lest thou sit down rebuked denuded
وهذه الترجمة وإن لم تكن مثارا للضحك كما زعم الأستاذ الذهبي رحمه الله، ولكنها في الواقع لا يدل على المراد وهو المنع عن التبذير والتقتير.
والمترجم المعروف للقرآن الكريم السيد عبد الله يوسف علي ترجم هذه الآية على النحو التالي:
Make not thy hand tied – like a niggard’s- tot thy neck
Nor stretch is forth to its utmost reach os that thau become blameworthy and distitute
وتجد في هذه الترجمة أن الإشارة بين مطتين – like a niggard’s- أزالت شيئا من الإبهام عن ذهن القارئ الذي لا يعرف هذه الاستعارة، غير أنه لم يتضح من ترجمته إن الآية ترمي إلى منع مخاطبيه من الإسراف والبخل.
وترجم محمد علي اللاهوري المعروف بمولانا محمد علي هذه الآية كما يلي:
And make not thy hand to shackled to thy neck ; nor stretch is forth to the utmost – limit- of its stretching forth ; lest thau sit down blamed stipped of
هذه الترجمات الثلاث كانت نموذجا للترجمة الحرفية، أما الذين ترجموا الآية ترجمة تفسيرية بدون النظر إلى كلمات القرآن [ الكريم] وتعبيره الخاص، فمنهم السيد بير صلاح الدين الباكستاني فقد ترجم معنى الآية:
Be netheir miser nor spendthrift ; lest you should incur blam or become penniless
هذه الترجمة التفسيرية أبعدت القارئ عن تعبير القرآن [ الكريم] من جهة، ومن جهة أخرى أعطت فكرة منقوصة عن مدلول الآية القرآنية، إذ زعم معنى المحسور pennilessأي معدما، وقد لخص معنى الآية جورج سيل مقلا عن تفسير البيضاوي:
Be netheir niggardly nor profuse; but obseve the mean between the two extreemes lest thau become worthy of repertension and be reduced to poverty
ولست أدري ما حمل المترجم بير صلاح الباكستاني والمترجم المستشرق القديم
على ترجمة " محسور" بالفقر والعدم، ومادة " حسر " كما أثبت الراغب الاصفهاني تفيد معنى كشف الملبس عما عليه، والحسرة هو الغم على ما فات والندم عليه، يجوز أنهم أثروا ترجمة الكلمة بما هو سبب الحسرة.
أما الأستاذ محمد أسد فقد جمع بين أصالة روح القرآن [الكريم] وتعبيره، وبين الإفادة عن معنى الآية وذلك بضم كلمات الشرح والإيضاح إلى الترجمة الحرفية:
And netheir allow thy hand to remain shackled to thy neck nor stretch if forth to the utmost limit – of the capacity- test thau find thyself blamed – by the dependantd- or even destitute
وقد أوفى معنى الآية على الهامش مشيرا إلى أنه تعبير مجازي للقرآن [ الكريم] قصد به النهي عن الإسراف والتبذير، والأمر بالاستقامة على طريق التوسط والاعتدال، وهكذا فعل المفسر الهندي الشيخ عبد الماجد دريابادي، حيث ترجم الآية حرفية مع إدخال كلمات الإيضاح في ترجمة النص، وتذييل الإيضاح.
والآن وقد قدمت طائفة من النماذج للترجمات الحرفية والتفسيرية آخذا بعين الاعتبار ما ذكره الأستاذ المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون" أرى أن أشير إلى جوانب الضعف في الترجمات التفسيرية:
1 – الترجمة التفسيرية أو تفسير القرآن الكريم بغير لغته يجعل القارئ لا يعبأ بالنص القرآني، ويبعده من تعابير قرآنية، وهي على حد ذاتها تحمل قيمة روحية لها نفوذ في العقل البشري، وتأثير في القلوب.
ولنقرأ مثلا هذه الآية: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [(الإسراء: 20)]
We shall bestow our blessing on all of the people ; nobody shall be denied
ولننظر كيف يرتاح القلب وتهتز المشاعر وتطمئن النفس عند تلاوة هذه الآية، وإلى هذا النغم السماوي الساحر، ثم ننظر إلى الترجمة التفسيرية:
2 – تفسير القرآن [ الكريم] حسب ما تسميه الترجمة التفسيرية يترك المجال للمترجم أن يترجم نظرياته الخاصة باسم القرآن [ الكريم]، ويجعل القرآن [ الكريم] مطية لبيان أفكاره ونظرياته الخاصة به. وتكفي الإشارة إلى تفاسير الصوفية والشيعة والقاديانية وتصرفاتهم في الترجمات والتفاسير، ومثال ذلك أن الصوفي التركي الشيخ إسماعيل الحقي البرساوي يفسر الآية: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [(البقرة: 158)]، بقوله إن الصفا هو لطيفة الروح، والمروة هو لطيفة القلب، وهما أكبر شعائر الدين في عالم الأرواح، فمن قصد رب البيت أو انقطع إلى ذكره فلا حرج عليه أن يقوم ويقعد في حلقات الذكر.
3 – إن المستشرقين الذين نظروا إلى القرآن [ الكريم] كمجموعة من الأحاديث والقصص وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم (( ترجم E.W.LANE بعض السور من القرآن [ الكريم] إلى الانجليزية عام 1843م وأسماها TABLE TALKS OF MOHMMED ))، أخذو بتأويل كل آية تعطي فكرة عن رسالة الإسلام على أنها موجهة إلى الإنسانية جمعاء، ومثال ذلك أن جورج سيل المترجم المعروف يترجم خطاب القرآن [ الكريم] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ويزعم أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان يريد إصلاح بني جلدته وتقدمهم اقتصاديا وسياسيا، ولم يقصد إلى مخاطبة البشر كله، ونسي جورج سيل أو تناسى أن القرآن [ الكريم] يفسر بعضه بعضا، وإنه وجه رسالته إلى العالم كله ففي آية: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)
وعلى الرغم أن سورة البقرة مدنية النزول بلا خلاف كما أكد ذلك ابن كثير في تفسيره، وسورة سبأ مكية، وجورج سيل يزعم أنه لم يطمح في توجيه رسالته خارج قبيلته.
4 – نظرا إلى أن المفسرين القدامى مثل الرازي والبغوي والبيضاوي اعتادوا أن يذكروا في تفاسيرهم جميع ما وصل إليهم من أقوال عامة وشاذة، ويذكرونها بقولهم التقليدي " قيل" وهذا " القيل" يصبح سندا قويا لمن أراد تخريف معاني القرآن [ الكريم]، وهو يستند إليه في تفسيره، ويشير إلى تلك المراجع كأمر معترف به، ومثال ذلك أن البيضاوي ذكر من بين الأقوال العديدة في تفسير كلمة "العالمين" إنه قيل معناه عالم الإنس وعالم الجن وعالم الملائكة، فتشبث به كل من جورج سيل وسير ريتشارد برطن Sir Rechard Burton وترجم أول آية من القرآن الكريم:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على النحو التالي:
Praise be to Allah who three worlds made
وعدله جورج سيل على النحو التالي:
Praise be to God; the Lord of all creatures
ولا شك أن القصد من وراء هذه الترجمة المنحرفة هو إعطاء فكرة خاطئة أن رسالة الإسلام كانت محلية ومؤقتة، و" أنّى لابن أن يتصور ويحلم أن هناك عالما غير ما يعيشه وتعيش دوابه" ( E.W Lane في كتابه المختارات القرآنية طبع ليدن عام 1843م) وهذا غير مستغرب من الذين لم يملكوا إخفاء ما في صدورهم من حقد وكراهية ضد الإسلام، ولكننا نرى أن كل من أراد أن يفسر القرآن [ الكريم] حسب مرئياته يجد سندا من الأقوال الشاذة في كتب التفسير والأحاديث الضعيفة والموضوعة.
هكذا نجد أن القواميس والمعاجم توفر مادة وسندا لبيان الآراء الشاذة والمعاني المستبعدة، ومثال ذلك كلمة " الإبل" في الآية: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [( الغاشية:17)]، فقد ترجمها ظفر الله خان " بالسحاب" وأغرَّبُ من هذا أن الأستاذ محمد أسد الذي يعرف العربية أكثر من معاصريه ممن ترجموا القرآن [ الكريم] مال إلى هذه الترجمة، مستندا إلى لسان العرب والمعاجم الأخرى، وبعد مراجعة
الأصل ظهر لي أن أصحاب القواميس يذكرون كل ما وصل إليهم ولو من فرد واحد، ولكنهم يبدؤون بالمعنى المتواتر الأصل، ثم يردفون بأقوال شاذة.
فلا شك أن ابن منظور ذكر من بين معاني " الإبل" السحاب كذلك، ولكنه لم يذكر هذا إلا بعد إيراد المعاني المعلومة.
ففي ضوء ما ذكرت من الآثار السيئة لتفسير القرآن [ الكريم] بغير لغته أو الترجمة التفسيرية، أرى أن ترجمة معاني القرآن [ الكريم] بهذه الطريقة لا يخلو من خلل، وفيه إطلاق الحرية لكل من شاء أن يعرب عن مرئياته وآرائه، وهي الترجمة التفسيرية [ كذا] - يجعل القرآن [ الكريم] مثل ترجمات الأناجيل حيث لا يعرف الدارس اليوم ما هو مقدار الأصل من بين أقوال الشارحين.
وبعد استعراض أنواع الترجمة لمعاني القرآن [ الكريم]، أرى أنه لا بد أن تكون لدى علمائنا والمثقفين منا أسس لتقييم الترجمات، وماذا تكون هذه الأسس يا ترى ؟ وفي مجتمعاتنا الإسلامية أنواع وأنواع من العقائد والنظريات والآراء والاتجاهات والأسس لا بد أن تكون مقبولة لدى الجميع.
وعلى هذا أجد الموضوع عويصا إلا أن نقيّم الأسس في ضوء العقيدة التي عليها جمهور المسلمين، وأغلبيتهم الساحقة هم أهل السنة والجماعة من المسلمين.
وقد انعقد الإجماع على أن القرآن [ الكريم] نزل لغرضين أساسيين:
أولهما: كونه آية دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وذلك بكونه معجزا للبشر، لا يقدرون على الإتيان بسورة من مثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول وهو كونه آية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فات يمكن تأديته بالترجمة اتفاقا، فإن القرآن [ الكريم] - وإن كان الإعجاز في جملته بعدة معان كالأخبار بالغيب، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل، وغير ذلك ما عد في وجوه إعجازه – إنما يدور الأعجاز الساري في كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معينة، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقا، فإن اللغات الراقية وان كان لها بلاغة، ولكن لكل لغة ملامحها المنفردة لا يشاركها فيها غيرها من اللغات، ولو ترجم القرآن [ الكريم] ترجمة حرفية – وهذا محال- لضاعت خواص القرآن [ الكريم] البلاغية، ولنزل القرآن [ الكريم] من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر، ولفات هذا المقصد العظيم الذي نزل القرآن [ الكريم] من أجله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الغرض الثاني وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه، وهذا يرجع بعضه إلى المعاني الأصيلة التي يشترك في تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعاني يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعاني الثانوية، ونجد هذا كثيرا في استنباطات الأئمة المجتهدين، والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعاني الأولية، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعاني الثانوية مع أنها لازمة للقرآن [ الكريم] دون غيره من سائر اللغات.
هذا من ناحية نظم القرآن [ الكريم] والمعاني المستفادة منه، أما من ناحية الكلمات المشتركة المعنى، أو الكلمات التي توحي نوعا من العقيدة عن الكون والتاريخ وأسوة الأنبياء السابقين [ عليهم السلام]، وفيها خلاف بين المفسرين القدامى والمحافظين، وبين المفسرين المتأخرين مثل كلمة " التابوت" ومعناها عند السلف بالاجماع هو صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، ويرى بعض المتأخرين أنه القلبHeart (( استنادا إلى ما نقله الزمخشري في الأساس، والبيضاوي في تفسيره من الأقوال الشاذة التي يذكرونها تحت كلمة " قيل"))، نظرا إلى أن القلب هو محل السكينة وليس الصندوق، ولكنهم ينسون أو يتناسون أن القلب لا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يأتي به أحد من الخارج، والله سبحانه وتعالى يقول: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } [ ( البقرة: 248)].
وهناك معتقدات للمسلمين مثل عقيدتهم على وجود الجن كمخلوق من الله خلقه من نار، وفيهم المؤمنون ومنهم الفاسقون، ووجود الملائكة والإيمان بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء لتصديق نبواتهم [ عليهم السلام]، ورفع سيدنا عيسى [ عليه السلام] إلى السماء حيا، وعقيدة جمهور المسلمين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أخر الأنبياء ولا نبي بعده لا تابعا ولا متبوعا، لا صاحب شريعة ولا صاحب هداية بدون شريعة جديدة، فإذا كانت الترجمة طبقا لعقائد الجمهور التي مصدرها القرآن [ الكريم] بدون اللجوء إلى التأويل والأخذ بالأقوال الشاذة، تكون مقبولة ولا بأس بأن يوجد فيها بعض الآراء الشاذة التي لا تمس العقيدة، مثل ترجمة الالية والآلاء بالقوة، وترجمة الإبل بالسحاب، وترجمة الابتلاء بالتربية ونحو ذلك، فإذا عثرنا على ترجمة جديدة رأينا عقيدة المترجم من خلال ترجماته وتفسيره لتلك العقائد ومدى مقدرته على فهم كتاب الله، واللغة التي اختارها للمترجمة شرط أساسي لصحة الترجمة والمترجم.

 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المحاضرة الثانية: " الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم"
الدكتور أحمد السيد الحسيني
جامعة عين شمس - جمهورية مصر

-عربية القرآن الكريم:
أختار الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه اللغة العربية لغة وبيان لكتابه الخالد، لأن هذه اللغة فيها من مزايا التعبير والبيان ما لم تحظ به لغة غيرها، ولن يسع كتاب الله غيرها، ولو كان في الوجود لغة تفضل اللغة العربية في الكشف عن دقائق البيان وأسرار التعبير، ما جاوزها القرآن [ الكريم ] إلى غيرها.
ولكن نزوله بالغة العربية دليل قاطع على نفي هذا الاحتمال، فاللغة العربية أسمى اللغات على الإطلاق، والدليل أن عالم الغيب والشهادة ارتضاها أداة لوحيه المنزل على أكرم رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وعربية اللغة والبيان القرآني جاء النص عليها في مواضع متعددة من القرآن [ الكريم ]، منها قوله تعالى: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ () إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }[ يوسف 1- 2].
وقوله : { حم () وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ () إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [(الزخرف 1- 3)].
وقوله: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ () نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ () عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ () بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [( الشعراء: 192 - 195)].
وقوله: { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }(فصلت: 3)
وقوله: { قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر:28).
وقوله: { وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ }(الأحقاف: 12).
وقوله: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } (طه:113).
وقوله: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (النحل: 103).
وقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } (الشورى: 7).
ونعرف أن لكل لغة سمات خاصة في بنائها التعبيري، الذي تتميز به عن غيرها من اللغات، شاء ذلك أهلها أم لم يشاءوا، فهم ينطلقون في البناء التعبيري خاضعين لمؤثرات البيئة بشتى ألوانها: من بيئة طبيعية إلى اجتماعية واقتصادية وسياسية وغير ذلك.
والمعروف أن اللغة العربية لها خصائصها الفريدة وسماتها المميزة عن غيرها من اللغات، والتعبير العربي يحمل في طياته من الدقة والبراعة بحيث يختلف المعنى إذا قدمت أو أخرت كلمة عن أخرى، كما أنها تختلف عن غيرها من اللغات في تكوين الجملة نفسها كتقديم الفعل على الفاعل، والموصوف على الصفة وغير ذلك مما يعرفه كل مُلِّمٍ باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية.
وترجمة القرآن [ الكريم ] إلى لغة أخرى تذهب بإعجازه، ويصبح شأنه شأن أي كتاب عادي مهما حوى من أحكام وفضائل وشرائع، فهو في النهاية يمكن مجاراته.
وقد تحدى الرسول [ صلى الله عليه وسلم] العرب قاطبة – وهم أهل البلاغة والبيان- أن يأتوا بسورة من مثله،وليس من الضروري أن يأتوا بمعاني القرآن [ الكريم] نفسها وإنما في مثل القرآن[الكريم]، لأن التحدي لم يكن فيما يحويه القرآن [ الكريم] من أحكام وشرائع، ولكن لما يحويه من نظم بديع وتركيب بليغ، فإن أتوا بمثل نظمه من غير أن يكون صدقا، فقد أفلحوا وأظهروا حجتهم.
والترجمة التي تذهب بهذا النظم البديع، وتفسد ذلك التركيب البليغ الذي تتميز به لغة القرآن [ الكريم] ولنضرب لذلك مثلا:
قوله تعالى:{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (الكهف:11).
نجد أن الترجمة الفارسية نقلته بلفظه فتقول: " يس ما بركوش آنهاتا جند سالي برده بيهوشي زديم" أي فضربنا على آذانهم ستار الغفلة عدة سنوات، وهذا غير مفهوم للمنقول إليه، إذ لا يفهم المقصود من الآية، فالتصوير الذي نراه في الآية يتمثل في الضرب على الآذان، لا تستطيع الترجمة الحرفية أن تؤديه أو تفي به إلا بعد أن تفسد الصورة، وتشوه ملامحها.
ومثل قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } ( الفرقان: 73).
فالمعنى الحرفي لقوله لم يخروا عليها صما وعميانا: سقطوا سامعين مبصرين لما أمروا به ونهوا عنه. ولكننا نجد الترجمة الفارسية عولت على ترجمة المعنى كي تؤدي المعنى فتقول: " وآنان هستندكه هركاه متذكر آيات خداى خود شوند كروكورانه درآن آيات ننكرند تابر مقام معرفت وايمانشان بيفزايد "
نجد أن المترجم فسر المعنى وأضاف ألفاظا من عنده لكي يتضح المعنى، وهذه تعتبر ترجمة للمعنى وليس للفظ.
وهكذا لا يتكشف وجه الإعجاز الذي يقوم على الألفاظ ملاءمة بعضها بعضا.
-بين اللغتين العربية والفارسية:
أما بالنسبة للغتين العربية والفارسية فإن بينهما صلات قديمة جدا ترجع إلى وقت دخول الإسلام إيران بعد أن أقبل كثير من الفرس على اعتناق الإسلام أحرارا مختارين، في غير ما إجبار أو اضطرار، لأن المظالم التي اصطلوا بنارها قبل الإسلام حببت إليهم أن يقبلوا على اعتناقه فكفل لهم العرب حريتهم الدينية، وعاملوا أتباع الزردشتية معاملة أهل الكتاب[؟]، فقبلوا منهم أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية.
وقد تسابق كثير من أهل فارس إلى تعلم اللغة العربية لغة الدين الذين آمن به كثير منهم، ولغة الفاتحين الذين يتصلون بهم، وسرعان ما أجادها بعضهم، وكانوا قدوة لمن بعدهم، حتى صار كثير من مشهوري الشعراء والكتاب والعلماء باللغة والدين من أبناء فارس، وكان من أثر القرآن [ الكريم ] على اللغة الفارسية أن فقدت هذه اللغة شخصيتها القديمة، وظهرت الفارسية الجديدة، وقد تشكل نصف معجمها، كما تشكلت أساليبها وأوزانها من العربية حتى صارت لسان أخر غير اللغة السابقة على الإسلام وهي اللغة البهلوية، وكذلك الأمر في اللغة التركية، ولغة الأكراد وسائر لغات آسيا وأفريقيا، فقد فقدت كل لغة من هذه اللغات أكثر خصائصها الجاهلية، ودخلت في عربية القرآن [ الكريم]، بحيث لو أن أحدا أراد مثلا أن يكتب شيئا بالفارسية بحيث تكون كتابته خلوا من الألفاظ العربية لتعسر عليه الأمر.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الصلات القوية بين اللغتين العربية والفارسية، بل المقصود هو أن نبين أن هاتين اللغتين برغم تداخلهما القوي، وتأثير كل منهما في الأخرى، فإن اللغة العربية تتميز عن الفارسية وغيرها من اللغات في بنائها التعبيري، ومن أبرز ما تتميز به اللغة العربية في تعبيرها عن اللغة الفارسية:
أولا: إن الجملة في اللغة الفارسية تختلف في تركيبها عن الجملة في الجملة في اللغة العربية، فعلى الرغم من أن الجملة تنقسم إلى قسمين: اسمية وفعلية كما في العربية، فإن الجملة الاسمية في اللغة الفارسية تزيد في تكوينها عن العربية جزءا ثالثا وهو الرابطة التي تربط الجزئين الرئيسيين وهما المبتدأ والخبر، وتختلف هذه الرابطة باختلاف المبتدا أو المسند إليه، وكذلك الحال بالنسبة للجملة الفعلية فهي تختلف مع العربية في ترتيب أجزائها، ففي اللغة العربية تبتدئ الجملة الفعلية بالفعل، في حين تنتهي الجملة الفعلية في الفارسية بالفعل، وهذا الاختلاف يجعل في الترجمة تغييرا في المعنى، فلكل كلمة استخدامها في وضعها بالجملة إن كانت الكلمة مقدمة أو مؤخرة فلكل كلمة مقامها الذي يتطلب استعمالها.
وعلى هذا النمط العربي نجد البيان القرآني في بنائه التعبيري، يقدم الفعل إذا كان الحديث عن الفعل هو المهم أو المقصود بالحديث، وذلك نحو قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } (المؤمنون: 12)، إذ المقصود الحديث عن خلق الإنسان وما ينطوي عليه من إعجاز وليس المقصود الحديث عن الخالق.
وعلى هذا المسار التركيبي سار البناء في الآيات بعد ذلك فقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ () ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون: 13- 14)
في حين نرى الترجمة الفارسية، وكما قلنا تنتهي بالفعل الذي هو المقصود من الحديث وهو الذي في الأصل في بداية الجملة، فنرى الترجمة تقول: " وهمانا آدمي را از كل خالص آفريديم (12) يس آنكاه اورا نطفه كردانيده ودرجاي استوار ( صلب رحم) قرار داديم (13) آنكاه نطفه را علقه وعلقه راه كوشت ياره وياز آن كوشت را استخوان وسيس براستخوانها كوشت يوشانيديم يس از آن خلقتي ديكر انشا نموديم آفرين بر قدرت كامل بهترين آفريننده(14).
نجد الأفعال آفريديم، قرار داديم، يوشانيديم قد وضعت في نهاية الجمل.
ثانيا: إن الصيغ التي تدل على الفاعل في اللغة الفارسية إما أن تبنى على فاعل معلوم أو فاعل مجهول، وهي المعروفة بصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، أما في اللغة العربية فلا تقتصر في الحديث عن الفاعل في هاتين الصيغتين، ولكنها تضيف صيغة ثالثة تلك هي صيغة الفاعل المطاوع، فقولنا ((انسكب الماء)) يختلف في دلالته عن قولنا (( سكب الطفل الماء)) وعن قولنا ((سكب الماء)) وذلك لأن التعبير الأول يقدم معنى لا تدل عليه دلالته الدقيقة صيغة من الصيغتين الأخيرتين، فقولنا (( سكب الطفل الماء)) يقال لمن يهمه أن يعرف من الذي سكب الماء، وقولنا ((سكب الماء)) يقال كذلك لمن يقصد التعرف على الفاعل، لكنا نخبر عن ذلك الطريق إما بجهلنا بمن وقع منه الفعل، أو بعدم إرادتنا ذكره، أما حين نقول ((انسكب الماء)) فإننا نوجه الحديث لمن يتوقع انسكاب الماء وينتظره، ولا يهمه أن يعرف ساكبه ولا عدم معرفته، ولا شك أن الفارق كبير بين هذا وذاك.
وهذا الفارق الكبير يعين اللغة على الدقة في استيفاء وجوه الدلالة، حتى يتمكن بها من ملاحظة مقتضى الحال.
حقيقة توجد في اللغة الفارسية بضعة أفعال تسمى الأفعال ذوات الوجهين أي الأفعال التي تكون لازمة أو متعدية حسب سياق الجملة، دون أن يتغير تركيبها، مثل فعل شكستن، وريختن، ويختن، وسوختن، وكشودن، افروختن،وهذه الأفعال قريبة في استخدامها من صيغة الفعل المطاوع في العربية، ولكنها قليلة من ناحية، ولا تؤدي الغرض من الفعل المطاوع من ناحية أخرى، وسنرى ذلك في بيان الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم في النموذج التالي.

وهذه هي إحدى مميزات اللغة العربية في بنائها عن غيرها من اللغات، إذ نحن تأملنا آيات القرآن الكريم من هذا المنطلق وجدناه قد جمع بين هذه الصيغ الثلاثة في بنائه التعبيري، ولأن الذي يعنينا – هنا – هو أن نقف على استيعاب البيان القرآني لكل ما يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات في البناء التركيبي، لا أرى ما يدعونا لأن نطيل بذكر نماذج قرآنية لصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، فهذا واضح لا يحتاج برهانا، إنما الذي يحتاج برهان هو الصيغة الثالثة ( صيغة الفعل المطاوع) وهذه الصيغة في القرآن [ الكريم] لا تقصد لذاتها، وإنما شأنها شأن كل الصيغ تأتي حين يتطلبها الموقف ملبية المطلوب، محققة المقصود، من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } ( البقرة: 74)
ونرى الترجمة الفارسية تقول: " جه آنكه ياره از سنكها ست كه نهرهاي آب از آن ميجوشد ويرخي ديكر سنكها بشكافد وهم آب از آن بيرون آيد" فتجد الترجمة قد أتت بالفعلين في المبني للمعلوم، و:ان الحجارة هي الفاعل، في حين أن الفعلين ( يتفجر ويتشقق ) مضارعان، ماضيهما تفجر وتشقق، وهما مطاوعان لفجر وشقق فالحجارة لا يتأتى منها الفعل، ولكنها خاضعة تستجيب للقوة العليا حين تفجرها وتشققها بتجميع أسباب التفجير والتشقيق عليها، فالآية الكريمة بذلك: تلفت نظر المتأمل إلى ما وراء تلك الظواهر الطبيعية من قدرة الله ومشيئته دون أن يتصادم الظاهر مع الواقع الحق.
ومن ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى: { ... فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } ( البقرة: 266)، نجد أن الترجمة الفارسية تقول: " ... ودرباغ أو بادي آتش بار افتد همه را بسوزاند" فجعلت الفعل متعديا، أي المعنى يكون: فأصابها إعصار فيه نار فأحرقتها، وهذا لا يحقق المقصود بيانه من إتيان النار عليها، لأن الإحراق يفيد حرق الكل كما يفيد إحراق الجزء، فلما جاءت الآية على هذا أفادت أن الإحراق من النار وليس ذاتيا، وأن إحراق النار إياها شامل وليس إحراقا جزئيا.
ومنها أيضا قوله [ سبحانه وتعالى]: { ... فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } ( البقرة: 60)، انفجر مطاوع فجر.
وترى الترجمة تقول: " يس دوازده جشمه آب از آن سنك بيرون آمد" فالفعل هنا مبني للمعلوم وكأن عيون الماء هي الفاعل، بالإضافة إلى ركاكة المعنى إذ أن ترجمة الفعل ( خرجت) بدلا من ( انفجرت).
والآيات المشتملة على صيغة المطاوعة كثيرة، ونجها مختلفة في الترجمة، فتارة يترجمها المترجم على أنها أفعال مبنية للمعلوم كما رأينا، أو يتصرف في ترجمة تفسيرية لها تكون قريبة من المعنى.

