مجالس ابن الجوزي في المتشابه من الآيات القرآنية - دراسة وتحقيق باسم مكداش

بسم الله الرحمن الرحيم
موضوع البحث:آراء السيوطي في التناسب من خلال مؤلفاته..للباحثة:الراجية رضا ربها
آراء وأقوال السيوطي في التناسُب من خلال كتبه:
$ آراء وأقوال السيوطي في التناسُب في كتابهِ الإتقان في علوم القرآن:
يقول السيوطي: أنَّ أهمية المناسبة في التفسير، هي إذا كان القرآن الكريم نزل مُنجَّماً تبعاً لما تفرَّق من الأسباب والوقائع، فإنَّ هذه الأسباب والوقائع لا يُمكن فصلها عن النص الذي كانت سبباً في نزولهِ لأنَّها تُعين على فهمهِ، وتُفيد في استلهام أرجح التأويل وأصحَّ التفسير، ولذلك لا نعجب إذا حرَّم العلماء المُحقِّقون الإقدام على تفسير كتاب الله لمَن كان جاهلاً بأسباب النزول.
قال ابن الحصار: قد يتكرَّر نزول الآية تذكيراً وموعظة، وذكر من ذلك خواتيم سورة النحل، وأول سُورة الروم، وقد ذكر سُبحانهُ وتعالى الزكاة في السُور المكيَّات كثيراً، تصريحاً وتعريضاً، بأنَّ الإله سيُنجِز وعدهُ لرسولهِ، ويقيم دينهُ ويظهرهُ، حتى تفرض الصلاة والزكاة وسائر الشرائع، ولم تؤخذ الزكاة إلا بالمدينة بلا خلاف، وأوردَ من ذلك قولهُ تعالى: { وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ}، ويقول الزركشي: قد يُنزَّل الشيء مرَّتين تعظيماً لشأنهِ، وتذكيراً عند حدوث سببهِ، ثم ذكر منهُ آية الروح: وقولهُ: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } .
يقول الزركشي: قد يكون النزول سابقاً على الحُكم، كقولهِ: { قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ }، فقد روى البيهقي في السُنن عن ابن عمر: أنَّها نزلت في زكاة الفطر، وأجاب البغوي: بأنهُ لا يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحُكم، كما قال: {ٓ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ١ وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} فالسُورة مكيَّة، ومن أمثلة ما تأخَّر نزولهُ عن حكمهِ: آية الوضوء، ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل فثنى رأسهُ في حجري راقداً، وأقبل أبوبكر، فلكزني لكزةً شديدة، وقال: حبَستِ الناس في قلادة؟ ثم إنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم استيقظ، وحضرتِ الصبحُ، فالتمس الماء فلم يُوجد، فنزلت: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ} إلى قولهِ: { لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ}، فالآية مدنية إجماعاً، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة.
كما نجد في نوعٍ آخر: ما أنزل منهُ على بعض الأنبياء وما لم ينزل منهُ على أحدٍ قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الثاني: الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة، وأخرج الطبراني في الكبير، عن عقبة بن عامر قال: تردَّدوا في الآيتين من آخر سُورة البقرة {آمن الرسول...} الى خاتمتها، فإنَّ الله اصطفى بها محمداً، وأخرج ابن الضريس وغيرهُ عن كعب قال: فُتحت التوراة ب {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ}، وخُتمت ب { وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا} الى قولهِ: { وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا } .
كما نجد نَّ السيوطي ذكر في التناسُب أنَّ الفاتحة هي أمَّ القرآن والكتاب، قال تعالى: { َعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}، وهي تسمَّى فاتحة الكتاب لأنَّها تُناسب ذلك، وسُمِّيت لتقدُّمها وتأخُّر ما سواها تبعاً لها، ولأنَّها أفضل السُور، ولأنَّ حُرمتها كحُرمة القرآن كلِّه، وهي محكمة والمحكمات أمُّ الكتاب، ولأنَّها تُسمَّى السبع المثاني، ولأنها الوافية والكافية والنور والأساس ولأنها سورة الحمد والشكر، وسورة الصلاة والدعاء والسؤال وتعليم المسألة، وسورة المناجاة والتفويض، وهي الشفاء، كما نجد أنَّ سورة البقرة هي فسطاط القرآن، والمائدة تُسمَّى العقود والمنقذة، كما تُسمَّى التوبة بسُورة العذاب، والنحل بالنِّعم، والإسراء بسورة (سبحان)، والكهف بسورة أصحاب الكهف، وطه بالكلِّيم، والشعراء بالجامعة، والنمل بسليمان، والسجدة بالمضاجع، وفاطر بالملائكة، و(يس) بقلب القرآن، والزمر بالغُرف، وغافر بالطوْل، وفُصِّلت بالسجدة وسُورة المصابيح، والجاثية بالشريعة والدهر، وسُورة محمد بالقتال، و (ق) بالباسقات، واقتربت بالقمر، والرحمن بعروس القرآن، والمجادلة بالظهار، والحشر بسورة بني النضير، والممتحَنة بالامتحان والمودَّة، والصف بالحواريِّين، والطلاق بالنساء القُصرى، والتحريم بالمتحرِّم، وسورة تبارك بالملك، و(سأل) بالمعارج والواقع، و (عمَّ) بالنبأ، و (لم يكُن) بأهل الكتاب، وأرأيتَ بسُورة الماعون، والكافرون بالعبادة، وسُورة النصر بالتوديع، وسورة تبَّت بالمسَد، والإخلاص بالأساس، والفلق والناس بالمعوذَتين.
كما نجد من بدائل مصطلح التناسُب: الترتيب نحو: {فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ}، وهو عطف مفصَّل على مجمل، نحو: {فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ}. ونجد أنَّ ترابط السُور في المضامين هو الطابع العام لوجه ارتباط السور بعضها ببعض، إلا أنَّ هناك مَن ذكر وجوهاً أخرى ترجع الى وجود علاقات لغويَّة أو أسلوبية، كتكرار الألفاظ في نهاية السُورة وبداية السورة اللاحقة كانتهاء سُورة الواقعة بالتسبيح وابتداء السُورة التي تليها وهي سورة الحديد بالتسبيح، أو اقتران بدايتيهما كابتداء سُورة الإسراء بالتسبيح وسُورة الكهف بعدها بالتحميد. كما أكَّد العلماء أنَّ (ترتيب الآيات في سُورها واقع بترتيبهِ صلى الله عليهِ وسلَّم وأمرهُ من غير خلاف بين المسلمين)، كما أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سُوراً مُرتَّبة كاملة، وهذا يدُل على أنَّهُ قد رتَّبها بنفسه ووضع آياتها في مواضعها التي أمرهُ بها، ويؤكد البيهقي توقيفية ترتيب السُور بقولهِ: (القرآن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مُرتَّباً سُورهُ وآياتهِ على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة)، واستدلَّ السيوطي على توقيفية الترتيب بترتيب الحواميم والطواسين، فهو يرى أنَّ هذه السُور رُتِّبت متتابعة، بينما لم تُرتَّب المسبحات بهذا الشكل من التابع بل فصل بين سُورها بسُور أخرى وهي المجادلة والممتحنة والمنافقين، كما فصل بين سُور الشعراء والقصص بسُورة النمل مع أنَّها أقصر منها، ولو كان الترتيب اجتهادياً لرُتِّبت المسبحات مُتتابعة، وأُخِّرت سُورة النمل عن القصص.
كما نجد أنَّ السابقين قد حصروا العلاقات بين الآيات التي لا يتَّضح فيها وجه التناسُب بشكلٍ جلي، وخاصة حينما لا تكون الجُمَل أو الآيات معطوفة على بعضها بشكلٍ يكشف ذلك الارتباط بما يلي: (التنظير، التضاد، المُقابلة، الاستطراد، الالتفات، حُسن الابتداء، حُسن التخلُّص) . أما في الجمع بين الشيء وضدِّه نجدهُ في عدَّة مواضع كشفت العلاقة بين هذه الأضداد، ووجه المناسبة بين أجزاء الآيات المُتتابعة مما قالهُ السيوطي: (ولما جعل التيسير بالأولى مُشتركاً بين الإعطاء والتصديق جعل ضدَّهُ وهو التعسير مُشتركاً بين أضدادها) .
ويقول السيوطي أيضاً: (لابُدَّ أولاً من التمييز بين فواتح السُور ومُقدِّماتها، فليست فاتحة السُور هي مُقدِّمتها، فالفواتح حصرها بعض العلماء بعشرة أنواع هي: الثناء على الله سبحانهُ، النداء، القسم، الجُملة الخبريَّة، والشرط، والأمر والاستفهام والدعاء والتعليل وحروف التهجِّي) .


$: آراء وأقوال السيوطي في التناسُب في كتابهِ معترك الأقران:
لقد اعتبر السيوطي مناسبة آيات القرآن وسُورهِ، وارتباط بعضها ببعض وجهاً من وجوه إعجاز القرآن؛ حتى تكون كالكلمة الواحدة، متَّسقة المعاني،مانتظمه المباني، وقال: "إنَّ من فوائدهِ جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حالته حال البناء المُحكم المتلائم"، وعلم المناسبة علمٌ شريف قلَّ اعتناء المفسِّرين لدقَّتهِ. كما نجد تكرار الآية: {وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ}، فقد خُتِمت كل قصة من قصص الأنبياء بهذه الآية، إذ تعلَّقت الآية في كلِّ مرَّة بقصة من تلك القصص القرآني، إذ يتفاوت طرح القصة في كل موضع بحسب ما يقتضيهِ المقام، فتختصر في مكان وتُبسَّط في مكانٍ آخر، وتقدَّ أحداث وتُؤخَّر، ونجد ما كان لتعدُّد المتعلِّق، بأن يكون المكرَّر ثانياً متعلقاً بغير ما تعلَّ به الأول، وهذا القسم يُسمَّى بالترديد، كقولهِ: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ}، وقد تكرَّرت الآية: {فبأيِّ--تكذبان} في سورة الرحمن نيِّفاً وثلاثين مرَّة، كلَّ واحدة تتعلَّق بما قبلها.
ونجد في الآية: {قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ }، ذكرت العبادة وتلاهُ ذكر التصرُّف في الأموال واقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الترتيب، لأنَّ الحلم يُناسب العبادات، والرشد يُناسب الأموال، وقولهُ: {أَوَ لَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ} إلى قولهِ: {أَفَلَا يُبۡصِرُونَ}، فأتى في الآية الأولى يهْدِ لهم، وختمها ب (يسمعون) لانَّ الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون، وفي الثانية ب (يروا)، وختمها ب (يُبصرون) لأنَّها مرئية. وقولهُ: {لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ}، فإنَّ اللطيف يُناسب ما لا يُدرك بالبصر، والخبير يُناسب ما يدركهُ.
