مجالس في دراسة بعض موضوعات علوم القرآن(المجلس الثاني : مسائل مهمة في نزول القرآن )

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو الدرس الثاني من دروس علوم القرآن ، وسيكون في موضوع مهم من موضوعات هذا العلم ، وقد وقع أكثر من كتب فيه من المؤلفين في علوم القرآن في أخطاء وزلات ينبغي التنبه لها والحذر من الوقوع فيها .

وسيكون الحديث في هذا الموضوع في مسائل :

المسألة الأولى :في معنى النزول :
النزول في اللغة : النزول في الأصل انحطاط من علو ، ويطلق ويراد به الحلول ، كقوله تعالى : ( فإذا نزل بساحتهم ) أي : حلّ . يقال : نزل فلان بالمدينة : أي حل بها .

وأمّا معنى النزول في الشرع فهو نفس معناه في اللغة ، فالمراد الشرعي بكلمة "نزول" هو حقيقتها اللغوية .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ليس في القرآن ولا في السنة لفظ "نزول" إلا وفيه معنى النزول المعروف ، وهذا هو اللائق به ، فإنه نزل بلغة العرب ، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى ، ولو أريد غير هذا لكان خطاباً بغير لغتها ، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان ، وهذا لا يجوز ....) اه من مجموع الفتاوي [ 12/257 ] .

إذا تقرر هذا تبين لنا خطأ من قال : إن المعنيين اللغويين للنزول لا يليقان بنزول القرآن على وجه الحقيقة لاقتضائهما الجسمية والمكانية والإنتقال ، فلا بد من حمل نزول القرآن على معنى مجازي ، وليكن هذا المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته ، إلى آخر ما ذكروه في هذا المعنى . [ذكر معنى هذا الكلام كثير ممن ألف في علوم القرآن وتكلم عن نزوله ، ومن أشهرهم الزرقاني في كتابه المعروف :مناهل العرفان 1/42-43 ، والشيخ محمد أبو شهبه في كتابه : المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 44 ، 45 . ]
فهذا الكلام الذي ذكروه مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، ولا حاجة لتفسير النزول بمعان مجازية غير معروفة في الكلام العربي الذي نزل به القرآن .

فنزول القرآن نزول حقيقي ليس بمجاز ، ويدل على هذا بوضوح الآيات التي جاء فيها توكيد لفظ النزول بالمصدر ، كما في قوله تعالى : ( ونزّلناه تنزيلاً ) ، وقوله سبحانه : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً ) .
قال النحاس رحمه الله في إعراب القرآن 1/ 507 : ( وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً ) اه .

يمكن الرجوع إلى المراجع التالية لمن أراد الإستزادة :
1- كتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام
2- كتاب الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية كلاهما للشيخ محمد بن عمر بازمول .
3- كتاب مناهل العرفان للزرقاني دراسة وتقويم للشيخ خالد بن عثمان السبت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثانية من مسائل نزول القرآن : كيف أنزل القرآن ؟
من المعلومات التي لا مجال للشك فيها في دين الإسلام أن القرآن الكريم لم ينزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جملة واحدة كما هو الشأن في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل ، وإنما نزل مفرقاً حسب الوقائع والأحداث منذ البعثة حتى آخر حياة النبي عليه الصلاة والسلام . قال تعالى : (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ) . وقال جلّ وعلا : ( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) .

ولا يتعارض هذا مع الآيات التي صرح فيها بإنزال القرآن في شهر رمضان في الليلة المباركة التي هي ليلة القدر كما في قوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ، وقوله سبحانه : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) ، وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) .

فالمراد بإنزال القرآن في الآيات الثلاث السابقة إما ابتداء نزوله كما ذهب إلى ذلك بعض علماء السلف ، وهو وجه محتمل . وأقوى منه أن المراد بالإنزال في هذه الآيات ما صح وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه نزول القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا .
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، فكان الله تبارك وتعالى ينزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض ، قالوا : (لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ) .[ أثر صحيح أخرجه ابن جرير والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات وقال محققه عبدالله الحاشدي : إسناده صحيح ، وكذا صححه السيوطي في الإتقان ، وقد خرجه محمد بازمول بالتفصيل في كتاب القراءات وأثرها في الأحكام 1/ 35 ، وذكر أن إسناده صحيح ] .

تنبيه مهم : لا يفهم من أثر ابن عباس السابق ، وغيره من الآثار في هذا المعنى أن نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كان من السماء الدنيا بواسطة جبريل عليه السلام ، بل الصحيح أن نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم كان من الله جل وعلا مباشرة بواسطة جبريل عليه السلام ، حيث تكلم الله بالقرآن ، وتلقاه منه جبريل ، ثم نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فتلقاه منه ، كما دلت على ذلك الآيات التي فيها التصريح بأن القرآن نزل من الله إلى رسوله . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ... وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه ، وأنه نزل به جبريل منه ، ... قال تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) ، وقال تعالى : ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) .... فبين أن جبريل نزّله من الله لا من هواء ، ولا من لوح ، ولا من غير ذلك ..........
فقد بين الله في غير موضع أنه منزل من الله ، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله ، مكذب لكتاب الله ، متبع لغير سبيل المؤمنين .) انتهى المراد باختصار [ مجموع الفتاوي 12/ 519-520 ] .
وقد فهم هذا الفهم الباطل أكثر الكاتبين والمتكلمين في هذا الموضوع ، ثم انقسموا إلى قسمين :
القسم الأول : بعض أهل السنة الذين لا يشكون في نزول القرآن من الله تعالى بواسطة الأمين جبريل عليه السلام على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فأدى بهم هذا الفهم إلى إنكار الآثار الثابتة عن ابن عباس وغيره وتضعيفها .
ومن هذا القسم الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية سابقاً ، فقد ألف رسالة لبيان بطلان القول بأن القرىن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، وبين أن هذا القول دسيسة اعتزالية لإنكار أن يكون الله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن ؛ لأن المعتزلة عن الحق ينكرون إثبات صفة الكلام لله عز وجل . [ أشار إلى ذلك الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد في كتابه : تهذيب التفسير 1/ 409-410 ] .
ومنهم كذلك الشيخ محمد العثيمين رحمه الله ، حيث سأله سائل فقال : ينسب إليكم أنكم ضعفتم قول ابن عباس بأن القرآن أنزله الله في رمضان جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، فهل هذا صحيح ؟ وهل من دليل على خلافه ؟ . فأجاب رحمه الله بقوله : ( نعم ، الأدلة على خلافه أن الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم ......) إلخ كلامه من كتاب اللقاء الشهري مع فضيلة الشيخ مجمد بن صالح العثيمين رقم 3 ص 30 ، 31 .