ثالثا: إن اللغة العربية تحرص على أن تستوفي أدوات الصفة وكافة شروطها، وذلك لأن الصفات لا بد فيها من المطابقة، بخلاف الأسماء، فليس ضروريا فيها أن تطابق مسمياتها، إذ الأسماء قد تكون توقيفية لا إرادة للمتكلم في وضعها وإطلاقها على مسمياتها، وقد نطلق اسما على مسمى لأدنى ملابسة، دون أن تكون هناك مطابقة بين الاسم ومسماه، وذلك لأن نسمي الشيء باسم أرضه، أو باسم صاحبه، أو باسم حادث عندما تعرفنا عليه، أو باسم كاشفه، إلى غير ذلك من الملابسات، وقد تكون الأسماء منقولة عن لغة أخرى بحروفها أو مع تعديل فيها.
أما الصفات فلا بد أن تطابق موصوفاتها، ومن ثم حرصت اللغات على أن تكون هناك مطابقة بين الصفة والموصوف، لكنها لم تتمكن من استيفاء جميع أدوات الصفة وشروطها كما تمكنت منها اللغة العربية.
فالصفة في اللغة العربية تابعة للموصوف مطابقة له في الإفراد والتثنية والجمع، وفي التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي مواقع الإعراب، وبتعبير أخر: الصفة العربية تطابق الموصوف في العدد وفي الجنس، وفي التحدد وفي الشيوع، وفي الشكل العارض للفظ، أما في اللغات الأخرى فقد تجد فيها بعض تلك المتابعات، لكنك لن تجدها جميعا بقواعدها المطردة إلا في اللغة العربية.
وفي الفارسية نجد عكس ذلك تماما فلا تطابق يذكر بين الصفة والموصوف لا في الإفراد والجمع، ولا في التذكير والتأنيث، ولا في التعريف والتنكير.
وهذا فرق جوهري بين اللغتين يظهر واضحا في ترجمة كل آيات القرآن الكريم ، بحيث يصبح من العبث إيراد نماذج لبيان ذلك الاختلاف.
ومن ثم يتقرر أن البناء التعبيري في البيان القرآني لا يخرج على البيان التعبيري للغة العربية في قليل ولا كثير، وإنما هو يسير وفق منهج العربية تماما في بنائها.
وبالتالي فإن روح اللغة العربية بمعانيها وأخيلتها هي التي تسري في البيان القرآني في أرقى مدارجها وإمكاناتها، بحيث تتحقق بالقرآن [ الكريم] المعجزة البيانية من خلال اللغة العربية التي اصطفاها الله سبحانه لينزل القرآن الكريم بها دون غيرها.

-إمكان ترجمة القرآن [ الكريم]:
كان القرآن الكريم وهو (كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) محلا لاختلاف الترجمات عليه في كثير من اللغات الأوروبية وأيضا اللغات الشرقية.
ولعلماء المسلمين رأي في ترجمة القرآن [ الكريم] إلى غير العربية، فالإجماع منعقد على عدم جواز ترجمة القرآن [ الكريم]، أما الجائز فهو ترجمة معاني القرآن [ الكريم] أو ترجمة تفسيره، وقبل ان نعرض ما دار بين المسلمين من خلاف حول ترجمة القرآن [ الكريم]، أود أن أشير إلى أقسام الترجمة، إذ تنقسم الترجمة إلى قسمين: ترجمة حرفية وترجمة تفسيرية.
فالترجمة الحرفية هي التي يراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه، وبعض الناس يسمي هذه الترجمة لفظية، وبعضهم يسميها مساوية ويطلق عليها الإيرانيون "ترجمة تحت اللفظي" أي "ترجمة حرفية".
والترجمة التفسيرية هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة، أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة، ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية، وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير، وما هي بتفسير كما سيتبّين بعد ذلك.
فالذي يترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها، ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها وإحلالها محلها، وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل، بسبب اختلاف اللغتين في موقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا.
أما الذي يترجم ترجمة تفسيرية، فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصوغه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى، موافقا لمراد الأصل، من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل لفظة أو استبدال غيرها بها.
والأمثلة على الترجمة بنوعيها من آيات القرآن [ الكريم] كثيرة فمثلا نجد أن قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } ( الإسراء: 29)
قد ترجمت إلى الفارسية [ هكذا]: " نه هركز دست خود محكم بسته دارونه بسيار باز وكشاده داركه هركدام كنى بنكوهش وحسرت خواهي نشست " أي لا تربط يدك بإحكام ولا تجعلها ممدودة غاية المد، فإن تفعل ذلك ستقعد ملوما محسورا، أما عند الترجمة التفسيرية للآية فإنك تعمد إلى التعمق في فهم الآية، بالنهي عن التقتير والتبذير، في أبشع صورة منفرة، ولا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه وترتيبه اللفظي.
أما عن موقف علماء المسلمين والأزهر من مسالة ترجمة القرآن [ الكريم] فتتلخص أنه في عام 1355 هـ/ 1936م ثار جدال عنيف حول ترجمة القرآن [ الكريم] بين الجواز والمنع، وذلك بعد أن عني كثير من المستشرقين والمبشرين بنقل القرآن [ الكريم] إلى كثير من اللغات الأجنبية بغرض التشنيع عليه والتشهير به، والدس له واتخاذه في مدارسهم وكنائسهم مادة للنقد والتجريح، ولما دب النور والعرفان والثقافة والعلم في أنحاء مختلفة من الكرة الأرضية، وأصبح الناس يحاولون أن يتدارسوا الأديان والرسالات بأسلوب من البحث النزيه، والمنطق السديد، وكان فيما يرجون أن تصل دراستهم إليه (( القرآن [ الكريم])) على اعتبار أنه كتاب خالد شغل البشرية قرونا عديدة، ظهر حينئذ في علماء المسلمين من نادى بضرورة تعريف هذا النفر به، عسى أن يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان، حاملا لهم على الهداية، حافزا لعم على أن يكونوا من جنوده المحافظين عليه، الذائدين عنه.
وكان من أولئك المسلمين شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت وهو الشيخ مصطفى المراغي – الذي تحمس لترجمته تحمسا منقطع النظير – ونشر بحثا عن ترجمة القرآن وأحكامها (( أنظر الشيخ مصطفى المراغي: " بحث في ترجمة القرآن وأحكامها" مطبعة الرغائب في ربيع الثاني سنة 1355هـ/ يونيو 1936م)).
وقدم لهذا البحث بكلام للإمام الشاطبي في كتاب " الموافقات" يفيد أن اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة، لها معنيان: أولي وثانوي، فالأولي كقيام زيد الذي لا يمكن أن تختلف في التعبير عنه لغة من اللغات، والثانوي ما يزيد على ذلك من الاهتمام بالقيام وحده، أو بالقائم، أو إجابة السائل، أو الرد على المنْكِرِ
أو غير ذلك من الأسرار البلاغية التي تقتضيك التعريف أو التنكير، والتقديم أو التأخير، وما شاكل ذلك من الأساليب التي توجبها الحال، وتحتها [وتحتمها] المناسبة، فالمعاني الأولية لا تفسدها الترجمة، ولا أن يشوهها النقل، ولا أن تطول فيها مسافة الخلف بين اللفظ والمعنى، والمعاني الثانوية التي يتفاوت في دقة تصويرها، وروعة التعبير عنها وجمال أساليبها فحول البلغاء، أو أساطين الكلام كما تختلف في نقلها وصوغ الألفاظ المعبرة عنها اللغات، وعلى هذا فالمعاني الأولية في القرآن [ الكريم] يمكن ترجمتها إلى أية لغة من اللغات، وأما المعاني الثانوية فلا...
ونحن نعلم أن المعاني الأولية في أي كلام لا اعتبار لها، ولا ميزة فيها، فإن الاعتبار كله والميزة البارزة في الذي يسميه البلغاء بالمعاني الثانوية، وهي مجال الفحولة ومناط الإعجاز.
وبعد حديث الشيخ في بحثه عن إمكان ترجمة القرآن [ الكريم] تعرض لشُبه الناس في الترجمة وتولى الرد عليهم، كما تحدث عن جواز الصلاة بالترجمة وكذلك تحدث عن كتابة التراجم وقراءتها، والمراد من الترجمة وغير ذلك من الموضوعات التي لا داعي لذكرها هنا.
وكان من مؤيدي الشيخ المراغي الأستاذ محمد فريد وجدي الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمجلة الأزهر، وقد جمع الأستاذ فريد وجدي آراءه في بحث أكبر من بحث الشيخ المراغي ونشره بعنوان " الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن [ الكريم] إلى اللغات الأجنبية" (( أنظر الاستاذ محمد فريد وجدي: " الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن [الكريم] إلى اللغات الأجنبية" ربيع الأول سنة 1355 هـ/ يونيو 1936م)): أخرجه في ملحق للعد الثامن من مجلة الأزهر وعني فيه بالرد على المعارضين وخاصة فضيلة الشيخ محمد سليمان وفضيلة الشيخ محمد مصطفى الشاطر، وقد كتب على غلافه: " ردود علمية على الذين يذهبون إلى عدم جواز ترجمة معاني القرآن [الكريم] إلى اللغات الأجنبية تصحيحا للترجمات الموجودة وتعميما للدعوة الإسلامية، ودحضا لجميع الشبهات التي يثيرها بعض الكتاب على هذا العمل الجليل ".
وقد انتهى الأمر بعد طول النقاش والحوار إلى أن قررت مشيخة الأزهر وضع تفسير عربي دقيق تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة، واجتمعت لجنة التفسير عدة مرات برئاسة مفتي مصر في ذلك الوقت، ووضعت دستورا تلتزمه في عملها العظيم، ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية في الأقطار الأخرى تستطلع آراءهم في هذا الدستور رغبة منها في أن يخرج هذا التفسير العربي في صورة ما أجمع عليه الأئمة.
ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم، وقد خرج فعلا إلى حيز الوجود هذا التفسير الذي سمي " المنتخب في تفسير القرآن الكريم" وقد طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، وكتب في مقدمته ما يفيد أنه تفسير مختصر محرر كتب بالعربية تمهيدا لترجمته إلى اللغات الأجنبية.
وهذا العمل له فوائد كثيرة منها:
1) – وضع تفسير موجز باللغة العربية يسهل الرجوع إليه.
2) – وجود نص القرآن [ الكريم] باللغة العربية وتفسيره بالعربية أمام المسلمين الأجانب لتيسير معرفتهم بها، ثم تفسير بلغتهم معتمد من لجنة علمية، وقد كتب الإيرانيون تفسيرا للقرآن [ الكريم] طبع في هامش المصحف الشريف، وكذا فعل الأفغانيون والباكستانيون.
3) – تصحيح ما أسموه تراجم للقرآن [ الكريم] في اللغات الأوروبية، وبيان أوجه الخطأ فيها.

نماذج من الترجمة الفارسية:
ليس الغرض عنا عرض دراسة تفصيلية لترجمة معينة - فالمجال لا يسمح بذلك- ولكن الهدف من عرض هذه النماذج هو بيان القصور الواضح في المعاني المُتَرجَمَة، مما يوضح حاجتنا إلى ترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم تسد النقص وتصحح الأخطا.
وقد اعتمدت في عرضي لهذه النماذج على نسخة من الترجمة الفارسية للقرآن [الكريم] المطبوعة في طهران عام 1366 هـ بخط حسن بن عبد الكريم هريسي وترجمة الحاج شيخ مهدي الهرقمشة اى، والنص مكتوب في الصفحة اليمنى والترجمة مطبوعة في الصفحة المقَابِلَة، وهي بترتيب القرآن [ الكريم] المطبوع في مصر، وقبل كل سورة يذكر اسم السورة ويبين إن كانت مكية أو مدنية، وعدد آياتها، وللأسف توجد في النسخة أخطاء.
وإذا حاولنا تقييم هذه النسخة نقول بداية أنها ليست ترجمة حرفية، وإنما هي ترجمة للمعنى كما سيتضح من النماذج، كما أن التراجم الفارسية بصفة عامة لا توجد الأخطاء الجسيمة التي نصادفها في التراجم الأوروبية التي تعتبر القرآن [ الكريم] كتابا ألفه محمد بن عبد الله [ صلى الله عليه وسلم]، ويحرفون فيه ويعتبرون أن له مصادر يهودية ونصرانية، ويتخبطون في الحديث عن التكرار في القرآن [ الكريم] وعن ترتيب آياته، ويرجع ذلك غلى أن المترجم الإيراني شخص مسلم يؤمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وأن القرآن [ الكريم] هو كتاب الله أنزله على عباده ليهديهم سواء السبيل.
وأول ملاحظة على هذه الترجمة هو أن المترجم لم يستطع أن يدلي برأي في فواتح السور، ففي أول سورة البقرة ترجم { آلـم} " ازر موز قرآنست " أي من رموز القرآن [ الكريم]، وفي أول سورة آل عمران ترجم { آلـم} " از حرف مقطعة اسرار قرآنست وهركس بان اطلاع ندارد" أي أنها حروف من أسرار القرآن [ الكريم] ولا يعلم بها كل شخص، وفي أول سورة يونس ترجم { آلـر} " از اسرار وحى الهي است" أي من أسرار الوحي الإلهي، وفي أول سورة هود ترجم { آلـر} قائلا: " أسرار ينحروف نزد خدا ورسول است" أي أن أسرار هذه الحروف عند الله [ عز وجل] والرسول [ صلى الله عليه وسلم]، وفي أول سورة الرعد { آلمـر} لم يترجمها ولم يكتب تفسيرا لها.
وفي أول سورة مريم { كهيعص} قال: " اينحروف اسرار يست ميان خدا ورسول" أي أن هذه الحروف أسرار بين الله [ عز وجل] والرسول صلى الله عليه وسلم.
أما عن ترجمة الآيات فسنعرض بعض النماذج لنبين ما تفعله الترجمة بالأصل من إضاعة للمعنى، واختلاف في الترتيب، وغير ذلك من الخلل، ففي سورة البقرة الآية 34 نصها [ يقول سبحانه وتعالى]: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } نجد الترجمة تقول: " وجون كفيتم فرشتكان راكه سجده كنيد برآدم همه سجده كرد ند مكر شيطان كه ابا وتكبر كرد واز فرقه كافران كرديد" أي عندما قلنا للملائكة أسجدوا على آدم سجدوا جميعا إلا الشيطان الذي أبى وتكبر وأصبح من فرقة الكافرين.
وفي سورة القلم الآية 9 نصها[ يقول سبحانه وتعالى]: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} ترجمها بقوله " كافران بسيارما يلند كه توبا آنها مداهنه ومرار اكنى تا آنها هم بنفاق باتو مدار كنند"
أي أنه أضاف إليها من المعنى الذي فهمه فقال إن الكافرين يميلون إلى أن تداهنهم وتنافقهم حتى يعاملوك أيضا بالنفاق والمكر، والآية ليس فيها مكر ولا مداهنة ولا خداع، ولكن المعنى المراد هو المرونة في الدعوة بمعنى التنازل عن بعض ما يطالبهم به ، والتقابل معهم في نصف الطريق كما يقال.
وفي سورة الماعون الآية رقم 5 ونصها [ يقول سبحانه وتعالى]: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } ترجمها " ...كه دل ازياد خدا غافل دارند" أي الذين يغفل قلبهم عن ذكر الله، فلم يذكر الصلاة في الآية وهي المقصودة، فالتهديد في الآية السابقة [ لها] " فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} موجه لمن يسهو عن الصلاة ويتكاسل عنها ولا يؤديها، أي تارك الصلاة.
وفي سورة البقرة الآية رقم 7 ونصها [ يقول سبحانه وتعالى]: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ترجمها بقوله: " قهر خدا برد لها وكوشها ايشان مهر نهاده وبر ديده هاشان برده افكنده كه فهم حقايق ومعارف الهى را نميكنند وايشان رست عذابى سخت" وواضح أن الترجمة فيها زيادة على النص فيقول إن قهر الله قد ألقى على قلوبهم وآذانهم خاتما، وألقى حجابا على أبصارهم فهم لا يفهمون الحقائق والمعارف الإلهية، ولهم عذاب شديد.
وفي سورة البقرة الآية رقم 18 ونصها [ يقول سبحانه وتعالى]: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } ترجمها على النحو الآتي: " آنان كر وكنك وكورند واز ضلالت خود بر نميكر نند" ونلاحظ الفرق الدقيق بين اللغتين والتي وضحت في الترجمة، فقد تم إلغاء في ( فهم) بالواو وهذا لا يعطي المعنى المراد، لأن الفاء تفيد السببية والمعنى المستفاد من الآية إنهم لا يرجعون إلى الصواب لأنهم صم بكم عمي، أما الترجمة فتفيد أنهم صم بكم عمي وهم لا يرجعون إلى لصواب ولا شك أن ذلك يخالف النص.
وبعد فهذه بعض النماذج مما وقع لنا في الترجمة الفارسية، وهي كافية فيما أعتقد للقول بأنها تحتاج إلى فحص دقيق شامل، فقد رأينا أنه يغير في ترتيب كلمات الآية، ويترجم ما يفيد السببية بما يفقده معناها، ويترجم الجمع بالمفرد والماضي بالمضارع، ويغفل بعض أجزاء النص فلا يترجمه ولا يشير إليه، ويضيف أحيانا إلى النص كلمات تفسيرية من عنده لتوضيح المعنى.
 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المحاضرة الثالثة: " الأخطاء التي تتضمنها ترجمات وتفاسير القرآن [ الكريم] بصدد بعض الآيات التي لها صلة بالعلم الحديث" .
الدكتور موريس بوكاي
الرئيس السابق لعيادة الجراحة بالجامعة الفرنسية
وعضو الجمعية الفرنسية للأمراض الباطنية – فرنسا.

(( لقد كنت في السنة الماضية أجهل بطبيعة الأمر الموضوعات التي وقع عليها الاختيار لتكون مدار المناقشة في هذا الملتقى، ولذلك تقدمت لكم ببعض الملاحظات بخصوص مضار بعض ترجمات وتفاسير القرآن [ الكريم] في مجموعه بالغرب، وكنت قد تعرضت باختصار في عرضي الوجيز إلى الأخطاء المتعلقة بالآيات التي تلفت بصورة خاصة انتباه رجال العلم في عصرنا الحاضر، وجاء برنامج ملتقى هذه السنة الذي شرفني السيد وزير الشؤون الدينية [ الشيخ عبد الرحمن شيبان حفظه الله ] بدعوتي إليه، وإني له على ذلك من الشاكرين، جاء برنامج هذا الملتقى إذن ليثير في ذهني فكرة العودة إلى هذه المسألة بصدد الآيات التي تتصف بهذه الخصوصية.
وإني التمس منكم المعذرة إذا ما تضمن عرضي اليوم تكرارا لبعض ما سبق أن عرضته على مسامعكم في السنة الماضية، لأني أرى انه من الأهمية بمكان أن يعود المرء إلى التنبيه إلى المضار التي تنجر عن هذه الترجمات أو التفاسير غير الصحيحة.
ويمكن أن تظهر هذه المضار في العالم الإسلامي وخاصة لدى الطلاب، ولدى الذين أصبحت لهم في يومنا هذا لحسن الحظ معارف في المسائل العلمية لأنهم لا يؤمنون بفعل بعض التفاسير غير الملائمة أن يفترضوا وجود تناقض ما بين القرآن [ الكريم] والعلم، والحال أنه لا وجود لهذا التناقض، غير أن الأضرار قد تلحق أيضا بنفس الطريقة، أي معرفة صحيحة بالقرآن [ الكريم] وبالإسلام في البلاد غير الإسلامية، لأنه غالبا ما تنتشر فيها – للأسف الشديد – أفكار خاطئة عن القرآن [ الكريم] والإسلام، ولا بد من الاجتهاد في تصحيحها.
اسمحوا لي أن أقدم لكم بهذا الصدد مثالا مميزا للغاية بخصوص ما جرت عليه ترجمة كلمة " علق " المأخوذة من سورة العلق (الآيتان 1 و2).
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ () خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }
فكلمة " علق " في الترجمات الانجليزية والفرنسية للقرآن [ الكريم] تترجم بجلطة دم أو الدم المتخثر أو التصاق واتصال دموي، إلا أن جلطة الدم أو الدم المتخثر هي الترجمة المفضلة في الغالب على ما أظن لدى المؤلفين، فهؤلاء غالبا ما يبرزون في تعاليق كتبهم أهمية أول ما أوحى الله به على رسوله [ صلى الله عليه وسلم]، وبإمكانكم أن تقرؤوا مثلا في ديباجة ترجمة نشرت أخيرا بشمال افريقية أن الآيات الأولى من هذه السورة المترجمة إلى الفرنسية تلح على مدى تأثيرها في نفسه، وسترون أن كلمة "علق" قد ترجمت هنا " بجلطة لاصقة".
تصوروا لحظة واحدة ماذا يمكن لرجل غربي لا يحمل أية نية سيئة محو الإسلام والقرآن [ الكريم] – وصدقوني فإنهم كثيرون- ويسعى لأن تكون له فكرة صائبة عن القرآن [ الكريم] استنادا إلى ترجمة قام بها رجل مسلم، ماذا يمكن لهذا الرجل الغربي إذا كانت له معارف أولية في علم الأحياء أن يفكر حين يجد نفسه أمام ترجمة كهذه لكلمة " علق" ، فهو يقرأ في فاتحة هذه الترجمة أن القرآن [ الكريم] كلام الله [ سبحانه وتعالى] أوحى به إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم]، ثم يسجل في الوقت ذاته أن الله أيد القول بان أصل الإنسان هو " جلطة لاصقة" والحال أن هذه الفكرة لا سند لها حسب المعطيات الثابتة لعلم الأحياء ، فحينئذ كيف يمكن للقارئ ، إذا كان له ابسط إلمام بالمنطق أن يصدق بان الله أوحى بما نعلم تمام العلم انه غير صحيح؟ فما النتيجة التي يخرج بها هذا القارئ من قراءته؟ وإني ناقل لكم ما حدثني به بعض رجال الغرب (( كيف يمكن لكم أن تؤيدوا في هذه الحالة – كما سمعتهم يقولون – أن يكون القرآن [ الكريم] كلام الله؟ إن هذا مستحيل أمام هذه التأكيدات )) وأضيف بان الترجمة السيئة قد تعهدت هذا الغموض بالرعاية إلى درجة أن المؤلف أوضح في تعاليقه على هذه السورة التي جعل عنوانها " جلطة دم " أن (( هناك إشارة إلى العلم في الآيات الثماني الأولى التي كانت موضوع هذا الوحي الأول))
وحسبنا كما ذكرت ذلك في كتابي " التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث" أن نعطي لكلمة " علق" معناها الأول " شيء يعلق" لكي يظهر التطابق واضحا مع المعطيات العلمية، بينما المعاني المشتقة مثل " جلطة دم، الدم المتخثر، الجلطة اللاصقة ...الخ " إنما هي تعابير تفيد المعاني المشتقة.
ومن الترجمات الانجليزية للقرآن [ الكريم] التي أرجع إليها واستفيد منها في نواح أخرى ما يتضمن نفس الأخطاء.
وثمة مجموعة ثانية من الآيات لا يفهم معناها في الترجمات والتفاسير وإني مورد لكم مثالا يجسد مدى ضرورة امتلاك المرء للمعارف العلمية قبل أن يقدم على أي ترجمة صحيحة لها، وهي مأخوذة من سورة النحل الآية 66، قال الله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِين}.
وإليكم بعض الترجمات التي ترجمت بها الآية في فرنسا: (( ستجدون عبرة ودرسا في قطعانكم، فنحن نسقيكم مما يحتل مكانا وسطا في أحشائها بين العصارة الغذائية والدم، لبنا صافيا لذيذا طعمه)).
أعتقد أني على دراية بحكم مهنتي بتشريح ما في البطن وتركيبه الفيزيولوجي، فأنا لا أميز بحال من الأحوال ما يمكن أن يكون وسطا بين العصارة الغذائية والدم، فهذه الترجمة لغو من الكلام.
ودونكم ترجمة أخرى لا يمكن أيضا حيث اللبن يتأتى (( مما هو في البطون بين أغذية مهضومة والدم)).
يقول أحد مترجمي شمال أفريقيا بصدد لبن النعام في كتابه وبخصوص هذه الآية: (( نحن نفجر لكم من أحشاء هذه الأنعام ومن خلال (كذا) العصارة الغذائية من جهة، والدم من جهة ثانية، لبنا تشربونه الخ...)).
فليس لهذه الترجمة أي معنى من الناحية التشريحية والفزيولوجية.
ولكي نترجم هذه الآية ترجمة صحيحة، كان علينا أن لا نعتبر كلمة " من بين" تعني " من بين أشياء أخرى" أو " بين " فحسب، بل إن العبارة قد تعني أننا نقابل بين شيئين أو شخصين، وحينئذ تبدو الترجمة المقبولة للآية المذكورة على النحو التالي: (( نسقيكم مما في داخل أجسامها ويتأتى من الاتصال بين ما تحتويه الأمعاء من الفرث والدم لبنا صافيا سائغا للشاربين)).
وهي ترجمة قريبة جدا لما قدمه "المنتخب" الصادر في القاهرة سنة 1973م.
وهذه الآية إذا ما ترجمت كما ينبغي، تفصح في جملة واحدة عن ظاهرة الامتصاص الهضمي في مستوى الأمعاء، وهو ما أكتشفه علم الفزيولوجيا أو وظائف الأعضاء الحديث.
لقد كان لي شرف تقديم هذا المقطع من القرآن [ الكريم] سنة 1976م إلى أكاديمية الطب الوطنية في باريس [ فرنسا] مشفوعا ببيانات من الكتاب تتعلق بالإنسان.
إن الترجمة الصحيحة لهذه الآية لتجعل كل عالم في وظائف الأعضاء صادق النية ونزيه، يعلن بأنه لا يمكن أن يكون ثمة تفسير بشري لوجود مثل هذا القول الثابت في نص جاء إلى الناس قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، فالترجمة الصحيحة وحدها تقترح هنا إذن الطابع الإلهي للقرآن [ الكريم]، وبأنه وحي من الله، فأي تفسير أخر يمكن أن نتصوره أمام مثل هذه الأقوال الثابتة التي تتفق مع الاكتشافات الحديثة؟
وفي الكتاب أمثلة أخرى درستها، ولا سيما ما يتعلق منها في القرآن [ الكريم] بظواهر التناسل، غير أني أنصحكم في هذا المجال بالرجوع إلى الكتاب الذي نشرته سنة 1976م.
ونحن واجدون في مجموعة ثالثة من الآيات أن المعنى كان مستوفى على نحو مفهوم، ولكنه غير صحيح، ولذلك نجد أن الترجمة لا تبرز المعنى الحقيقي الذي لم يمكن تمييزه إلا في العصر الحديث، وقد أخفت هذا المعنى تأويلات تقليدية، إن صح التعبير، ترجع إلى عدة قرون، أو كان السبب في خفائها أخطاء لسانية ( لغوية) سأبينها لكم فيما يلي:
إن كلمة "يسبحون" وردت مرتين في القرآن [ الكريم] في سورتي الأنبياء الآية 33، وفي يس الآية 40، وبالنسبة لسورة يس جاءت هذه الكلمة في الآية: { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والمقصود هو حركات الشمس والقمر في الفضاء، ولم أجد فيما أملكه من الترجمات الفرنسية العديدة لكلمة " سبح " إلا معنى اندفع فوق الماء، أو عام أو أبحر أو تحرك، وما من شيء يتحدث عن المعنى الأصلي للكلمة الذي يقتضي حركة خاصة بالجسم مقرونة بتنقله، فمعناها السباحة حين يتم الانتقال في الماء، ومعناها الانتقال بحركة الرجلين أو الأرجل عندما يتم هذا الانتقال في البر، فالمعنى الأصلي للانتقال بحركة خاصة يترجم حركة الفلك على ذاته، ذلك الفلك الذي ينتقل وهو يسير في مدار في الوقت ذاته، فحركة الفلك على ذاته – الشمس والقمر- يعلمنا إياها العلم الحديث، وعلى ذلك فلا بد من ترجمة الكلمة بالرجوع إلى معناها الأصلي، على أن هناك قاعدة عامة لم تتخلف في وقت من الأوقات أثناء دراستي للقرآن [ الكريم]، وهو أنه كلما استعملنا المعنى الأصلي، أي أقدم المعاني في هذه الآيات، أعاننا ذلك على اكتشاف التطابق مع المعرفة العلمية الحديثة.
ومن الأمثلة الأخرى على ذلك كلمة " سلالة" التي وردت مرتين في القرآن [ الكريم] في سورة المؤمنون الآية 23، وفي سورة السجدة الآية 8، وتقول الآية في السورة الأخيرة: { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }
فالسلالة يراد بها الجوهر والخلاصة، إي الشيء المستخلص من الشيء الأخر، وأفضل أجزاء شيء من الأشياء، والكلمة تفيد أن شيئا ما يمكن استخراجه من سائل، والسائل هنا موصوف بأنه مهين، ولعل ذلك لأنه صادر من العضو الذي يخرج منه البول- السائل الفضلة- إلا أن السائل المنوي المقصود هنا يحتوي على الحيوانات المنوية التي لا يمكن أن ينصرف ذهننا عنها حينما توحي كلمة " سلالة" خلاصة ما، أو جوهرا ما يستخرج من سائل.
ولقد كانت هذه الفكرة مجهولة زمن نزول القرآن [ الكريم]، إلا أن هذه الفكرة لا تترائي للذهن أبدا إذا ما ترجمنا هذه الكلمة – كما هو الأمر في معظم الترجمات – بتعابير مثل ( ابتداء من ... ) دون أي توضيح أخر كما لو كانت كلمة " سلالة " لا وجود لها في النص.
وأدهى من ذلك، وأمَّرُ أن نلاحظ معاني مختلفة تعطى حسب المقام لكلمة واحدة، من ذلك على سبيل المثال كلمة " زوج" التي جمعها " أزواج" فقد وردت في ترجمة بالفرنسية نشرت في شمال إفريقيا مرة بمعنى " زوجين " ومرة بمعنى " نوع" وكذلك الأمر بالنسبة إلى ترجمات عديدة جارية بفرنسا، وقد بحثت دون جدوى عن الترجمة الجيدة التي هي عنصر من زوجين بصدد كلمة " زوج" فهذه الكلمة تنعت وحدة أيا كانت، فردا من زوجين سواء أكان الأمر يتعلق بزوجين " رجل وامرأة" أم بزوج قفاز [ اليدين ] فنحن نستعمل المثنى حين نتحدث عن قرينين لأن الزوجين قوامهما وحدتان اثنتان أو عنصران اثنان.
و القرآن [ الكريم] ذاته يقدم لنا المعنى الدقيق في الآيتين 45 و46 من سورة النجم: { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى () مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى }.
وحيث أن كلمة "زوج" ومثناها وجمعها قد تحددت هنا بوضوح، فإننا عندما نقرأ الآيات الثلاث الآتية نكتشف تأكيدا في القرآن [ الكريم] لوجود حياة جنسية لدى النبات، وهذا من مفاهيم علم النبات التي لم يعرفها الناس إلا بعد اكتشاف المجهر, فنحن نقرأ بالفعل في سورة لقمان الآية 10 حيث المقصود هو الأرض: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } ومن البديهي أن المراد هنا إنما هو النبات.
كما نقرأ في سورة الرعد الآية 3 والكلام هنا يدور على الأرض أيضا: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ }.
وفي سورة يس تمنحنا الآية 36 حديثا أوضح عن عنصري الزوجين في النباتات ولدى الإنسان على السواء: { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ }.
فهذه الآيات الثلاث التي تسترعي كثيرا انتباه العارفين بتاريخ علم النبات، لا أجد فيما قرأته من الترجمات الفرنسية لها أي إشارة إلى ما للنبات من حياة جنسية، ومع ذلك فإنها من الأمور البديهية جدا، إلا أن الترجمات غير الصحيحة تخفيها.
فما العبرة التي نستخلصها من هذه الملاحظات؟
سأكرر هنا – إذا سمحتم لي – أفكارا ومقترحات سبق لي أن عرضتها أثناء ملتقى السنة الماضية
وهو أنه:

- لا يمكن لأحد أن يدعي القدرة اليوم على تقديم ترجمة أو تفسير صحيحين لعدد من آي القرآن الكريم ما لم يكن ذا ثقافة علمية، لكن الغالبية العظمى من المفسرين والمترجمين المحدثين للقرآن [ الكريم ] هم من ذوي الثقافة الأدبية، ومن الذين يعوزهم التكوين العلمي، أقول " الغالبية العظمى" لأن هناك استثناءات موفقة.
على أن هناك واقعا ثابتا، وهو أن معظم الترجمات الجارية تتضمن مقاطع فيها بعض الآيات التي تشير إلى معطيات لها صلة بالمعارف الحديثة، ولكنها معروضة على نحو يجد فيها القارئ – بسبب أخطاء في الترجمة – تأكيدات مخالفة لما يثبته العلم الدنيوي بما لا مجال فيه للشك، ومن السهل أن تتصوروا إذن مدى الفرصة التي يستغلها في الغرب أولئك الذين ينشدون من كل جانب حججا تدعم أطروحاتهم المتمثلة في أن القرآن [ الكريم] هو من صنع رجل عاش في عصر لم يكن فيه العلم قد نما وتطور، ولذلك أخطا حين تحدث عن بعض وقائع معروفة لدينا اليوم كل المعرفة.
وحاصل القول هو أن أخطاء القرآن [ الكريم ] هذه في نظرهم تماثل الأخطاء التي ارتكبها على هذا الأساس مؤلفو كتب التوراة والإنجيل، ذلك ما نسمعه ممن نصبوا أنفسهم للقدح والتجريح [ والتشكيك ].
- لم تكن هذه المسائل في الواقع بذات أهمية في الماضي، ولا حتى في يومنا هذا، لأنه ليس لنا أن ننشد في القرآن [ الكريم ] صيغا أو مواصفات عليمة، فالقرآن [ الكريم] كان ولا يزال كتابا دينيا في غاية الجودة، وإذا كان هذا الكتاب يتضمن كلاما عن ظواهر طبيعية أصبحت اليوم في متناول الفهم البشري بفضل معطيات من المعارف الثابتة صحتها، فذلك بهدف لفت أنظار الناس إلى هذه الظواهر، إنه بصورة ما ضرب من التعبير الإضافي عن القدرة الإلهية.
ماذا يهم إذا كنا في الماضي لا نعطي لبعض الآيات في تفاسير القرآن [ الكريم ] أو ترجماته إلا المعنى الظاهر ما دام الإنسان كان سيستشعر فيها عظمة الخالق وقدرته؟ إلا أن التقدم العلمي اليوم هو بحيث للمرء بإدراك معطى أخر من المعطيات زيادة على ذلك، وبفهم المعنى الحقيقي للكلمة، وحينئذ فنحن نجد لهذه الآيات دلالتين اثنتين: الدلالة الأصلية أي الطابع الديني للتفكير، إذ أن جميع هذه الآيات تتحدث عن دلائل القدرة الإلهية ، والدلالة الثانية هي الإشارة إلى معطى من معطيات العلم، وهذا له أهمية لأنه يقود كل عالم نزيه إلى الاعتراف بالطابع السماوي للبيان القرآني.
- إن الترجمة السيئة لهذه الآيات تؤدي إما إلى جهل القارئ لهذه الوقائع، أو أنها – وهذا أخطر – توحي خطأ بأن القرآن [ الكريم ] قد يتضمن أقوالا مخالفة للحقائق العلمية الأولية الثابتة، أو أمورا لا تصدق، هذا أن لم تكن لغوا واضحا من الكلام.
وبناءا على ذلك فإن الترجمات التي أنجزها اليوم ذوو الثقافات الأدبية لعدد لا يستهان به من البيانات القرآنية التي لها صلة بالمعارف الثابتة علميا، قد تساهم في إصدار أحكام خاطئة على القرآن [ الكريم]، ومثل هذه الوقائع تطرح مسألة القيام بمراجعات الترجمات أو التفاسير التي قام بها ذوو الثقافة الأدبية الذين لا يملكون المعارف الدنيوية اللازمة في يومنا هذا، للقيام بأية ترجمة صحيحة أو تفسير قويم، وذلك بمساعدة المعطيات العلمية اليقينية.
على ذلك يتوقف الطابع الملائم للإعلام المبذول بصدد هذه الوقائع من القرآن [ الكريم] أكان ذلك في العالم الإسلامي أم في العالم غير الإسلامي الذي تنتشر فيه مفاهيم وتصورات خاطئة عن الإسلام وكتابه المبين.
حقا إنه ليس من قبيل الإمكان توفير ترجمة وافية للقرآن [ الكريم] بالمعنى الدقيق للكلمة، غير أنه بمقدور الإنسان مع ذلك أن يعرض النص القرآني في ترجمة أقرب ما تكون إلى الكمال على من لا يعرف اللغة العربية.
- تلك هي الوقائع التي أرى من المستحسن عرضها عليكم في نطاق النقطة الثانية من البرنامج ، لأنها – على ما يبدو لي – مدعاة للقيام بمراجعة التفاسير أو الترجمات القائمة لهذه الآيات، ومثل هذه المراجعة قد تتطلب الرجوع إلى رجال العلم في الموضوعات التي تهمهم والواردة في القرآن [ الكريم].
إن القيام بعرض مقاطع من القرآن[ الكريم] على هذا النحو قد يستجيب لبعض الإغراءات التي يشعر بها الناس هنا وهناك عندما يكون العلم معنيا بالنسبة إلى ما هو معقول، ومشيّد وموضّح.
إن التدابير من هذا القبيل هي وحدها الكفيلة - على ما يبدو – بتوضيح حقيقة محتوى عدد كبير من آيات القرآن [ الكريم] توضيحا كما يليق بعصرنا.
 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
المحاضرة الرابعة: " ترجمة القرآن الكريم"
الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي
مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية
التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي باسطنبول تركيا

عرف المسلمون ترجمة القرآن الكريم إلى لغات المسلمين من غير العرب منذ بداية الدعوة الإسلامية، وهذا أمر طبيعي لنقل المعاني الواردة في المصدر الأول للإسلام لكي يتعلم منه المسلمون أصول دينهم ومبادئ عقيدتهم. فقد ذكرت بعض كتب الفقه وخاصة كتب الفقه الحنفي (( روي أن الفرس كتبوا إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية)) (1)
وزادت بعض المراجع الفقهية أن سلمان الفارسي عرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك(2).
ومنذ ترجمة سلمان الفارسي رضي الله عنه لفاتحة الكتاب والقرآن الكريم يترجم إلى اللغات الأخرى الإسلامية وغير إسلامية.
وسوف أتناول في هذا البحث أمرين، الأول قضية الترجمة من الناحية الفقهية، مشيرا باختصار إلى آراء الفقهاء المختلفة واعرض لما استقر عليه جمهورهم، والثاني تاريخ الترجمة وخاصة في بدايتها ، مع الإشارة إلى أوائل الترجمات، ثم أبين الحاجة إلى إعداد دراسة ببليوغرافية شاملة لترجمات لقرآن الكريم المخطوطة منها والمطبوعة حتى يتسنى لنا أن نقدم المادة الأولية اللازمة لكتابة تاريخ ترجمة القرآن [الكريم] على نحو دقيق لم يتم حتى الآن.