كما نجد حُسن التخلُّص في أنَّهُ هو: (أن ينتقل مما ابتُدئ به الكلام المقصود على وجهٍ سهل يختلسهُ اختلاساً دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وضع عليه الثاني لشدَّة الالتئام بينهما). ويقرُب من حُسن التخلُّص الانتقال من حديثٍ الى آخر تنشيطاً للسامع مفصولاً بهذا، كقولهِ: {هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ}، ويقرُب منهُ أيضاً حُسن المطلب، كقولهِ: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ}. ويقول السيوطي: وقد تتبَّعتُ الأحكام التي وقعت في آخر الآيات مراعاةً للمناسبة فعثرتُ منها ما ينيف على الأربعين حكماً: منها:
تقديم المعمول إما على العوامل نحو: {أَهَٰٓؤُلَآءِ إِيَّاكُمۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ}. قيل: ومنهُ {وإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ}، أو معمول آخر أصلهُ التقديم نحو: {لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى}، ومنها أيضاً تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو: {فَلِلَّهِ ٱلۡأٓخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ} ولولا مُراعاة الفواصل لقُدِّمت (الأولى) كقولهِ: {لَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأُولَىٰ وَٱلۡأٓخِرَةِۖ }.
تقديم الفاضل على الأفضل، نحو: {بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ} وتقدُّم ما فيه.
تقديم الضمير على ما يُفسِّره، نحو: {فَأَوۡجَسَ فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ} وتقدُّم ما فيه.

تقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد، نحو: {ۡوَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا}.
حذف ياء الفعل غير المجذوم، وحذف ياء الإضافة، وحرف المد، نحو: الظنونا، والرسولا والسبيلا، ومنه إبقاؤهُ مع الجازم، نحو: {لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ}.
صرف ما لا ينصرف، نحو: {قواريرا قواريرا}.
إيثار تذكير الجنس، كقولهِ: {أعجاز نخلٍ منقعر}.
إثار تأنيثه، نحو: {أعجاز نخل منقعر} ونظير هذين قولهُ في القمر: {وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ}.
الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين الذين قرئ بهما في السبع في غير ذلك، كقولهِ: {فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدٗا}.
إيراد الجملة التي ورد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية، كقولهِ تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ}، لم يطابق بين قولهم (آمنا) وبين ما ردَّ به فيقول: لم يؤمنوا، أو ما آمنوا لذلك.
إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك نحو: {فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} ولم يقُل الذين كذبوا.
إيراد أحد جزأي الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها نم الجملة الأخرى، نحو: {أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ }.


إيثار أغرب اللفظتين، نحو: {قسمة ضيزى} ولم يقل جائزة، و {لينبذن في الحُطمة} ولم يقُل جهنم أو النار. وذلك لمراعاة فواصل كلَّ سُورة.
وفي الآية 84 من سُورة هود لما تقدَّم ذكر العبادة وتلاهُ ذكر التصرف في الأموال اقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الترتيب، لأنَّ الحلم يُناسب العبادات، والرشد يُناسب الأموال. وقولهُ: {أَوَ لَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِيَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ...} إلى قولهِ: {أفلا يُبصرون}، فأتى في الآية الأولى ب (يهدِ لهم)، وختمها ب (يسمعون) لأنَّ الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون، وفي الثانية ببروا، وختمها بسيبصرون لأنَّها مرئيَّة. وقولهُ: {لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ}، فإنَّ اللطيف يُناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبير يُناسب ما يدركهُ. وقولهُ: {وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ} إلى قولهِ: {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ}، فإنَّ في هذه الفاصلة التمكين التام المناسب لما قبلها، كما نجد أنَّهُ قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ويخالف بينها، كأوائل النحل؛ فإنَّه تعالى بدأ بذكر الأفلاك، فقال: {خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ} ثم ذكر خلق الإنسان (من نطفة) في الآية 4، ثم ذكر خلق الأنعام ثم عجائب النبات فقال: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ ١٠ يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ} فجعل مقطع هذه الآية التفكُّر، لأنَّهُ استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر.
وفي الآيات {قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ...} نجد أنَّ الآية قد خُتمت ب (لعلكم يعقلون) لأنَّ الوصايا إنما يُحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى، وخُتمت الآية: 152 ب (لعلَّكم تذكرون) لتعلُّقها بالحقوق المالية والقولية، وخُتمت الآية: 153 ب (لعلَّكم تتَّقون) لأنَّ اتباع شرائع الله الدينية يؤدي الى غضبه وعقابه.
ومن ذلك قولهُ تعالى في الأنعام أيضاً: {وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ...} الآيات، فإنَّهُ ختم الأولى بقولهِ (لقومٍ يعلمون)، والثانية بقولهِ: (لقومٍ يفقهون)، والثالثة بقولهِ: (لقومٍ يؤمنون) ، وذلك لأنَّ حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك، فناسب ختمهُ ب (يعلمون)، وإنشاء الخلائق من نفسٍ واحدة ونقلهم من صلبٍ الى رحم ثم الى الدنيا ثم الى حياة وموت، والنظر في ذلك أدق، فناسب ختمهُ ب (يفقهون)؛ لأنَّ الفقه فهم الأشياء الدقيقة، ولما ذكر ما أنعم به على عبادهِ من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك فناسب ختمهُ بالإيمان الداعي الى شكرهِ تعالى على نعمهِ.
ومن ذلك قولهُ تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ ٤١ وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} حيث ختم الأولى ب (يؤمنون) والثانية ب (تذكَّرون) ووجهه أنَّ مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحد، فقول مَن قال شعر عناد وكُفر محض، فناسب ختمهُ بقولهِ: قليلاً ما تؤمنون، وأما مخالفتهِ لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج الى تدبُّر وتذكُّر، لأنَّ كلاً منهما نثر، فليست مخالفتهُ لهما في وضوحها لكلٍ أحد كمخالفة الشعر، وإنما تظهر بتدبُّر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة؛ فحَسُنَ ختمهُ بقولهِ: قليلاً ما تذكَّرون.
كما نجد في سورة الجاثية: {مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ}، وفي فُصِّلت خُتمَ بقولهِ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ}، ونجد قبل الآية الأولى ناسب الختام بفاصلة البعث؛ لأنَّ قبلهُ وصفهم بإنكاره، وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب، لأنَّهُ لا يُضيَّع عملاً صالحاً ولا يزيد على مَن عمل سيئاً. وقال في النساء: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا}، ثم أعادها وختم بقولهِ: {وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا}. وتفسير ذلك أنَّ الأولى نزلت في اليهود، والثانية نزلت في المشركين. ونجد في سورة البقرة: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ}، وفي آل عمران: {قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ}، فإنَّ المتبادر الى الذهن في آية البقرة الختمُ بالقدرة، وفي آل عمران الختم بالعلم.
ويقول الإمام الرازي في سورة البقرة: ومَن تفكَّر في لطائف نظم هذه السُورة وفي بدائع ترتيبها علِمَ أنَّ القرآن كما أنَّهُ معجز بحسب فصاحة ألفاظهِ وشرف معانيهِ؛ فهو أيضاً مُعجز بسبب ترتيبهِ ونظم آياته، ويقول السيوطي: أنَّ المناسبة في اللغة هي المشاركة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها الى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسِّي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهني كالسبب أو المُسبِّب، والعلَّة والمعلول، والنظيرين والضدَّين ونحوه. وفائدتهُ جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حالتهُ حال البناء المُحكم المتلائم الأجزاء، وتأمَّل سورة البقرة والنساء والمائدة تجدهُ كذلك.
كما نجد للتناسب أسباب: منها: التنظير كقولهِ: {كما--بالحق} عقب قولهِ {أولئك هم المؤمنون} في الآية التي قبلها، ونجد المضادَّة كقولهِ: {إنَّ—عليهم...}، والسبب الثالث: هو الاستطراد كقولهِ: {يابنى—سواءاتكم...} .
وقال السيوطي: الأمر الكُلِّي المفيد لعرفان مناسبة الآيات في جميع القرآن هو أنَّك تنظر الغرض الذي سِيقَت لهُ السُورة، وتنظر ما يحتاج إليهِ ذلك الغرض من المقدِّمات، وتنظر الى مراتب تلك المقدمات في القُرب والبُعد، وهذا هو الأمر الكلِّي المُعين على حُكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلتهُ بيَّن لك وجه النظم مُفصَّلاً بين كلِّ آية وآية في كلِّ سورة وسُورة. كما أنّ من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قولهُ تعالى في سُورة القيامة: {لا—به...} الآيات؛ فإنَّ وجه مناسبتها لأوَّل السُورة وآخرها عسير جداً؛ فإنَّ السُورة كلها في أحوال القيامة، وقد ذكر الأئمة لها مناسبات: منها أنَّهُ تعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن مَن يقصِّر عن العمل لها حُبَّ العاجلة، ومنها أنَّ عادة القرآن إذا ذكر الكلام المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيامة أردفهُ بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف: {ووضع—فيه...}إلى ان قال: {ولقد—مثل...}. ونجد من هذا النوع مُناسبة السُور، وقد أفرد السيوطي فيهش جزءاً لطيفاً سمَّاهُ مراصد المطالع في تناسُب المقاطع والمطالع، فانظر الى سورة القصص كيف بُدئت بأمر موسى ونصرتهِ، وقولهِ: {فلن-للمجرمين}، وخروجه من وطنهِ، وخُتمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلَّم بألَّا يكون ظهيراً للكافرين، وتسليتهِ عن إخراجهِ من مكة، ووعدِهِ بالعوْد إليها، لقولهِ في أوَّل السُورة: {إنا-إليك}، وقد جعل سبحانهُ وتعالى فاتحة المؤمنون: {قد—المؤمنون}، وأورد في خاتمتها: {إنه-المؤمنون} فشتَّان ما بين الفاتحة والخاتمة.
كما نجد مناسبة فاتحة السُور لخاتمة ما قبلها، حتى إنَّ منها ما يظهر تعلُّقها بهش لفظاً، كما في: {فجعلهم-مأكول}. {لايلاف قريش}، ولما ختمَ سُورة النساء أمراً بالتوحيد والعدل بين العباد أكَّد ذلك في قولهِ: {يأيها--بالعقود}، وإذا اعتبرنا افتتاح كل سورة وجدتهُ في غاية المُناسبة لما خُتم بهِ السُورة التي قبلها، ثم هو يُخفى تارةً ويظهر أخرى، كافتتاح سُورة الأنعام بالحمد؛ فإنَّهُ مُناسِب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: {وقضي--العالمين}، وكافتتاح سورة فاطر بالحمد أيضاً، فإنَّهُ مناسب لختام ما قبلها من قولهِ تعالى: {وحيل-من قبل}، وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح، فإنَّهُ مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر بهِ، وكافتتاح سورة البقرة بقولهِ تعالى: {آلم-الكتاب}، فيهِ إشارة الى الصراط في قولهِ: {اهدنا-المستقيم} كأنَّهم لما سألوا الهداية الى الصراط قيل لهم: ذلك الصراط المستقيم الذي سألتم الهداية إليهِ هو الكتاب، وها معنى حسُن فيهِ ارتباط سُورة البقرة بالفاتحة.