والقسم الثاني : أثبت هذه الآثار ، وفهم منها أن للقرآن نزولين : أحدهما من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، والثاني : من السماء الدنيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم منجماً مفرقاً بواسطة جبريل .
وأكثر المؤلفين في علوم القرآن من هذا القسم ، كالزركشي في البرهان ، وابن حجر ، والزرقاني في مناهل العرفان ، وغيرهم كثير .
والمتأمل في أقوال ابن عباس يجد أنها تدل على النزول الأول الذي ذكروه صراحة ، وأما النزول الثاني فإنها لا تدل عليه كما هو ظاهر لمن تأملها .

والخلاصة التي توصلت إليها بعد طول بحث وتأمل في أقوال العلماء في هذه المسألة أن للقرآن الكريم نزولين :
نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وكان هذا النزول في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة من شهر رمضان كما تدل على ذلك الآيات الثلاث المذكورة سابقاً مع الآثار الثابتة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهي صحيحة لا غبار عليها ، ولا يمكن دفعها . [ ولعل أحد الإخوة الذين لهم دراية بالتخريج ودراسة الأسانبد يفيدوننا بالتفصيل في ثبوت هذه الآثار عن ابن عباس . ]

والنزول الثاني نزول مباشر من الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام .
فهذا الذي ينبغي أن يصار إليه ، أما أن يفهم من الآثار عن ابن عباس أن جبريل لم ينزل بالقرآن من الله تعالى ، وإنما نزل به من السماء الدنيا ، ثم يوصل هذا الفهم إلى القول بضعف هذه الآثار ، بل إلى إبطالها لمخالفتها القرآن كما ظنوا ، فهذا استعجال أدى إليه عدم فهم هذه الآثار على وجهها الصحيح .
وبقي بعض التنبيهات المتعلقة بهذا المبحث نرجئها إلى درس آخر ، والله أعلم .
تنبيه : للتوسع في هذا الموضوع ينظر كتاب الأستاذ الدكتور : محمد الشايع نزول القرآن الكريم ؛ فقد توسع في ذكر الأقوال في كيفية نزول القرأن
 
أخي الكريم الشيخ / أبا مجاهد العبيدي

جزاك الله خيرا على ماتتحفنا به من هذه الفوائد والدرر ، فواصل المسيرة بارك الله فيك

وأود أن أستوضح منكم حول ماجاء في المشاركة من قولك :
لا يفهم من أثر ابن عباس السابق ، وغيره من الآثار في هذا المعنى أن نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كان من السماء الدنيا بواسطة جبريل عليه السلام ، بل الصحيح أن نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم كان من الله جل وعلا مباشرة بواسطة جبريل عليه السلام .

فما حقيقة الفرق بين القولين ؟
وجزيتم خيرا
 
استأذنك يا شيخ خالد في المشاركة ، والشيخ أبو مجاهد يصوب فهمي أو يرده علي:

الفرق بين القولين كما فهمته هو أن ابن عباس يرى أن القرآن الكريم نزل إلى السماء الدنيا كله مرة واحدة . ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً ، والواسطة في التنزلين هو جبريل عليه الصلاة والسلام.

لكن الشيخ أبا مجاهد خشي أن نظن أن جبريل عليه السلام بعد ذلك كان ينزل بالقرآن منجماً من السماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون ذلك منجماً من الله كذلك. بل يكتفي بالنزول به من السماء الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم.
بل الصحيح هو أن جبريل كان بعد ذلك ينزل بالوحي من الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. ولا يكتفي بكون القرآن قد نزل إلى السماء الدنيا فلا يأخذه عن الله كل مرة.
وهذا على رأي ابن عباس كما شرح أبو مجاهد. أرجو أن لا أكون أسأت الفهم إن شاء الله.
 
بسم الله

أشكرك أخي خالد على حسن ظنك بأخيك ، ومتابعتك لما يكتب

أما ما ذكرته في سؤالك ؛ فالجواب كما ذكر الأخ عبد الرحمن

وما ذكره بقوله : (لكن الشيخ أبو مجاهد خشي أن نظن أن جبريل عليه السلام بعد ذلك كان ينزل بالقرآن منجماً من السماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون ذلك منجماً من الله كذلك. بل يكتفي بالنزول به من السماء الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم.)

أقول : هذا الفهم قد وقع فيه أكثر من كتب في هذا الموضوع من المتأخرين ؛ حيث فهموا من أثر ابن عباس أن جبريل أخذ القرآن من السماء الدنيا ، وليس من الله مباشرة . ولهذا رد بعض العلماء هذا الأثر وضعفوه لما ظنوا أنه يدل على هذا المعنى كما وقع من الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما ذكرت ذلك سابقاً .

وأرحب بمداخلاتك أخي عبدالرحمن ، وآذن لك في الجواب على أي استفسار من الأعضاء الكرام .
 
مبحث في نزول القرآن منجماً :
القرآن نزل على الرسول r منجماً مفرقاً حسب الوقائع والأحداث وحسب الحاجة إليه .
وهذه إحدى الحِكَم الكثيرة لنزول القرآن منجماً .
وقد أثار هذا التنجيم للقرآن أعداء القرآن من المشركين واليهود وغيرهم ، فتساءلوا : لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة ؟ وهذا السؤال تولّى الله الإجابة عليه في موضعين من كتابه ، فقال تعالى في سورة الفرقان : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً .وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] ، وقال في سورة الإسراء : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] .
ومن هذه الآيات يُمكن أن نأخذ أربع حكم أساسية لنزول القرآن منجماً ، وهي :
1 - تثبيت فؤاد النبي r وتقوية قلبه ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } .
2 - مواجهة ما يطرأ من أمور وأحداث تمس الدعوة ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } .
3 - تعهد هذه الأمة التي أُنزل عليها القرآن ، وتعليمها ما تحتاج إليه بتدرج ، كما قال الحكيم الخبير : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } .
4 - التنبيه على وجه من وجوه إعجاز القرآن ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وقوله : { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } .
وبيان ذلك : أننا إذا لاحظنا أن القرآن نزل مفرقاً على حسب أحداث ووقائع لم تكن على ترتيب أو نسق معين ، ثُمَّ قد وُضعت كل آية أو مجموعة آيات نزلت في مكان خاص بها من سورة من سور القرآن التي أمر الرسول r حسب أمر الوحي له بوضع الآية أو الآيات فيها ، حتى إن سورة البقرة كانت أول ما نزل من القرآن في المدينة واستمر نزولها بتتابع فكان فيها آخر ما نزل من القرآن قاطبة ، وهي أطول سورة في القرآن ، ثُمَّ يقرأ القارئ المتدبر هذا القرآن بعد ذلك فيجد الترابط المحكم ، والانسياق العجيب ، وكأن السورة الطويلة بناءٌ محكم الترابط ، تام التكوين ، مِمَّا يدل دلالة قاطعة على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم عليم ، أحاط علمه بما هو كائن كما قال تعالى : { قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماَواَتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الفرقان : 6 ] .
فهذه أظهر الحِكَم لنزول القرآن منجماً . [هذه الحكم الأربع نقلتها من كتاب علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 28 - 34 بتصرف واختصار .]