- مسألة ترجمة القرآن الكريم من الناحية الفقهية:
نظر الفقهاء إلى مسألة ترجمة القرآن [الكريم] من زاويتين، الأولى هي ترجمة القرآن [الكريم] إلى اللغات الأخرى ترجمة بمثابة التفسير والتوضيح، لنقل معانيه وإعلام غير العرب من المسلمين بما جاء فيه، وقد أجاز الفقهاء كلهم هذا النوع من الترجمة بل حبذوه لأن فيه نشرا لرسالة الإسلام، ولا داعي للاستطراد في هذه المسألة البديهية هنا.
أما الزاوية الثانية التي نظر منها الفقهاء وخاصة الأحناف، فهي مسألة قيام الترجمة مقام الأصل(3)، (4)، ففي هذه المسألة لم يجز أي من فقهاء الشافعية والمالكية والحنابلة قيام الترجمة مقام الأصل، وأنفرد الإمام أبو حنيفة برأيه في جواز الصلاة بالترجمة الفارسية رغم كراهيتها وذكر صاحباه أنه يجوز إذا كان لا يحسن العربية، وإذا كان يحسن العربية لا يجوز ذلك.
وقد حفلت كتب الفقه الحنفي بالكثير حول هذه المسألة، وأغلب الأحناف يرون أن رأي الإمام مرجوع إليه، وإن أكد البعض مثل الإمام علاء الدين الكاساني صاحب " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " على رأيه في الجواز، ولعل كثرة انتشار المذهب الحنفي بين غير العرب من الأتراك والهنود وغيرهم هي السبب في اهتمام فقهاء الحنفية بهذه المسألة.
وفي منتصف القرن الرابع الهجري أي ما يوافق الثلاثينات من هذا القرن الميلادي، كثر النقاش حول مسألة ترجمة القرآن الكريم وجواز قيام الترجمة مقام الأصل.
وقد انقسم الرأي في هذا الموضوع بين من أجاز وبين من لم يجز، وقد هدف الذين أجازوا قيام الترجمة مقام الأصل إلى ما يلي:
أ‌- تأكيد فهم القارئ غير العربي معنى ما يقرأ في الصلاة، وقالوا إن كون الصلاة عبادة حية يتوقف على هذا الفهم.
ب-الحاجة إلى إزالة الحاجز اللغوي بين المسلم غير العربي وبين القرآن [الكريم] وتقديمه له بنصوص مترجمة ليكون على بينة من دينه.
ج- عدم حبس القرآن [الكريم] في الدائرة العربية لكون الإسلام دين عالمي.
وقد أعتمد القائلون بجواز قيام الترجمة مقام الأصل على الأدلة التالية:
- قول الإمام أبي حنيفة بجواز القراءة بالفارسية مطلقا.
- قول صاحبيه بجواز القراءة بالفارسية للعاجز عن قراءة القرآن [الكريم]
- تفريق المتكلمين بين الكلام اللفظي والكلام النفسي عند قولهم بأن القرآن [الكريم] كلام الله غير مخلوق.
ومن بين الدعاة إلى جواز قيام الترجمة مقام الأصل في الصلاة الشيخ محمد مصطفى المراغي(5) شيخ الجامع الأزهر والأستاذ فريد وجدي الكاتب المصري(6)، ومن الذين عارضوا هذا الاتجاه الشيخ التفتازاني والشيخ أحمد محمد شاكر وشيخ الإسلام مصطفى صبري.
وخلاصة رأي الشيخ المراغي في هذا الموضوع هو أولا: " ترجيح رأي قاضيخان [كذا] ومن تابعه من الفقهاء وهو وجوب الصلاة بترجمة القرآن [الكريم] للعاجز عن قراءة النص العربي... لأن الترجمة وإن كانت غير القرآن [الكريم] باتفاق، تحمل معاني كلام الله، ومعاني كلام الله ليست ككلام الناس، ومن عجيب أن تسلب من معاني القرآن [الكريم] صفاتها وجمالها وتوصف بأنها من جنس كلام الناس بمجرد أن تلبس ثوبا أخر غير الثوب العربي :ان هذا الثوب هو كل شيء".
ثانيا: " والتراجم لا يصح أن تسمى قرآنا [ كريما] ولكن سلب هذه التسمية لا يستلزم سلب جواز استخراج الأحكام منها، لأن الأحكام تستفاد من المعاني التي هي مدلولات الألفاظ العربية، والمعاني يصح نقلها إلى اللغات"
كما يمكن تلخيص رأي فريد وجدي بعبارته هذه: " أن القرآن [الكريم] معجز بحكمه وأصوله ومذاهبه لا بألفاظه ومبانيه، وهو لم يتحدى أحدا ببلاغته، وإنما تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله في حكمته وشرعه"(7)
ودعا فريد وجدي إلى الترجمة الحرفية حيث قال: " إن تعطيل القرآن [الكريم] عن الترجمة الحرفية والزج به في معترك الإفهام إلى اليوم قضى عليه بأن لا يكسب أنصارا من الأمم الغربية، فصار مقصورا على الأمم الشرقية التي رضيت أن يكون حظها من دينها كحظ الببغاء" (8)
وفي الرد على أصحاب هذا الاتجاه فند شيخ الإسلام مصطفى صبري حججهم المستندة على رأي أبي حنيفة، وبين مستدلا بأمهات كتب الحنفية رجوع الإمام عن رأيه، وأكد أن تعريف القرآن [الكريم] عند الأصوليين وهو النظم العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المنقول عنه تواترا بين دفتي المصحف لا ينطبق على الترجمة، ويبين أنه لا يمكن استنباط الأحكام من التراجم والاجتهاد فيها كاستنباط الأحكام من القرآن [الكريم] والاجتهاد فيه.
وهو يقول: " إني لا أرى خيرا قط في هذه الفكرة، فكرة تحويل وجوه المسلمين غير العرب إلى التراجم وترجيحها لهم، فلو كان السلف الصالح من علماء الإسلام في هذه العقلية وزينت لهم هذه الفكرة لما بقي القرآن الكريم في أيدي الشعوب المسلمة غير العرب، بل احتمل أن يترجمه العرب ترجمة عربية أقرب إلى إفهام عامتهم، فيفقد القرآن [الكريم] تواتره العام، وينقلب كتابا يرجع إليه الخواص عند اللزوم أو يحفظ في دور الآثار، ولكن الله سلم أئمة الدين من هذه العقلية، وألهمهم الاهتمام بنظم القرآن [الكريم]، ذلك الاهتمام الذي جعلهم يعرفون القرآن [الكريم] بالنظم العربي المنزل المنقول فيما بين دفتي المصاحف تواترا، وألهم البت بأن غير المتواتر ليس بقرآن [كريم] حتى يكفر من أنكر ما هو من القرآن [الكريم]، ويكفر من ألحق بالقرآن [الكريم] ما ليس منه، فحرسوا القرآن [الكريم] بسياجين فولاذيين من النفي والإثبات أن يداني ساحته الشك والريب، أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، وكان هذا الاهتمام بحفظ القرآن [الكريم] مطلوبا عند الشارع حتى جعله وحيا متلوا، فأوجب قراءته في الصلوات الخمس، ووعد الثواب لتلاوته والنظر إلى صحائف مصحفه من غير اشتراط فهم المعنى للتالي والناظر، فبفضل تحديد النظم للقرآن [الكريم] تقررت وحدته وقضي على الاختلاف فيه وتخلص النص المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم عن مزاحمة النصوص الملحقة به، ووحدة كتاب الإسلام نعمة عظيمة على المسلمين لا تعد لها فائدة فهم العامة الناقص معنى القرآن [الكريم] عند تلاوة التراجم" (9)
ثم يوجز دراسته المستفيضة بقوله: " وتلخيص الكلام أن في القرآن [الكريم] نظرين: نظر الفقهاء، ونظر المتكلمين، فعلى نظر الفقهاء وتعريفهم فإن القرآن [الكريم] عبارة عن النظم والمعني، وهما جزءان للقرآن [الكريم] لا فرق بينهما في جواز إخلاء القرآن [الكريم] من احدهما بل أكثر ما يدور تعريفه على أوصاف النظم، ولا يفهم من هذا عدم اهتمامهم بالمعنى بل أنهم رأوا أسلم طريق محافظة المعنى في محافظة النظم.
وعلى نظر المتكلمين الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي القديم، فليس المراد أن معنى القرآن [الكريم] قديم ولفظه حادث ، وليس هذا إلا غلط من ظن أن معنى ومدلولات لفظه هو ذلك الكلام النفسي القديم، وأن صفة الله القائمة بذاته فتوهم للمعنى مزية على اللفظ في النسبة إلى الله تعالى، والحال أن معنى القرآن [الكريم] ولفظه سيان في كون كل منهما أثر صفة الكلام القديمة لا نفس تلك الصفة، وان الفرق الذي يرى في كلامهم ويجعل الكلام اللفظي دون غيره من حيث الحدوث والقدم، فإنما هو بالنسبة إلى الكلام النفسي يراد به صفة الكلام لا بالنسبة إلى المعنى الذي هو مدلول اللفظ" (10)
وقد استمر هذا النقاش فترة من الزمن، ثم أصدرت جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف فتوى في عام 1355هـ/1936م تبين إمكانية الترجمة التفسيرية واستحالة الترجمة اللفظية، بمعنى استحالة نقل المعاني مع خصائص النظم العربي إلى اللغات الأخرى.
ومهما طال النقاش في هذه المسألة فإن الرأي الذي نستطيع أن نقوله والذي استقرت عليه الأمة، هو أن القرآن [الكريم] عربي والإسلام عالمي، ولا يمكن العبادة أو الاحتكام أو الاجتهاد إلا بالنص العربي، والإسلام دين عالمي أرسل إلى الناس كافة، فلا بد من ترجمة القرآن [الكريم] ترجمات توضح معانيه، وتشرح مقاصده للبشر على اختلاف امة القرآن [الكريم] لسنتهم.
أما ترجمة القرآن [الكريم] ترجمة تعادل أصله فهذا أمر مستحيل، يعرفه من له أدنى خبرة بالترجمة، حيث إن ترجمة أي كتاب لا تعادل أصله، فما بالك بكتاب الوحي المعجز بمعناه ومبناه.
تاريخ ترجمة القرآن [الكريم]:
لا نستطيع أن نقول إن تاريخ ترجمة القرآن [الكريم] قد كتب بدقة، وذلك لأن هذا الموضوع لم يدرس بعد دراسة مستفيضة، كل ما هناك هو معلومات متناثرة في كتب تاريخ التفسير وطبقات المفسرين وغيرها، وفي رأينا أن السبب الرئيسي في عدم وجود مثل هذه الدراسة، هو انعدام دراسة ببليوغرافية شاملة لترجمات القرآن [الكريم] وخاصة المخطوط منها.
ويجدر بالذكر هنا العمل الرائد الذي قام وما زال يقوم به الأستاذ الدكتور محمد حميد الله حيث يرجع إليه الفضل في زيادة هذا الموضوع (11)
وفي مجال العمل حول ترجمات القرآن [الكريم] أود أن أشير هنا إلى ما وصل إليه المركز من معلومات حول دراستين أخريين يجري العمل فيهما الآن:
الدراسة الأولى: ما يقوم به الدكتور حسن المعايرجي من جمع متون الترجمات المختلفة، وانتخاب الصحيح منها والعمل على نشره وهو في عمله المخلص هذا يفضل الترجمات المكتوبة بلغات الشعوب الإسلامية التي لا تجد إمكانية طبع ونشر هذه الترجمات. وقد اطلع المركز على نموذجين من هذا العمل الذي يجمع بين الدقة العلمية والإخلاص الديني، وينسق بين كثير من الجهود والإمكانات في تواضع وصمت، ولذلك أحببت أن أنوه به هنا.(12)
والدراسة الثانية هي جزء من العمل الذي يقوم به الأستاذ علي شواخ اسحاق، وحسب الإيضاحات التي تفضل بإرسالها الأستاذ إلى مركز استانبول فإنه يقوم منذ فترة ثماني سنوات بجمع كل المعلومات الممكنة حول مؤلفات القرآن الكريم، سعيا وراء وضع معجم لمؤلفات القرآن الكريم، ومن بين هذه المؤلفات ترجمات القرآن [الكريم](13).
والجدير بالذكر أن رابطة العالم [ الإسلامي] من خلال مكتبها في باريس، تقوم بالتعاون مع الأستاذ حميد الله على جمع متون ترجمات القرآن الكريم في مختلف اللغات.
ومن غير شك ما يزال هناك متسع كبير من للعمل، ولا سيما في المخطوطات لأهميتها في تحديد أوائل الترجمات، وقد قام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي باستانبول بالتخطيط لمشروع مسح كامل لكل ترجمات القرآن الكريم المخطوطة والمطبوعة على مستوى مكتبات العالم، وبهذه المناسبة أود أن ألفت انتباه السادة العلماء إلى الحاجة لتكثيف الجهود والتنسيق بين مختلف المؤسسات الثقافية في العالم الإسلامي من اجل إنجاح هذا المشروع.
ويمكننا تلخيص المعلومات حول أوائل الترجمات كما يلي:
- هناك ترجمات سريانية قام بها غير المسلمين في عهد الحجاج بن يوسف في النصف الثاني من القرن الهجري الأول(14).
- احتمال وجود ترجمة بربرية مكتوبة سنة 127 هـ (15).
- ترجمة فارسية شفوية قام بها موسى بن سيار الأسواري قبل سنة 255 هـ(16).
- ترجمة هندية كاملة قبل 270 هـ (17).
لأن الترجمات التي وصلتنا عنها معلومات مؤكدة أو تم العثور على نصوصها بالنسبة للغات الشعوب الإسلامية فيمكن تلخيصها كما يلي:
أول ترجمة معروفة لدينا في لغات الشعوب الإسلامية هي الترجمة الفارسية التي تمت في عهد الملك الساماني منصور بن نوح (961- 976م) مع ترجمة مختصرة لتفسير الطبري( المتوفى سنة 923م) وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة: " هذا الكتاب هو الترجمة الكاملة الصحيحة لتفسير محمد بن جرير الطبري رحمه الله إلى اللغة الفارسية، ولقد احضر هذا الكتاب من بغداد القائد المظفر الملك أبو صالح منصور بن نوح بن نصر بن احمد بن إسماعيل رحمه الله، وهو في أربعين مجلدا، ولما حصلت صعوبة في قراءته بالعربية وفهمه أراد أن يترجم إلى الفارسية، لذلك جمع نفرا من علماء بلاد ما وراء النهر واستفتاهم في جواز ترجمته إلى الفارسية فأفتوه بجواز ترجمته ليستفيد منها الذين لا يعرفون العربية استنادا إلى قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (ابراهيم: 4) (18)، وقد تمت ترجمة مختصرة لتفسير الطبري تعادل عشر الأصل من حيث الحجم(19).
وترجمة القرآن الكريم الموجودة في تفسير الطبري هي ترجمة حرفية حيث كتبت الكلمات الفارسية تحت آيات المصحف دون مراعاة لترتيب الجملة الفارسية أو سياق التعبير بها، وقد أعقبت هذه الترجمة ترجمات أخرى كثيرة حفلت كتب تاريخ الأدب الفارسي بذكرها.
أوائل الترجمات التركية:
هناك رأيان حول تحديد ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة التركية، الرأي الأول الذي قال به الأستاذ زكي وليدى طوغان، يرجح أن لجنة العلماء التي قامت بترجمة تفسير الطبري إلى الفارسية كانت تضم علماء أتراكا أيضا قاموا بترجمة القرآن [ الكريم] إلى التركية في نفس الوقت، وأن هذه الترجمة هي ترجمة حرفية على نسق الترجمة الفارسية كتبت بين سطور المصحف(20).
ويذهب أصحاب الرأي الثاني ومنهم الأستاذ محمد فؤاد كوبرلي (21) والأستاذ عبد القادر اينان (22) إلى أن أول ترجمة تركية ظهرت بعد الترجمة الفارسية السالفة الذكر بحوالي قرن من الزمان أي في القرن الخامس الهجري ( الحادي عشر الميلادي).
ولم يعثر بعد على أي من هذه الترجمات، ولكن حسب المعلومات المتوفرة حاليا فإن الترجمة المكتوبة باللغة التركية الشرقية سنة 734 هـ/ 1333م، والمحفوظة في متحف الآثار التركية الإسلامية باستانبول تحت رقم 73 هي أقدم ترجمة تركية وصلت إلينا حتى الآن (23)، ويلاحظ أن هذه الترجمة كتبت على منوال الترجمة الفارسية.
وتوجد هناك معلومات حول ست ترجمات تركية كتبت في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والسادس عشر الميلادي (23 د)، ويلاحظ أن هذه ترجمات حرفية، حيث تترجم كلمات المصحف بين سطوره دون أية زيادة أو توضيح، والقسم الثاني يمكن أن نسميه ترجمات مطولة أو تفسيرا مختصرا.
ومنذ فترة حقق الدكتور أحمد طوبال أوغلى النص الكامل لترجمة تركية مكتوبة باللغة التركية الأناضولية من النمط الأول، كتبها محمد بن حمزة في القرن الخامس عشر الميلادي، ونشره نشرة علمية دقيقة مع دراسة وافية حول الترجمة وأسلوبها ونظرات حول مصادرها(24) وقد استفدنا من هذه الترجمة والدراسة المعقودة حولها الكثير .
ومن الملاحظات الهامة حول أوائل الترجمات التركية أن الاصطلاحات العربية لم تكن قد دخلت بعد بنسبة كبيرة، لذلك نرى المترجمين ينقلون معاني هذه الاصطلاحات بجمل وتراكيب لعدم استطاعتهم نقلها بكلمات مقابلة، ويلاحظ في الترجمات المتأخرة أن كثيرا من الاصطلاحات العربية قد دخل التركية لكي تعبر عن مضامينها الإسلامية التي لم تكن معروفة من قبل لدى الأتراك.
كما يلاحظ أن أسلوب الترجمة في النمط الأول لا يراعي ترتيب الجملة التركية أو سياق التعبير بها، كما هو ملاحظ في الترجمة الفارسية المشار إليها آنفا.
وقد استمرت حركة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية، وهناك العديد من الترجمات المخطوطة، كما ساعد دخول الطباعة على نشر الترجمات، ويلاحظ أن حركة الترجمة قد زادت زيادة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين(25).
أوائل الترجمات في لغات الشعوب الإسلامية الأخرى:
تعتبر اللغات الأردية والملايوية والبنغالية هي أوسع اللغات انتشارا بعد التركية والفارسية، وفي أثناء جمع المعلومات الأولية للعمل الببليوغرافي الشامل الذي يقوم به مركز استانبول توصلنا إلى المعلومات التالية فيما يخص هذه اللغات الثلاث.
اللغة الأردية: لا شك أن اللغة الأردية هي أوسع اللغات الإسلامية انتشارا، وخاصة في شبه القارة الهندية، وهي أيضا من أكثر اللغات الإسلامية التي كَثُرَ فيها التأليف والترجمة في الموضوعات الدينية قديما وحديثا.
ويشير الأستاذ حميد لله في كثير من كتاباته إلى وجود ترجمات كثيرة للقرآن الكريم باللغة الأردية، ولكننا للأسف الشديد لم نعثر في أي من كتاباته على إشارة قاطعة حول بداية ترجمة القرآن الكريم إلى الأردية.
اللغة الملايوية: وهي أصل اللغة الاندونيسية الحديثة، قام عبد الرءوف الفانسوري العالم المعروف في Singkel بمقاطعة Aceh بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الملايوية في منتصف القرن السابع عشر الميلادي (26).
اللغة البنغالية: هناك ترجمة منظومة للجزء الثلاثين قام بها المولوى أمير الدين بشونيا من قرية متك بور مديرية ونغفور مطبوعة بالحروف الخشبية ولم يعلم تاريخ طبعها، ولكن يظن أنها أقدم نسخة باللغة البنغالية(27).
وهناك ترجمة كاملة للقرآن الكريم بالة البنغالية قام بها غريش شوندروشين وهو من الديانة البرهمنية في سنة 1881- 1886م.
ويمكننا أن نقول استنادا إلى مقال الأستاذ السيد علي أحسن المدير العام للأكاديمية البنغالية سابقا، إن تأخر ظهور الترجمات بالغة البنغالية يرجع إلى أن اللغة العربية والفارسية والأردية كانت لغات رسمية وثقافية قبل ظهور الحركة القومية البنغالية، وأن الناس كانوا يتهيبون الترجمة لقدسية القرآن [الكريم]، وأنه بازدياد الحركة القومية وانتشار المطبعة بدأت حركة الترجمة(28).
اللغة الصينية: ترجم الشيخ ليوشي Liuche أجزاء من القرآن الكريم قبل بداية القرن العشرين، ثم تلاه الشيخ مافوشو الذي أكمل عشرين جزءا قبل وفاته.
كما أن منظمة الثقافة الإسلامية في شنغهاي نشرت خمسة أجزاء من معاني القرآن الكريم مترجمة إلى الصينية، وذلك في عام 1927 م، وضاع الباقي خلال الحروب الأهلية بالصين.
وفي عام 1927م قام لي تيك تشيج Lee Tick tsing بترجمة كاملة إلى الصينية، وذلك نقلا عن الترجمة اليابانية المنقولة عن الترجمة الانجليزية ل Rodwell وكانت هذه أول ترجمة كاملة في الصينية(29).
وهناك ترجمات تمت في السنوات الأخيرة إلى اللغات التي بدأت مجموعة من المتكلمين بها الدخول في الدين الإسلامي، مثل اللغة الكورية التي تمت بها أول ترجمة في شهر مايو من هذا العام 1981م (30).
وقد لاحظت في جولة قمت بها مؤخرا في بلاد الشرق الأقصى أن هناك رغبة كبيرة في إعداد ترجمات للقرآن الكريم إلى لغات تلك المنطقة، وعدم الرضا عن الترجمات الموجودة حيث قام أكثر مترجميها بترجمتها عن الترجمة الانجليزية للمرحوم يوسف علي.
وقد نشطت في السنوات الأخيرة الكثير من الهيئات الدينية وعملت على نشر ترجمات مختلفة للقرآن الكريم في للغات الإفريقية، ولم تتجمع لدى المركز بعد معلومات كافية حول هذا الموضوع.
وعلى وجه العموم يلاحظ أن هناك العديد من ترجمات القرآن الكريم إلى مختلف اللغات الإسلامية قام بإعدادها فراد أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية، وهناك معلومات كثيرة حول ترجمات أخرى يتم إعدادها، وهذا يدل دلالة قاطعة على أهمية ترجمة القرآن الكريم، وعلى مدى انتشار الشعور الديني لدى الشعوب الإسلامية من غير العرب، وعلى اهتمامهم بتعلم كتابها المقدس.
لذلك يجب الاهتمام بأمر الترجمة اهتماما يتناسب مع أهميتها، حيث أنها هي الوسيلة الرئيسية لتعريف المسلمين بمصدر دينهم الرئيسي، ومن الجدير بالذكر انه كانت هناك محاولات رسمية لدى بعض الهيئات الدينية كالأزهر الشريف وكرئاسة الشؤون الدينية بتركيا في الثلاثينات للإشراف على مثل هذه الترجمات.
ويلاحظ في السنوات الأخيرة أن الكثير ممن لا تؤهلهم معرفتهم بالعلوم الإسلامية، بالإضافة إلى عدم تمكنهم من اللغة العربية ، قد دخلوا مضمار الترجمة، لذا فإنني أشير هنا إلى ضرورة القيام بنوع من الإشراف الرسمي على هذه الترجمات.
أوائل الترجمات إلى اللغات الأوروبية:
عندما ننظر إلى بداية ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية يسترعي انتباهنا تأخر الترجمة، فبالرغم من وجود إشارات إلى ترجمات مبكرة إلى لغات شرقية غير إسلامية مثل السريانية والهندية، فان المعلومات المتوفرة حاليا لدينا تشير إلى أن أول ترجمة باللغة اللاتينية للقرآن الكريم قد تمت في عام 1143م قامت بها لجنة علمية برئاسة Peter Venerable (1092 – 1156م). ولم يتيسر طبع هذه الترجمة إلا في عام 1543م بناء على توصية مارتن لوثر(31).
هذه البداية المتأخرة تدعونا إلى التأمل، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن بداية الاحتكاك بين المسلمين والأوروبيين في الأندلس غربا، وفي بلاد الروم شرقا قد بدأ ت في فترة مبكرة، لذا فإننا نرى الحاجة إلى مرجعة معلوماتنا عن أوائل الترجمة إلى اللغات الأوروبية، وتأكيد أهيمة النظر في المخطوطات القديمة حتى يمكننا التأكد من هذه المعلومات.
وبعد الترجمة التي قامت بها لجنة Peter Venerable ظهرت عدة ترجمات للقرآن الكريم بعضها كامل وبعضها يقتصر على عدة آيات أو سور.
وتخبرنا الموسوعة اليهودية أن إبراهام الطليطلي قام بأم من الفونس العاشر (1252 – 1284م ) بترجمة سبعين سورة إلى الاسبانية، وأن هذه الترجمة الاسبانية كانت نواة للترجمة الفرنسية التي قام بها Bonneaventure إلى اللغة الفرنسية(32).
وقد بدأت بعد ذلك الترجمة من النص العربي على يد André du Ryer الفرنسي الذي عاش فترة في استانبول ومصر، ثم نشر ترجمته المعروفة باسم " قرآن محمد" Al coran de Mohamet سنة 1647م في باريس، وقد نشرت هذه لترجمة عدة مرات واتخذت أساسا لكثير من الترجمات الأوروبية.
وحسب الدراسة الأولية للفهارس المختلفة يتضح لنا أن أول ترجمة انجليزية للقرآن الكريم قام بها Alexander rose عن الترجمة الفرنسية ل du ryer وطبعت أول مرة عام 1649م في لندن، ثم قام George Sale بترجمة القرآن الكريم عن العربية مباشرة ونشرت سنة 1734م في لندن، وقد طبعت هذه الترجمة مرات عديدة في انجلترا وأمريكا، وصارت من بعد أساسا أتخذ في الكثير من الترجمات الأخرى.
وفي ختام هذا البحث أحب أن أؤكد الضرورة إلى إعداد دراسة ببليوغرافية شاملة لترجمات القرآن الكريم، حيث أن الدراسات الرائدة التي تمت في هذا المجال - رغم كل ما تستحق من تقدير- فإنها ما تزال تحتاج إلى الكثير من المراجعة والإضافات، ويمكننا أن نشير هنا إلى أن مسحا أوليا لفهرس واحد من فهارس بعض المكتبات الكبرى مثل مكتبة الكونغرس الأمريكية ( حتى عام 1956م) قد أظهر أن القائمة التي نشرها الدكتور حميد الله في طبعتها الأخيرة (1980م) لم تذكر ترجمتين اسبانيتين وترجمتين فرنسيتين وترجمتين باللغة التشيكية وترجمة انجليزية.
كما أن مراجعة فهارس المكتبة البريطانية والمكتبة الوطنية الفرنسية أظهرت أن تلك القائمة لم تشمل بعض الطبعات التالية لبعض الترجمات.
لذلك يجب مراجعة كافة المصادر الببليوغرافية المتاحة وفهارس المكتبات.
كما أن الدراسة الأولية تدلنا على أن هناك الكثير من الترجمات المخطوطة التي لم يتطرق إليها أحد بالتعريف والدراسة، بالإضافة إلى ذلك فهناك الكثير من المعلومات فيما يخص ترجمات القرآن الكريم في مختلف المصادر تحتاج إلى تمحيص ونظر.
لذا فإن مركز استانبول لأبحاث التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باعتباره مؤسسة علمية تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتوجه إلى العلماء العاملين في هذا المجال لكي يتعاونوا معه على إعداد مثل هذه الدراسة الببليوغرافية الشاملة حتى يمكن لنا توضيح جنب هام من جوانب الثقافة الإسلامية.
وأخيرا أحب أن اشكر في نهاية بحثي الصديق الدكتور حسن المعايرجي لى المعلومات القيمة التي تفضل بها، والشيخ أمين سراج لتفضله بإعطائي نسخة من كتاب الشيخ مصطفى صبري وزميلي بالمركز الدكتور هدايت نوح أوغلي لمده يد العون أثناء إعداد هذا البحث.
------------
المراجع والتعليقات:
(1)– شمس الدين السرخسي: المبسوط، القاهرة، مطبعة السعادة 1324 هـ، جَ1 ص 37.
(2)– تاج الشريف الحنفي: النهاية حاشية الهداية، دهلي 1915 م ج1 ص 86.
(3)– أنظر النقول والاقتباسات المختلفة الواردة في:
- تاريخ القرآن [ الكريم] للأستاذ عثمان كسكى أوغلى بالتركية طبعة 1953، ص 269.
- د.محمد صالح البنداق: " المستشرقون وترجمة القرآن [ الكريم]" دار الآفاق الجديدة بيروت 1400هـ/1980م الفصل المعنون ( هل يترجم الوحي الإلهي بعبارات بشرية ؟) ص 48 – 84.
4)- أنظر الدراسات الفقهية والكلامية التي أتى بها الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام بالدولة العثمانية في كتابه القيم " مسألة ترجمة القرآن الكريم" القاهرة، المطبعة السلفية 1351 هـ، ص 164.
5)- ظهرت للشيخ المراغي مقالات حول هذا الموضوع في جريدة الأهرام والسياسة الأسبوعية، ثم أعاد نشر بحثه المطول في مجلة الأزهر سنة 1355هـ المجلد السابع ص 77 – 112.
وقد اشتمل المجلد السابع من مجلة الأزهر على دراسات أخرى حول نفس الموضوع منها:
- ترجمة القرآن [ الكريم] ونصوص العلماء فيها للشيخ محمود شلتوت ص 123 – 134.
- مقال للأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي وزير المعارف في حكومة المغرب الأقصى ص 190 – 198.
6)- ظهرت مقالات للأستاذ فريد وجدي في جريدتي الأهرام والمقطم سنة 1932م ، ثم عاد فنشرها في كتاب " الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن [ الكريم] إلى اللغات الأجنبية".
7- المرجع رقم 4 ص 75.
8- د.محمد صالح البنداق: " المستشرقون وترجمة القرآن [ الكريم]" دار الآفاق الجديدة بيروت 1400هـ/1980م، ص 74.
9- المرجع رقم 4 ص 16-17.
10- المرجع رقم 4 ص 65- 66.
11- نشر الدكتور محمد حميد الله عدة ببليوغرافيات حول ترجمات القرآن الكريم حيث أنه يعمل في المجال منذ أربعين سنة، وله كتاب " القرآن [الكريم] في كل لسان" طبع سنوات1945، 1946، 1947م (ثلاثة طبعات) وهو باللغتين الانجليزية والأردية حيث ذكر ترجمات القرآن [ الكريم] في (63) لغة مع نماذج من ترجمات الفاتحة طبع الكتاب بحيدر آباد الدكن بالهند.
وقد نشر حميد الله العديد من المقالات حول مختلف الترجمات، ثم صدَّرَ ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم بقائمة طويلة لكل ما توصل إليه من ترجمات باللغات الأوروبية والتركية ( آخرها طبعة 1980م مع إضافات كثيرة).
12- الدكتور حسن المعايرجي عالم مصري الأصل من علماء الميكروبيولوجيا ويعمل أستاذا من مدة طويلة في جامعة قطر، وقد جند حياته وجهوده لخدمة ترجمة القرآن الكريم ونشره بين المسلمين من غير العرب، جزاه الله خيرا ويسر له أمره، عنوانه ص ب: 188 الدوحة - قطر.
13- لم تصلنا بعد معلومات تفصيلية حول عمل الأستاذ على شواخ اسحاق [ من سوريا].
14 – Mingana, An Ancient syriac translation of the kur’an, Manchester, 1945
15 – جويدي ، محاضرات أدبيات الجغرافيا ( جامعة القاهرة) ص 66.
16- الجاحظ: البيان والتبيين ج1 ص 139.
17 – بزرك بن جهاريار: عجائب الهند والصين، ص 2-3 ( نقلا عن مقدمة الدكتور حميد الله).
18 – سورة إبراهيم الآية: 4.
19- في ما يخص أول ترجمة فارسية أنظر:
- حبيب يغمائي: ترجمة تفسير الطبري، طهران 1339هـ، ج1 ص 5-6،
- A.J Arberry, classical Persian literature London 1958,P 40- 41
- Gilbert Lazard , La langue des plus anciens monuments de la prose persian, Paris 1963, P 4-45
20 – Z.V Togan londra ve tahran’daki islami yazmalarindan bazilarina dair, islam tetkikleri enstituusu dergisi III , 1959-1960, P 135
21- M.F koprulu, turk Edebiyati tarihi, Istanbul, 1926 , P 192
22- A.Inan, kuran-I kerim’in Turkçe tercumeleri uzerinde bir inceleme, Ankara, 1961,P8
23- فيما يخص أوائل الترجمات التركية أنظر:
- A.Mingana , An Old Turkish Manuscript of the coran, The moslem World, V5 1915, P 391-398
- A.Inan, kuran’in kerim’in Turkçe ve oguz osmanlica çevrileri uzerine notlar turk dili arastirmalari yilligi ;Belleten, 1960, P 79-94.
- M.Hamidullah, kuran’in kerim’in Turkçe yamza tercumeleri, turkiyat mecmuasi , XIV, 1964, P 65 - 80
- J.Ekcmann, eastern turkic translations of the koran , studia turcica, Budapeste 1971, P 149 - 159
24 – A.Topaloglu « Muhamed bin hamza » xv. Yuzil baslarinda yapilmis satirarasi ku’ran tercumeleri, kultur bakalnigi M.E Basemivi , Istanbul 1976, 2vol
25 – فيما يخص ببليوغرافيا ترجمات القرآن الكريم إلى التركية أنظر الببليوغرافيا التي اعدها الأستاذ ماجد بشار أوغلى والملحقة بكتاب " تاريخ القرآن الكريم" للدكتور حميد الله بالتركية.
26 – تفضل الأستاذ أفندي زركسي فترجم لي النص المتعلق بترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الأندونسية الموجودة في مقدمة الترجمة الكاملة التي نشرتها وزارة الشؤون الدينية الأندونسية.
27 – هذه النسخة محفوظة في مكتبة بنغيو ساهيتو بريشد أي مكتبة المجلس الأدبي البنغالي تحت رقم (2-5)، أنظر مقالة الأستاذ السيد علي أحسن المدير العام للأكاديمية البنغالية، مجلة المؤسسة الإسلامية، عدد خاص عن القرآن الكريم نوفمبر 1979م ص 28 -32.
28 – المرجع السابق، وكذا القائمة التي تفضل بها أثناء زيارتي لبنغلاديش الأستاذ شاهد علي مدير قسم الترجمة والتأليف بالمؤسسة الإسلامية بدكا بجمهورية بنغلاديش.
29- من المعلومات التي تفضل بها الدكتور حسن المعايرجي نقلا عن كتاب " المسلمون في الصين" من تأليف الحاج إبراهيم تين – ينج.
30 – قام إتحاد المسلمين الكوري في سيول بنشر هذه الترجمة، وقد بين لي المترجم أنه أعتمد على الترجمة الانجليزية ليوسف علي.
31 – R. Blachére , Introduction au Coran, Paris 1959, P 264 - 265
32 – نقلا عن مقدمة الدكتور حميد الله.

 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
المحاضرة الخامسة:
القرآن الكريم رسالة الله إلى الإنسان
" في المبدإ، والمعاد، والمعاش"(1)
الدكتور معروف الدواليبي
الأستاذ بجامعة الرياض – المملكة العربية السعودية