ولترتيب وضع السُور في المصحف أسباب تُطْلِع على أنَّهُ توقيفي صادر عن حكيم: أحدها: بحس الحروف، كما في الخواتيم، والثاني لموافقة أول السُورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة، والثالث: للوزان في اللفظ، كآخر (تبَّت) وأول الإخلاص، والرابع: لمشابهة جملة السُورة لجملة اخرى كالضحى و (ألم نشرح)، وسُورة الفاتحة تضمَّنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليهِ في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية، وسُورة البقرة تضمَّنت قواعد الدين، وآل عمران تكملة المقصود، وأما سورة النساء فتضمِّنت أحكام الأسباب التي بين الناس، ولهذا افتُتِحت بقولهِ: {يا-زوجها} ثم قال: {واتقوا-الارحام} فانظر لهذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمَّنت الآية المُفتَتح بها نظير السُورة في أحكامهِ من نكاح النساء ومُحرَّماتهِ، والمواريث المتعلِّقة بالأرحام، وأما المائدة فقد تضمَّنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وما أخذ على الأمة، وبها تمَّ الدين فهي سُورة التكميل. وهذا الترتيب بين هذه السُور المدنيات من أحسن الترتيب.
وأيضاً افتتاح السُور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بُدئت بهِ، حتى لم تكُن ترِد آلم في موضع آلر ولا حم في موضع طس؛ وذلك أنَّ كل سورة بُدئت بحرفٍ منها؛ فإنَّ أكثر كلماتها وحروفها مماثل لهُ، فحق كل سورة منها ألا يُناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع (ق) موضع (ن) لم يُمكن؛ لعدم التناسُب الواجب مُراعاتهِ في كلام الله، وقد تكرَّرت الراء في سُورة يونس من الكلام الواقع فيها الى مائتي كلمة أو أكثر، فلهذا افتُتِحت بالراء. كما نجد أنّ كل سُورة افتُتِحت ب (آلم) اشتملت على أمور ثلاثة، وهي ذلك أنَّ (آلم) جمعت المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها؛ وذلك إشارةً على البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المَعاد والتوسُّط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي، وعادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكُر بعدها ما يتعلَّق بالقرآن، كقولهِ تعالى: {آلم ذلك الكتاب}. {نزل عليك الكتاب}. {آلمص. كتاب-اليك}، إلا في ثلاثة سُوَر: العنكبوت، والروم، و (ن)، ليس فيها ما يتعلَّق بهِ، وقد ذُكِر حِكمة ذلك في كتاب أسرار التنزيل للسيوطي.
والمناسبة في اللغة: المشاكلة والمُقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها الى معنى رابط بينهما عام أو خاص عقلي أو حسِّي أو خيالي أو غير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهني كالسبب والمُسبِّب، والعلَّة والمعلُول، والنظيرين والضدَّين، ونحو ذلك، ونجد المُناسبة في ابتداء البقرة ب (آلم) أحسن مما قال؛ وهو أنَّهُ لما ابتُدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكلِّ أحد الذي لا يُعذَر أحد في فهمهِ ابتُدئت البقرة بمقابلة وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيلة، ومن هذا النوع مناسبة أسماء السُور لمقاصدها.
وفي افتتاح السُور وخواتمها نجدهُ من أحسن البلاغة عند البيانيِّين، وهو أن يتأنَّق في أوَّل الكلام، لأنَّهُ أوَّل ما يقرع السمع، فإن كان محرراً قِبَلَ السامع قَبِلَ الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنهُ، وإن كان في نهاية الحس؛ فينبغي أن يُؤتى فيهش بأعذب اللفظ وأرقُّه، ولذلك أتت فواتح السُور على أحسن الوجوه وأكملها؛ كالتحميدات، وحروف النداء، والهجاء وغير ذلك. ومن الابتداء الحَسُن نوع يُسمَّى براعة الاستهلال وهو أن يشتمل أوَّل الكلام على ما يُناسب الحال المتكلم فيهِ، ويُشير إلى ما سبق الكلام لأجلهِ، ونجد في سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن أنَّها اشتملت على جميع مقاصدهِ، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال.
وخواتم السُور مثل الفواتح في الحُسن؛ فلهذا جاءت متضمِّنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، لأنَّها بين أدعية ووصايا، وفرائض وتحميد، وتهليل، ومواعظ، ووعد ووعيد، الى غير ذلك كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة، وكالدعاء الذي اشتملت عليهِ الآيتان من آخر سورة البقرة (285، 286)، وكالوصايا التي خُتِمت بها سُورة آل عمران، والفرائض التي خُتِمت بها سُورة النساء، والآخر ما نزل من الأحكام وكالتبجيل والتعظيم الذي خُتِمت بهِ سُورة المائدة، وكالوعد والوعيد الذي خُتمت به الأنعام، وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي خُتمت به الأعراف، وكالحضِّ على الجهاد وصلة الأرحام الذي خُتمت به الأنفال، وكوصف الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحهُ والتهليل الذي خُتمت به براءة، وتسليتهِ عليه السلام التي خُتم بها سورة يونس، ومثلها هود، ووصف القرآن الذي خُتم به يوسُف، والرد على مَن كذَّب يُوسُف والرد على مَن كذَّب الرسول صلى الله عليهِ وسلم الذي خُتِم به الرعد، ومن أوضح ما آذن بالختام خاتمة ابراهيم: {هذا-للناس}، ومثلها خاتمة الأحقاف، وكذلك الحجر: {واعبد-اليقين}، وهو مُفسَّر بالموت، وهو في غاية البراعة، وانظر الى سورة الزلزلة كيف بُدِئت بأحوال القيامة، وخُتمت بقولهِ: {فمن-يره}، وانظر الر براعة آخر آية نزلت وهي قولهُ: {واتقوا-الله} وما فيهِ من الإشعار بالآخريَّة المَستلزمة بالوفاة. كما نجد الحكمة من ختم القرآن بالمعوذتين هو: أنَّ القرآن افتُتِح بسُورة لم ينزل مثلها، واختُتِم بسورتين لم يُرَ مثلهما؛ ليجمع حُسن الافتتاح والاختتام، كما أنَّ الحكمة هي لتحصُل الإستعاذة بالله عند أوَّل القراءة وعند آخر ما يُقرأ من القرآن؛ فتكون الاستعاذة اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، ليكون القارئ محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ بهِ من أوَّل الأمر الى آخرهِ.
وفي سُورة الكهف لما أُنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخير الوحي نزلت مُبيِّنة أنَّ الله تعالى لم يقطع نعمتهُ عن نبيِّهِ ولا عن المؤمنين؛ بل أتمَّ عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة. ونجد أنَّهُ قد افتُتح الفاتحة بالحمد لله رب العالمين، فوصف بأنَّهُ مالك جميع المخلوقات، وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر لم يُوصف بذلك، بل أفرد صفاتهُ وهو خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور في الأنعام، وإنزال الكتاب في الكهف، ومالك ما في السماوات والأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر؛ لأنَّ الفاتحة أمَّا القرآن ومطلعهُ، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمَّها وأشملها، وأما مناسبة الوصف الوارد في سورة الأنعام فمن حيثُ ما وقع فيها من الإشارة إلى مَن عبد الأنوار، وأعاد سُبحانهُ ذكر ما فيه الدلالة المُبيِّنة على بُطلان مذهب مَن عبد النيِّرات أو شيئاً منها في قولهِ تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ...}، وأما سُورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أهل الكهف، ولقاء موسى عليه السلام والخضر، وذكر الرجل الطوَّاف وبلوغهِ مطلع الشمس ومغربها، وبنيانهِ سدَّ يأجوج ومأجوج، وكل هذا لا تُعرف حقيقتهُ إلا بالوحي والإنباء بالصدق الذي لا عِوج فيهش ولا زيغ، ناسب ذكر افتتاح السُورة المُعرَّفة بذلك بالوحي المقطوع بهش قولهُ تعالى: {الحمد--عوجا}، والتناسُب في هذا أوضح من أن يُتوقَّف فيه.
وأما سُورة سبأ فلما تضمَّنت ما منح سبحانهُ داوود عليه السلام من تسخير الجبال والطير والريح ناسب ما افتُتِحت بهِ السُورة من أنَّ الكُل ملكهُ وخلقهُ، فهو المُسخِّر لها، لقولهِ: {الحمد--الآخرة} وهذا أوضح للتناسُب. وأما سُورة الملائكة فمُناسبة وصفهِ تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكرهُ من خلق عام في السماوات من الملائكة وجعلهم رُسُلاً أولى أجنحة، وإمساكهِ السماوات والأرض أن تزولا-أبْيَن شيء وأوضحهُ، وليس شيء من هذه الأوصاف العليَّة بمُناسِب موضعهُ الوارد منه، فقد بان مجيء كلٍّ منها في موضعهِ ملائماً لما اتصل به.
من وجوه إعجاز القرآن تشابُه آياتهِ، وذلك أنَّ القصة الواحدة ترِد في سُور شتَّى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع واحد مُقدَّماً وفي آخر مؤخَّراً كقولهِ في البقرة: {وادخلوا--حطة}، وفي الأعراف: {وقولوا-سجدا}، وفي البقرة: {وما أ--الله}، وسائر القرآن: {وما --به}، وفي موضع آخر مُعرَّفاً وآخر مُنكراً، أو مفرداً وفي آخر جمعاً، وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات؛ فنجد مثلاً قولهُ في البقرة: {هدى للمتقين} لأنَّهُ لمَّا ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المُتَّقين، ولمَّا ذكر في لقمان الرحمة ناسبَهُ: هدى ورحمةً للمُحسنين، وفي البقرة: (وكلاً) في الآية 35، بالواو، وفي الأعراف: (فكُلاً) في الآية 19 بالفاء، لأنَّ المُراد بالسُكنى في البقرة الإقامة، وفي الأعراف اتخاذ المَسكن؛ فلما ناسب القول إليِهِ تعالى: {وقلنا ياادم} ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالَّة على الجمع بين السُكنى والأكل، كما نجد في البقرة: {ولا--شفاعة}، وقال بعد ذلك: {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} ففيهِ تقديم وتأخير، والتعبير بقبول الشفاعة تارةً وبالنفي أخرى، وفي البقرة: {يذبحون أبناءكم} وفي ابراهيم: {ويذبحون} بالواو؛ لأنَّ الأولى من كلامهِ تعالى لهم، والثانية من كلام موسى فعدَّدها في الأعراف: {يُقتَلون}، وهو من بديع الألفاظ المُسمَّى بالتفنُّن.