وهناك حِكَمٌ أخرى كثيرة ، بعضها يرجع إلى القرآن نفسه ، وبعضها يرجع إلى يرجع إلى المتلفتين لهذا القرآن من المؤمنين وغيرهم ، والبعض الآخر يرجع إلى الظروف والملابسات التي لابست نزول الوحي .
ومَنْ أراد الوقوف بالتفصيل على هذه الحكم فليرجع إلى ما كتبه المؤلفون في علوم القرآن ، وخاصة المتأخرون منهم .
[وممن توسع في ذكر هذه الحكم :
l صاحب كتاب القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين : محمد بحيرى إبراهيم .
l صاحب كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن : عبدالعظيم الزرقاني .
l صاحب كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم : محمد محمد أبي شيبة .
l صاحب كتاب مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح .
l صاحب كتاب مباحث في علوم القرآن مناع القطان .]
 
التعديل الأخير:
جاء في تفسير الطبري:

29177 - حدثنا ابن المثنى (محمد بن المثنى أبو موسى البصري، ثقة ثبت), قال : ثني عبد الأعلى (ثقة) , قال : ثنا داود (بن أبي هند، ثقة متقن) , عن عكرمة (ثقة ثبت), عن ابن عباس , قال : نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا , فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه .

29178 - حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب (ثقة) , قال : ثنا داود , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر , وكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه , فهو قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } .

* - قال : ثنا ابن أبي عدي (محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثقة), عن داود , عن عكرمة , عن ابن عباس , فذكر نحوه , وزاد فيه . وكان بين أوله وآخره عشرون سنة .

29180 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عن حكيم بن جبير (شيعي متروك) , عن ابن عباس , قال : نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة , ثم فرق في السنين , وتلا ابن عباس هذه الآية : { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال : نزل متفرقا .

29183 -قال : ثنا جرير (بن عبد الحميد، ثقة فيه تشيع), عن منصور (ثقة ثبت) , عن سعيد بن جبير (ثقة ثبت) , عن ابن عباس , في قوله { إنا أنزلناه في ليلة القدر } قال : أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر , إلى السماء الدنيا , فكان بموقع النجوم , فكان الله ينزله على رسوله , بعضه في إثر بعض , ثم قرأ : { وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا }
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجميعن، وبعد.

أخوتي الكرام في ملتقى أهل التفسير!!
ربما تكون هذه المرة الأولى التي أكتب بها في هذا الملتقى بمشاركة علمية، وإنما آثرت خلال الفترة الماضية أن أكون قارئاً ومستفيداً؛ لعلمي بقدر نفسي من هذا العلم، وحفاظاً على قوة هذا الملتقى الذي ظهر بقوة علمية مميزة، وذلك بفضل الله ثم بسبب جهود الأخوة القائمين على هذا الملتقى العملي المتخصص.

ثم لما رأيت هذا الموضوع، وقد كان سبق لي بحثه من سنين = أحببت أن أفيدكم بما لدي، فلعلي لا أكون ثقيلاً على ملتقاكم.

أما نزول القرآن، فلنا فيه أصلٌ مقرر عند أهل السنة والحديث، وهو أن القرآن كلام الله تعالى، تكلم الله به حقيقة، وأوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل، ودلائل هذا الأصل متقررة في كتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى: (وإن أحد من المؤمنين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، ودلائل ذلك مبسوطة في كتب أصول الدين.

وكلام الله تعالى -كما هو معلوم - صفةٌ ذاتية باعتبار أن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وفعليةٌ من باعتبار آحاد الكلام.

وقد دلت الدلائل من الكتاب والسنة على أن الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله، ولهذا نجد أن الله يتكلم عن أشياء وقت في زمن التنزيل بلفظ المضي، مما يدل أن الكلام وقع عقيبه ، ولا يصح أن يقال إن الله تكلم بشيء لم يحدث وأخبر عنه بصيغة المضي، وذلك مثل قول الله تعالى: (عبس وتولى) فنعلم أن الله إنما تكلم به بعد عبوس النبي صلى الله عليه وسلم في وجه ابن أم مكتوم، وكذلك أيضاً قوله تعالى: (وإذ غدوت تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال)، وكذلك قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، وقوله: ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا الأصل.

ومن السنة ما رواه البخاري عن ابن مسعود معلقاً: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم قالوا: الحق»، ورواه أبو داود برقم (4738) موصولاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم قال فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق الحق».

وهو في البخاري برقم(4800) عن أبي هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء».

وهذا الحديث فيه بيان حال الملائكة حين يقضي الله بالأمر من السماء، ومنه كلامه بالوحي كما دلت عليه رواية أبي دواد، وفيه أن جبريل ينزل به عقيب سماعه، وصعق الملائكة لسماع الوحي، وهو دال على أن الله يتكلم بالقرآن حين أنزاله.

وأيضاً فمن المتقرر في دلائل الشرع أن الله نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً ومنجماً حسب الوقائع والأحوال، كما في قول الله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً)، وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)، وهذا معلوم ثابت بالإجماع من دين المسلمين.

وقد أخرج الطبري (2/154)، والنسائي (6/519)، والحاكم (2/242)، والبهيقي (4/306)، عن ابن عباس رضي الله عنه بالأفاظ متقاربه أنه قال: «أنزل الله القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا منه انزله من حتى جمعه»، والحديث إسناده صحيح، وقد صححه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/620).

ثم ظنت طائفة من المتكلمين وغيرهم ممن ينفون صفة الكلام عن الله، قالوا: إن جبريل كان يأخذ القرآن من اللوح المحفوظ، كما زعم ذلك السيوطي وغيره، وقد ألف الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رسالة في إبطال هذا القول، لكنه لم يضعف أثر ابن عباس كما ذكر الأخ أبو مجاهد العبيدي وفقه الله، والرسالة في مجموع فتاواه رحمه الله.

وقد كان شيخنا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله يتردد في صحة الأثر عن ابن عباس، وسبب الإشكال عند الشيخ أنه فهم منه رحمه الله أنه يتعارض مع ما ذكرت أن الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله!!

وهذا الإشكال ليس بظاهر، لأن الناظر في أثر ابن عباس يجد أن هناك إنزالين للقرآن:
الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

والثاني: وهو الوحي الذي يوحيه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام.

وعند النظر نجد أن النصوص صرحت أن إنزال الله القرآن عل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم = وحيٌ، وفيه ان الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله كما ذكرنا سابقاً.

أما نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فلم يذكر في شيء من الروايات انه يقتضي أن الله تكلم به في هذا الإنزال، بل كونه مكتوبا قبلُ في اللوح المحفوظ لم يقتضِ ذلك.