1 – أن خير طريقة لوصل طلاب المعرفة بالقرآن الكريم هو أن نجرد لهم القرآن [الكريم] أولا من جزئياته وتفصيلاته، وأن نردهم إلى كلياته العامة، ومقاصده المحدودة في ثلاث، وهي تلك التي حملتها رسالة القرآن [الكريم] منذ أيامها الأولى ثم ما لبثت هذه الرسالة أن أخذت بالتأكيد عليها في صور مختلفة، بالإيجاز تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وذلك حسب ظروف المخاطب، ومقتضيات الأحوال وأساليب التربية العلمية الناجحة، وفي خلال ثلاث وعشرين سنة.
2 – أما هذه الكليات والمقاصد فهي:
أولا: العقيدة في "مبدإ" هذا الكون وأنه هو "الله".
ثانيا: العقيدة في "معاد" هذا الكون أيضا، وأنه إلى " الله".
ثالثا: الالتزام بشريعة " معاش" الإنسان في حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض، وذلك من أجل سعادته في " معاشه ومعاده"
وإلى هذه الكليات والمقاصد الثلاثة يشير الله سبحانه في قوله في القرآن الكريم : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } (يونس: 4).
3- هذا وقد انطلق القرآن الكريم في كل ذلك من منطلقات حية واقعية لا تصنّع فيها، وهي تحيط بكل إنسان من وجوده بعد العدم إلى عدمه من جديد، وتدعوه إلى التفكير الجدي في مصيره، وقد بصره القرآن [الكريم] في كل ذلك وألح عليه في صور مختلفة بوجوب استخدام عقله وتفكيره، وبحثه العلمي من اجل سعادته في الدارين.
4 – إنه لمن المفيد أن نتناول موضوعنا ضمن الفقرات الموجزة التالية:
أولا: مقدمة في التعريف الموجز بشخص محمد صلى الله عليه وسلم، تعريفا يلقي الضوء عليه، وعلى جملة الرسالة التي جاء يدعو إليها البشرية كلها.
ثانيا: معلومات عامة وموجزة أيضا عن القرآن الكريم ومقاصد الرسالة القرآنية الثلاثة.
ثالثا: مكان التربية القرآنية العلمية في تحقيق مقاصد القرآن [الكريم] الثلاثة.
مقدمة في التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم:
5 – أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو:
- ابن مكة واليتيم في أبويه منذ طفولته الأولى.
- ولقد نشأ وترعرع في كفالة عمه أبي طالب الحليف للفقر.
- ونشأ أميا كما جاء في القرآن [ الكريم] نفسه، وهو يتلى على الجميع في حياته، ويعرفه كل إنسان حينذاك من مؤمن به وكافر.
- ولم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره حتى أطلق عليه أبناء قومه لقب " الأمين" كأبرز صفة من صفاته التي جعلته محببا إلى الناس ومحمودا لديهم في سلوكه.
- وأن أمانته هذه، وصدق حديثه ، وحرمة بني قومه له قد جعلت منه مستودعا لأمانات الناس من مسلمين وغير مسلمين، وكذلك جعلت منه قبل الإسلام الحكم الذي أرتاح له سادات قريش لحل أعظم مشكلة كادت تعصف بهم يوم تجديد بناء الكعبة.
- وأن عقله وتفكيره النيرين قد حملاه منذ أيام شبابه الأولى على الابتعاد عن عبادة آلهة قومه من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وعلى الاعتزال من وقت لآخر في بعض كهوف الجبال تصفية للنفس، وبحثا عن الحقيقة، حتى جاءه الوحي بتكليفه بالبدء بدعوة بني قومه إلى ترك عبادة الأصنام، وإلى عبادة الله خالق السموات والأرض ومن عليها، مع أمر الله بالتزام أوامره في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وفي النهي عن كل ما هو قبيح فاحش، وما هو مستنكر، وما فيه عدوان وظلم.
6- ولقد دعاه سادات قومه المشركين إلى ترك شتم أصنامهم، وإلى ترك دعونه لعبادة الله وحده ، على أن يعلنوه ملكا عليهم لما عرفوا فيه من نجابة وخلق نبيل، فأجابهم: " (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه).
7- وحينما هدده أعداء دعوته بالقتل، تحداهم القرآن الكريم علنا وقال: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ ... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ - (( أي يحميك)) - مِنَ النَّاسِ} (المائدة:70)، وقال القرآن الكريم أيضا:{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32).
وكذلك كان، وقد أتم محمد صلى الله عليه وسلم دعوته بكل اطمئنان إلى وعد الله بحمايته، وبانتصار دعوته على الرغم منا قد مر به من حالات ضعف واضطهاد وتهديد ما كانت تبشر بانتصار.
8- هذا وقد ميز القرآن الكريم ما بين شخصيتين لمحمد [ صلى الله عليه وسلم]: فهو في الأصل رسول الله إلى الناس فيما يبلغهم عن الله من ناحية، ثم هو من ناحية ثانية وتبعا للأولى ولي أمرهم للنظر في شؤونهم مدة حياته معهم، على أن يبايعوه البيعتين: بيعة على الإسلام، وبيعة على الطاعة له.
9 – أما شخصية محمد [ صلى الله عليه وسلم] الأولى فلا تخضع أعمالها إلى أية مشورة مع الناس وذلك مصداقا لما جاء في القرآن [ الكريم]: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ( المائدة:67).
10- وأما شخصية محمد [ صلى الله عليه وسلم] الثانية التابعة باعتباره ولي أمر المؤمنين عملا بما جاء في القرآن [ الكريم ] من قوله: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ( الأحزاب: 6)، فقد أمره الله بمشاورتهم كما جاء في القرآن الكريم أيضا:{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (آل عمران: 159)، وذلك لتكون سيرته معهم أسوة حسنة لمن بعده ممن يتولى أمرا من أمورهم بموجب الشورى بينهم أيضا، عملا بما جاء في القرآن الكريم: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38) حيث اعتبرت الولاية بعده من شؤونهم، ولذا تركت في ذاتها وإشكالها لاختيارهم، وتبعا لظروفهم المتطورة، ووفقا لمصالحهم الزمنية المتغيرة، حتى لا يكون هناك كل ثابت فيما لا يمكن تجميده على شكل منذ ذلك الزمن، كما هي سياسة التشريع القرآني في كل ما قد سكت عنه، على أن لا يخرج عن روح الشريعة العامة في تلمس الخير والمصلحة للأمة، وعلى أساس المفهوم الشرعي القائل: " أينما كانت المصلحة فثم حكم الله وإن لم ينزل به الوحي، ولا قال به الرسول [ صلى الله عليه وسلم]".
11 – وأخيرا فإن محمدا [ صلى الله عليه وسلم] قد مات بعد أن أمر أهل بيته ساعة وفاته بأن يتصدقوا بجميع ما بيته مما كان من الدراهم القليلة، وحرم عليهم أن يرثوا عنه شيئا مما قد تركه، وقال في ذلك: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
12 – وهكذا نشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم] فقيرا، ومات فقيرا، وبشر بانهيار دولتي فارس والروم بعده أمام دعوة الإسلام، وكذلك كان، وترك ذريته وأهل بيته لا يرثون عنه شيئا من متاع الدنيا، على الرغم من سيادته الشاملة التي وضع فيها المسلمون جميع أموالهم وأرواحهم تحت تصرفه، ولم يعط أحدا من ذريته وأهله مهما قرب منه أي امتياز للخلافة عنه، أو الإمارة على الناس.
13- وأخيرا ختم رسالته مودعا وهو لا يفكر بغير سلام الإنسان، والعمل لخيره على اختلاف الأعراق والأجناس والأديان [؟]، وقال في ذلك كله: " لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضكم رقابَ بعض" كما قال: " الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" [ضعيف جدا كما في ضعيف الجامع ( حديث رقم 2946)].
معلومات عامة عن القرآن الكريم ومقاصد الرسالة القرآنية
14- أما القرآن الكريم فهو:
خاتم الرسالات السماوية السابقة، وقد قامت رسالته على اعتبار أن الإنسان منذ خلق على الأرض قد مر في تجارب كثيرة، وأن هذه التجارب قد أكسبته معرفة وخبرة كافية، وأنه لذلك لم يعد الإنسان عملا بشريعة القرآن [ الكريم] في حاجة إلى قيادته عن طريق المعجزات وخوارق العادات، بل قد آن الأوان لتحريره وعدم قيادته إلا عن طريق خطاب العقل والتشجيع للعلم، والتعمق في الفكر والملاحظة...وقد كان في ذلك أول تكريم لهذا الإنسان في رسالة القرآن [ الكريم].
ولذلك جهر القرآن [ الكريم] بأن دعوته الشاملة لجميع بني الإنسان إنما يتفهمها منه أهل العقل والعلم والفكر، وقال في ذلك تارة:{ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ... وتارة:{ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (الروم: 28)، وتارة أخرى:{ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(يونس: 24).
15- وانطلاقا من ذلك فإن دعوة القرآن [ الكريم] للإنسان قد اقتصرت على وجوب تعميق معرفته العلمية، والعقلية، والفكرية في مقاصد القرآن [ الكريم] الكلية الثلاثة التالية:
أولا: في "مبدإ" هذا الكون والإنسان، وإنه هو "الله".
ثانيا: في "معاد" هذا الكون والإنسان وإنه إلى " الله".
ثالثا: في الالتزام بشريعة " معاش" الإنسان في حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض "بعمارتها"، والمسؤول عن " عبادة الله فيها"، وذلك من أجل ضمان سعادته فيها فردا وجماعة أولا، ثم ضمان سعادته الأبدية بعدها ثانيا، وقد تضمنت شريعة القرآن [ الكريم] " الإرشادات " إلى كل ذلك بصورة كلية، وقد بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم] ما لا بد من بيانه، وترك للمؤمنين "حق الاجتهاد" في جميع ما يجّد لهم مما قد سكت عنه القرآن [ الكريم] والرسول [ صلى الله عليه وسلم].
16- ولقد تناول القرآن [ الكريم] تلك المعارف الثلاثة في مجموعة من الآيات بلغت (6342) آية، وقد تناولها جميعا على أسس تربوية علمية كما سنشير إليها مرة ثانية في مبحث " التربية العلمية" ، وربط فيها لذلك ما بين الإيمان بالله وبين أوامر الله وبالالتزام بشريعة " معاش الإنسان" من أجل خيره وسعادته في المعاش والمعاد.
غير أن ما قد خصص للمعرفة حول شريعة " معاش" الإنسان مدة حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض لم يتجاوز "خمسمائة" [500] من آيات الإحكام الشرعية، أي أنها كانت دون العشر من مجموع آيات القرآن [ الكريم]، وذلك تقديرا لتطور الإنسان واختلاف وقائع الحياة، ورغبة في مساهمة الإنسان باستنباط الأحكام وفقا لقواعد القرآن [ الكريم] العلمية العقلية الثابتة في كل ما قد يجّد له من وقائع حيوية حديثة لم يتناولها القرآن [ الكريم] ولا الرسول [ صلى الله عليه وسلم].
17- وقد كانت كل آيات القرآن [ الكريم]، وفي جميع المعارف الثلاثة الواجبة، هي آيات كلية إرشادية لجميع رجال العلم، من غير كهنوت أو احتكار للعلم في الإسلام، وكما ترك للإنسان ، تبعا لتغير الظروف وتقدم العلم، حرية النظر والتعمق العلمي والتفنن فيه حول حقائق المبدإ والمعاد، فكذلك كانت آيات الأحكام حول "شريعة معاش الإنسان" كلية مثلها، واشتملت على قواعد وأحكام عامة واجبة العمل بها على مثل الأحكام العامة في الدساتير العالمية اليوم. غير أن هذه الأحكام الكلية في القرآن [ الكريم] هي مما لا يقبل التغيير والتبديل وذلك بسبب طبيعتها الثابتة علما وعقلا ومصلحة، كالأمر بوجوب العدل بين الناس، وكتحريم البغي والظلم، وكإيجاب الشورى في أمور الأمة.
18 – هذا وقد ترك للرسول [ صلى الله عليه وسلم] بنص القرآن [ الكريم] بيان جميع ما قد كانوا في حاجة إلى بيانه حسب الوقائع مدة حياته، كما ترك للمسلمين حرية الاجتهاد فيما قد سكت عنه بيان الرسول [ صلى الله عليه وسلم]، بل وكذلك فيما سكتت عنه نصوص القرآن [ الكريم]، وذلك في كل ما قد ما يجّد لهم من وقائع مع تغير الظروف والأزمان، وقد ألحق بالشريعة كل ما جاء به الاجتهاد، كما هو ثابت ومعروف لدى كل دارس لشريعة الإسلام، وهكذا فإن الاجتهاد في إصدار الأحكام كان وما يزال حقا ثابتا للفرد والجماعة بإقرار وتشجيع من رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم]. وليس من حق أحد إيقاف هذا الاجتهاد، بل قد ندب الرسول [ صلى الله عليه وسلم] أحيانا إلى الشورى في الاجتهاد، فقال جوابا لسائل عن أحكام مسائل لم يأت لها ذكرا في القرآن [ الكريم] ولا في السنة فقال: "
اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد " [ ( ضعيف منكر ): السلسلة الضعيفة الحديث رقم 4854 ].
وبذلك تسقط دعوى من زعم من المستشرقين بأنه لا حق لأحد من الأمة بالمساهمة في استحداث الأحكام عملا بشريعة القرآن [ الكريم]، وأن ذلك "... قد نزع نهائيا من أيدي المؤمنين على الأرض واختص بها الله وحده"
19- وتتميما للتعريف بمقاصد الرسالة القرآنية حول " المبدإ والمعاد" فقد أوجبت هذه الرسالة على الإنسان النظر العلمي العميق فيما في السماء والأرض وما بينهما، وخاصة في التكوين العجيب الدقيق في خلق الإنسان نفسه، وفتحت بذلك لكل إنسان آفاق السموات والأرض للبحث العلمي من غير تخوف من نتائج الكشف العلمي، ومن غير حجر عليه فيها، بل قد فرضت رسالة القرآن [ الكريم] ذلك فرضا على الإنسان، وقالت: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } (يونس: 101)، وقالت أيضا: { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ () وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20- 21)، وفي ذلك شجب صريح لمن يتوقف عن البحث العلمي الذي أوجبه القرآن [ الكريم].
20- وهكذا فقد كلفت رسالة القرآن [ الكريم] الإنسان باكتشاف قوانين الكون وأسرار الخليقة العلمية المحكمة والدالة على قدرة صانعه وحكمته فيها، وقالت في إرشاد الإنسان إلى ذلك كله: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (آل عمران: 190)، كما قالت أيضا: { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }( الرحمن: 5)، وكما قالت أيضا في الأرض: { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ }( الحجر: 19)، داعية بصراحة إلى استكشاف أسرار الطبيعة من نبات وجماد وإنسان، ومؤنبة كل من يقف عن هذا البحث العلمي، وكان هذا هو سر التقدم العلمي العجيب في عصور الإسلام الذهبية.
21- وتشير رسالة القرآن [ الكريم] فوق ذلك فيما يتعلق بمعاش الإنسان على الأرض إلى ما القي على عاتقه مدة حياته من وجوب عبادة الله فيها، ووجوب عمارته لها، وفي ذلك يقول القرآن [ الكريم]: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) ((اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا: أي طلب منكم عمارتها)).
وقد زاد الرسول [ صلى الله عليه وسلم] في بيان ذلك فقال: " إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة – أي شجيرة صغيرة- فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" وفي ذلك تأكيد على الواجب الملقى على الإنسان في الاستمرار في عمارة الأرض، وشجب للتقاعس عن العمل وزيادة الإنتاج لمصلحة الأجيال حتى ولو لم يكن للجيل العامل فيه حظ منه.
22 – وقبل ختام هذا المبحث حول مقاصد القرآن [الكريم ] الثلاثة في " المبدإ والمعاد والمعاش" وتبسيطا لرسالة القرآن [الكريم ] لدى طلاب المعرفة للقرآن [الكريم ] نوصي الراغبين في ذلك:
أولا: إذا أرادوا التعرف على حقائق الرسالة القرآنية حول " المبدإ والمعاد " فليرجعوا إلى استعراض أية سورة في ذلك من "السور المكية" المشار إليها في عنوانها والبالغة (86) سورة من أصل (114) من سور القرآن الكريم، حيث يجدون الموضوع في كل ذلك واحدا، ولكنه مختلف في العرض وفي الصورة وفي الأسلوب من سورة إلى أخرى، بشكل جذاب وتحت شعار الدعوة إلى استعمال العقل والفكر والعلم بأحدث ما يستطيع الإنسان ابتكاره من وسائل البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة.
ثانيا: وإذا أرادوا التعرف على قواعد السلوك الإنساني، ومبادئ " الشريعة " العامة في سياسة الفرد والمجتمع ، والممزوجة في آن واحد مع حقائق المبدإ والمعاد المهذبة للنفوس، فليرجعوا إلى استعراض أية سورة في ذلك من "السور المدنية" البالغة فقط (28) سورة، والخاضعة أيضا إلى استعمال العقل والفكر والعلم من أجل الكشف عن أسرار الحكمة فيها.
مكان التربية القرآنية العلمية في تحقيق مقاصد القرآن [الكريم] الثلاثة:
23- إننا هنا لا بد من التأكد على مكان التربية القرآنية العلمية العقلية على " العقيدة الإسلامية" وذلك بصورة خاصة حول:
- "مبدإ" هذا الكون، وأنه هو "الله".
- و"معاده " وأنه إلى " الله"، وأن الناس مبعوثون ليوم عظيم.
24- وإنه منذ أصبحت هذه العقيدة إرثا وتقليدا وهجرت في ذلك " آيات القرآن [ الكريم] التربوية العلمية العقلية" المهذبة للنفوس، والداعية إلى تقوى الله، لم يعد في الإمكان أن يكون مسلمنا اليوم كالمسلمين الأولين الذين قال الله فيهم سبحانه وتعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [(آل عمران: 110)] خاصة وأن كتب التربية في البرامج الرسمية عندنا هي نسخة عن كتب التربية كما تدرس في جميع برامج الثقافة العالمية المادية من شرقية وغربية، وهي متعارضة مع قواعد التربية الإسلامية من ناحيتين أساسيتين:
أولا: أنها تحدد " المعرفة العلمية " بأنها ما خضع للحس والتجربة، ولما كان القول بوجود الله لا يخضع للحس والتجربة، فإن القول بوجود الله ليس من العلم بشيء.
ثانيا: أنها تجعل من علم التربية علما ماديا قاصرا على تعلم الحياة من أجل الحياة.
25- ولذلك فإن الإيمان بالله قد أقصي نهائيا من علم التربية وكتبها، وأرجعوا إليها إن شئتم فيما يدرس منها في برامج علم التربية، وقد أصبح من واجب المسلمين الاخصائيين في علم التربة أن يسارعوا اليوم إلى استدراك هذا النقص في الناحيتين، لأن تقدم العلوم اليوم أصبح يرفض هاتين الناحيتين، وعليهم أن يصححوا تعريف " المعرفة العلمية" بما يشمل الاستدلال بالمشاهد المحسوس على الغائب، وبما يرفع من مستوى الإنسان في تربيته وكرامته عن مستوى الحيوان في حياته وغريزته.
28- هذا، ويلاحظ فيما سبق في مبحث " مقاصد القرآن [ الكريم]" أن آيات القرآن [ الكريم] في جملتها حول مقاصد القرآن [ الكريم] في " المبدإ والمعاد والمعاش" قد بلغت (6342) آية، في حين أن آيات التشريع لم تتجاوز الخمسمائة آية منها، وهي في ذلك دون العشر من مجموع آيات القرآن الكريم ، وقد اختص " المبدإ والمعاد " بباقي الآيات وهي (5842) آية، وفي ذلك دليل إلى ما قد أعطاه القرآن [ الكريم] من الأهمية لعقيدتي " المبدإ والمعاد " من أجل صلاح الإنسان وسلوكه في " معاشه".
27- وهكذا فقد ربى المسلمون الأولون علميا وعقليا وفكريا على الإيمان بالله، خلال واحد وعشرين عاما من نزول الوحي، وعلى أن الله هو الذي بدأ الخلق، وأنه هو الذي يعيده بعد الفناء، وأنه سبحانه وتعالى لم يخلقهم عبثا وأنهم إليه راجعون، وإلى غير ذلك من النصوص القرآنية التي يجملها قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } ( يونس: 4)، وكذلك قوله: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (المطففين: 1-6).
28- وهكذا فإن من تربى علميا وعقليا وفكريا على هذه العقيدة القرآنية في
" المبدإ والمعاد " وتأكد في ذلك من نصوص القرآن الكريم، ومن واقع الحال: أن الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الآخرة ما هي إلا كلمح البصر، وإنها دار مرور لا دار استقرار، { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } [( العنكبوت:64 )] أي الحياة الحقيقية، وأن مصير الإنسان في الدار الآخرة إنما هو تبع لسلوكه في الفترة القصيرة في الحياة الدنيا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر... نقول أنه من تربى هذه التربية القرآنية في عقيدته في الله علما وعقلا وفكرا، صحت عندئذ صلته بالقرآن [ الكريم] على نحو الصلة فيما بين القرآن [ الكريم] وبين المسلمين الأولين، وعندئذ أصبح الإنسان سويا، وواحدا من الأمة التي قال فيها سبحانه وتعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [(آل عمران:110)].
وفي ذلك فليتسابق المتسابقون.

الهوامش:
(1)- اعتمدنا هذا التقسيم أخذا من الحديث الشريف الوارد في سورة { قل هو الله أحد...} وسورة (الفاتحة)، فقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم]: ( " قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن)) وقال في سورة (الفاتحة) أنها: " أم القرآن" أي الجامعة لجميع مقاصد القرآن [الكريم]، وبالتأمل في سورة { قل هو الله أحد...} نجدها لا تتجاوز ذات الله باعتباره " المبدئ للكون" ثم بالتأمل في الفاتحة نجدها تناولت " المبدأ" في { رب العالمين } ثم تناولت " المعاد" في { مالك يوم الدين } ثم تناولت المعاش في باقي السورة.
 
المحاضرة السادسة

المحاضرة السادسة

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المحاضرة الخامسة:
" إعجاز القرآن المجيد وشواهد إلهية مصدره"
الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء
أستاذ بالجامعة الأردنية – الأردن

(( القرآن العظيم قد تجاوز المعجزات الحسية التي كانت تأتي على يد أنبياء الله تعالى[ عليهم السلام] برهانا على صدق رسالتهم إلى الناس، تلك المعجزات الحسية التي كانت تناسب تلك الأزمنة، حيث كان يغلب على الناس الانصياع إلى ما يقع تحت الحس من الشواهد المادية أكثر مما ينصاعون إلى الأدلة العقلية والتفكير، وكانت تلك المعجزات تنقضي رؤيتها عقب وقوعها كمصباح يوقد ثم ينطفئ.
فلما اتسعت آفاق التجارب البشرية، وارتقى التفكير وازداد اعتماد الناس على دلائل العقل واستنتاجه وهي أخص الخصائص الإنسانية، جعل الله سبحانه خاتمة معجزات رسله على يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، معجز عقلية تفكيرية بيانية خالدة لا تنقضي دلالتها ولا يتوقف تحدّيها في مواجهة العقل، ألا وهي القرآن [ الكريم] الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: " لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُه" [ سنن الترمذي الحديث رقم: 2831 ، قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ]
أن نواحي إعجاز القرآن [ الكريم] متعددة متشعبة، فمن إخبار بمغيبات من أحوال الأمم والأنبياء [ عليهم السلام] مضت وضاع علمها الصحيح، ثم جاءت الشواهد المكتشفة تؤيد أخبار القرآن [ الكريم]، إلى إخبار عن أمور ذكر القرآن [ الكريم] أنها سوف تقع في فترات محددة أو غير محددة، ثم وقعت كما ذكر القرآن [ الكريم] عنها، إلى شواهد من آيات الكون ونواميسه أشارت إليها آيات من القرآن [ الكريم] في وقت كان من المستحيل على أحد من البشر إذ ذاك أن يعرف عنها شيئا من طريق المصادر العلمية، لأن وسائل علمها مرتبطة بمكتشفات جديدة من طبية وفلكية وفيزيائية وغيرها، لم يكن طريق العلم إليها مفتوحا، وغنما فتحته أخيرا مكتشفات أخرى.
وثم نظر الباحثون قديما وحديثا إلى إعجاز القرآن [ الكريم] من زوايا مختلفة: أبرزها زاوية البيان، وزاوية المضمون، والباحثون يبدون – في الواقع – متفقين على الإعجاز والتحدي القرآني به يشمل الناحيتين، ولكن بعضهم يرى أن إحدى الناحيتين هي الناحية الرئيسية في الإعجاز والتحدي، والأخرى ثانوية، ويعضهم يرى العكس.
وأخيرا منذ سنوات قام جدل بين كاتبين أديبين باحثين من كتاب العصر في هذا الشأن هما الأستاذ رمضان لاوند، والدكتور عبد الصبور شاهين، تبادلا فيه الأخذ والرد على صفحات عدة وأعداد من مجلة البلاغ في الكويت ( الأعداد 77 – 82 ما بين آخر شعبان -11 شوال 1390هـ) حول: هل الإعجاز والتحدي في القرآن العظيم منصرف في الدرجة الأولى إلى المضمون وما فيه من الشواهد التي كشف العلم عنها، أو هو منصرف إلى البلاغة في أسلوب البيان القرآني؟
وقد كان هذا الجدل والحوار فيه بينهما ثريا ممتعا، وأتى كل منهما فيه بشواهد قيمة في تأييد وجهة نظره، مما أضاف جديدا في الكشف عن وجوه إعجاز القرآن [ الكريم]، تلك المعجزة الإلهية الخالدة.
ومن رأي الأستاذ رمضان أن الإعجاز منصرف إلى البيان وإلى المضمون معا لأن الكمال في الدين الذي أعلنه القرآن [ الكريم] بقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [(المائدة:3)] لا يتجلى " ما لم يعين هذا الدين الأبعاد المادية والمعنوية والمنهج الذي يجب أن يتخذ في حياة البشر، وفيما سيستقبلونه من عالم الآخرة ".
ومن حجج الدكتور عبد الصبور شاهين أنه:" لم يحدث أن طالب النبي صلى الله عليه وسلم قومه أن يأتوا بمثل مضمون القرآن [ الكريم] من حقائق الكون، فالفرق بين الأمرين عظيم، لأن البيان باب يحتمل صنع الله وصنعة البشر، أما هذه الحقائق الكونية فلا مجال للبشر في صنعها، ولا يتخيل عاقل أن يطالبوا بالإتيان بمثلها أو بمحاكاتها، فقد خرجت إذن عن مفهوم المعجزة بالمعنى الدقيق للكلمة".
ويرى الأستاذ رمضان أنه: " كما أن الإعجاز البياني قد جاوز قدرات البشر التعبيرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوم يبعثون، فإن الإعجاز ( العلمي) في كشف المضمون قد جاوز القدرات البشرية في عهده صلى الله عليه وسلم، وسيبقى كذلك إلى يوم يبعثون"
وقد طال الجدل بين الأستاذين الكبيرين في ذلك.
والذي أرى في هذا الشأن:
أولا: أن هناك حلقة مفقودة هي جسر الاتصال والتوفيق بين الرأيين وهي: وجوب التمييز بن غرض الهداية إلى الله في القرآن الحكيم، وغرض لإثبات مصدرية القرآن [ الكريم] الإلهية بلفظه ونصه عن طريق التحدي بإعجازه لا من جهة كونه في الواقع معجزا، فالكون كله معجز لا القرآن [ الكريم] فقط.
ذلك أن إثبات المصدرية الإلهية لا بد فيه من التحدي، ولا يكفي فيه كون القرآن [الكريم] معجزا في ذاته، فقد يكون معجزا ولا يطلب الله تعالى فيه التحدي كما لم يطلب سبحانه من الناس متحديا لهم أن يخلقوا كونا كالكون الذي هو خالقه.
فالتحدي بالقرآن [الكريم] في نظري وتقديري، منصرف قبل كل شيئ إلى الناحية البيانية لأن البلاغة والسمو في بيانه هي التي يتوافر فيها لدى من يتحداهم إدراك أبعادها، وامتلاك أدواتها، وهي الحرف والكلمة التعبيرية.
ثانيا: أن كمال الدين شيء، وإعجاز القرآن [ الكريم] لإثبات نزوله بلفظه ونظمه من عند الله تعالى شيء أخر.
فحقائق المضمون تثبت صحة ذلك المضمون بأي لفظ وتعبير صيغت مما يعبر عنها ويصورها، فهذه الحقائق في المضمون متى عرفت، بأي طريق من طرق المعرفة، ولو بالاكتشاف العلمي اللاحق، دون أن يعجل القرآن [ الكريم] بالإشارات الإجمالية إليها تكفي لإثبات وجود الخالق ، ولكنها لا تثبت مصدرية اللفظ من حيث انه لص لفظي منظوم بهذا السبك، لا يمكن صدوره كلفظ منظوم إلا من عند الخالق، وإنما الذي يثبت هذه المصدرية للنص اللفظي هو الإعجاز البياني بطريقة التعبير والنظم، أما المضمون العلمي وحقائقه وصحته فهو دليل على الخالق فقط، ولا علاقة له بإثبات مصدرية اللفظ.
فيجب التميز بين الغرض القرآني من حيث الهداية إلى الله، وهذا غرض يساهم في تحقيقه البيان والمضمون العلمي في إشاراته الإجمالية إلى الحقائق الكونية الكافية للدلالة على الله تعالى، وبين الغرض القرآن في إقامة المعجزة
لإثبات مصدرية اللفظ بنصه ونظمه بطريق التحدي، فهذا الغرض الثاني إنما يحققه البيان المعجز ببلاغته وأسلوبه، وليس المضمون العلمي.
ويلحظ أيضا أن المعجزة تتوقف على إدراك حالي لإعجازها، قائم هذا الإدراك لدى من تتحداهم وقت التحدي، أي وقت الخطاب، ولا يجوز أن يكون هذا الإدراك متوقفا على اكتشاف علمي مستقل، لأن هذا التوقف يقضي بإخراج من خوطبوا قبلا من نطاق التحدي.
ولا شك أن المضمون العلمي، الذي يشير في مواطن كثيرة من القرآن [ الكريم] إلى الحقائق الكونية المذهلة والمثبتة لوجود خالق الكون بصورة يقينية، هذا المضمون العلمي يتوقف إدراك صدقه وصحته على الاكتشافات العلمية المستقبلية بعد عصر إعلان النص اللفظي، فلم يبق ما يتحقق به الإدراك الحالي للإعجاز إلا الجانب البياني المعجز الذي يتحدى كل قادر على البيان أن يظهر قدرته على محاكاته، فبهذا التحدي والإعجاز تثبت مصدرية النص بلفظه ونظمه، ثم يتبعه ويتفرع عنه صحة المضمون.
ويلحظ من جهة أخرى في الدلالة على أن الإعجاز بياني في الدرجة الأولى أن الله تعالى قد تحدى في القرآن [ الكريم] أن يؤتى بمثله، ثم تحدى بالإتيان بعشر سور من مثله، ثم تحدى بأن يؤتى بسورة واحدة من مثله، وهذا يشمل السور الطويلة، ويشمل كذلك السورة القصيرة التي ليس فيها مضمون علمي أو تشريعي، فلو كان الإعجاز القرآني منصرفا إلى المضمون في الدرجة الأولى، لما شمل التحدي السورة الواحدة، بل كان يَرِدُ مقيدا بالإتيان بمثله كله.
مقارنة بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن [ الكريم]:
الفرق عظيم جدا بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن [ الكريم] في طريقة البيان العربي، فبينهما شقة واسعة لا يشبه احدهما الأخر لدى أهل البصر باللغة وأساليبها وبالمأثور المألوف من بيانها قديمه وحديثه.
وان هذا التفاوت الكبير في الأسلوبين إذا انعم الإنسان فيه النظر، وكان ذا ملكة بيانية لا يترك لجيه مجالا للشك والريبة في أن الحديث النبوي والقرآن [ الكريم] صادران عن مصدرين مختلفين.
فالحديث النبوي كما سنرى في نصوصه التي سنعرض أمثلتها قريبا جاء كله على الأسلوب المعتاد للعرب في التخاطب، تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهم والتعليم والخطابة في صورها ومناهجها المألوفة لدى العرب، ويعالج جزئيات القضايا والمسائل ويجيب عنها، ويحاور ويناقش كما يتخاطب سائر الناس بعضهم مع بعض. ولكن يتميز من الكلام العربي المألوف بان فيه لغة منتقاة غير نابية، وان فيه أحكاما في التعبير وجمعا للمعاني المقصودة بأوجز طريق وأقربه دون حشو، مما استحق به التسمية بجوامع الكلم .
فهو كلام عربي من الطراز المعتاد المألوف، ولكنه على درجة عليا من أساليب البلغاء المعهودة.
أما أسلوب القرآن [ الكريم] فهو أسلوب مبتكر لا يجد الناظر فيه والسامع شبيها له فيما يعرف من كلام العرب وأساليبهم، يعالج الكليات،ويفرض الأحكام فرضا، ويضرب الأمثال، ويوجه المواعظ في عموم ولا تشبهه العمومات المألوفة، وخطاب فيه من التجريد ما يجعل له طابعا خاصا منقطع النظير.
أ‌- فلو أخذ قانون تشريعي وقورن بأحكام القرآن [ الكريم] الآمرة الناهية لما كان له به شبه في الأسلوب أصلا، ولو أتحد موضوع الأمر والنهي فيهما.
ب‌- وإذا أخذ كتاب تاريخ وقورن بما في القرآن [ الكريم] لما وجد أيضا بينها شبه في الأسلوب ولو أنهما عالجا قصة واحدة.
ت‌- ولو أخذ كذلك كتاب مواعظ وأخلاق وقورن بما في القرآن [ الكريم] من مواعظ لما كلن بينهما أيضا شبه أصلا ولو أتحد الموضوع.
وهكذا لا يمكن أن يجد الباحث كلاما أو كتابا في اللغة العربية يمكن أن يتحد أو يتشابه أسلوبه و أسلوب القرآن [ الكريم]، فهو صورة جديدة مبتكرة في البيان العربي جارية
على قواعد العرب وطريقتهم في التركيب، ولكنه يختلف عنها كل الاختلاف فيما نسميه بالأسلوب، بحيث أنك لو خلطت سورة أو جملة آيات بمجموعة أخرى من كلام العرب لاستطعت أن تميزها منها بسهولة.
أما الحديث النبوي فكثيرا ما يشبه أسلوبه أسلوب سائر الأقوال والحكم المأثورة إذا كانت بليغة، ولذلك كثيرا ما توضع الأحاديث كذبا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشتبه به من حيث لفظها ومعناها على السامع، ولا يمكن البحث عن أصالتها وصحتها إلا عن طريق السند.
ومن السلّم به لدى أهل البصر الأدبي أنه من المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له أسلوبان في بيانه يختلفان اختلافا كبيرا احدهما عن الأخر، ويجري كل منهما في ذاته على نسق متشابه لا يختلف في درجة بلاغته وطريقته، ويختلف عن أسلوبه الأخر اختلافا كليا، فهذا مما لم يعهد في التاريخ الأدبي المعروف. بل إذا أراد أحد الكتاب أن يخرج عن الأسلوب الذي هو متميز فيه إلى أسلوب أخر فلا بد أن يظهر فيه التكلف، ولا يمكن أن يتقن ذلك الأسلوب الثاني، فما بالك بهذا التفاوت الكلي بين أسلوب القرآن [ الكريم] وأسلوب الحديث [ الشريف]؟
فمن يتوهم من الأجانب أن القرآن [ الكريم] هو مجموعة من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب أحاديثه، فإنما منشأ وهمهم هذا عدم إمكانهم أن يتذوقوا الفارق العظيم بين الأسلوبين في العربية لكي يعرفوا إمكان وحدة المصدر فيهما أو عدم إمكانه.
هذا الاختلاف الواسع المدى بين أسلوب القرآن [ الكريم] وأسلوب الحديث النبوي الذي يوجب الحكم باختلاف مصدرهما يتجلى واضحا لدى كل ذي إدراك في الأسلوب العربي، وذوق في لسان العرب، من الأمثلة الواردة منهما في موضوع واحد.
فلو أننا أخذنا من القرآن [ الكريم] آيات، ومن الحديث النبوي أحاديث في موضوع تلك الآيات نفسها، لرأينا بهذه المقارنة من اختلاف الأسلوبين، الحاكم باختلاف المصدر ما فيه البرهان الكافي:
1- فنأخذ مثلا قول القرآن [ الكريم] في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران: 104)
ولننظر في مقابلة في المعنى نفسه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم". [ ضعيف: ضعيف الجامع حديث رقم : 4650، والسلسلة الضعيفة برقم 4298].
2- ولنأخذ مثلا في موضوع الإخاء في الدين قول القرآن العظيم في سورة الحجرات: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [(الحجرات: 10)].
ولننظر مقابله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُه...} [ متفق عليه].
ومعنى يسلمه: أن يتركه لعدوه، فلا يحميه ولا يمنعه منه.
3 – ولنأخذ أيضا قول القرآن العظيم في موضوع الإخاء الإنساني العام والتآلف والتفاضل بالتقوى والصلاح، لا بالعرق والنسب، لا بالمال والنسب: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ( الحجرات: 13).
ولننظر في المعنى نفسه أقوال النبي صلى الله عليه وسلم التالية:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى "[ رواه الإمام أحمد في مسنده ج 5/ ص 411 حديث رقم: 23489 واللفظ له ، والبيهقي في شعب الإيمان رقم 5137 ، و أبو نعيم في الحلية ج 3 / ص100، قال الألباني: صحيح بمجموع طرقه " انظر صحيح الترغيب 2964 والصحيحة 2700 وغاية المرام 313].
" وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" [ رواه مسلم].
" " المؤمن يَألَفُ و يُؤْلَفُ و لا خير فيمن لا يَأْلَفُ، و لا يُؤْلَفْ " .
[ رواه الدارقطني في الأفراد، و الضياء المقدسي في المختارة ، وهو السلسلة الصحيحة 426]