وفي قولهِ تعالى: {وإذ-القرية}، وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ؛ وهو أنَّ آية البقرة في معرض ذكر النعم عليهم حيث قال: {يابني-عليكم} فناسب نسبة القول إليهِ تعالى، وناسب قولهُ رغداً، لأنَّ النِعم بهِ أتم، وناسب تقديم: وادخلوا الباب سُجَّداً، وناسب خطاياكم لأنَّهُ جمع كثرة، وناسب الواو في: وسنزيدُ المُحسنين لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في فكُلوا، لأنَّ الأكل قريب من الدخول. وآية الأعراف افتُتحت بما في توبيخهم، وهو قولهُ: {اجعل-آلهة}، ثم اتخاذهم العجل، فناسب ذلك: وإذا قيل لهم؛ وناسب ترك (رغداً) والسكنى تجامع الأكل، فقال: واُكلوا؛ وناسب تقديم مغفرة الخطايا، وترك الواو في (سنزيد)، ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقولهِ: {ومن--بالحق} ناسب تبعيض الظالمين بقولهِ: الذين ظلموا منهم، ولم يتقدَّم في البقرة إشارة الى سلامة غير الذين ظلموا، فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة ذلك، وختم آية البقرة ب (يفسقون) ولا يلزم منهُ الظلم، والظلم يلزم منهُ الفسق، فناسبَ كل لفظ منها سياقهُ. وكذا في البقرة: {فانفجرت} وفي الأعراف {انبجست}؛ لأنَّ الانفجار أبلغ في كثرة الماء، فناسب ذكر النعم التعبير بهِ، كما نجد في البقرة: {وقالو--معدودة}، وفي آل عمران {معدودات} .
وأيضاً في البقرة: {إنَّ هدى الله هو الهدى}، وفي آل عمران: {إنَّ --الله} لأنَّ الهدى في البقرة المراد بهِ تحويل القِبلة؛ وفي آل عمران المراد بهِ الدين، لتقدُّم قولهُ: (لمَن تبع دينكم) ومعناهُ دين الإسلام. وقولهُ تعالى في البقرة: {رب-آمنا}، وفي ابراهيم الآية 35 عرَّفهُ، لأنَّ الأول دعا بهِ قبل مصيرهِ بلداً عند ترك هاجر واسماعيل بهِ وهو واد، والثاني دعا بعد عودة وسكنى جرْهم بهِ ومصيرهُ بلداً فدعا بأمنهِ، وفي قولهِ تعالى في سورة البقرة أيضاً: {ولئن-العلم} جعل الذي مكان قوله فيما بعد (ما) وزاد (من) في البقرة الآية 145، والرعد الآية 37: {ولئن-العلم} لأنَّ العلم في الآية الأولى علم بالكمال الذي ليس وراءهُ علم.
وفي البقرة: {قولوا-ابراهيم}، وفي آل عمران: {وما انزل علينا} لأنَّ الأولى خطاب للمسلمين والثانية خطاب للنبي صلى الله عليهِ وسلَّم. وفي الآية: {وما أهل-الله} قدَّم ضمير المجرور في البقرة وأخَّرهُ في المائدة الآية (4)، والأنعام 145، والنحل 115، لأنَّ تقديم الباء الأصل بأنَّهُ يجري مجرى الألف والتشديد ف التعدِّي، فكان كحرفٍ من الفعل. وفي قولهِ تعالى: {تلك-تقربوها} وقال بعد ذلك: {فلا تعتدوها}؛ لأنَّ الأولى وردت بعد نواهٍ، فناسب النهي عن قربانها، والثانية بعد أوامر، فناسب النهي عن تعدِّيها وتجاوزها بأن يوقف عندها. وفي قولهِ تعالى: {نزل عليك الكتاب}، وقال: {وأنزل-والنجيل} في نفس الآية لأنَّ الكتاب أنزل منجماً، فناسب الإتيان بنزل الدالة على التكرير؛ بخلافهما فإنَّهما أُنزلا دفعةً واحدة. وفي قولهِ تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ} وفي الإسراء: {خشية إملاق}؛ لأنَّ الأولى خطاب للفقراء المقلين، والثانية خطاب للأغنياء، كما نجد في الأعراف: {استعذ-عليم} وفي فُصِّلت الآية 36: {السميع العليم} لأنَّها نزلت ثانياً فحسن التعريف. كما نجد قولهُ تعالى: {المنافقون-بعض}، وقال في الأنفال: {والذين--بعض}، فهذه أمثلة يستضاءُ بها ويأتي منها كثير في وجه التقديم والتأخير.
ويقول السيوطي: يقول القاضي أبو بكر: لا يجوز تعارض آيات القرآن والآثار وما يوجبهُ العقل؛ فلذلك لم يجعل قولهُ: {الله-شيء} معارضاً لقولهِ: {وتخلقون إفكاً} لقيام الدليل العقلي أنَّهُ لا خالق له غير الله، فتعيَّن تأويل ما عارضهُ. وذكر الكرماني: أنَّ الاختلاف على وجهين: اختلاف تناقض، وتلازم كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السُور والآيات، والأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي والوعد والوعيد.
ونجد في فصل التبيين أنَّهُ قد يقع متَّصلاً نحو: {من الفجر} بعد قولهِ: {الخيط--الأسود} في نفس الآية، ومنفصلاً في آية أخرى، نحو: {فإن-غيره} بعد قولهِ في الآية التي قبلها: {الطلاق مرَّتان}. ونجد الآية: {وأحلَّ-الربا} قيل أنَّها مُجملة؛ لأنَّ الربا الزيادة، وقيل إنها عامة، وقيل إنها عامة مُجمَلة معاً.
الوجه السابع والعشرون من وجوه اعجازه
وقوع البدائع البليغة فيه
أنهاها بعضهم الى مائتي نوع، وهو علمٌ يُعرف بهٍ وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل والمناسبات والفواتح والخواتيم وفي الوجه الذي قبل هذا ما لا مزيد لذكره.
ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى
الأول أن تكون الألفاظ يُلائم بعضها بعضاً، بأن يُقرن الغريب بمثلهِ، والمتداول بمثلهِ، رعاية الفاصلة لحُسن الجواب والمناسبة، والثاني أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المُراد؛ فإن كان فخماً كانت ألفاظهُ فخمة، أو جزلاً فجزله، أو غريباً فغريبة، أو متوسطاً بين الغرابة والاستعمال فكذلك، فالأول كقولهِ تعالى: {تالله-حرضا}، ومن الثاني قولهُ تعالى: {ولا-النار}، وذلك رغبةً في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم، كما نجد الفرق بين سقى واسقى، فقال: {وسقاهم-طهورا}، وفي أسقى قال: {لأسقيناهم--غدقا}، لأنَّ السقي في الدنيا لا يخلو من كلفةٍ أبداً.
حسن النسق
وهو أن يتكلَّم المتكلِّم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، بحيث إذا أفردت كلّ جملة منها قامت بنفسها، واستقلَّ معناها بلفظها، ومنهُ قولهُ تعالى: {وقيل-ماءك...}، فإنَّها جُمَل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيهِ البلاغة من الابتداء بالأهم. كما نجد في الآية عشرين ضرباً، وذلك للمناسبة التامة بين (أقلعي) و (ابلعي) ، ونجد أنَّ أول الآية يدُل على آخرها.



------------------------------



$: آراء وأقوال السيوطي في التناسُب في كتابهِ شرح عقود الجمان:
من محسنات الوصل بعد وجود المصحح تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية وتناسب الفعليَّتين في المضي والمضارعة ما لم يكن مانع من إرادة التجدُّد في إحداهما والثبوت في الأخرى نحو (قام زيد وعمرو قاعد)، ومنهُ: {سواء عليهم صمتون}، أي أأحدثتُم الدعوة أم استمرَّ صمتكم عن دعائهم، أو المضي في إحداهما والمضارعة في الأخرى أو في إحداهما على الإطلاق، وفي الأخرى التقييد بالشرط نحو { وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ}، ومن التناسب أيضاً أن تكون الجملتان سواءً في الشرطية والظرفية أي إذا كان المعطوف عليها شرطياً أو ذات ظرفٍ فلتكُن الثانية كذلك، قال: وينبغي أن يدخل في هذا القسم ما إذا كان في إحداهما أداة حصر أو تأكيد بأنَّ واللام ونحو ذلك.
تُسمى مراعاة النظير بالتناسُب كما في النظم والتوفيق، والائتلاف والمؤاخاة إن تجمع امراً وما يناسبهُ لا بالتضاد، وهو أصناف: الأول: أن يُناسب اللفظ المعنى، والثاني: أن يُناسب اللفظ اللفظ، والثالث: أن يُناسب المعنى المعنى بأن يؤتى في آخر الكلام بما يناسب أوَّلهُ معنى، وهذا النوع يُسمَّى تشابه الأطراف كقولهِ تعالى: {لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ}، فإنَّ اللطيف يناسب ما لا يدرك بالبصر والخبرة تناسب ما يدرك.
اختلفت عبارات النُحاة في معنى (لو) وقد استوفينا أقوالهم فيها في كتابنا جمع الجوامع، وعبارة الجمهور فيها أنَّها حرف امتناع لامتناع، وفسَّرها الأكثر بأنَّ المراد امتناع الأول لامتناع الثاني، وقال جمال الدين ابن هشام: إن ناسب الثاني الأول ولم يخلفهُ غيرهُ انتفى أيضاً نحو: {لو كان لفسدتا}، وإن لم يُنافِ الأول وناسبهُ إما بالأولى والمساوي أو الأدون ثبت، مثال الأولى: (لو لم يخف الله لم يعصِهِ)، والمساوي حديث الصحيحين: (لو لم تكون ربيبتي في حجري ما حلَّت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة)، والأدون قولهُ: (لو انتفت أخوَّة الرضاع ما حلَّت للنسب) .
ونجد في شرح السيوطي أنَّ المراد بالاتصال أن يكون بين المعنيين مُناسبة، كقولهِ تعالى: {ألا بعدا ثمود}، وفي الآية: {ولا الملائكة المقربون}، وأورد منه الطيبي قولهُ تعالى: {وما يستوى البحران طرياً}، فعطف (ومن كلٍّ تأكلون) لكونهِ مناسباً لأصل الكلام، وهو البحران المعنىِّ بهما الكافر والمؤمن.
ونجد في الآية: {وقيل ماءك}، مناسبة تامة بين (أقلعي) و(ابلعي) ، كما نجد أنَّ سورة الزلزلة بُدئت بأهوال القيامة وخُتِمت بقولهِ تعالى: {فمن يعمل ومن يعمل} .
ينبغي للمتكلم شاعراً كان أم كاتباً أن يتأنَّق في مواضع هي محل تشوف النفوس ويبالغ في تحسينها بأعذب لفظ وأجذلهُ وأرقَّهُ وأسلسهُ وأخلاهُ من التعقيد ومن التقديم والتأخير الملبس أو الذي لا يناسب، أحدها الابتداء لأنَّهُ أول ما يقرع السمع، فإن كان محرَّراً أقبل السامع على الكلام ووعاهُ وإلا أعرض عنه ولو كان الباقي في نهاية الحسن، كما نجد من الابتداء الحسن نوع لطيف أخص منهُ وهو أحسنهُ وهو ما اشتمل على ما يُناسب الحال المتكلم فيه ويُشير إلى ما سبق الكلام لأجلهِ ويُسمَّى براعة الاستهلال لأنَّ المتكلم فهم غرضه من كلامهِ عند رفع صوتهِ والاستهلال هو رفع الصوت.