وحقيقة هذا الإنزال أنه إنزال كتابي؛ إذ هو إنزال من مكتوب إلى مكتوب، وليس في شيء من الروايات الصحيحة لهذا الأثر أو غيره = أن جبريل يأخذ من اللوح المحفوظ.

وبهذا يزول الإشكال الذي من أجله تررد شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في صحة هذا الأثر.

إذا تقرر هذا فقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، يقال فيها: إنها تشمل نوعي الإنزال الذي أشار إليه أثر ابن عباس:
الأول: الذي هو إنزال الوحي، و يكون المراد منه إنزال أوله.
الثاني: نزوله جملة واحدة إلى السماء الدنيا.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب: ابن أبي حاتم
 
بسم الله

أشكر الأخ الكريم ابن أبي حاتم على مداخلته القيمة ، ولي مع ما ذكر وفقه الله هذه الوقفات :


الوقفة الأولى : أشكره على التنبيه على أن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لم يضعف أثر ابن عباس رضي الله عنهما .
والذي حملني على ما ذكرت هو ما نقله عنه الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد في تفسيره تهذيب التفسير وتجريد التأويل مما ألحق به من الأباطيل ورديء الأقاويل ؛ حيث قال : وقد ألف مفتي الديار السعودية السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رسالة لبيان بطلان القول بأن القرآن نزل جملة إلى السماء الدنيا ، وأن جبريل نجمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ....إلخ كلام الشيخ عبدالقادر 1/409-410 .
ولازم ما نقله عنه أنه يرد أثر ابن عباس الذي يدل على هذا المعنى الذي أبطله .
وعذري أن الرسالة ليست عندي ، ولم أرجع إليها مباشرة بل نقلت عنها بواسطة .

ولعلك أخي تتأكد من نص كلام الشيخ إن كانت الرسالة عندك ، أو يمكنك الإطلاع عليها .


الوقفة الثانية : ما ذكرته وفقك الله بقولك :إذا تقرر هذا فقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، يقال فيها: إنها تشمل نوعي الإنزال الذي أشار إليه أثر ابن عباس:
الأول: الذي هو إنزال الوحي، و يكون المراد منه إنزال أوله.
الثاني: نزوله جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
فيه نظر من جهتين :

الأولى : لا بد من إثبات أن أول القرآن نزل في رمضان حتى يصح قولك ، والمعروف المشهور في السيرة أن نزول القرآن ابتدأ في غير رمضان في غار حراء _ على خلاف في هذه المسألة _ .

والثانية : ما ذكره الشيخ محمد الشايع في كتاب نزول القرآن الكريم الذي أحلت عليه سابقاً بقوله : القول بأن المراد بالآيات الثلاث من سورة البقرة والدخان والقدر هو ابتداء النزول ؛ هو صرف لها عن ظاهرها بغير صارف ، وهو يحتاج إلى تقدير محذوف . فقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) أي ابتدأنا إنزاله . وهو يقتضي حمل القرآن على أن المراد بعض أجزائه وأقسامه ، فقوله :( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) أي أنزلنا بعضه . انتهى كلام الشيخ .



فالذي أرى _ والله أعلم _ هو أن الجمع بين الأقوال يكون بما ذكرتُه سابقاً .

وجميلٌ مفيدٌ ما قاله الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في تتمته لأضواء البيان ، حيث قال : ( والواقع أنه لاتعارض كما تقدم بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً ؛ لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح المحفوظ فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مِمَّا في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجوداً في كل من اللوح المحفوظ كغيره مِمَّا هو فيه ، وموجوداً في سماء الدنيا ، ثُمَّ ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً .
ومعلومٌ أنه الآن هو أيضاً موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ... وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير } الحديث في صحيح البخاري .
وفي أبي داود وغيره : { إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان } .
وعلى هذا يكون القرآن موجوداً في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثُمَّ جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثُمَّ نزل منجماً في عشرين سنة ، وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل - عليه السلام - عن الله تعالى ، ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث ، والله تعالى أعلم ) ا هـ . [ من تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ عطية محمد سالم 9/382 ، 383 باختصار .]
والذي بَدَا لي - والله أعلم - أن سبب هذا الخلاف في كيفية نزول القرآن هو أن بعض العلماء فهم من اختلاف تعبيرات السلف عن نزول القرآن وكيفيته أنها أقوال مختلفة متغايرة ، فمن ثَمّ جعلوها أقوالاً في المسألة ، ونسبوا كل قول إلى مَن قال به ، ثُمَّ رجحوا بين هذه الأقوال ، فقوّوا بعضها ، وضعفوا البعض الآخر ، ثُمَّ جاء العلماء الذين ألفوا وكتبوا في علوم القرآن ، ونقلوا هذه الأقوال ، كلٌّ ينقل عمّن سبقه من غير تأمل ولا بحث في حقيقة المسألة .
ولو أنهم رجعوا إلى الآيات القرآنية التي تكلمت عن نزول القرآن ، وعرفوا تفسيرها ، ثُمَّ نظروا في الآثار التي وردت عن السلف ؛ لعلموا أنها متفقة غير مختلفة ، ولكن كلٌّ عبّر عن فهمه بأسلوبه ، فكان في أساليبهم في التعبير عمّا فهموه بعض التغاير والاختلاف ، فظن من جاء بعده أنه اختلاف تضاد ، وهو في الحقيقة اختلاف تنوع ، والله أعلم بالصواب .

ولك الشكر مني على مشاركتك القيمة .وفقنا الله جميعاً للصواب وعصمنا من الزلل .
 
بسم الله
الأخ ابن أبي حاتم لا فض فوك وبارك الله فيك
وشكراً لك أبا مجاهد
ومن باب المشاركة ينظر إلى كتاب حاشية مقدمة التفسير لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله
وقد شرحها الشيخ الدكتور سعد الشثري حفظه الله تعالى وسدده في درس علمي في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض وهي مسجلة على أشرطة
بارك الله فيكم ونفع بكم .
 
مما توصلت إليه في كيفية نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما نبهت عليه بقولي :

( تنبيه مهم : لا يفهم من أثر ابن عباس السابق ، وغيره من الآثار في هذا المعنى أن نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كان من السماء الدنيا بواسطة جبريل عليه السلام ، بل الصحيح أن نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم كان من الله جل وعلا مباشرة بواسطة جبريل عليه السلام ، حيث تكلم الله بالقرآن ، وتلقاه منه جبريل ، ثم نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فتلقاه منه ، كما دلت على ذلك الآيات التي فيها التصريح بأن القرآن نزل من الله إلى رسوله .)