4 – ولنأخذ أيضا قول القرآن العظيم في ارتباط صلاح الحياة الاجتماعية بنظام العقوبة على الجنايات: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة: 179).
ولننظر في مقابله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحا" [ابن حبان في صحيحه ج 10/ ص 244 حديث رقم: 4397، و أبي يعلى في مسنده ج 10/ ص 498 حديث رقم: 6111، (سنده صحيح رجاله كلهم ثقات)].
ولنأخذ أيضا قول القرآن العظيم في وجوب أداء الأمانة والحكم بالعدل: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58).
ولننظر في مقابله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك " [أخرجه أبو داود ( 2 / 108 ) و الترمذي ( 1 / 238 ) و الدارمي ( 2 / 264 ) و الدارقطني ( 303 ) و الحاكم
( 2 / 46 )، أنظر صحيح الترمذي رقم 1015 ، وصحيح ابي داود رقم 3019].
" لَيْسَ مِنْ وَالِي أُمَّةٍ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ لَا يَعْدِلُ فِيهَا إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ" [ الإمام أحمد في مسنده ج 5/ ص 25 حديث رقم: 20290، عبد الرزاق في مصنفه ج 6/ ص 420 حديث رقم: 32555].
" إن الله لا يقدس أُمَّةٍ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ وهو غَيْرَ مُتَعْتَع"
[ أخرجه الطبرانى فى مسند الشاميين (1/190 ، رقم 332) ، وأبو نعيم فى الحلية (6/128)، قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1857 في صحيح الجامع]
وهكذا إذا تقصينا الموضوعات والمعاني التي وردت في القرآن الكريم وفي الحديث معا، نجد بينهما في الأسلوب العربي هذا البون الكبير الذي يجزم معه كل ذي بصر وإنصاف أن شخصا لا يمكن أن يصدر عنه هذان الأسلوبان معا، ولكل منهما طابعه الخاص البعيد كل البعد عن الآخر، وكل منهما في ذاته وفي جميع أمثلته ونصوصه متشابه لا يختلف، بل يجري على غرار واحد، فيحافظ على طريقته المتميزة، وعلى اختلافه عن غيره ذلك الاختلاف الكبير.
وانه ليتجلى من هذه الأمثلة المقارنة ومن نظائرها ما اشرنا إليه آنفا من أن أسلوب الحديث النبوي هو أسلوب التخاطب العادي المألوف بين العرب في بيانهم وأحاديثهم ومحاوراتهم وحكمهم وأحكامهم ووصاياهم ونصائحهم، لا يخرج عن هذا السنن المألوف بينهم، وإنما يمتاز بأنه من جوامع الكلم ومن حكيم البيان وفصيح اللغة، وبخلوه من الحشو والصور الخطابية العاطفية التي تعتمد على العاطفة وحدها دون العقل، وبتعبير أخر إنه يتجلى في أسلوب الحديث النبوي العقل الناطق بابلغ واوجز تعبير معتاد.
أما أسلوب القرآن [الكريم] فيتجلى فيه الابتكار الذي لم يعهد له مثيل، ولا يشبهه شيء من كلام العرب في طرائق بيانه ومناهج خطابه.
إختلاف الشخصية التي ينم عنها الأسلوبان:
هذا وإن كان كل أسلوب بياني يشّف عن ذاتية وشخصية في المتكلم، فمن وراء ذلك التفاوت العظيم في أسلوبي القرآن الكريم والحديث النبوي من الوجهة البيانية يستشف القارئ والسامع تفاوتا أعظم منه في هذه الذاتية التي ينبئ عنها الكلام.
فعندما تسمع القرآن [الكريم] تتجلى لك من خلال آياته ذاتية تتكلم من جوّ علوّ وقوة وسطوة، وقدرة وحكمة ورحمة، وهذه الذاتية القوية العظمى التي تتجلى من وراء أسلوب القرآن [الكريم] لا تضعف حتى في المواطن التي تعبر فيها عن الرحمة، وأن قوتها واحدة في جميع سوره وآياته، فهي دائما ذاتية جبارة قادرة منتقمة عادلة حكيمة رحيمة، آخذة بزمامين من الترغيب والترهيب ، ذات سلطان مطلق.
فأنظر وتصورها مثلا من خلال نحو الآيات التالية:
{اللَّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } (البقرة: 257)
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }(الإسراء: 16).
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }(الإسراء: 23).
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(الحجر:9).
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (البقرة:255).
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا () وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } (فاطر: 44- 45).
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الحشر:23-24).
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ () وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ () قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 77- 79).
أما الحديث النبوي فإنك تشعر من وراء أسلوبه بشخصية بشرية، وذاتية يعتريها الضعف والقوة، ولكن قوتها من لون واحد: ففيها الذات العاجزة أمام الصعوبات القاهرة تارة، وفيها قوة الثقة بالحق تارة أخرى، فكثيرا ما تشعر من أسلوب الحديث النبوي بشخصية تعتز بهذا الضعف الذاتي أمام الله، إلى جانب اعتزازها بقوة الأمانة والثقة بالحق. ففيها ضراعة البشر وتواضع الزهاد، إلى جانب حكمة العلماء وقوة المبلغين الأمناء، فانظر وتصور هذه الشخصية غي لون قوتها من خلال قوة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب حينما هددته قريش، فنصحه بترك الدعوة: " وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ مَا فَعَلْتُ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ دُونَهَ".
وتصورها بشعورها في الضعف الذاتي من خلال الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاة ربه، كقوله بعدما خرج لدعوة ثقيف وعاد بالأذى والخذلان[؟]: " اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك"
أو " اللَّهمَّ إني أسألُكَ رَحمة من عِنْدِكَ تَهدِي بها قَلبي ، وتجْمعُ بِها أَمري، وتَلُمَّ بِها شَعثي ... " [ ( ضعيف ): انظر حديث رقم: 1194 في ضعيف الجامع، وقال أيمن صالح شعبان: (( إسناده ضعيف : أخرجه الترمذي (3419))) انظر " جامع الأصول في أحاديث الرسول ج4 ص 213]
ويقول السيد أحمد بن المبارك نقلا عن شيخه عبد الرزاق الدباغ رحمهما الله في ( الإبريز) في معرض بيان الفرق بين الحديث النبوي، و[الحديث] القدسي وبين القرآن [ الكريم] بعد كلام طويل يحلل فيه الفرق من نواحي روحية، ما نصه: " وكل من له عقل، وأنصت للقرآن [ الكريم]، ثم أنصت لغيره، أدرك الفرق لا محالة، والصحابة رضي الله عنهم أعقل الناس، وما تركوا دينهم الذي كانت عليه الآباء إلا بما وضح من كلامه تعالى، ولو لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يشبه الأحاديث القدسية ما آمن من الناس أحد، ولكن الذي ظلت له الأعناق خاضعة هو القرآن العزيز الذي هو كلام الرب سبحانه وتعالى"
وهذا الكلام إنما يومي إلى ما أوضحناه من تفاوت الأسلوبين تفاوتا كليا، وأن أسلوب القرآن [ الكريم] بدع مبتكر لا يشبهه شيء من كلام العرب.
ثم قال الشيخ عبد العزيز أيضا رحمه الله تعالى بعد ذلك: " كل من استمع القرآن [ الكريم] وأجرى معانيه على قلبه، علم علما ضروريا أنه كلام الرب سبحانه، فإن العظمة التي فيه، والسطوة التي عليه، ليست إلا عظمة الربوبية وسطوة الالوهية، والعاقل الكيس الذي إذا استمع لكلام السلطان ثم استمع لكلام رعيته، وجد لكلام السلطان نفسا به يعرف، حتى أنا لو فرضناه أعمى وجاء إلى جماعة يتكلمون، والسلطان مغمور فيهم، وهم يتناوبون الكلام، لميز كلام السلطان من غيره بحيث لا تدخله في ذلك ريبة"
وهذا الكلام كأنما يعني به – رحمه الله – ما سميناه اختلاف الشخصية التي تستشف من وراء الكلام.
وبعد، فهذه مقارنة بين أسلوب القرآن [ الكريم] والحديث النبوي، إنما نقصد بها الموازنة بين الأسلوبين من الناحية العربية البيانية فقط، وما توحي به من اختلاف الذاتية والشخصية، مما يدل على اختلاف المصدرين دون النظر الى النواحي التي يذكرها العلماء والأدباء الباحثون في وجوه إعجاز القرآن [الكريم] المتعددة.


القرآن العظيم
كتاب من العلم المحيط مداده = به صفحات الكون تتلى وتسمع
فآياته مرآة صدق جلية = يرى ما مضى فيها، وما يتوقع
عظات وأمثال، وهدي وحكمة = وشرع جليل نيّر الحكم مبدع
ألا أنه القرآن، فأعلم ملاذنا = فما دونه خير، ولا عنه منزع
به قارعات كالصواعق قوة = ونور رفيق بالعيون مشعشع
بلاغ كساه الله ثوب بلاغة = ترد بليغ القوم عِيّاً، فيخضع
علاج لبؤس البائسين محقق = وروح لروح اليائسين مشجع
كفاء لحاجات الحياة جميعها = فللفرد تقويم، وللقوم مهيع
شفاء لأدواء النفوس ورحمة = وتكراره أحلى لسمع وأمتع
تراه جديدا كلما جئت سامعا= كأن المعاني من مثانيه تنبع