ونجد النوع الثاني: مما يتأنَّق فيه: التخلُّص مما ابتُدئ به الكلام من نسيب أو غيرهِ كالأدب والفخر الى المقصود على وجه سهل يختلسهُ اختلاساً رقيقاً دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدَّة الالتئام بينهما، وهذا النوع وقع منهُ في القرآن ما يُسكر العقول ويُحيِّر الأفهام ففي سورة الأعراف ذكر الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى وحكاية دعائهِ لنفسهِ ولأُمَّتهِ بقولهِ تعالى: {قال عذابي فسأكتبها للذين} مَن حالهم كيت وكيت.
ونجد أنَّ العرب والمخضرمون وهم من أدرك الجاهلية والإسلام ومَن قاربهم لم يعتنوا به بل ينتقلون بلا مناسبة، ويُسمَّى الاقتضاب، ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص في أنَّهُ يشعر بشيءٍ من الملاءمة كالفصل في قول (أما بعد)، وكذا قولك بعد الحمد لله (أما بعدُ فإنَّ كذا وكذا) فهو اقتضاب من جهة الانتقال من الحمد والثناء الى كلامٍ آخر عن غير ملاءمة لكن يشبه التخلُّص من حيثُ لم يُؤتَ بالكلام الآخر فجأة بل قُصِد نوع من الربط على معنى: مهما يكُن من شيء بعد الحمد والثناء فإنَّهُ كذا وكذا، وقولهُ تعالى: {هذا --مئاب}، أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر فهو اقتضاب فيه نوع مناسبة ارتباط.
ونجد في حُسن الختام أنَّهُ آخر المواضع التي يجب التأنُّق فيها لأنَّه آخر ما يعيهِ السامع ويُرسم في الذهن فإن كان حسناً تلقاهُ السمع واستلذَّهُ وجبر ما وقع فيما سبقه من تقصير وإلا فبالعكس، وأحسن الانتهاء ما آذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوُّف البتَّة. كما نجد أنَّ جميع سُور القرآن في فواتحها وتخلُّصاتها وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها من الفصاحة والبلاغة كما يظهر ذلك بالتأمُّل كالتحميدات المفتتح بها أوائل السُور وحروف الهجاء والنداء في نحو: {يأيها الناس}، وأعظم ذلك ما تضمَّنتهُ الفاتحة التي هي مبدأ الكتاب من البراعة باحتوائها على العلوم الأربعة التي احتوى عليهِ القرآن وقامت به الأديان، وهي علم الأصول ومداره على معرفة الله تعالى وصفاته، ومعرفة النبوَّات ومعرفة المعاد وعلم العبادات وعلم السلوك والقصص.


$: آراء وأقوال السيوطي في التناسُب في كتابهِ تناسُق الدُرر:
يقول السيوطي: لقد وُضِعت الآيات التي تأخر نزولها من بعض السُور في أماكنها، مُتلاحمة تمام التلاحُم مع سوابقها ولواحقها، فلا تنافُر بينها في المعنى ولا في جرس الكلام، مما يُحقِّق ويؤكِّد ما جاء في السُنَّة مجمعاً على صحَّتهِ أنَّ الرسول صلى الله عليهِ وسلَّم كان يضع تلك الآيات وغيرها من آيات السُورة التي كانت تنزل نجوماً مُتتابعة في أماكنها بتوقيف من الوحي، إذ كان يقول لكُتَّاب الوحي: ضعوا هذه الآية أو الآيات بين آية كذا وكذا من سُورة كذا، ويقول السيوطي أيضاً: إنَّ استعراض آيات القرآن حسب ترتيب نزولها هو عين الحكمة، ونُريد أن نعرض نماذج يقيس عليها الباحث عن حكمة الترتيب وأسرارهِ في نزول النزول، وذلك من الآيات الأولى في النزول.
وهناك دلائل من سياق ترتيب القرآن في المصحف تؤكِّد أنَّ ترتيبهُ فيهِ ما كان بالوحي، ولم يكُن من صُنعِ بشر، لأنَّ تلك الاعتبارات المرعيَّة في هذا الترتيب لم تكُن من منهج الصحابة في التفكير، ولا سمعنا أنَّ اجتماعاً حدث بينهم لهذا الترتيب، ومن تلك الدلائل: قولهُ في سورة البقرة: {يايها-ربكم} فالعبادة في الآية معناها التوحيد. ورود هذه الآية بهذا المعنى في أوَّل سُورة في المصحف مع أنَّها مدنيَّة وليست مكيَّة، دليل على أنَّ هذا الترتيب توقيفي من الوحي، ويدُل عليه قولهُ تعالى في سورة هود: {فأتوا-مثله} وسورة هود مكيَّة، والمعنى: فأتوا بعشرِ سُورٍ مثلهِ، أي من البقرة الى هود، وهي العاشرة، مع أنَّ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة مدنيَّات نزلن بعدها. فآية هود مستقيمة المعنى على ترتيب النزول، ولكن ترتيب المصحف حدَّ العشر، وحدَّد أوَّل ما يجب على العبد معرفتهِ واعتقادهِ مُثبتاً في أوَّل سُور القرآن العظيم. ومن دلائل الترتيب وأحكامهِ: قولهُ تعالى في البقرة: {الا--واستكبر}، ولقد جرت عادة القرآن في شأن العقيدة أن يُجملها، ثمَّ يُفصِّلها فيما بعدها من الآيات، وهذا هو الثابت في ترتيب المصحف، فنجد في سُورة الحجر قال تعالى: {الا-الساجدين}. وفيهِ بيان لموضع الاباء، وفي سُورة الإسراء: {قال-طينا} وهو بيان لعلَّة الاباء. وفي سورة البقرة: {ويقتلون-الحق}، وفي آل عمران: {ويقتلون-حق}، وفي النساء: {وقتلهم-حق}، فقد وردت كلمة (الحق) مُعرَّفة بالألف واللام في البقرة، ونكرة في آل عمران والنساء.
كما نجد قولهُ تعالى في سورة البقرة: {رب-آمناً}، وفي سُورة ابراهيم: {رب-آمناً}، فقد جاءت كلمة (بلداً) منكرة في البقرة ومعرفة في ابراهيم، كما جاء أيضاً في البقرة: {وقاتلوهم-لله}، وقال في سورة الأنفال: {وقاتلوهم-لله}، وقد جاء هذا النسق على ترتيب القتال داخل الجزيرة العربية وخارجها، وقد تطابق الترتيب مع الواقع، ورُتِّبت الأوامر حسب تدرجها. وقد مضى الترتيب مُسايراً للملابسات حتى سُورة الإسراء، إذ وقع التحدِّي صراحة على جميع القرآن، ونجد ترتيب مجموعة من الآيات في موضوع واحد تتجلَّى فيهِ الدقَّة الخارجة في مُراعاة التسلسُل المنطقي للفكرة التي تدور حلوها تلك المجموعة. وفي ترتيب المُسبِّحات قد استوعب القرآن هذه الكلمة، كلمة التسبيح من جميع جهاتها، على ترتيب بديع يتفق مع المعاني اللغويَّة تمام الاتفاق، فلم يتقدَّم معنى يستحق التأخير، ولم يتأخر معنى يستحق التقديم.
وقد ذكر السيوطي بعض الأصول والقواعد التي قام عليها سرَّ الترتيب ودلَّت قاطعة في الوقت نفسه على أنَّ رعاية هذه القواعد والأصول لم تكُن مألوفة ولا كانت من شغل الصحابة الين اشتغلوا بالعمل وعلم العمل والجهاد، ولم يتفرَّغوا لهذه الأسرار التي أودعها الله في الكتاب سرَّاً في ترتيبهِ كما هو في المصحف. وقالوا: إنَّ الأمر الكلِّي الذي يُفيد معرفة مناسبات الآيات في جميع القرآن هو ان تنظر إلى الغرض التي سيقت لهُ السُورة، وقالوا إنَّ التناسُب أنواع: منها مناسبة السُور وخواتمها، كما في فاتحة سورة المؤمنون: {قد افلح المؤمنون}، وفي نهايتها: {إنَّه-الكافرون}، وكما في فاتحة سورة (ص) وخاتمتها، ومنها مُناسبة فاتحة السُورة لخاتمة ما قبلها، ومنها اختصاص كلَّ سُورة من السُور المُفتتحة بالحروف المقطَّعة بما بُدِئت بهِ، حتى لم يكُن من الممكن أن تُوضع (الم) في موضع (الر) ولا (حم) موضع (طس)، وهكذا في جميع تلك السُور. ومنها التناسُب بالتنظير، والتضاد، والاستطراد، والتخلُّص الى الغرض، وغير ذلك من الأنواع التي يطول بها المقال، ولكنَّها مع الأنواع الأخرى التي ذكرها السيوطي في كتبهِ تؤكِّد أنَّها لم تكُن من منهج جمع القرآن، وأنَّ هذا الترتيب من الوحي. ومن العسير أن نفصل القول في ارتباط الترتيب النزولي والمصحفي بمنهج القرآن في الدعوة على المستوى الإنشائي لأمَّة العرب والمستوى الدستوري العالمي لأمَّة القرآن في العالم كلِّه، ولكنَّنا نستعين الله في رسم الخطوط العريضة التي تلقي ضوءاً يكشف عن عظمة الحكيم الخبير سبحانهُ وهو يُودع كتابهُ المُبين وسائل الإعلام الناجحة لمَن فقه وعقل وتدبَّر.
يقول السيوطي: لقد ألَّفتُ في تعلُّقات القرآن كتاب أسرار التنزيل، وقد اشتمل على بضع عشرة نوعاً:
الأول: بين مُناسبات ترتيب سُورهِ، وحكمة وضع كل سُورة منها.
الثاني: بيان أنَّ كلَّ سُورة شارحة لما أُجمِل في السُورة التي قبلها.
الثالث: وجه اعتلاق فاتحة الكتاب بخاتمة التي قبلها.
الرابع: مُناسبة مطلع السُورة للمقصد الذي سِيقت لهث، وذلك براعة الاستهلال.
الخامس: مُناسبة أوائل السُور لأواخرها.
السادس: مُناسبات ترتيب آياتهِ، واعتلاق بعضها ببعض، وارتباطها وتلاحُمها وتناسُقها.
السابع: بيان أساليبه في البلاغة، وتنويع خطاباتهِ وسياقاتهِ.
الثامن: بيان ما اشتمل عليهِ من المُحسِّنات البديعية بأنواعها.
التاسع: بيان فواصل الآيات، ومناسبتها للآيات التي خُتِمت بها.
العاشر: مُناسبة أسماء السُور لها.
وقد أفردتُ جُزءاً في نوعٍ من هذه الأنواع هو: مُناسبات ترتيب السُور، ليكون عجالة لمريده وبغيةً لمُستفيده، وقد سمَّيتهُ أولاً: (نتائج الفكر في تناسُب السُور)، ثم عدَّلت وسمَّيتهُ (تناسُق الدُرر في تناسُب السُور)، لأنَّهُ أنسب بالمُسمَّى، وأزيد بالجناس.
في ترتيب السُور
لقد اختلف مصاحف السلف في ترتيب السُور، فمنهم مَن رتَّبها على النزول، وهو مصحف علي، كان أوَّلهُ (اقرأ) ثم البواقي على ترتيب نزول المكِّي، ثم المدني، ثم كان أول مصحف ابن مسعود: (البقرة) ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد. وقال الكرماني: ترتيب السُور هكذا هو عند الله سبحانهُ وتعالى في اللوح المحفوظ، وهو على هذا الترتيب.