وقد وجدت في تفسير القرطبي لسورة القدر ما نصه : ( وحكى الماوَرْدِيّ عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا؛ فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
قال ابن العَرَبيّ: « وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين الله واسطة ، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة ». )

وهذا توكيد لما ذكرته أعلاه ، والحمد لله على توفيقه .
 
وهذا بحث الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ حول مسألة نزول القرآن

وعنوانه : التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم

أو :

نقد قول السيوطي في الاتقان: أن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ وجاء به إلى ‏محمد

وهو ملحق في ملف وورد.
 
[align=justify]
وقد فهم هذا الفهم الباطل أكثر الكاتبين والمتكلمين في هذا الموضوع ، ثم انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول : بعض أهل السنة الذين لا يشكون في نزول القرآن من الله تعالى بواسطة الأمين جبريل عليه السلام على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فأدى بهم هذا الفهم إلى إنكار الآثار الثابتة عن ابن عباس وغيره وتضعيفها .
ومن هذا القسم الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية سابقاً ، فقد ألف رسالة لبيان بطلان القول بأن القرىن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، وبين أن هذا القول دسيسة اعتزالية لإنكار أن يكون الله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن ؛ لأن المعتزلة عن الحق ينكرون إثبات صفة الكلام لله عز وجل . [ أشار إلى ذلك الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد في كتابه : تهذيب التفسير 1/ 409-410 ] .
ومنهم كذلك الشيخ محمد العثيمين رحمه الله ، حيث سأله سائل فقال : ينسب إليكم أنكم ضعفتم قول ابن عباس بأن القرآن أنزله الله في رمضان جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، فهل هذا صحيح ؟ وهل من دليل على خلافه ؟ . فأجاب رحمه الله بقوله : ( نعم ، الأدلة على خلافه أن الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم ......) إلخ كلامه من كتاب اللقاء الشهري مع فضيلة الشيخ مجمد بن صالح العثيمين رقم 3 ص 30 ، 31 .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه للعقيدة السفارينية

قال في شرح السفارينية :

41 – كـلامه سـبحانـه قـديـم .

أعيـى الورى بالنـص يا عـليـم
قوله : ( قديم ) : أي أن القرآن قديم ، وهذا ليس بصحيح ،
فالقرآن ليس بقديم بل إن الله عز وجل تكلم به حين إنزاله صحيح أن الكلام جنسه قديم ولكن آحاده حادثة وليست قديمة ، الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء { ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٌ إلا استمعوه وهم يلعبوه } ( الأنبياء 2 ) .
فالقرآن ليس بقديم ، أما كلام الله من حيث هو كلام الله فهو قديم النوع فإن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ،
فلو أن المؤلف قال بدل ( قديم ) ( كلامه سبحانه عظيم ) ،
لأن الله قال : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } ( الحجر 87 )
أو كريم ، لأن الله قال : { إنه لقرآنٌ كريم } ( الواقعة 77 ) .
أما ( قديم ) : فهي كلمة محدثة غير صحيحة بالنسبة للقرآن أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ ونزل إلى بيت العزة في السماء ثم صار ينـزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب الذي يؤمر بتنـزيله فيه ؟
الجواب : نعم ، روي ذلك عن ابن عباس ولكن ظواهر القرآن ترده ونحن لا نطالب إلا بما دل عليه القرآن ،
فأما قوله تعالى : { بل هو قرآنٌ مجيد ، في لوحٍ محفوظ } ( البروج 21 – 22 ) ، فإنه لا يتعين أن يكون القرآن نفسه مكتوباً في اللوح المحفوظ * بل يكون الذي في اللوح المحفوظ ذكره دون ألفاظه ،
وهذا لا يمتنع أن يقال إن القرآن فيه كذا والمراد ذكره كما في قوله تعالى : { وإنه لفي زبر الأولين } ( الشعراء 196 ) وإنه : أي القرآن ، { وإنه لفي زبر الأولين } : والمراد بلا شك ذكره في زبر الأولين ، لأنه ما نزل على أحد قبل محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن المراد ذكره ،
والدليل على ذكره أو لم يكن لهم آية أن يعلم علماء بني إسرائيل وكلنا يقرأ قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ( المجادلة 1 ) ولو كان القرآن العظيم مكتوباً في اللوح المحفوظ بهذا اللفظ لأخبر الله عن سمع ما لم يكن ، والله قال : { قد سمع } ثم قال : { والله يسمع } بالمضارع الدال على الحال والحاضر ،
يعني لو قال قائل : قد سمع عبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه ؟
قلنا : هذا قد نسلِّمه لكن يمتنع مثل هذه الدعوى في قوله : { والله يسمع } فإن { يسمع } فعل مضارع تدل على الحاضر ،
فالراجح عندي : أن القرآن تكلم الله به عز وجل حين نزوله وأن ما في اللوح المحفوظ إنما هو ذكره وأنه سيكون ويمكن فيه ثناء أيضاً كما قال تعالى : { بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ } ( البروج 21 – 22 ) يعني أنه ذكر في اللوح المحفوظ بالمجد والعظمة وما أشبه ذلك ،
وعلى كلٍّ فقول المؤلف : ( قديم ) : كلمة ضعيفة لا يجوز أن يوصف بها القرآن الكريم ، فإن القرآن الكريم يتكلم الله به عز وجل حينما ينـزله على محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين، وهو يقرر هنا ما ذكرته عنه سابقاً.

أقول: وقد رجع الشيخ عن رأيه هذا، وقد علّق محقق الكتاب على كلام الشيخ قائلاً:
( قال مقيده غفر الله له : ( هذا الكلام ذكره الشيخ رحمه الله في شرحه الأول على العقيدة الواسطية ( 2 / 198 ) الذي شرحه في سنة 1408 هـ ، وقد شَرَحَ ( العقيدة السفارينية ) في سنة 1408 هـ ، ورجع عنه رحمه الله في شرحه الثاني على الأربعين النووية في الشريط الحادي عشر في الوجه الثاني من الشريط عند شرحه للحديث الثالث والعشرون عند قوله صلى الله عليه وسلم : ( والقرآن حجةٌ لك أو عليك ) فقال : ( وكونه في الكتاب المكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في اللوح المحفوظ أو أن المكتوب ذكر القرآن وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا ؟ الأول ، لكن يبقى النظر : كيف يُكتب قبل أن تخلق السماوات بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالة على المضي مثل : قوله { وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال } ، ومثل قوله : { قد سـمـع الله التي تجادلك } وهو حين كتابته قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع لأن المجادلة ما خلقت أصلاً حتى تسمع مجادلتها ؟ فالجواب أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ كما أنه قد علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عز وجل بقوله : { كن فيكون } ، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مـمـا تطمئن إليه النفس ، وكنت قبلاً أقول : إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن ، لا القرآن ، بناءً على أنه يعرج بلفظ المضي قبل الوقوع ، وأن هذا كقوله تعالى – عن القرآن – : { وإنه لفي زبر الأولين } والذي في زبر الأولين ليس القرآن ، الذي في زبر الأولين ذكر القرآن والتنويه عنه ، ولكن بعد أن اطلعت على قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى انشرح صدري إلى أنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ ولا مانع من ذلك ، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل ، هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن ) ، وقد شرح الشيخ كتاب ( الأربعين النووية ) مرةً ثانية في دورته الصيفية الأخيرة في سنة 1421 هـ التي قبل وفاته ببضعة أشهر وشرحه موجودٌ منتشر وعدد أشرطته ( 19 شريطاً ) ، والصحيح : ما رجع إليه الشيخ رحمه الله وهو أن القرآن الكريم مكتوبٌ كله في اللوح المحفوظ ، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 12 / 126 و 127 ، 15 / 223 ) فاقتضى ذلك التنبيه والتنويه على ذلك ، والله أعلم ) . ) [/align]
 
جزاكم الله خيراً، جهود مشكورة، ولي عود إن شاء الله تعالى .
 