 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المحاضرة السادسة

مقاصد القرآن [الكريم]
الأستاذ: محمد الصادق الصديق
عضو المجلس الإسلامي الأعلى- الجزائر
{ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك العليم الحكيم }
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير من نطق بالصواب، وأفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.
سادتي العلماء:
أبنائي الطلبة وبناتي الطالبات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أعتذر لدى حضراتكم – كما اعتذر قبلي المحاضران الكريمان اللذان سبقاني- عما قد يبدو في محاضرتي من سطحية أو إرتجال فإني لم أعلم أنني من الذين سيساهمون في هذا الشرف إلا منذ يومين فمعذرة.
القرآن [ الكريم] وما أدراك ما القرآن [ الكريم]، كتاب المسلمين الأكبر، ودستور البشرية الأعظم، ووحي السماء الذي نزل به الروح الأمين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أعظم معجزة لأعظم نبي.
وأقل ما يوصف به هذا الكتاب أنه المعلم النصوح، والنربي المخلص والمعيار الصحيح والحجة القاطعة، والرهان الساطع والنبراس الهادي، يثبت العقول المضطربة، ويداوي القلوب المريضة، ويروي النفوس المتعطشة ويندي الجوانح الصادية، ويهدي الإنسانية الضالة، ويحي الضمائر، ويجلو صدأ الأرواح، ويحقق للمهتدين به والساري على ضوئه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
وصفه من أنزله فقال: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (هود: 1). وقال : { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ابراهيم: 52) وقال: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ () يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (المائدة: 15- 16)
وقال: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران: 138) وقال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص: 29) وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الاسراء: 9) وقال: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ () وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ }( الطارق 13- 14).
ووصفه من نزل عليه فقال: " ... كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا
{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ }
مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [ أخرجه الترمذي في سننه، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال].
وواضح إذن من هذين الوصفين السماويين أن القرآن الكريم حافل بالزمن كله، ماضيه وما حوى، ومستقبله بما سيحدث فيه مما يخطر على بال.
وما لا يخطر، وحاضره بما يزخر به ويجيش من مشاكل مختلفة، وقضايا متنوعة، يقف القرآن الكريم منها جميعا، موقف الطبيب النصوح، والحكم العدل والقائد الأمين، والموجه الرشيد فيعالج المرض، ويحل المشكل، ويضع الحدود، ويرفع معالم الهدى، ويثير دوافع الرحمة، ونوازع الوئام والأخوة والتضامن.
إن القرآن الكريم الذي يصل الأرض بالسماء، والذي هو كتاب البشرية جمعاء، في مختلف الأمكنة والأزمنة، في حالها العاجل، ومصيرها الآجل، في حضارتها وبداوتها، في قصورها وخيامها، له مقاصد وأصول عليها تقوم حياة البشرية، إن هي عملت به وكانت بحق بشرية القرآن [ الكريم].
والذي يتتبع القرآن [ الكريم] بالتلاوة، فضلا عن الدراسة والبحث، يجده قد عني بشيئين هامين هما الإنسان والكون:
أهتم بالإنسان، لأنه خليفة الله في الأرض، ومن أجله حكم على إبليس بالطرد والخزي والهوان، وهو أيضا صاحب رسالة خطيرة هامة، تستنفد عمره المحدود فوق هذا الوجود، فلا يفتأ يجد ويكد ويكدح وهو يقطع رحلة حياته على الأرض حتى يصل إلى نهايتها إلى الله: { يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } (الانشقاق: 6) واهتم بالكون لأنه وثيق الصلة بالإنسان، فيه حياته وفيه مماته، فيه يتلقى العلم والمعرفة بفطرته السليمة عما أودع في هذا الكون من آيات، وفيه يقرر مصيره بعد هذا الوجود، فيكون من الفائزين الرابحين، الذين { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون:(11)] أو من { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا () الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف: (104)]
والقرآن الكريم مع الإنسان قبل ولادته، يهيئ له تربة شريفة طاهرة ينبت فيها غرس كريم، ينتمي إلى أسرة محصنة بالعفاف، ثم يظل معه في مراحل تكوينه، وعند ولادته وحينما يكون طفلا رضيعا، وشابا يافعا ومقبلا على الزواج، وراعيا للأسرة، وعلى أي وضع أو حال يكون عليه الإنسان فالقرآن الكريم معه، يعتني به أكرم عناية، ويحميه ويحرسه من عوامل
التحليل ويقيه على الجادة، ويربطه بالكون ليأخذ منه الزاد التقدمي [كذا] الذي يحقق به رغبته الدائمة في التطلع إلى الآفاق التي يمكن له تحقيقها في هذا الوجود، ويتعهده دأبا بالتوجيه إلى ما في هذا الكون من دلائل الألوهية حتى لا ينسى ربه فيحيد عن الجادة ويشقى: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ( آل عمران: 191).
وأي عاقل يحلق بفكره في أجواء هذا الكون، وينطلق في رحاب هذا الوجود البديع، ويرتاد الآفاق البعيدة متأملا معتبرا، ثم لا يؤمن أن وراء هذا الوجود خالقا مدبرا وصانعا حكيما، ثم لا يلتزم الجادة، ويستقيم معها مدى العمر ويحاول دوما أن يكون منبع خير ونفع وصلاح.
ومقاصد القرآن [ الكريم] تستهدف الإنسان في هذا الكون، تستهدفه في علاقته بخالقه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون، وعلاقته بنفسه – إن صح التعبير- كما تستهدف مصيره في الحياة الباقية بعد هذه الحياة القصيرة المحدودة.
هذا بإيجاز وإجمال، أما بشيء من التفصيل الذي أرجو أن لا يضيق به هذا الوقت، فأول مقاصد القرآن [ الكريم] العقائد، وما يتعلق بها من أصول الدين،كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، والحشر والنشر والثواب والعقاب، وقد جاء ذلك كله في أسلوب محكم وآيات مفصلات كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }(الْإِخلَاص :1) { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد: 3) { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } (البقرة:285).
وقد عني القرآن الكريم بالعقائد عناية لا نظير لها، لأن العقيدة الصحيحة إذا تمكنت من القلب والوجدان، وامتزجت بالروح، بسطت نفوذها على الجوارح كلها، وكان لها تأثير على سلوك الإنسان وأخلاقه، وبذلك يتحقق له كماله الروحي، الذي يجعله يعلو ولا يسفل، وينفع ولا يضر، يصلح ولا يفسد، يبني ولا يهدم، يعمر ولا يخرب.
والعبرة المثيرة أن جميع الرسل يتوجهون أولا وأساسا إلى غرس العقائد في النفوس، لأن الإنسان بالعقيدة إنسان، ولكنه بغير العقيدة قد يكون وحشا ضاريا، وذئبا غادرا، أو حشرة تافهة تأكل وتشرب.
ولنضع في حسابنا حياة من يعتقد إنها دنيا فحسب، فليس هناك خالق يراقب، معاد يحاسب فيه ويعاقب، لا بد أن يحصر حياته في دائرة نفسه وأنانيته وشهواته، يكاثر ويغالب ليحظى من الدنيا بأوفر نصيب، بأي سبب ومن أي طريق، وبأي وجه، يحيا بدماء الناس وهو بذلك فرح فخور، ويرحب بالظلم إن حقق لذة، وبالغدر إن جر منفعة، وبالغش إن إحراز غنيمة، ومجتمع يكثر فيه أمثال هذا، لا بد أن تسود فيه شريعة الغاب وتتحكم فيه طبائع الوحوش، ويحث الخطى إلى مهاوي الهلاك والدمار.
وثاني مقاصد القرآن [ الكريم] الشرائع، وكل ما يتعلق بأفعال الجوارح، من الأوامر والنواهي ، وهي قسمان: العبادات والمعاملات.
فالأولى هي التي تتعلق بصلة العبد بربه، والثانية هي التي تتعلق بصلة العباد بعضهم ببعض.
والعبادة خضوع بالغ حد النهاية، ناشئ من استشعار القلب عظمة الله الواحد القهار، ولكل عبادة من العبادات المفروضة أثر في تقويم الأخلاق وتهذيب النفس وترقية الروح، وتحقيق الوحدة الشعورية بين المسلمين، وتوثيق الصلة بالخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدر الشعور بعظمة المعبود، يكون هذا الأثر، فإذا خلت العبادة من هذا المعنى لم تكن عبادة، ولو أداها الإنسان ونهض بها، فشتان بين عبادة روحية صادقة، اتصل فيها القلب بخالقه، وعبادة صورية جوفاء شغل فيها القلب عن خالقه بمفاتن الدنيا ومغريات الحياة.
والمعاملات بين العباد يرسيها القرآن الكريم على قاعدة الإيمان بالله، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يجازي العامل الصالح بالرضا والثواب، وأيضا على أساس المحبة والأخوة والإيثار.
وعلى هذا الأساس الذي بنيت عليه المعاملات بين الناس ينتفي أن يكون في المجتمع الإنساني فئة ظالمة وأخرى مظلومة، أو فئة مستَغِلَّة وأخرى مسْتَغَلَّة، أو فئة قوية وأخرى ضعيفة، لأن الجميع قد ارتبطوا بآصرة الأخوة والمحبة والوئام، وتساموا عن المطامع والأغراض الشخصية، كيف لا؟ وهم يوقنون برقابة الله وفخامة جزائه.
وكلا القسمين العبادات والمعاملات معروض في القرآن الكريم في عبارات بليغة وأسلوب مشوق، وآيات بينات كقوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين} و{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} و{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } و{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} و { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وثالث المقاصد التشريع، إن ما يشرعه الفرد للفرد أو الجماعة للجماعة تشريع أرضي لا يتفق وفطرة الإنسان، وكل أحواله وكل ظروفه، لأنه تشريع الإنسان الذي يصيب ويخطئ، أما التشريع الحق فهو تشريع السماء تشريع الخالق للمخلوق ، تشريع القرآن [ الكريم] الذي يجمع بين المادة والروح وبين الدنيا والآخرة، ويراعي أطوار الحياة ، وظروف الإنسان، فيعطي لكل دور وكل ظرف ما يناسبه ويلائمه.
والتشريع القرآني أنواع:
التشريع الاجتماعي: ونجده مثلا في الآيات التي توجب الزكاة وإخراجها لمستحقيها، كقوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (التوبة: 60) ، وقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ( البقرة: 215).
التشريع المدني: وهو ما جاءت به آيات الربا والميراث وما إليهما، كقوله تعالى: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } ( الروم: 39)
وقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }...الآية (النساء: 11).
التشريع السياسي: وتقره الآيات التي توجب الطاعة لأولي الأمر والوفاء بالعهود والمواثيق ...الخ، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ( النساء: 59)، وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (النحل: 91).
التشريع الجنائي: وهو ما جاء في الآيات المبينة للحدود والقصاص كقوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ( المائدة:45).
التشريع الحربي: ونجده في الآيات التي نأمر بإعداد القوة، وتؤذن بالقتال، وتعو إلى السلم، وتبين معاملة الأسرى وتوزيع الفيء، وشروط النصر في المعركة كقوله تعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ () وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ () وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ () وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (الأنفال: الآيات 58- 61).
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ () وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال: 45- 46).
ومن أبرز ما يتسم به التشريع الإسلامي، رعاية المصلحة العامة، ومسايرة الإمكان البشري وقلة التكليف وعدم الحرج، ونصوص الوحي في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}.
ورابع المقاصد القصص: الذي ورد في تاريخ الأنبياء والرسل [ عليهم السلام] وذي القرنين وأصحاب الكهف وغيرهم، وقصص القرآن الكريم تبين لنا ما جرى للأمم الماضية من عز وذل، وما كان لها من رفعة وانحطاط، وما تعاقب عليها من حياة أو موت، مقرونة بأسبابها وعللها من أفعال تلك الأمم وأخلاقها وصفاتها وعاداتها، كما تصف لنا أصحاب الرسالات في احتمالهم لصنوف الأذى في سبيل الله، ومواقفهم البطولية الحاسمة في سبيل الحق والعدل والحياة الكريمة العزيزة، كما ترشدنا إلى عواقب الظلم والترف، وفساد الأخلاق وعواقبها والجبن والخوف في تدهور الأمم وانحطاطها، وذلها وموتها، كما ترشدنا إلى عواقب الصبر والثبات والجهاد والتضحية من نصر وقوة، وعزة وسلطان، نقرأ كل هذه القصص للعبرة والتبصر والاتعاظ، وأخذ الدرس لكي نسلك سبل الهدى، ونتقي موارد الهلاك.
وكل ذلك مفصل في القرآن الكريم بأسلوبه المعجز، الذي يملك على العقل واللسان والقلم مذاهب الفصاحة والبيان.
وخامس مقاصد القرآن الكريم الأخلاق والآداب: وأخلاق القرآن الكريم مستمدة من العقيدة، ولذلك كان لها من العمق والثبات والرسوخ ما كان للعقيدة، فليست أخلاق القرآن الكريم نظريات فلسفية أو مصطلحات علمية تحفظ ويتشدق بها في الأندية والمجامع، بل هي نور يحيا مع الوجدان والمشاعر، وتلتقي نع منطق الفكر، وسماحة الفطرة.
واتصال أخلاق القرآن الكريم بالعقيدة يسمو بها إلى أعلى، ويمنحها روح التجرد الخالص من كل أنواع الهوى، فلا يضّنُ في موطن الجود من يثق أن الله هو الرازق، ولا يحجم في المعركة من يوقن أن الأعمار بيد الله، ولا يكتم الحق من يؤمن أن الله أكبر، وهكذا كل الصفات والأخلاق، تقوم في القرآن الكريم على العقيدة، على صلة المخلوق بالخالق، ثم على صلات العباد بعضهم مع بعض.
وقد أهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا بالأخلاق، لأنها ينابيع القوة، وعماد حياة الأمم ، فإذا فسدت أختل نظام الحياة ، وانحطت الأمة، وتحللت وتلاشت، وكم أمة بادت وطويت صفحتها ولم يكن ذلك لضعف قواها الحربية، ولا لنقص مواردها المالية ولا لقلة عددها، وإنما لانحطاط أهلها، وفساد أخلاقهم، ويكفي الأمة الإسلامية فخرا وشرفا أن منهجها في الأخلاق كتاب الله، وأن قدوتها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لخص مهمته في قوله: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق " [ البيهقي في سننه الكبرى، والقضاعي في مسند الشهاب، والحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم ووافقه الإمام الذهبي]
وحسبنا في هذا المقصد، أن نقرأ القرآن [الكريم] لنرى مبلغ عنايته بالأخلاق حتى أن شرائعه كلها بمثابة الدرجة العملية لتمكين أسباب الخلق وإشاعة روح الحب والرحمة في الجماعة الإنسانية.
وسادس المقاصد الإنذار والتبشير: وهذا في آيات كثيرة موزعة في مختلف سور القرآن [الكريم]، ذكر فيها ما أعده للكافرين من العذاب المهين، وما أعده للمؤمنين من النعيم المقيم.
وسابع المقاصد المواعظ والإرشاد: ونجد هذا في الآيات التي تشتمل على الحكم والأمثال، وهي كثيرة كقوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} و{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } و { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا َوهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } و{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
تلكم سادتي ابرز مقاصد القرآن [الكريم] بإيجاز فرضه ضيق الوقت عند الإعداد والتقديم، ويعجز اللسان والقلم في وصف ما أحدثه القرآن [الكريم] بمقاصده هذه من التحولات العجيبة المدهشة في الأمة العربية، وفي سائر أنحاء المعمورة.
ولو قدر لأحد منا أن يرى الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنا، فماذا يرى؟ وماذا كان يتوقع لهذا الجزء من العالم؟
إنه يرى قبائل منتشرة فوق رمال الصحراء القاحلة، قد طغت عليها الجاهلية فسلختها من إنسانيتها، فكانت من العقائد في غواية، ومن الأخلاق في همجية، ومن الدين في وثنية، ومن العادات في وحشية، ومن الاجتماع في انقسامات وتحزبات، وكانت جميع معالم الحياة تنذر بسوء المصير، ولم يكد ينزل القرآن الكريم وينادي فيهم بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ (يونس: 57)] حتى لانت النفوس وتفتحت القلوب وانشرحت الصدور، وتوحدت الصفوف، وأقبلوا على القرآن [الكريم] يحفظونه، ويتأملونه ويتدبرونه، ويغوصون على ما فيه من حقائق وذخائر وأسرار، ويطبقونه على أنفسهم وعلى ذويهم بدقة، فأحدث فيهم ما بهر العقول، وحير النفوس، وظل عبر التاريخ أنشودة كل لسان، وشغل كل فكر وقلم، وسيظل كذلك ما دامت الحياة.
لقد صنع القرآن [ الكريم] من تلك الأمة العاجزة الضائعة أمة لم يعرف التاريخ مثلها عقيدة وإيمانا، أخوة ورحمة، وعدلا ووفاء، وأصبحوا كما قال احد المفكرين: (( طاقة زهر لا شوك فيها، وكتلة فيها الكفاية التامة في كل ناحية من نواحي الإنسانية، كتلة هي في غنى عن العالم، وليس العالم في غنى عنها، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها، وليس لها عهد بها، فلن تضطر إلى ان تستعير رجلا من امة، أو تستعين في إدارتها بحكومة، أو ترسل بعثة إلى الخارج لتدرس أنظمة الحياة، وقواعد الحكم والقيادة، بل كان معتمدهم الوحيد " مقاصد القرآن [الكريم ])).
نجحوا وانتصروا، وصنعوا حضارة إنسانية لم يعرف التاريخ مثلها في مختلف العصور، لأنهم اعتمدوا دستور السماء، وعملوا بأوامر ونواهي خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلحها وما يفسدها.
وتفلسف بعضهم في هذا العصر، ورأى أن مقاصد القرآن [الكريم ] وأحكامه، قد مضى عهدها، وأنها إذا كانت تصلح بعهد الجمل والخيمة، فهي لا تصلح أمة أبعهد الطائرة والصاروخ، وناطحات السحاب.
إن كثيرا من السذج البسطاء، والجاهلين للقرآن [الكريم ] ومقاصده والمتأرجحين بين الكفر والإيمان، يظنون أن العودة إلى القرآن [الكريم ] والعمل بمقاصده معناه تحطيم المصانع والمعامل، وقطع السكك الحديدية، وإغلاق دور الثقافة والتعليم وتعطيل حركة الاكتشافات والاختراعات، وتعطيل العقل عن التفكير والاستنتاج، والاستضاءة بالشمع والزيت، واللجوء إلى الكهوف والمغاور للتعبد حتى يأتي الموت.
تفكير لا أسخف منه، ونظرية لا أدل على تبلد الإحساس وضيق الأفق منها، أيظن هذا بالقرآن [الكريم ]، وتلك مقاصده؟
أيظن هذا بالقرآن [الكريم ] وهو كتاب: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} وكتاب: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض } و { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون } { فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِق } و { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وكتاب: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }؟؟
إن الحقيقة الناصعة التي يجب الرضوخ إليها هي أن الأمة الإسلامية، لن يكون لها وجود صحيح، ولن تحتل مركزها في الحياة، مركز التوجيه والقيادة الحضارية والثقافية الذي حدده الله لها في قوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } إلا بالعودة إلى مقاصد القرآن الكريم، إلى فهمها فهما صحيحا، وتطبيقها تطبيقا شاملا في كل ميادين الحياة، في البيت والطريق، في المدرسة والمزرعة، في المحكمة والإدارة.
إن الأمل لوطيد في نهضة الشباب المباركة، وإقبالهم على القرآن [ الكريم] يتفهمونه، ويسجلون أسراره ويحاولون تطبيقه، لكن عليهم أن يحذرون من أولئك الأميين الذين ينصبون أنفسهم في المساجد لشرح القرآن [ الكريم] وهم جاهلون وقد يكونون أشد خطرا على القرآن [ الكريم] وعلى الأمة من الذين يستعملونه للتطبيب، وكشف عالم الغيب، وقضاء الحاجات وحل الطلسمات، وتسخير الجن وتوسيع الرزق والتمائم والتعاويذ.
إن نظم القرآن [ الكريم] وأحكامه ومقاصده يجب أن تؤخذ من أهل العلم والمعرفة، وإلا تعفن الوضع، وساءت العاقبة، وما أصعب أن يجتمع الجهل والعمى ويتعاونا مع الغرور.
وقد قلت وما أكثر ما قلت، وسأقول وما أكثر ما أقول إن شاء الله إن القرآن الكريم بمقاصده الحكيمة السامية هو الذي وحد المسلمين ويوحدهم، ويصنع منهم قوة مرهوبة الجانب، كما صنعها من قبل، وهو الذي جعلهم يرفعون ألوية النصر المبين في بدر ومكة واليرموك، والقادسية وحطين، وفي مختلف المعارك التحريرية التي خاضوها ضد الغزاة المستعمرين.
ولولا هذا الكتاب وما بثته مقاصده وعقائده في النفوس، من الإيمان بالله والثقة فيه واليقين في نصره، وما طبعت عليه هذه النفوس من العزة والكرامة والإباء ما انتصرت الجزائر في حربها الوحشية الضروس ضد فرنسا والحلف الأطلسي، ولما عشنا هذه الحياة السعيدة التي كان يحلم بها أجدادنا، ولما كان هذا الملتقى ملتقى القرآن الكريم.
فليتذكر من أنسته متعة الحرية وجمالها، أن المجاهدين الذين عزموا على تحرير الجزائر وحرروها، لم تكن لهم في أوائل الثورة سوى العصّي والمناجل والخناجر المصدّدة، وبنادق الصيد العتيقة المشلولة، وكانوا إذا هجموا على العدو وأطلقوا من حناجرهم كلمة "الله اكبر" .
هذا ما عنّ لي ذكره، والموضوع ما يزال ممدودا متسعا، والحديث عنه شهي لذيذ، لأنه عن القرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
أشكركم على حسن انتباهكم، وحفظكم الله ورعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصادر والمراجع:
- مقاصد القرآن[ الكريم] تأليف محمد الصالح الصديق.
- تفاسير الطبري، الألوسي، الزمخشري، الرازي.
- دائرة معارف القرن العشرين.
- بحث في التشريع الاسلامي تأليف محمد الصالح الصديق.
- كتاب " حكمة الاسلام " لأبي الفيض المنوفي.
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المحاضرة الثامنة
" نظرة في الإعجاز البياني القرآني"
الشيخ محمد الغزالي
المدير العام للدعوة الإسلامية – مصر
توطئة:
إن إعجاز القرآن الكريم حقيقة يقرها الوحي والعقل معا.
وبعد مرور أربعة عشر قرنا من الزمان، تقلبت فيها البشرية بين أطوار مختلفة ونالت فيها حظوظا من العلوم والمعارف الإنسانية والعلمية، ووصلت فيها إلى آفاق ضل عنها الرشد البشري أحقابا كثيرة... بعد كل هذا يقف إعجاز القرآن [الكريم] حقيقة يقرها " التاريخ" أيضا.
فالوحي والعقل والتاريخ يجمعون على التفرد الإعجازي لهذا الكتاب الكريم.
وقد وعى المسلمون حقيقة الإعجاز القرآني منذ تلقوه ...ومنذ خرجت بهم كلمات الوحي من صحراء مكة المقفرة إلى عواصم الانحلال والوثنية الكبرى، فدكوا - تحت رايتها- قلاع الشرك والضلال... وساحوا بها في أرجاء المعمورة ينشرون الحضارة والإيمان الصحيح ودعائم الحق وحقوق الإنسان، ويحررون بكلمات القرآن [الكريم] النفوس المعذبة، والأرواح المحاصرة، والعقول التائهة والأجساد المطحونة..
أجل: منذ خرج المسلمون بكلمات ربهم، فنصروها وانتصروا بها، وهم يعرفون قدر المنحة الإلهية العظمى التي يمثلها القرآن الكريم، وبالتالي فلم يقصروا في الوقوف الذكي عند آياته البينات، ومنحوها أعمارهم يدرسونها من كل جوانبها اللغوية، والبيانية والتشريعية، والنفسية، والعلمية.
وكان بيان " إعجاز القرآن" [الكريم] مناط اهتمامهم الكبير، فصنفوا فيه المصنفات وتحاوروا حول حقيقته واجتهدوا فيه بين مصيب ومخطئ.. لكن إيمانهم "بالإعجاز" كان حقيقة كبرى لا تقل عن إيمانهم بطلوع الشمس من المشرق، وغروبها من المغرب، "فالإعجاز" القرآني يصل في عقولهم ووجدانهم إلى أن يكون حقيقة – فوق العقل والتاريخ...
- إنه حقيقة كونية.
ونحن في كلمتنا هذه لن نتطرق إلى الجوانب النفسية والعلمية والتشريعية والتاريخية وغيرها من جوانب الإعجاز القرآني، وإنما نقصر حديثنا على وجه واحد وهو الإعجاز البياني منوهين إلى أن ما نكتبه إنما يخضع لإيجاز شديد، فالإعجاز البياني من أبرز نواحي الإعجاز القرآني، وقد كتبت فيه كتب طيبة، وما زال أهلا لأن تكتب فيه مؤلفات أخرى لا تحصى.
الإعجاز البياني:
إنني واحد من الألوف التي قرأت هذا القرآن الكريم، ومرت بمعانيه وغاياته مرور العابر حينا، ومرور المتفرس المتأمل حينا أخر..
و القرآن الكريم ليس الكتاب الوحيد الذي طالعته، فقد طالعت مئات الكتب الأخرى على اختلاف موضوعاتها واقتربت من نفوس أصحابها ومن ألبابهم، وأذنت لهذه الكتب أن تترك آثارها في فكري، لأقلبها على مكث، وانتفع بما أراه نافعا وألفظ ما أراه باطلا..
ومن اليسير علي وعلى أي قارئ مثلي أن نكوّن حكما معينا على الكتاب الذي تناوله ، فقد اخلص من قراءة كتاب ما، ثم أقول: هذا المؤلف واسع الإطلاع..
أو أقول: إن ثقافته غزيرة في الآداب الأجنبية، أو أنه طائل الثروة في الأدب العربي القديم، أو أنه ملم بآخر ما توصلت إليه الكشوف العلمية، أو أنه قصير الباع في إعطاء المعنى حقه، أو أنه مصطبغ بلون يساري، أو أنه من المعجبين بالفيلسوف الفلاني، أو أن في نفسه عقدة تميل بأسلوبه إلى الحدة في ناحية كذا، أو أنه مرن الفهم والإدراك...الخ.
وقد أعجز عن استبانة الخصائص الإنسانية المتباينة في تأليف الرجال الذي طالعت نتاجهم الذهني، أو آثارهم الروحية.
وكثيرون غيري يجدون في أنفسهم هذه المقدرة.
وقد تلوت القرآن [الكريم] مرارا، ورجعت بصري في آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبها بين الأثر النفسي والذهني لما يتب العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسي والذهني لهذا القرآن[الكريم]، فلم أقع على شيء البتة.
وقد أحكم بأن كتابا ما صدر عن مؤلف في عصر كذا، أو أن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هي كيت وكيت.
أما بعد قراءة القرآن [ الكريم]، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسموات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرتهن ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت المتعالي، يستحيل أن تلمح فيه شارة لتكلف أو إدعاء.
ومع رفعة المصدر التي تحس أن القرآن [ الكريم] جاء منه، وإحساسك أن هذا الشيء [؟] أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك، متجاوب مع فطرتك، صريح في مكاشفتك بما لك وما عليك، متلطف في إقناعك فما تجد بدا من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله.
ولا تحسبن هذا الوصف متأثرا بمواريث التدين التي انتقلت إلينا من الأولين ، فان الكفار أنفسهم أدركوا أن القرآن [الكريم] مباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدى سماعه.
فقد روي أن الوليد بن المغيرة -وهو من زعماء الكفر في مكة- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستمع غلى ما يتلوا من هذا القرآن [الكريم]، فلما نصت وتدبر، كأنما رق قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له:
يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمدا [صلى الله عليه وسلم] وملت إلى دينه ..
قال الوليد – مستنكرا عرض المال عليه -: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك، فيعلمون أنك مكذب له وكاره.
قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن.
"والله ما يشبه الذي يقوله محمد [صلى الله عليه وسلم] شيء من هذا، والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته"
وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق في هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه.
والعراك على الرئاسة في هذه البيئات يذهل عن شؤون الكفر والإيمان.
فليكن محمد [صلى الله عليه وسلم] وليكن كلامه وحيا.
بيد أن المصلحة القبلية تقضي بكتمان أمره، وانتقاص شخصه.
ولذلك عاد أبو جهل يلح على الوليد: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه؟؟؟
فقال الوليد: دعني أفكر..
وفكر الوليد، ثم أحب أن يكون منطقيا مع نفسه فقال: هذا سحر؟؟؟؟
ولعله يقصد بالسحر ما جاءت به قوى خفية، لا يعرف الناس عادة حقيقتها، وفي هذا الحوار نزل قوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا () وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدودًا () وَبَنِينَ شُهُودًا () وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا () ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ () كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا () سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا () إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ () فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ () ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ () ثُمَّ نَظَرَ () ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ () ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ () فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ () إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ () سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[( المدثر: 11- 26)].
والواقع أن من الكذب الشائن على الفطرة والبداهة، وعلى العقل والرواية أن يزعم زاعم أن القرآن الكريم كلام عادي، وأن أديبا راسخ القدم في البلاغة يستطيع أن يجئ بمثله...
وقد تساءل كثيرون عن أسرار هذا التفرد الذي اتصف به القرآن الكريم، ولا شك أن المعاني التي تضمنها والتي سداها ولحمتها من الحق الخالد أساس لهذا الإعجاز، بيد أن المعنى على جلاله إن لحقه قصور في صورته وأثره، نقصت قيمته، وطاشت دلالته.
وهناك معاني جميلة في نفوس أصحابها، ولو استبانت على السطور لأشرقت بها الصحائف، ولكنها مشاعر في النفوس فحسب:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما = جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فتصوير المعنى الصادق حتى يبرز في الحروف كما يبرز الجمال الإنساني في أبهى حلله، وحتى ينتقل سناء إلى الأفئدة نفاذا أخاذا، ركن ركين في خدمة الحقيقة وبسط سلطانها، وإزاحة للعوائق من أمامها.
وقد تعرض لفيف من علماء المسلمين لشرح الإعجاز البياني في القرآن الكريم، وكنت أنا نفسي كثير الطواف حول هذا الجمال البياني، أسرح فيه الطرف وأردد فيه الفكر، لكني كنت كالذي شغله الإعجاب بالجمال عن وضع تفاسير له، أو لعلني حاولت ثم غلبني القصور، فتوقفت حتى تسنح فرصة...
إلى أن قرأت للمرحوم العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز كتابه " النبأ العظيم – نظرات جديدة في القرآن" [ الكريم] فرأيت الرجل وفّى هذا المجال حقه، وأفاض في الحديث ، كأنما يتفق من ينبوع لا يغيض أبدا.
وددت لو أن الرجل بقي حتى أكمل ما بدأ، بيد أن المنية عاجلته، فقضى وهو مجاهد في سبيل ربه – طيب الله ثراه-.
شرح الدكتور في تفصيل طويل المعاني التي احتواها القرآن الكريم والتي يستحيل بالبراهين الحاسمة أن تصدر عن بشر، وأحصى جملة الشبه التي يمكن أن تخطر ببال أي متردد مرتاب، ثم أجهز عليها.
ومضى يستعرض ما يقوله المستقصي في طلب الحقيقة، وبسط الإجابة في أدب وفقه...اسمع إلى هذا البيان:
"... فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن [ الكريم] كان عجزا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن [ الكريم] سرا من أسرار الإعجاز يسمو به قدرتهم، ولكن لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن [ الكريم] فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية.
فمن حروفهم تركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه.
فأي جديد في مفردات القرآن [ الكريم] لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها ؟ وأي جديد في تركيب القرآن [ الكريم] لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [(فصلت:44)].
وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنّها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء .. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا.
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة.
ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك.
وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك.
وينتقل الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التي بلغ بها درجة الإعجاز، ولولا الإعجاز ولولا أن الرجل حافظ فاقه لكتاب الله، وضليع مكين في آداب العربية، وعابد مخبت تكشف أمام بصيرته النيرة الحكم البالغات التي غابت عن غيره، ما استطاع أن يصور لنا هذه الخصائص ويجعلها منا رأي العين.. ونكتفي بنماذج قليلة من كلماته، لا تغنى البتة عن مدارسة الكتاب ذاته، قال:
" فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء نزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب الأذكياء، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك - إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى. كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال.. فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، إلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا نجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد، يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة. { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }. فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد إقناع العقل وإمتاع العاطفة
وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما: فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى: فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين، ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية، والمتعة الوجدانية معًا. فهل رأيت هذا التمام من كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب. فأما الحكماء: فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاب عاطفتك.. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف ونبو عن الطباع. وأما الشعراء: فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًّا أو رشدًا، وأن يكون حقيقة أو تخيلاً!
فتراهم جادين هازلين، يستبكون وان كانوا لا يبكون ويطربون وإن كانوا لا يطربون. { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ () أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ () وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [(الشعراء: 224- 226)]. وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير فسل علماء النفس : هل رأيت أحدًا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟
ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس هل ترونها تعمل في النفس دفعة واحدة وبنسبة واحدة"؟
يجيبوك بلسان واحد: كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى، وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى جانب من هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا . وصدق الله:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } (الأحزاب: 4) .
فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء؟!
وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم، أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب.
فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة عملية، قلت: هذا ثمرة الفكرة.
وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت هذه ثمرة العاطفة.
وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر، فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبًا واحدًا، يتجه اتجاها واحدًا، يجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد، والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟
فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. ذلك الله رب العالمين. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا، يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين. وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت. ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره، لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها. { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [(الزمر:23)] .{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ () وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } [(الطارق:13-14)] وكتب السيد هبة الدين الحسيني رسالة جيدة في إعجاز القرآن [ الكريم] لخصها الأستاذ "عيسى صباغ " في هاتين النظرتين. يقول الشيخ " هبة الدين " : لا ريب أن القرآن [ الكريم] قد أدهش نوابغ العرب وأخرس شقشقة البلغاء في عصره.
ولكن ألأسلوبه الرائق، ولفظه الريق، ونظامه العجيب؟ أم لبدائع معانيه الجذابة، وعظمة مبادئه، ولطائف أمثلته؟ لا نعلم… وإنما نعلم أنه أدهش ويدهش العربي العارف… وربما كان أثره في العامة من النواحي الأولى، وفي الخاصة من النواحي الأخرى. كما أثر بأنبائه الغريبة، وبأسرار إشاراته واستعاراته في الأجيال السائرة.
أجل، هذا القرآن [ الكريم] مدهش من أي وجه كان، وآية عبقريته ساطعة، وقد استعان به منقذ العرب على هدايتهم بعد ما غدوا سكارى بخمرته، فأحيا ذكرهم، وأصلح أمرهم، وأدبهم كما شاءت المصلحة، وأستخرجهم من ظلمة العادات القاسية إلى ضياء عيشة راضية... ثم استخدم أولئك المهتدين بأنوار القرآن [ الكريم] كألسنة الدعوة الأم، وسيوف لإدانة العالم. ويستطرد إلى بيان ميزة القرآن بين المعجزات، فيقول بأسلوبه السهل البليغ: ( إن أكبر ميزة في القرآن [ الكريم]- وهي التي وضعته فوق المعجزات كلها- هي أنه مجموعة فصول ليست سوى صبابة أحرف عربية... من أيسر أعمال البشر، وقد فاقت بعد ذلك عبقرية كل عبقري ... فلم يخلق رب الإنسان للإنسان عملاً- بعد التفكر- أيسر لديه من الكلام "... وكلما كان العمل البشري أيسر صدورًا، وأكثر وجودًا، قل النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه. هذا، ونرى الناس في عهدنا مطبوعين على استحباب الشهرة والأثرة وطلب التفاضل والتفاخر، فإذا رأوا أحدهم يبغي التفوق عليهم بصناعته، اندفعوا بكل قواهم إلى مباراته، وجدوا لكي يأتوا بخير منه... وقد فطر البشر على مثل هذا الشعور... والشعب العربي المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم كان ولا ريب منطويًا على هذا الشعور تمامًا.
فلماذا لم يندفع إلى مباراة القرآن [ الكريم] ؟! ولاسيما بعد ما شاهدوا من صناعة النبي صلى الله عليه وسلم فائدة وعائدة. ولمَ لَمْ يعارضوا عبقريته في البلاغة وهو فرد وهم ألوف؟!!. ألعدم وجود أساتذة فيهم لهذه الصناعة؟ كلا. لقد كانت تربة الحجاز خصبة منبتة لأساتذة الفصاحة والبلاغة... فلم لم يندفعوا إلى معارضته بالمثل، وهو المعارض لهم بكل ما يستطيع من قوة؟! ولماذا اندفعوا إلى مقاتلته دون مقابلته؟.. وإلى مقابلته بالأسنة دون الألسنة؟! وبالحراب بدل الكتاب؟! حتى أفرغوا كنانتهم برمي آخر نبلة فيها ولم ينجحوا.
ليت شعري مم وبم أعجزت عبقرية ذلك الفرد المستضعف فيهم وهم ألوف، معتزون بألوف؟ وكيف أعجزتهم أسطر وكلمات وحروف...!! ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل تلك الدهشة وتعليل بواعثها، فيقول: أحرى بنا أن نحلل هذه الدهشة الغريبة وأسبابها الحقيقية ونقيس أنفسنا (ونحن في هذا القرن) على أولئك الأساتذة ( وإن كانوا في القرون الأولى) قياسًا حسب ذلك المقياس القائل. الناس كالناس والأيام واحدة فإذا عم الإعجاب بالقرآن [ الكريم] أساتذة عصرنا الراقي، فلا نلوم المعجبين بالقرآن [ الكريم] في القرون الأولى.. ". ثم يستشهد بتقدير العلامة " جبر ضومط " في كتابه " الخواطر الحسان " لآيات القرآن [ الكريم] وبلاغتها، وبشعر ونثر للفيلسوف الدكتور شبلي شميل القائل:
دع من محمد، في صدى قرآنه = ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أك قد كفرت بدينه = هل أكفرن بمحكم الآيات
ومواعظ لو أنهم عملوا بها = ما قيدوا العمرات بالعادات
من دونه الأبطال في كل الورى = من حاضر أو غائب أو آت
كما قال: إن في القرآن [ الكريم] أصولاً اجتماعية عامة فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كل زمان ومكان... حتى في أمر النساء، فإنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج واحدة عند عدم إمكان العدل..
والقرآن [ الكريم] قد فتح أمام البشر أبواب العمل في الدنيا والآخرة، بعد أن أغلق غيره من الأديان تلك الأبواب... وذكر أن الشيخ " ناصف اليازجي " أوصى ولده " إبراهيم " لتقوية براعته في الأدب العربي قائلاً: "إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن [ الكريم]، ونهج البلاغة "... ونوه بإعجاب طائفة من نوابغ الفرنجة أمثال " كارليل " و " ولز " و " تولستوي " و " مونتيه " بالقرآن الشريف وبعبقرية النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انتقل إلى موضوع دهشة الأولين الذين قهرتهم عبقرية النبي الأمي وقرآنه فقال: " إذا قام بيننا البناء والحداد ينظمان القريض الجيد أعجبنا حسن القصيدة من جهة، وغرابة المصدر من جهة أخرى، لأنهما عاملان أميان لم يأخذا من الدراسة والكتابة حظًّا.. ". فمحمد الأمي الخاطب بآية : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [(العنكبوت:48)].
ربيب البادية، وخريج حي بني سعد، ينهض في أم القرى بدعوى نسخ الأنظمة، وتعديل الشرائع، وإصلاح العالم... هذا من جهة، ومن جهة أخرى: إنه أفنى قواه في معارضة أقوام سفلة، وكابد الأذى والأسى من الأفواه والأيدي، وقضى حياته في إدارة الحروب والمغازي، وهو ما بين هذه وتلك يأتي بكتاب يعجز عن مباراته بلغاء عصره ونوابغ دهره، رجل كذلك لابد وأن يدهش الناس أمره وحق لهم أن يندهشوا لأن الرجل الأمي قد يفوز بالعبقرية ولكن عبقريته لابد أن تتجه إما إلى ميادين الحروب فيكون من عظماء الفاتحين، أو تتجه إلى أندية الرأي ومجالس الشورى فيكون من كبار الساسة والدهاة... أما أن يجمع الحسنيين ويضيف إليهما نبوغًا في العلم، ونبوغًا في التشريع والقضاء، ونبوغًا في جذب عواطف الخاصة والعامة، فلم يسمع به التاريخ، ولم يسمع به الزمان... وربما عد الفن وجوده ضربًا من المحال... إذن فالدهشة طبيعية لدى مشاهدة بطل كهذا..
بطل في العلم والنظم..
بطل في السياسة والفلسفة معًا ..
بطل في الإدارة وفي قيادة الخاصة والعامة جميعًا..
بطل في التشريع والتنفيذ حتى على نفسه وأهله..
بطل في كل ذلك، ثم هو فوق ذلك أمي غير متعلم..
وأكثر ما يعجب فيه: أنه لم يتخصص بفن واحد من الفنون، لا في ألفاظه ونظمه. ولا في معانيه وحكمه. فبينما نراه يتصدر ببلاغة عجبي، وأمثال عذبي ، إذا هو يجري في ميدان العلم أو مضمار الفلسفة فيبدي من أسرار الطب والطبيعة وكائنات الأرض وكامنات السماء ونواميس الكون مالا تفي بشرحه الصحائف مما نطق به أمس وانكشف سره اليوم... والحالة أنه لم يك يملك شيئًا منها يوم أخبر عنها..
ثم نراه خائضًا في تاريخ القرون الخالية والأمم البائدة، غير مستند على آثار أو أسفار، ثم تأتي في الحفريات والأثريات مصدقتين له وشارحتين إياه، بعد قرون وأجيال... وكذلك نراه يسن نظامًا، وينسخ أحكامًا، غير مستند في ذلك إلى مشورات أو مؤتمرات، ولكن الظروف الأخيرة، والتجارب المتعاقبة، ومؤتمرات عصورنا الحالية تذعن له، وتعلن اتفاقًا معه. ذلك عدا الأنباء الغيبية عن أحوال أفراد وأقوام هي والله بواعث الإعجاب والدهشة العامة التي اعترت وتعتري الناس من عرب ومستعربة .. كلما تلوا القرآن [ الكريم] أو تليت عليهم آياته، وفسرت بيناته ... وسنتناول في نظراتنا الثانية أسس إعجاز القرآن [ الكريم].
قال: رأينا في نظراتنا السابقة نموذجًا شائقًا من التفكير والتحليل في أسلوب عصري سائغ، جرى به قلم العلامة " هبة الدين الحسيني الشهر ستاني " تمهيدًا لبحثه في القرآن " [ الكريم].. يبدأ علامتنا تحليله بسؤاله: هل تحدى الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالقرآن [ الكريم]؟.. ثم يقول: " صدور التحدي من الرسول لأهل الصنعة أساس ينبغي ثبوته قبل أي شيء آخر، ويتبع هذا بشواهد الآيات الناطقة بالتحدي، ومنها هذه الآية: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }[(البقرة:23)]
ولكن فصحاء العرب أعرضوا عن هذا التحدي المتكرر، وأحجم أبو سفيان عن تجنيد جيش من شعراء الجزيرة وأدبائها لمعارضة القرآن [ الكريم]، بل جد في تأليف جيش من عشرة آلاف مقاتل يخاصم النبي [ صلى الله عليه وسلم] وحزبه ..
إلى جانب هذا من حاولوا المعارضة.. ثم تجد أمثال " الوليد " و "لبيد " و " الأعشى " و " كعب بن زهير " يذعنون لسمو معاني القرآن [ الكريم]وبلاغته، وقد كانوا معدودين أساطين البلاغة في زمنهم.. " . وتؤثر روعة القرآن [ الكريم] في نفوس العرب فيرفعون القصائد السبع المعلقات من حول الكعبة وهي خير ما جادت قرائح الشعراء العباقرة أمثال: " امرئ القيس "، و " طرفة بن العبد "، و " كعب بن زهير"، و" عمرو بن كلثوم "، خجلاً منهم وانفعالاً. كالذي زين البيت بقناديل الزيت، ثم سطعت من حولهن مصابيح الكهرباء القوية- على حد تعبير المؤلف.
وقد حاول أفذاذ من الأدباء بعد معارضة القرآن [ الكريم]فلم يوفقوا، وذكر المؤلف عددًا منهم، ولعل أشهرهم " عبد الله بن المقفع "... ثم استشهد المؤلف بآراء نخبة من أعلام الفرنجة النقاد، وكبار الأدباء في تقدير مزايا القرآن [ الكريم]وأسرار إعجازه... وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى تشريح هذه المزايا، فيعد منها ثمانية وعشرين كرءوس أقلام، ثم يتناول وجوه الإعجاز على المحك، ويقارن بين " الشهنامة " الفارسية في امتيازها، والقرآن [ الكريم] العربي في إعجازه على سبيل المثال... ثم يذكر النظريات السبع للعلماء في وجه الإعجاز، وأهمها صدور القرآن [ الكريم]من أمي، وبلاغته، وغرابة أسلوبه، وأنباؤه الغريبة الصادقة... وحري بنا أن نذكر هنا مع تلك المزايا الإجمالية التي سردها المؤلف بعض أسرار الإعجاز في القرآن [ الكريم]، ألا وهي :
1- " فصاحة ألفاظه الجامعة لكل شرائطها.
2- بلاغته بالمعنى الاصطلاحي المشهور، أي موافقة الكلام لمقتضى الحال، ومناسبة المقام، أو بلاغته الذوقية المعنوية.
3- مسحة البداوة، أي عروبة العبارات الممثلة لسذاجة البداوة مع اشتمالها على بسائط الحضارة.
4- توفر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية.
5- إيجاز بالغ حد الروعة بدون أن يخل بالمقصود...
6- إطناب غير ممل في متكرارته.
7- سمو المعنى وعلو المرمى في قصد الكمال الأسمى.
8- طلاوة أساليبه الفطرية ومقاطعه المبهجة وأوزانه المتنوعة.
9- فواصله الحسنى وأسجاعه المطبوعة.
10- أنباؤه الغيبية وأخباره عن كوامن الزمن وخفايا الأمور.
11- أسرار علمية لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن [ الكريم] إلا بمعونة الأدوات الدقيقة والآلات الرقيقة المستحدثة..
12- تناوله لغوامض أحوال المجتمع، ولآداب أخلاقية تهذب الأفراد، وتصلح شئون العائلات ..
13- احتواؤه على قوانين حكيمة في فقه تشريعي يفوق ما في التوراة والإنجيل وكتب الشرائع الأخرى ..
14- سلامته عن التعارض والتناقض والاختلاف..
15- خلوصه من تنافر الحروف وتنافي المقاصد..
16- ظهوره على لسان بدوي أمي لم يعرف الدراسة، ولا ألف محاضرة العلماء، ولا جاب الممالك سائحًا مستكملاً ثقافته.
17- طراوته في كل زمن، أي كونه غضًّا طريًّا كلما تلي وأينما تلي ... 18- اشتماله على السهل الممتنع، الذي يعد في الشعر ملاك الإعجاز والتفوق النهائي ..
18- طواعية عبارته لتحمل الوجوه وتشابه المعاني، في حدود الدقة الفقهية.. 20- قصصه الحلوة وكشوفه التاريخية عن حوادث القرون الخالية.
19- أمثاله الحسنى التي تجعل المعقول محسوسًا، وتجعل الغائب عن الذهن حاضرًا لديه.
20- معارفه الإلهية كأحسن كتاب في علم اللاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر عن مراحل المبدأ والمعاد.
21- خطاباته البديعية وطرق إقناعه الفذة..
22- تعاليمه العسكرية ومناهجه في سبيل الصلح وقواعد الحرب.
23- سلامته من الخرافات والأباطيل التي من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه.
24- قوة الحجة وتفوق المنطق.
25- اشتماله على الرموز في فواتح السور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها مما يبعثه على التساؤل.
26 - جذباته الروحية الخلابة للألباب، الساحرة للعقول، الفاتنة للنفوس.
ومما لا شك فيه أن الإعجاز القرآني – بعد كل ما ذكرنا- لا يتجلى في عصر أكثر ما يتجلى في عصرنا، بعد أن انتشرت مناهج البحث العلمي، والنقد التاريخي والأدبي.
فلا زال القرآن [ الكريم] مع ما شهدته العصور الأخيرة من رقي أدبي وعلمي، يثبت في هيمنة رفيعة صفته الإعجازية ونسبته الإلهية المحيطة الشاملة، وإنه نسيج بياني وحده !!
ولم يقف إعجازه شامخا متفردا أمام الكتب السماوية الأخرى، التي أصابها من التحريف ما أصابها فحسب، ولكنه بقي معجزا أمام (العقل العلمي المعاصر) مع جولات كل هذا العقل، ونواحي بروزه... وأمام النقد الأدبي ( والأدب المقارن) بالرغم من المدارس النقدية التي ظهرت !!
ولو أرتفع المسلمون عقليا وعلميا إلى المستوى الذي رسمه لهم كتاب دينهم المعجز لكان من أمر حاضرهم غير ما ترى، ولكان مستقبلهم أعز وأكرم.
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء: 9).
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المحاضرة التاسعة
[ملحوظة: قمت بحذف بعض الجمل المتعلقة بذكر أسماء الموظفين الشيوعيين والمؤسسات الرسمية السوفيتية، والتصرف في بعض العبارات]