ولترتيب وضع السُور في المصحف أسباب تطلع على أنَّهُ توقيفي صادر من حكيم، الأول: بحسب الحروف، كما في الحواميم وذوات (الر)، والثاني: لموافقة آخر السُورة لأوَّل ما بعدها، كآخر الحمد في المعنى، وأوَّل البقرة، والثالث: الوزن في اللفظة، كآخر (تبَّت) وأوَّل الإخلاص، والرابع: لمشابهة جُملة السُورة لجُملة الأخرى، كالضُحى وألم نشرح، وقال بعضهم: إذا اعتبرت افتتاح كلَّ سُورة وجدتهُ في غاية المُناسبة لما خُتمت به السُورة التي قبلها، ثم يخفى تارةً، ويظهر أخرى.
وعلى لسان السيوطي: قال بعض الأمة: تضمَّنت سُورة الفاتحة الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وسُورة البقرة تضمَّنت قواعد الدين، وآل عمران مُكمِّلة لمقاصدها. وأما سورة النساء فتضمَّنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتُتِحت ب {يأيها--زوجها} فانظر الى هذه المُناسبة العجيبة، والافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمَّنت الآية المُفتَتح بها ما في أكثر السُورة من أحكام: من نكاح النساء ومُحرَّماته، والمواريث المُتعلِّقة بالأرحام وغيرها. أما المائدة فسُورة العقود فقد تضمَّنت بيان تمام الشرائع، ومكمِّلات الدين، والوفاء بعهود الرُسُل، وما أُخذ على الأمة ونهاية الدين، فهي سُورة التكميل.
وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقولهِ: {ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه} فإنَّهُ إشارة الى الصراط المستقيم في قولهِ في الفاتحة: {اهدنا الصراط المستقيم}، وهذا معنى حسُن يظهر فيهِ سرَّ ارتباط البقرة بالفاتحة، ونجد أنَّ أوائل هذه السُورة مُناسبة لأواخر سُورة الفاتحة، لأنَّ الله تعالى لما ذكر الحامدين طلبوا الهدى، ثم ذكر في أوائلها الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة: الذين على هدى من ربهم وهم الضالُّون، والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالون، والذين باءوا بغضبٍ من الله وهم المغضوب عليهم، كما نجد المناسبة في أنَّ القاعدة التي استقرَّ بها القرآن: أنَّ كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها وشرح لهُ وإطناب لإيجازهِ، وسورة البقرة اشتملت على تفصيل جميع مُجملات الفاتحة، مثلاً قولهُ (الحمد لله رب العالمين) في الفاتحة تفصيلهُ قولهُ: {اعبدوا-تعلمون} في الآيتان 21، 22 من البقرة، وقولهُ: (الرحمن الرحيم) قد أومأ اليهِ بقولهِ في قصة آدم :{فتاب--الرحيم} في الآية 54، وقولهِ: (مالك يوم الدين) تفصيلهُ: ما وقع من ذكر يوم القيامة: {وإن-الله} في الآية 284، و (الدين) في الفاتحة هو (الحساب) في البقرة، وقولهُ: (إياك نعبد) مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعيَّة، وقد فصَّلت البقرة أبلغ تفصيل، فذكر فيها الطهارة والحيض والصلاة، والاستقبال وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف والجمع والعيد، والزكاة بأنواعها، والصوم، والحج، والعمرة وغيرها من أبواب الشريعة المذكورة كلها في الآية. وأيضاً في قولهِ: (اهدنا الصراط المستقيم) تفصيلهُ ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء. وأيضاً قولهُ أول سُورة البقرة: (هدى للمتَّقين) الى آخره في وصف الكتاب؛ إخبار بأنَّ الصراط الذي سألوا الهداية إليهِ هو ما تضمَّنهُ الكتاب، ونجد أنَّهُ قد عقبت البقرة بآل عمران وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى، وقد خُتمت بقولهِ: {وإن-بالله}، وهذا وجه بديع في ترتيب السُورتين، كأنَّهُ لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قصَّ في كلِّ سُورةٍ مما بعدها كل فريقٍ على الترتيب الواقع فيها، ولهذا كان صدر النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى، والوجه الثالث: أنَّ سورة البقرة أجمع سُور القرآن للأحكام والأمثال، لذلك ناسب تقديمها على جميع سُور القرآن، وأنَّها أطول سورة فيه، وقد افتُتح بالسبع الطوال وهي (البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس) فناسب البدء بأطولها، وأنَّها أول سورة نزلت بالمدينة فناسب البدء بها، والوجه السادس أنَّ سورة الفاتحة كما خُتمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالاً، خُتمت البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الإصر، وتضمَّن آخرها أيضاً الإشارة الى طريق المغضوب عليهم والضالين بقولهِ: {لا--منهم}، فتآخت السُورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المُناسبة في التتالي والتناسُق، أما سُورة آل عمران فقال الإمام: لما كانت هذه السُورة قرينة سُورة البقرة، وكالمُكمِّلة لها؛ افتُتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك، ومن المناسبات التي ظهرت فيها:
أحدها: مُراعاة القاعدة التي قرَّرتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السُورة التي قبلها منها: إنَّ أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنَّهُ لا ريب فيهِ، وقال في آل عمران: {نزل-يديه}، وذلك بسط وإطناب.
ومنها أيضاً: أنَّهُ ذكر في البقرة إنزال الكتاب مُجملاً، وقسَّمهُ هنا الى آيات محكمات ومتشابهات، ومنها أنَّهُ قال في البقرة: {وما أنزل من قبلك}، وقال هنا: {وانزل-للناس} مُفصَّلاً، وصرَّح بذكر الانجيل هنا لأنَّ السُورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح بهِ في البقرة بطولها، وإنما صرَّح فيها بذكر التوراة خاصةً لأنَّها خطاب لليهود. وقد ذُكر القتال في البقرة مُجملاً وفُصِّلت قصة أحُد في آل عمران بكمالها، وقد أوجز في البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله، وزاد في آل عمران، وذلك إطنابٌ عظيم، وحذَّر من الربا في البقرة، ولم يرد لفظ الربا إيجازاً في آل عمران، وفي البقرة قال: {وأتموا الحج}، وفصَّلهُ في آل عمران، كما قال في البقرة أيضاً ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وبسَّط الوعيد في آل عمران، فهذه عدَّة مواضع وقعت في البقرة مُجملة وفي آل عمران تم تفصيلها.
الوجه الثاني أنَّ بين سورة البقرة وآل عمران اتحاداً، وتلاحماً متأكداً، لما تقدَّم من أنَّ البقرة بمنزلة إزالة الشبهة، ولذا تكرَّر ما يتعلَّق هنا بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب، وذكر في آل عمران خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، كما ذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده. ومن وجوه تلازم السُورتين أنَّهُ قال في صفة النار: {أُعدَّت للكافرين}، ولم يقل في الجنة، أعدَّت للمتقين، مع افتتاحها بذكر المتَّقين والكافرين معاً وقال ذلك في آخر آل عمران، فكأنما السورتين بمنزلة سُورة واحدة، وبذلك يُعرف أنَّ تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها، والأمر الآخر: أنَّهُ إذا وردت سُورتان بينهما تلازم واتحاد، فإنَّ السُورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد، وفي السُورة المستقلَّة عما بعدها يكون آخر السُورة مُناسب لأوَّلها، وآخر آل عمران مُناسب لأوَّل البقرة، فإنَّها افتتحت بذكر المتَّقين، وإنَّهم المُفلحون، وختمت بذلك، وافتتحت البقرة بقولهِ: {والذين-قبلك}، وخُتمت آل عمران بقولهِ: {وإن-اليهم} .
ونجد سُورة النساء أيضاً شارحة لبقيَّة مجملات سورة البقرة، ولما كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية، جعلها في أول هذه السُورة التالية لها مبدأ، وقد أجمل في سورة البقرة: {اسكن-الجنة}، وبيَّن هنا أنَّ زوجتهُ خلقت منهُ في قولهِ: {وخلق منها زوجها}، وقد أُجمل في البقرة آية اليتامى والوصية والميراث والوارث، وفصَّل ذلك في هذه السُورة أبلغ تفصيل، وفصل هنا من الأنكحة ما أجملهُ هناك، وقد ذُكر الصداق في البقرة مجملاً وشرحهُ هنا مفصَّلا، وذكر الخلع هناك، وذكر أسبابهُ ودواعيهِ هنا، نجد فيها من الاعتلاق بسُورة الفاتحة تفسير: {الذين أنعمت عليهم} بقولهِ: {من النبيين-والصالحين}، أما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه منها: أنَّ آل عمران خُتمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السُورة به، وهذا من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السُور، وهو نوع من البديع يُسمَّى تشابه الأطراف.
ومنها أنَّ سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة، وذكر في هذه السُورة ذيلها، وذكرت في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحُد، وأشير اليها هنا مجرَّد إشارة، وبهاذين الوجهين عُرف أنَّ تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها، ومنها أنَّهث ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب، وأُقيمت لهث الحجة بآدم، وفي ذلك تبرئة لأمهِ، وذكر في هذه السُورة الرد على الفريقين معاً، ولما قال في آل عمران: {زين-الدنيا}، فصَّل هذه الأشياء في السُورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية، وقد جاء في السُورة أحكام النساء ومُباحاتها، للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران، ولم يحتج الى تفصيل البنين، لأنَّ تحريم البنين لازم. ثمَّ فصَّل في سُورة المائدة أحكام السراق وقطاع الطريق، لتعلُّقهم بالذهب والفضة الواقعين بعد النساء والبنين، ووقع في سورة النساء إشارةً الى ذلك في قسمة المواريث، ثم فصل في الأنعام أمر الحيوان والحرث، وهو بقيَّة المذكور في آل عمران، ثم ظهر أنَّ سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضاً، ومن الوجوه المناسبة لتقدُّم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب، وفي الافتتاح ب (الم) وسائر السُور المفتتحة بالحروف المقطَّعة كلها مقترنة، كيونُس وتواليها، ومريم وطه، والطواسين، و (الم) العنكبوت وتواليها، والحواميم، وفي ذلك أول دليل على اعتبار المُناسبة في الترتيب بأوائل السُور، ولم يفرق بين السُورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً بهش سوى بين الأعراف ويونُس اجتهاداً لا توقيفاً، والفصل بالزمر بين (حم) غافر و (ص)، ونجد أنَّ افتتاح القرآن بسورتي البقرة وآل عمران نظير اختتامهِ بسُورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين.