إنزال القرآن

إنزال القرآن

[align=center]إنزال القرآن

إنزاله: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في بيت العزة في السماء الدنيا، وأنزل منجمًا بحسب الوقائع، يلقيه جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه، ويأتيه في مثل صورة الرجل يكلمه.

وثبت أنه أنزل على سبعة أحرف، قيل: المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة كـ"هلم وأقبل" وكتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة، ثم في الصحف في عهد أبي بكر، ثم جمع عثمان الناس على مصحف واحد، والجمهور أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها ومتضمنتها العرضة الأخيرة، وترتيب الآيات بالنص والسور بالاجتهاد.


--------------------------------------------------------------------------------



قال المؤلف هنا: "إنزاله: أُنزل القرآن جملة" يعني مرة واحدة "في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا" ورد ت عدد من النصوص تدل على أن القرآن نزل في ليلة القدر، قال -تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال -سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقال -جل وعلا: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

واختلف العلماء وفي تفسير هذه الآيات على قولين:

الأول: أن المراد إنزال القرآن إلى بيت العزة في السماء الدنيا مكتوبا وهذا قول ابن عباس وتلاميذه، وقد ورد ذلك عنه بأسانيد متعددة صحيحة.

والقول الثاني: أن المراد بذلك ابتداء إنزال القرآن، فإن أول نزول القرآن نزل في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما، ولا مانع أن يكون كل من القولين صحيحا.

وهذا القول الثاني قال به جماهير الصحابة، وقد رجحه جماعة وقالوا بأن نصوص القرآن تدل عليه، وقول الصحابي لا يعمل به إذا كان قد خالفه غيره وظواهر القرآن تدل على خلافه، ولا مانع أن يكون كل من القولين صحيحا، إذ لا تعارض بينهما، فإن إنزال القرآن جملة واحدة كان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ولا يمنع هذا من كون جبريل -عليه السلام- قد سمع القرآن من الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك.

وقول المؤلف: "وأنزل منجما بحسب الوقائع" يعني: أن جبريل ينزل بالقرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- مفرقا على وفق أسباب النزول، وليس معناه: أن جبريل نقله من الكتاب الموجود في السماء الدنيا، بل الصواب: أن جبريل -عليه السلام- قد سمعه من الله -سبحانه وتعالى.

ومن هنا نعلم خطأ بعض المؤلفين عندما قال: إن جبريل نقله من اللوح المحفوظ أو نقله من هذا المكتوب الموجود في السماء الدنيا في بيت العزة، هذا قول خاطئ مخالف لما دلت عليه النصوص الشرعية، والله -سبحانه وتعالى- لا يمتنع أن يكون قد أنزله ثم يتكلم به بعد ذلك، لا مانع من هذا فإن القرآن موجود في اللوح المحفوظ الذي سجل فيه ما في الدنيا، ومع ذلك أنزله الله -سبحانه وتعالى- من عنده إلى السماء الدنيا.

ويدل على ذلك أن الله -عز وجل- ذكر بعض أفعال العباد بصيغة الماضي مما يدل على أنه لم يتكلم به إلا بعد فعلهم لذلك الفعل، ومنه قوله -سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا فالسماع إخبار عن أمر ماض، والمجادلة أمر ماض ويستحيل أن يتكلم الله -سبحانه وتعالى- بما سيأتي بهذه الصيغة، مما يدل على أن قوله -سبحانه- وكلامه بذلك إنما حصل بعد حصول السماع والمجادلة.

ويدل على هذا قوله -سبحانه: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا وقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ والمراد بالمحدث: الذي أنزل جديدا، فإن الله -سبحانه وتعالى- كان يتكلم بالقرآن وينزله شيئا بعد شيء.

ونمثل لهذا بمثال -ولله المثل الأعلى- كتابة أعمال العباد، كان الله -عز وجل- قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يعملها العباد، ثم أمر الملائكة بعد ذلك بكتابة أعمال العباد بعد أن يفعلوها، كما قال جل وعلا وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ

ومن هنا نعلم خطأ من قال: إن جبريل -عليه السلام- نقل القرآن من اللوح المحفوظ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، أو من هذا المكتوب الموجود في بيت العزة في السماء الدنيا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.

وقد ألف الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- رسالة في بيان خطأ هذا القول وبيان مخالفته لمعتقد أهل السنة والجماعة.

ومن فوائد كون القرآن منجما: تثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتثبيت فؤاده -صلى الله عليه وسلم- يحصل بأمرين:

الأول: تقوية قلبه ضد الشبهات التي قد تعرض له من وساوس الشياطين.

والثاني: زيادة حفظه للقرآن، لكون القرآن غير مكتوب، فحينئذ ناسب أن يفرق من أجل أن يتمكن من حفظه.

ومن فوائد كون القرآن منجما أن يكون نزوله بأسباب معلومة يتيسر على الناس فهم القرآن من خلال معرفة هذه الأسباب، ومن فوائد التنجيم أيضا حصول التدرج في التشريع، ليقبل الناس بأحكام الشريعة.

ومن فوائده أيضا وجود الناسخ والمنسوخ، قال المؤلف هنا: "يلقيه جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل صلصلة الجرس" ذكر المؤلف هنا أنواع الوحي من حيث كيفيته.

الكيفية الأولى: أن يكون مثل صلصلة الجرس، قال: "وهو أشده عليه" وقد ورد في حديث ابن مسعود مرفوعا إن الله إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفا، قال: فيفزعون حتى يأتيهم جبريل، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول جبريل: الحق فدل ذلك على أن جبريل يسمع كلام الله، وعلى أن هذا الوحي مسموع.

جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فأعي ما يقول فهذه طريقتان وكيفيتان في تلقي الوحي، ولذلك ذكر المؤلف الطريقة الثانية "فقال: ويأتيه في مثل صورة الرجل يكلمه".