" مصحف عثمان [رضي الله عنه] المحفوظ في طشقند"

فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الله
رئيس الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازاغستان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على نبي الهدى محمد وعلى آله وأصحابه.
من المعروف أن عدد النسخ لمصحف عثمان الشريف التي جرت كتابتها تحت إشراف الخليفة الراشد الثاني كان خمس نسخ أو ست، ومن وقد وجه إحدى هذه النسخ إلى الكوفة، والثانية إلى بلاد الشام (سوريا) وواحدة إلى مكة المكرمة، وأخرى إلى المدينة المنورة، واحتفظ لنفسه بواحدة، ومن المعروف أن مصحفه قد تلطخ بدمه رضي الله عنه وبالضبط الآية رقم 137 من سورة البقرة في عام 656 م.
وفي الوقت الحاضر يحتفظ متحف التاريخ في عاصمة جمهورية أوزبكستان – طشقند – بمصحف قديم كبير الحجم مكتوب على الجلد ( رق الغزال)، وكان هذا المصحف موجودا منذ القديم في سمرقند ومحفوظا في صومعة مخصصة له في مدرسة " ديوان بيغى" بالقرب من مسجد خوجة أحرار، الذي كان واحدا من كبار الشخصيات الصوفية في القرن التاسع الهجري ومتابعا لطريقة بهاء الدين النقشبندي، وتفيد الروايات بأنه كان يجري عرض هذا المصحف في المواسم وبمناسبة الأحداث المشهودة، حيث كان الناس يشاهدونه معتبرين أنه هو ذلك المصحف بالذات الذي اغتيل أثناء قراءته له الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان هذا المصحف موجودا لدى أخلاف "خوجة أحرار" المذكور إلى عام 1869م،
إلى حين أن أهتم به الموظفون المحليون لروسيا القيصرية.
وفي أواسط سنة 1869م، أجرى والي ( حاكم) " زرافشان ابراموف" مباحثات خاصة مع خدمة مسجد خوجة أحرار اشترى على إثرها من شيوخ المسجد المصحف المشار إليه، ومن ثم أرسله إلى طشقند، ومن هناك وفي 27 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1869م تم إرسال المصحف إلى سانت بتربورغ.
وفي بتربورغ حوفظ على مصحف الخليفة عثمان [ رضي الله عنه] بعناية واهتمام في قسم المخطوطات القديمة لدى المكتبة الإمبراطورية.
وفي ذلك الوقت راح العلماء المستشرقون الكبار يدرسون القرآن الكريم هذا ويشرحونه شرحا علميا.
وفي عام 1905 م تم بمساعدة بعض المستشرقين أخذ نسخة (طبق الأصل) من مصحف عثمان، ومن بعد جرى إكثار هذه النسخة بحيث وصل عددها إلى 50 نسخة، اشترت كثرة منها كبريات مكتبات العالم، ولكن بقي عدد من نسخة ( طبق الأصل) هذه داخل البلاد، منها نسختان محفوظتان الآن في المكتبة الدينية التابعة للإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازاغستان.
ومع أنه تم دفع مبلغ جيد للشيوخ مقابل شراء مصحف القرآن الكريم منهم، وبالرغم من أن علماء الدين قد وقعوا على وثيقة البروتوكول التي تثبت أنه تم تسليم مصحف القرآن الكريم طوعا وليس إجبارا، فإن المسلمين قد أسفوا أسفا شديدا على ما حدث ولم يفقدوا الأمل من أن مصحف الخليفة عثمان [ رضي الله عنه ] سيصبح عاجلا كان أم آجلا في حوزة المسلمين أنفسهم، وفي متناول الشعب من جديد.
لم يحن ذلك إلا بعد انتصار ثورة أكتوبر، وهكذا في يوم التاسع من كانون الأول ( ديسمبر) من عام 1917م، أي بعد انتصار ثورة أكتوبر مباشرة كتب مؤسس الدولة السوفيتية فلاديمير ( إليتش لينين ) إلى مفوض الشعب الخاص بالشؤون التعليمية ( أ. ق لوناتشارسكي) ما يلي: " ورد إلى مجلس مفوضي الشعب خطاب من المؤتمر الإسلامي المنطقي في مقاطعة بتروغراد القومية، وفي هذا الخطاب وتنفيذا لأماني جميع مسلمي روسيا، يرجو المؤتمر إعادة " مصحف عثمان " [ رضي الله عنه] الموجود في الوقت الحاضر في المكتبة العمومية التابعة للدولة إلى المسلمين وإدخاله في حيازتهم...".
وهكذا أعيد المصحف الشريف إلى المسلمين، وانتشر هذا الخبر المفرح في جميع أرجاء البلاد، ونشر على صفحات كثير من الجرائد والمجلات، وقد كتب العالم الديني المشهور موسى جار الله في جريدته " المنبر" التي كانت تصدر في لينينغراد بأن " المصحف الكريم" الذي تم أخذه من مسجد خوجة أحرار بتغاضي من بعض الشيوخ والمفتيين أعيد أخيرا إلى المسلمين، ولو بقي مصحف القرآن الكريم هذا في سمرقند لكان من الممكن أن يتعرض للسرقة من قبل الزوار والسواح".
لقد نقل مصحف عثمان [ رضي الله عنه] في البداية من سانت بتربورغ إلى مدينة أوفا، حيث كانت توجد آنذاك الإدارة الدينية لمسلمي سيبيريا والقسم الأوروبي من الإتحاد السوفيتي التي كانت في حينها المنطقة الدينية الوحيدة للمسلمين.
بقي المصحف الشريف في أوفا إلى عام 1923م، إلى حين أن تقدم مسلمو تركستان بطلب لنقله من أوفا إلى طشقند أو سمرقند.
وإلى ذلك الوقت كان قد تم تأسيس جمعية مسلمي طشقند وسيرداريا التي راحت تطالب بنشاط وإلحاح لإعادة المصحف الشريف إلى مكانه القديم.
وفي عام 1924م أرسلت الجمعية الإسلامية في طشقند وفدا إلى أوفا برئاسة ظاهر الدين أعلام، وقام هذا الوفد بنقل المصحف الشريف في عربة خاصة من عربات القطار إلى طشقند، وقد رافقه جمع من العلماء الأجلاء من تتريا وبشكيريا من أمثال سماحة المفتي رضاء الدين فخر الدين، وفضيلة الشيخ عبد الله سليمان، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن وغيرهم.
وفي طريق العودة أستقبل ألوف المسلمين القطار الناقل للمصحف الشريف ورحبوا بمرافقة العلماء الكرام، وأما فرحة سكان طشقند فقد كانت أكبر بكثير حيث قام المسلمون طوال أشهر كثيرة بزيارة المصحف الشريف والتبرك به [؟؟]، وابتهجوا لعودته ودخولة من جديد في حوزتهم.
هذا هو باختصار تاريخ العودة الثانية لمصحف القرآن الكريم إلى تركستان.
والآن فلنتحدث ببضع كلمات حول كيفية وصول هذا المصحف الشريف إلى سمرقند، ومن أين؟ وبأي سبب؟
من المعروف أن الدين الإسلامي الحنيف قد وصل إلى حدود تركستان بعد مرور نصف قرن بالضبط منذ بشر به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وراح عدد معتنقي وأتباع هذا الدين القويم يزداد بسرعة بين السكان المحليين، وقد انتشر الإسلام في هذه البلاد بسرعة مدهشة، واستحوذ على عواطف ومشاعر وعقول السكان المحليين.
وكان السبب في ذلك يكمن – بالدرجة الأولى – في وقار التعاليم الإسلامية بالنسبة للدين القديم الزردشتية الذي كان سائدا في هذه الأقطار والذي كان قد دخل إلى ذلك الحين في حالة التدهور والانحطاط.
لقد اجتمع كبار العلماء والفقهاء والمفسرين والمحدثين وتمركزوا في مدن بخارى وسمرقند وغيرهما، وقد اشتهرت بصفة خاصة في ميدان الفقه الخاص بالمذهب الحنفي ما وراء النهر الدولة القوية في العصور المبكرة للقرون الوسطى، التي التحقت حدودها بحدود الصين في الشرق والهند في الجنوب، وهنا بالذات جرت أحداث ذات أهمية عالمية، وسعى إلى هنا أبرز العلماء من سائر أرجاء العالم الإسلامي، وخاصة في سنوات الفتن والفوضى.
لا توجد بين أيدينا معلومات موثوق بها حول إيصال مصحف عثمان [ رضي الله عنه] إلى هذه الديار، ولهذا فإننا سنستند في أدلتنا على مواد المصادر التاريخية، ولو أن الأدلة الواردة فيها متنوعة للغاية، إلا أنها تحتوى – طبعا – على نواة معقولة أيضا.
من المعروف أن هناك علاقات طيبة قد تكونت في نهاية القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي) بين ملك القطعان الذهبية وملك مصر الظاهر بيبرس بندقداري المنحدر أصلا من آسيا الوسطى، وثمة رواية تفيد بأن بركة خان أول من اعتنق الإسلام من أخلاف جنكيز خان، وأنه سعى دائما إلى إقامة العلاقات الطيبة مع ملوك مصر، وتطور فيما بينهم تبادل المبعوثين والمراسلات والهدايا.
وأقامت هاتان الدولتان علاقات فيما بينهما لإضعاف قوة دولة هولاكو الوثنية في إيران، وفي إحدى المرات كما يروي النويري تضمنت الهدايا المرسلة من مصر نسخة من مصحف عثمان [ رضي الله عنه]، وأثناء تناوله لرواية النويري هذه يخبر مؤلف كتاب " تلفيق الأخبار في تأريخ قازان وبلغار" الشيخ مراد بن عبد الله الرمزي البلغاري ما يلي:
(( من الممكن أن يكون ذلك المصحف الكريم الذي اشتهر كمصحف عثمان [ رضي الله عنه] والذي تم نقله من سمرقند إلى بتربورغ للحفاظ عليه وصيانته في المكتبة الإمبراطورية، من الممكن – وهو أمر غير مستبعد- أن يكون ذلك المصحف بالذات الذي نقله تيمورلنك إلى مدينة سمرقند بعد انتصاره على قوات توختاميش خان والاستيلاء في عام 1397م ، على مدينة ساري التي كانت عاصمة لدولة التتر، إن هذا الافتراض مقبول أكثر وليس ثمة معنى لدحضه من قبل البعض، نظرا لأنه لا توجد لديهم براهين لصالح أدلتهم)) (( المجلد 1 صفحة 443)).
لقد أورد النائب السابق لرئيس الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازاغستان إسماعيل مخدوم ساتييف في كتابه " تاريخ مصحف عثمان في طشقند" روايات أخرى حول كيفية وصول مصحف عثمان [ رضي الله عنه] إلى سمرقند، ويفنا يلي ذكر لبعض من هذه الروايات:
يتحدث محمد أمين الخانجي في كتاب " منجم العمران" عن أن ابن بطوطة شاهد مصحف عثمان [ رضي الله عنه] في البصرة، وقد أخذه تيمورلنك معه في طريق عودته من سوريا.
ويكتب ابن نصير في كتاب " فضائل القرآن: " يوجد واحد من مصاحف عثمان [ رضي الله عنه] الأساسية الآن في مسجد سوريا، وكان هذا المصحف للقرآن الكريم قبل ذلك محفوظا في مدينة طبريا، ومن ثم نقل إلى دمشق في حوالي عام 518 للهجرة، وقد شاهدته شخصيا، وكان ذا حجم كبير ومكتوبا بخط واضح ودقيق، وبحبر ثابت راسخ على الجلد، وافترض أنه مصنوع من جلد الجمل " (( ص 49)).
ويورد ابن بطوطة في كتابه " تحفة النظار" هذه المعلومات
-عندما قام بزيارة سوريا شاهد المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام، كما شاهد مصحفا مماثلا بالكوفة وهو المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأثر تغييره الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [ البقرة: 137].
- احترق مصحف القرآن الكريم الذي كان موجودا في دمشق أثناء حصار تيمورلنك للمدينة، أما الذي كان محفوظا بالبصرة فقد أخذه تيمورلنك معه إلى سمرقند.
وإلى هذه الرواية بالذات يميل الكاتب والمؤرخ الروسي، المستشرق شيبونين الذي كتب في مؤلفه " القرآن الكوفي " ما نصه: "... لقد تمت زيارة ابن بطوطة لسوريا قبل غزوها من طرف تيمورلنك، وتبعا لذلك فإن معلومات ابن بطوطة مقبولة تماما، ولم يكن بالإمكان أن لا يلفت مثل هذا الأثر القيم كمصحف عثمان [ رضي الله عنه] اهتمام القائد الجبار تيمورلنك...".
إن المعطيات التي أتينا على ذكرها لا تسمح بالتأكيد على أن نسخة طشقند للقرآن الكريم هي تلك النسخة بالذات التي كانت عائدة للخليفة عثمان [رضي الله عنه] ، ولكن في نفس الوقت تدل هذه المعلومات على أن مصحف عثمان [رضي الله عنه] المحفوظ في طشقند هو واحد من تلك المصاحف التي كتبت تحت إشراف الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ثمة أمر هام ويجب التأكيد عليه بصورة خاصة ، وهو أن كل واحد من المصاحف الخمسة أو الستة على درجة واحدة من التبجيل والتقديس والاحترام بالنسبة للمسلمين.
...
وفيما يتعلق بمصاحف عثمان [رضي الله عنه] المشهورة الآن، بما فيها المصحف المحفوظ في طشقند، فإنها خالية تماما من التحسينات والتكميلات التي عرفتها المصاحف في عصور الخلافة الأموية والعباسية من وضع للحركات والشكل وغيرها.
وهذه الأدلة هي لصالح تأكيداتنا أنه يمكن اعتبار مصحف طشقند أحد المصاحف الأولى للخليفة عثمان رضي الله عنه.
إن هذا المصحف الشريف جدير بالاهتمام والتقدير الكبيرين، وهو موضع شرف، ويقتضي في المستقبل القيام بتحليل دقيق ودراسة من قبل العلماء والاختصاصيين الأوزبك، وذلك لتقديمه في كامل جلالة وقدسيته.
 
عودة
أعلى