ونأتي لسُورة المائدة فنجدها شارحة لبقيَّة مجملات سورة البقرة، فإنَّ آية الذبائح والأطعمة فيها أبسط منها في البقرة، وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى، وهنا ذكر أوَّل مَن سنَّ القتل، وفي البقرة قصة الايمان موجزة، وزاد هنا يسطاً بذكر الكفَّارة، وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فيهما-نفعهما}، وزاد في المائدة ذمِّها وصرَّح بتحريمها، وفيها من الاعتلاق بسُورة الفاتحة بيان المغضوب عليهم والضالين في قولهِ: {قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ}، وأما اعتلاقها بسورة النساء وهو أنَّ النساء قد اشتملت على عدَّة عقود صريحاً وضمناً، فالصريح: عقود الأنكحة، والصداق، وعقد الحلْف، وعقد الإيمان، والمعاهدة، فناسب أن يُعقِّب بسُورة مُفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكان ذلك في غاية التلاحُم والتناسُب والارتباط، ووجهٌ آخر في تقديم سُورة النساء وتأخير المائدة هو أنَّ تلك أوَّلها يأيها الناس، وفيها الخطاب بذلك فيي عدَّة مواضع، وهو أشبه بخطاب المكِّي وتقديم العام، وشبة المكي أنسب. ثمَّ إنَّ هاتين السُورتين (النساء والمائدة) في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب والنبوَّة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية، وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنَّهما سُورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ الى المنتهى، ولما وقع في النساء الآيات التي كانت نزلة في قصة سارق سرق درعاً، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين، ولما ذكر في النساء أنَّه أنزل اليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار. فانظر الى هذه السُور الأربعة المدنيَّات وحُسن ترتيبها وتلاحُمها وتناسُقها وتلازمها، وقد افتتحت البقرة التي هي أوَّل ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي.
ونجد سورة الأنعام مناسبة لآخر المائدة لأنَّها افتتحت بالحمد وتلك خُتمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان، وبدأت بذكر خلق السماوات والأرض، وهو بعض ما تضمَّنهُ قولهُ (وما فيهن) في آخر المائدة، ثم ذكر النوع الإنساني وقضى لهُ أجلاً مسمَّى، وفصَّلهُ في المائدة، وقد جمعت سُورة الأنعام جميع المخلوقات بأسرها وما يتعلَّق بها، فظهر بذلك افتتاح السُور المكيَّة بها وتقديمها على ما تقدَّم نزولهُ منها، وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في ذلك، كما افتتحت بذكر الخلق والملك لأنَّ الخالق والمالك هو الذي لهث التصرُّف في ملكهِ، ومخلوقاتهِ، وقد كانت هذه السُورة بأسرها متعلِّقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قولهِ: (رب العالمين) وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قولهِ: {ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ}، وبآل عمران من جهة تفصيلها في قولهِ: {والأنعام والحرث}، وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها.
$: آراء وأقوال السيوطي في التناسُب في كتابهِ مراصد المطالع:
افتتحت آل عمران بذكر إنزال القرآن والتوراة والإنجيل من قبل وخُتمت بذلك في قوله: {وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ}، وفُتحت بقولهِ: {إنَّ الله لا يُخلف الميعاد}، وخُتمت بقولهِ: {إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ}، أما النساء فافتُتحت بذكر بدء الخلق وخُتمت بأحكام الوفاة كما فُتحت بأحكام المواريث والكلالة وخُتمت بمثل ذلك، ونجد المائدة قد بدأت بتحريم الصيد في الإحرام، وبالشهر الحرام والهدى والقلائد وخُتمت بذلك.
أما الأنعام فبدأت ب {الذين كفروا بربهم يعدلون} وفي آخرها: {وهم بربهم يعدلون}، والأعراف ذكر في أوَّلها وصف ابليس بالاستكبار، وختمها بوصف الملائكة بأنَّهم لا يستكبرون، ونجد الأنفال افتتحت ب {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرةٌ ورزق كريم}، واختُتمت بقولهِ: {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرةٌ ورزق كريم}، أما براءة فافتتحت بقولهِ: {ولإن تولَّيتم فاعلموا إنَّكم غير معجزي الله}، وخُتمت بقولهِ: {فإن تولَّوا فقل حسبي الله}، ونجد سورة هود، ويوسف، والرعد وابراهيم، والحجر كلَّها افتُتحت بذكر القرآن واختتمت بهِ، ونجد النحل افتتحت بالنهي عن الاستعجال وختمت بالأمر بالصبر، والإسراء فتحت بالتسبيح وخٌتمت بالتحميد، والكهف ومريم وطه كلَّها افتُتحت بذكر القرآن والذكر، وختمت بهِ، والأنبياء افتتحت ب {اقترب للناس حسابهم}، واختتمت بقولهِ: {واقترب الوعد الحق}، وسورة الحج بدأت بذكر الساعة وختمت بيوم القيامة، والمؤمنون بُدئت ب: {قد أفلح المؤمنون}، وختمت ب {إنَّهُ لا يفلح الكافرون}، وسورة النور أوَّلها ذكرت النساء، وآخرها ذكرت القواعد من النساء، ونجد سورة الفرقان بدأت ب (تبارك) وخُتمت بذلك، كما أنَّ سورة الشعراء بدأت بذكر الكتاب وختمت به وكذلك النمل.
أما سورة القصص فقد جاء في أوَّلها هجرة موسى من وطنهِ والعودة اليهِ، وفي آخرها: هجرة النبي صلى الله عليهِ وسلم من بلده والعودة إليها، والعنكبوت ختمت بالهجرة والجهاد، كما نجد الروم جاء في أوَّلها ذكر الساعة وختمت بها، ولقمان بدأت بالغيث وختمت به، والسجدة بإنذار الذين من قبلك، وختمت بهم، والأحزاب بدأت ب {يأيها النبي اتق الله} وفي آخرها خطاباً لأزواجه: {واتَّقين الله}، كما نجد سورة سبأ قد بدأت بعالم الغيب، وخُتمت بعلَّام الغيوب، وسورة فاطر: {والذين يمكرون السيئات}، وفي آخرها: {ولا يحيق المكر السيء}، كما بدأت يس بوصف القرآن وختمت به، والصافات بدأت بالملائكة وختمت بهم، وسورة (ص) التي بدأت بذكر القرآن وختمت به، والزمر التي بدأت ببدء الخلق وختمت بالبعث والمعاد، ونجد غافر التي بدأت بالدعاء وانتهت به، وفصلت التي جاء فيها: {فأعرض أكثرهم} وخُتمت بقولهِ: {أعرَضَ ونئا بجانبه}، كما نجد الشورى التي بدأت بالذين أوحي اليهم، وختمت بهم، والزخرف بخلق السماوات والأرض وختمت به، والدخان بدأت بذكر القرآن، وختمت بهِ، ونجد أنَّ سورة الجاثية قد افتتحت ب {وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً}، وخُتمت ب {ذلكم بأنَّكم اتخذتم آيات الله هزوا}، كما بدئت الأحقاف بكر خلق السماوات والأرض وختمت به، والقتال بدئت بالقتال وختمت به، والفتح بوصف النبي صلى الله عليهِ وسلم وختمت بمثل ذلك، والحجرات بدئت بالنهي عن التقدُّم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخُتمت بالنهي عن المنِّ عليهِ، كما أنَّ سورة (ق) قد بدئت بذكر البعث وختمت بهِ.
أما الذاريات فافتتحت ب {إنما توعدون لصادق}، وختمت ب {فويل للذين كفروا من يومهم}، وبدئت الطور ب ذكر العذاب وختمت به، والنجم بالنجم وختمت بذكر الشعرى وهي نجم، وبدئت القمر باقتراب الساعة وختمت بها، والرحمن باسم الله جلَّ جلاله، وختمت بهِ، والواقعة بذكر أزواج الخلق الثلاثة أصحاب الميمنة والمشئمة والسابقين، وختمت بمثل ذلك، أما الحديد فبدأت بوصف الله، وختمت به، والمجادلة بذكر مَن سمع الله من اوليائه، وختمت به، والحشر بالتسبيح وانتهت به، والممتحنة بعدم اتخاذ الأعداء أولياء وختمت بذلك، والصف بدأت بالنازل في الجهاد، وختمت بذكر أنصار الله، والجمعة بوصف الله سبحانه وختمت به، المنافقون بدئت بالذين صدوا عن سبيل الله، وختمت بهم، والطلاق بإحصاء العدَّة وختمت بها، كما نجد أنَّ سورة التحريم بدأت بذكر أزواج النبي صلى الله عليهِ وسلم، وختمت بهم، كما بدأت سورة الملك بوصف القدرة وختمت بمعناه، وبدئت سورة (ن) ب {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}، وختمت ب {ويقولون إنَّهُ لمجنون}، أما الحاقة فبدأت بالحاقة وختمت ب {وإنَّهُ لحقُّ اليقين}، وسأل بدئت بالوعد بيوم القيامة وختمت به، وبدئت سورة نوح بالوعيد بالعذاب الأليم، وختمت بهِ، وبدئت الجن بالوحي، وختمت بذكره، وبدئت المزمل بقيام الليل وختمت به، والمدثر بالإنذار وختمت به، والقيامة بذكر الإعادة وإحياء الموتى وختمت بذلك، والإنسان بذكر الشاكر والكفور، وختمت به، والمرسلات ب {إنما توعدون لواقع}، وختمت ب {كلوا وتمتعوا قليلاً}، وخُتمت عمَّ بالنبأ العظيم، والنازعات بالراجفة وخُتمت بالطامة، وعبس بدأت ب (عبس) وهو من صفة الوجه، وختمت بوصف الوجوه، والتكوير ب {إذا الشمسُ كوِّرت}، وختمت ب {فأين تذهبون}، والانفطار بالانفطار وختمت بهِ، والمطففين بالمطففين وختمت بهم، والانشقاق بذكر السماء وختمت بها، والبروج كذلك، كما أنَّ الغاشية بدئت بحديث الغاشية وهي القيامة وختمت بالإياب والحساب، والبلد بالأولاد وختمت بهم، كما بدئت سورة اقرأ باسم الله، وآخرها جاء ب {واسجد واقترب}، والقدر بدئت بذكر الليل وختمت بمطلع الفجر، أما سورة التكاثر فقد اختتمت بالتكاثر المُلهي من نعيم الدنيا، ونجد الهمزة بدأت باسو واد بالنار، وختمت بالحطمة وهي من صفات النار، كما بدئت الإخلاص بالله الأحد وختمت به، وأخيراً سورة الناس التي كان مطلعها: {الناس}، ومقطعها {الناس}، وتكرَّر فيها خمس مرَّات مختلف المعاني وقد عُدَّ .
 
يتبع الموضوع ..آراءالسيوطي في قطف الأزهارفي كشف الأسرار..
** التناسب في بناء السورة**
** ويشمل: (التناسب بين الفواتح والخواتيم، التناسب بين الفواتح والمقاصد، التناسب بين الخواتم والمقاصد):
تُعَد العناية بمبادئ الكلام إحدى الأُصول البلاغية التي تجذَّرت في الدرس البياني، فقدَّمها علم البيان، ونجد أنَّ معظم فواتح وخواتيم السُور تتناسب مع مقاصدها، وبعض الفواتح تتناسب مع الخواتم، وسنتعرَّض لها بالتفصيل في تفسير الإمام السيوطي في كتابه قطف الأزهار في كشف الأسرار.