وقد ذكر بعض المفسرين النفث في الروع: والنفث في الروع في حقيقته لا يخرج عن الكيفية الأولى، وذكر بعضهم مكالمة الله -سبحانه وتعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، وذلك مثل حديثه له في الإسراء، ولكن هذا مكالمة وليست وحيا.

قول المؤلف هنا: "ثبت أنه أنزل القرآن على سبعة أحرف" وذلك لأنه قد روى أكثر من عشرين نفسا من الصحابة -رضوان الله عليهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا اللفظ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" مما جعل العلماء يذكرون أن هذا الحديث من المتواترات.

ويدخل في السبعة أحرف طرق الأداء واختلاف التصريف والإعراب مثال ذلك "ليس البرُّ" و"ليس البرُّ" والأداء في مثل الإمالة ونحوه "أتى وأتي" ويدخل في ذلك أيضا مراعاة لهجات العرب في كلامها، ويدخل في ذلك أيضا تغير بعض الحروف فبدل الباء قد تكون نونًا مثل "بشرى نشرى" ومثل "ننشرها وننشزها" ومثل "فتثبتوا وفتبينوا" ونحو ذلك مما ورد في القرآن.

ولكن هذه الأحرف ليست متضادة ولا متعاكسة، وإنما متوافقة، إما أن تدل على معنى واحد، وإما أن تدل على معان مختلفة غير متقابلة ومتضادة، فهذا فيه مزية للقرآن وبيان لإعجازه، فإن هذه الأحرف مع تنوعها وتعددها لم يحصل بينها تضاد ولا اختلاف.

قال المؤلف: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" هذه الأحرف السبعة لا تخرج عن خط المصحف العثماني، والقراءات السبع المشهورة المتداولة بعض هذه الأحرف وليس جميع الأحرف النازلة.

قال المؤلف: "وقيل" يعني أن هناك قولا آخر في حقيقة الأحرف السبعة، وقول المؤلف "قيل" إشارة إلى ضعف هذا القول، وأنه ليس قولا راجحا: "إن هذه الأحرف السبعة هي المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة" ومن أمثلته "هلم وأقبل" فكلاهما طلب للإتيان والمجيء.

والمؤلف قد ضعف هذا القول، وقد ورد هذا القول عن أبي بكر وأُبي بن كعب، ولا يفهم من هذا أنهم يقولون يجوز قراءة القرآن بالمعنى بحيث إذا جاءنا لفظ "هلم" أبدلناه بـ "أقبِل" ونحو ذلك.

هذا لا يقولنه هم، وإنما يفسرون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنزل القرآن على سبعة أحرف" فإذا أتينا بمعنى من عند أنفسنا فإن هذا المعنى لم ينزل به وحي، والحديث نص على أن هذه الأحرف السبعة نازلة من عند الله "أنزل" وهؤلاء الصحابة أيضا أتوا بهذا التمثيل لبيان أن هذه الأحرف السبعة غير متضادة ولا متقابلة، وأنها متفقة في المعنى وإن وقع فيها اختلاف.

وليس المراد عندهم هذه الألفاظ بخصوصها "هلم وأقبل" وإنما مرادهم التمثيل، ولو أتي بمثل "فتثبتوا" وقراءة "فتبينوا" لكان أوضح وأولى، لأن كلا منهما دال على نفس المعنى وكلاهما نازل، وقد ورد كلاهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم. المقصود أن مثل هذا القول لا يدل على أن هؤلاء الصحابة يجيزون رواية القرآن بالمعنى.

"وكتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة" يعني أنه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب في الرقاع والعسف، وكان موجودا في صدور الرجال، ثم بعد ذلك في عهد أبي بكر كتب في الصحف، وذلك أنه أتى عمر -رضي الله عنه- بأبي بكر وقال إن القتل استحرّ في قُراء القرآن، وذلك بعد معارك اليمامة، وإني أخشى أن يذهب القرآن، فإن مواطن الجهاد يخشى أن يستحر القتل فيها بالقراء.

وإني أرى أن نأمر بالقرآن أن يكتب وأن يجمع، فلم يزل عمر يكرر هذا القول على أمير المؤمنين أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حتى شرح الله صدره لذلك، فأمر زيد بن ثابت فجمعه من العسف واللحاق وصدور الرجال، وسجلت في هذه الصحف.

والقرآن قد جمعه وحفظه في عهد النبوة جماعة، فليس معناه أن القرآن لم يكن محفوظا قبل هذه الصحف، وإنما كان موجودا في صدور الرجال، وقد حفظه في عهد النبوة جماعة وبعد ذلك العهد حفظه جماعات.

وقول بعضهم: إنه لم يحفظه إلا أربعة، وورد في بعض الألفاظ: لم يجمع القرآن في عهد النبوة إلا أربعة، معناه: أن هؤلاء هم الذين كانوا يتولون إقراء القرآن للناس، فكان الناس يرجعون إليهم في إقراء القرآن، وليس المرد به أنه لم يحفظه إلا هؤلاء الأربعة فقط.

هذه الصحف التي كتبها زيد بن ثابت بقيت عند أبي بكر حياته، ثم أخذها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ثم بعد ذلك كانت عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين -رضي الله عنها، فلما عهد عثمان كان الناس يتداولون صحفا مختلفة متفرقة، وهذه الصحف تختلف فيها اللهجات وفيها قراءات شاذة، فحينئذ خُشي من اختلاف الناس وعدم انضباط أمورهم.

فجاء حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- إلى عثمان وقد أفزعه اختلاف الناس في القراءة، فأشار عليه بكتابة المصحف، بحيث يكتب من الصحف التي كتبها أبو بكر نُسخا أخرى توزع على البلدان فيعتمدها الناس، فكتبت هذه النسخ وأرسلت إلى الأفاق، أرسل إلى كل أفق من الأفاق بمصحف.

وليس معناه أن القرآن لم يكن موجودا إلا في هذه المصاحف، بل الناس كانوا يحفظون القرآن، وكانوا قد دونوه في صحفهم، ولكن كما تقدم أن بعضهم لديه قراءة شاذة، وبعضهم يقرأه باختلاف اللهجات، وحينئذ خشي من اختلاف الناس فكتبت هذه المصاحف.

قال المؤلف: "والجمهور أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها ومتضمنتها العرضة الأخيرة" يعني: أن جمهور أهل العلم يرون أن هذا المصحف العثماني قد اشتمل على جميع الأحرف السبعة باحتمال رسمه، فرسم مصحف عثمان يحتمل القراءات المتعددة، ومن هنا قرر الفقهاء بأن كل قراءة تخرج عن مصحف عثمان فإنها قراءة شاذة.

"العرضة الأخيرة" هي قراءة جبريل أو عرض جبريل القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر رمضان من حياته فإنه قد عرض عليه القرآن كاملا، فقد عرض عليه القرآن مرتين وهذا العرض قد تضمن جميع الأحرف التي نزل بها القرآن.

قال: "وترتيب الآيات بالنص" يعني: أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة ثابت بواسطة النص، ودليل ذلك ما ورد في الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نزلت عليه الآيات قال: اجعلوها في السورة التي يذكر فيها كذا بعد آية كذا، ويدل على ثبوت ترتيب الآيات بالنص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ سور القرآن كاملة، وهذه القراءة تكون بهذا الترتيب الذي بين أيدينا.

ويدل عليه أيضا ما ورد من الأحاديث في إثبات أوائل السور أو أواخرها كما في الحديث: ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء في قضية الكلالة، وكما في "صحيح مسلم": من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وقي من فتنة الدجال - وفي لفظ - من آخر سورة الكهف ويدل على ذلك ما ورد في قوله -تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشدهم إلى موضعها تحديدا.

قال المؤلف: "والسور بالاجتهاد" يعني: أن ترتيب سور القرآن ليس بطريق نصي وإنما هو ثابت بطريق الاجتهاد، وهذا رأي الجماعة من المفسرين، والعلماء واستدلوا عليه بعدد من الأدلة منها ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة الأنفال وهي من المثاني وإلى سورة براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما؟" فدل ذلك على أن هذا الترتيب باجتهاد منهم، فقال عثمان: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي ولم يفصل بينهما ولم أسأله عنهما.

واستدلوا على ذلك ثانيًا بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في ترتيب سور القرآن، ولذلك يقولون تأليف ابن مسعود وترتيبه لسور القرآن يخالف ترتيب غيره.

واستدلوا ثالثا على كون ترتيب سور القرآن اجتهاديا وليس نصيا ما ورد في حديث حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الليل فقرأ سورة البقرة ثم سورة النساء ثم سورة آل عمران مما يدل على أن الترتيب اجتهادي وليس نصيا.

والقول الآخر بأن ترتيب سور القرآن ثابت بالنص وليس ثابتا بطريق الاجتهاد واستدلوا على ذلك بعدد من الأدلة، منها: أن القرآن قد أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، كما ورد عن ابن عباس مكتوبا، وهذه الكتابة لا بد أن تكون بترتيب، والمصحف الذي بين أيدينا مماثل لذلك المصحف المنزل إلى السماء الدنيا وكان موافقا له في ترتيبه.

واستدلوا على ذلك ثانيا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عرض على جبريل القرآن في رمضان الأخير عرضة تامة كاملة مرتين، وهذا العرض لا بد أن يكون بترتيب فيكون موافقا للترتيب الذي بين أيدينا.

واستدلوا على ذلك ثالثا بما ورد في حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يردها النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها فقد جاء في بعض الروايات أنهم قالوا: وكان معه سورة البقرة، والسورة التي تليها مما يدل على أن الترتيب كان موجودا.

واستدلوا على ذلك رابعا بما ورد في الحديث أن القرآن يحاج عن صاحبه يوم القيامة يقدمه سورة البقرة وسورة آل عمران مما دل على أن هذا الترتيب معني ومقصود.

واستدلوا على ذلك أيضا بما ورد من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ السبع الطوال في ركعة مما يدل على أنها مرتبة كذلك.

واستدلوا عليه بما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما فقرن بينهما مما يدل على أن هاتين السورتين قد حفظ ترتيبهما نصا.

ويدل على ذلك أيضا نظم القرآن، فهذا القرآن في تنظيمه لو كان باجتهاد من الصحابة لجمع الصحابة بين السور المتشابهة في أوائلها، لجمعوا بين السور التي في أوائلها ( حمد )، أو السور التي في أوائلها ( تسبيح)، أو السور التي في أوائلها ( حم )، ولكن الصحابة لم يجمعوا بينها مما يدل على أنهم قد تلقوا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم.

ويدل عليه أيضا ما ورد في حديث ابن مسعود أنه قال: أنا أعرف القرائن، أي: السور التي يقرن بينها النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم عددها على هذا الترتيب المعروف، وهذا القول أقوى من القول الأول، وأما حديث حذيفة فيحتمل أنه كان قبل العرضة الأخيرة، فلم يكن هذا الترتيب معروفا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، ثم لما عرض القرآن على جبريل رتبه هكذا.

وعلى كل من القولين القول القائل بأن ترتيب السور اجتهادي والقول القائل أن ترتيب السور نصي، فإن هذا الترتيب قطعي لوقوع الإجماع عليه، الإجماع القطعي المتواتر، وإذا ورد دليل قطعي على مسألة حرمت مخالفته، وحينئذ يحرم علينا مخالفة ترتيب سور القرآن، فمن قال سأرتب سور القرآن بحسب نزولها، قيل: هذا الترتيب خاطئ مخالف لما وقع عليه إجماع الأمة القطعي.

ويتعلق بمصحف عثمان مسألة وهي: هل يجب علينا المحافظة على رسم المصحف، أو يجوز لنا إبداله وتغييره بحسب ما يعرفه الناس ويتداولونه من قواعد الإملاء ونحو ذلك؟

الصواب في هذا: أنه لا يجوز، وذلك لثلاثة أمور:

الأمر الأول: وقوع إجماع الصحابة والتابعين وجميع الأمة على هذا المصحف بهذا الخط، فيحرم مخالفتهم.

والثاني: أنه قد لوحظ في هذا الخط جمعه للأحرف التي نزل بها القرآن فيكون حاويا للقراءات، فإذا بدلنا هذا الرسم فإنه حينئذ لا يكون رسم القرآن محتويا على هذه الأحرف.

والوجه الثالث: أن في ذلك وسيلة وسبيلا إلى تبديل القرآن وتغييره والله -عز وجل- قد أمرنا بالمحافظة على هذا القرآن وبذل الأسباب لاجتناب تغييره وتبديله.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كتاب أصول التفسير
للشيخ:عبد الرحمن القاسم
شرح الشيخ:سعدبن ناصر الشثري حفظه الله[/align]
 
[align=center]
من كتاب أصول التفسير
للشيخ:عبد الرحمن القاسم
شرح الشيخ:سعدبن ناصر الشثري حفظه الله[/align]

اسم الكتاب الصحيح : مقدمة التفسير للشيخ عبدالرحمن بن قاسم، وهي مقدمة ألفها هو، وكتب عليها حاشية، وطبعت بعنوان : حاشية مقدمة التفسير.

وشرح الشيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري متن المقدمة شرحاً جيداً في إحدى دورات مسجد ابن تيمية بالرياض.

وقد طبع الشرح.
 
جزاكم الله خيرا دكتور محمد القحطاني على هذا الموضوع القيم .
شاكرة لكم تصحيح معلومة فهمها الكثير منا بطريقة خاطئة.. لاحرمكم الله الأجر .
 
عودة
أعلى