ففي سورة الفاتحة ذُكِرت (الرحمن الرحيم) مرَّة في البسملة، وأخرى في أثناء السورة، فوقع التكرار فيها بخلاف الأسماء الثلاثة، تنبيهاً على أن العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور. ثم لما بيَّن الرحمة المضاعفة ذكر (مالك يوم الدين) حذراً من الإغترار؛ ونظيره {غافِرَ الذَنبِ وقَابِل التَوْبِ شَديدِ العِقَاب}.
وفي التناسب بين فواتح السور ومقاصدها أيضا ًيقول السيوطي: قال عبد الكريم الجيلي _من علماء المتصوفين-في كتابه: "يمكن أن يذكر لتكرار كلمة الرحمن الرحيم وجوه كثيرة، منها: أنه ورد في الحديث: (كلُّ أمرٍ ذي بال، لا يبدأ فيه ببسم الله، فهو أبتر)، وفي روايةٍ: (بحمد الله)، وذكر في الجمع بين الحديثين: أن يجعل التسمية مبدأ الحمد، والحمد مبدأ جميع ما عداهُ وعلى هذا ورد القرآن".
وفي تناسب الفواتح ذكر أن سورة البقرة هي أسماء للقرآن والذكر ولهذا لم يذكر بعدها إلا ما بعدها إلا ما يتعلق بالقرآن كقولهِ: (الٓمٓ. ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ)، و (الٓمٓ. نزل عليك ٱلۡكِتَٰبُ) ، (الٓمٓص. كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ) ، (الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ) ، و (طه مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ) وكذلك الآية: (طسٓمٓ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ) ، (يسٓ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ) ، (صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ) ، (قۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ) ، (حمٓ تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ) إلا ثلاث سور ليس فيها ما يتعلق به وهي العنكبوت والروم و (ن). وقيل هي أسماء للسور ولهذا ناسبت كل ما بدأت به، حتى لم تكن لترد (الٓمٓ.)، في موضع (الٓمٓر) ، ولا (حمٓ) في موضع (طسٓمٓ ) وذلك أنَّ كل سورة بدأت بحرف منها، فإنَّ أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع (قۚ) مكان (نُ) لم يكن لعدم التناسب الواجب مراعاتهِ في كلام الله، ف (الٓمٓ) جمعت المخارج الثلاثة الحلق واللسان والفم على ترتيبها،وذلك اشارة الى البداية وهي بدء الخلق، والنهاية وهي المعاد والوسط الذي هو المعاش، من التشريع والأوامر، وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.
وفي تناسب الفواتح بالمقاصد نجد أنَّ سورة البقرة هي أوَّل سور القرآن المطوَّلة، التي فصل فيها الأصول والأدلَّة والأحكام، فناسب أن يكون مطلعها وافتتاحها بيان حقيَّة القرآن، وأنَّهُ لا ريب فيه، لتقبل القلوب، وتصغى الأسماع الى قبول ما يتلى فيه، فكان افتتاح أول سور القرآن بذلك كافتتاح سورة النور بقوله: (سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ) ، وفي سورة البقرة (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا) ، وهكذا شأن القرآن يفتتح بمقصود، ويستطرد منه الى أمور شتى لأدنى ملاءمة ثم يُعاد إلى تتمَّة المقصود ويوافيهِ.
وفي التناسب بين سورتي البقرة وآل عمران في الآية 29 حيث قال تعالى في سورة البقرة: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ)، وفي آل عمران: (وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ) نجد أنَّ المتبادر الى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة، وفي آية آل عمران الختم بالعلم، فقد ناسَبَ سبحانهُ وتعالى ختم الآية بصفة العلم.
وفي التناسب بين السور نجد في سورة البقرة (وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ) فأتى بالواو دون الفاء لانَّ السكنى وهي المقام، لا يختص وجود الأكل بوجودها، ولكن وردت آية الأعراف بالفاء مع العطف على (اسكن) حملاً على معنى (ادخل ساكناً) ليكون في مقابلة قوله تعالى لإبليس: (اخرج منها مذؤوماً مدحوراً) ، وقال الكرماني: المراد بالسكون في آية البقرة الإقامة، لا ضد الحركة فلم يصلح إلا الواو، لأنَّ معناه اجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها، ولو أتى بالفاء لوجب تأخير الأكل الى الفراغ من الإقامة لأنَّ الفاء للتعقيب والترتيب، والذي في الأعراف معناهُ اتخاذ الموضع سكناً لأنَّ الله أخرج إبليس من الجنة. قال صاحب المناجاة: "ووجهٌ آخر وهو أنَّ سورة الأعراف أكثر مما سيق فيها من القصة مدخول للفاء كقوله (فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا) (َمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) ، (فَٱخۡرُجۡ) ، (فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي)، (فَوَسۡوَسَ) ، فناسب أن يدخل (كلا) رعايةً للتناسب وحيث لم يكن في البقرة كذلك عطف بالواو التي هي أصل الجمع" .
وفي سورة آل عمران في الآية (وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) لم يأت آخر الآية بصيغة كان ليحصل فيه النوع البديعي المسمى العكس والتبديل.
ونجد الآية (ويقتلون النبيين بغير الحق) ناسبت الآية (بغير حق) في سورة آل عمران لأنَّ ما هنا إخبار عن قدماء اليهود بدليل (ذلك بأنَّهم كانوا يكفرون) وما في آل عمران للموجودين في عصر الرسول .
وفي الآية (وأحسنوا إنَّ الله يحب المحسنين) الختم به مناسب للإنفاق، (وأتموا الحج) عوداً إلى ما كان الكلام فيه من قصة الحج بعد انقضاء ما تخلَّله من قصة القتال الذي خالفوهُ في الإحرام، وبدأ به قبل العمرة) . وفي آية الحج في سورة البقرة: {وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} نجد أنَّهُ سبحانهُ وتعالى قد افتتح قصة الحج بالأمر بالتقوى، وخُتمت بها، وتخلَّل في غضونها الأمر بها، تأكيداً لمطلوبيتها.
وفي ختام الآية: {ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ} ختم فيها ب: {فأولئك هم الظالمونۗ} وقال أنَّ فيها عدَّة أوجه أحدها: أنَّهُ تعالى ذكر في سائر الآيات (ألا لعنةُ الله على الظالمين) ، وقال: إنَّ الختم بالظلم بهذه الآية مناسب لقولهِ: {ومن يتعدَّ حدود الله}، كما قال: {ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} .
وفي الآية 265 من سورة البقرة التي أشارت الى أنَّ صاحب الجنة لا يخيب، فإنَّها إن أصابها الطل حسُنت، وإن أصابها الوابل ضعُفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص، {والله بما تعملون بصير} فالختم به مناسب لمضمون الآية، أي بصير بعملكم الخالص من المشوَّب، فيُجازي على كلٍ.
نجد في سورة البقرة أنَّها جمعت أشياءً كثيرة، من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد، وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف، من الصلاة والصوم والحج والجهاد والحيض والإيلاء والطلاق والخلع والرجعة والعدَّة والصداق والرضاع والربا والبيع وكيفيَّة المداينة، وقد ختم بهذه الآية: {لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ} على سبيل التهديد، فعبَّر عن كمال القدرة بها، وبقولهِ: {واللهُ على كلِّ شيءٍ قدير}، وعن كمال العلم بقولهِ: { وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُ}، وإذا ثبت كمال القدرة والعلم، وكان كلَّ من في السماوات والأرض ملكاً لهُ وخلقاً، كان ذلك غاية الوعد للمُطيعين، وغاية الوعيد للعاصين، فلهذا السبب ختم بهذه الآية، ولهذا ذُكر فيها الحساب والمغفرة والعذاب، وقد اشتملت سورة البقرة على جملة من فرائض الأحكام، وخُتمت بذكر نبيِّهِ والمؤمنين بجميع ذلك.
وفي تناسُب الفواتح بالخواتيم قيل: إنَّهُ تعالى بدأ السورة بمدح المتَّقين {ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ}، وبيَّنَ سبحانهُ وتعالى أنَّ الذين مدحهُم في أوَّلها، هم أمَّة محمد ، فقال: {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ} وهذا هو المُراد بقولهِ في أوَّل السُورة {وبالآخرةِ هم يوقنون} ثم حكى عنهم هنا كيفية تضرُّعهم إلى ربهم، في قولهم: {ربنا لا تؤاخذنا} إلى آخر السورة، وهو المراد بقولهِ في أوَّلها: {أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} فحصلت الموافقة بين أوَّل السُورة وآخرها. وفي تناسب الخواتم بالمقاصد فقد خُتمت السورة المشتملة على هذه العلوم الشريفة بالدعاء والتضرُّع الى الله، ثم علَّم سبحانهُ المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء، فقد ذكر في مطلع الأولى: {ربنا}، ولم يذكُر في مطلع الرابع (ربنا)، لأنَّ المطلوب في الأول الترك، والرابع الفعل، فترك منهُ لفظ ربنا إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التضرُّع، نال القرب من الله فلم يحتج إلى اداء، وقد وافق آخر السُورة أوَّلها، من ذكر أوصاف المؤمنين، ثم الإشارة الى وصف الكافرين، ووافق آخر السورة التي قبلها، من اختتامها بالدُعاء، والإشارة الى الفرق الثلاثة: المؤمنين والكافرين الشاملين المشركين والنصارى، واليهود المشار إليهما بقولهِ: {كما حملتهُ على الذين من قبلنا}، ومن موافقتها لآخر الفاتحة، من التأمين في آخر هذهِ كما في الفاتحة.
جاءت سورة آل عمران على الترتيب البليغ، ثم تقرير كون هذا الكتاب صدقاً وحقاً، ثم الوعيد على مخالفة ذلك ومعاندتهِ، فافتتح بذكر اصطفاء الله آدم الذي هو أبو البشر، ونوحاً الذي هو أول الرسل، وآل إبراهيم الذي هز أبو الأنبياء، ثم ذكر قصة ولادة مريم، الى التخلُّص لقصة آل عمران، الى قصة عيسى.
وفي بداية سورة آل عمران: {ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ}، نجد أنَّ مطلع هذه السورة لهُ نظم عجيب لطيف، وذلك أنًّ أولئك النصارى الذين نازعوا الرسول كانَّهُ قيل لهُم، أما أن تنازعهُ في معرفة الإله، أو في النبوَّة، فالحق معه الدلائل العقلية، فإنَّهُ يثبت البرهان، أنَّهُ حيٌ قيُّوم، والحي القيُّوم يستحيل عقلاُ، أن يكون لهُ ولد. وفي أوَّل البقرة وصف القرآن بأنَّهُ هدًى للمتَّقين، ولم يصفهُ هنا، لأنَّ المتقين هم المنتفعون به، فصار من هذا الوجه، هدى لهم، لا لغيرهم، وأما في آل عمران فالمناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، فلذا لم يقُل إنَّهُ هدى، بل قال أنَّهُ حق في نفسه، وفي افتتاح السورة بجملة: {ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ} مقصد بديع، وذلك انَّ البيهقي أخرج في دلائل النبوَّة، عن مقاتل بن حيَّان، أنَّ الله أوحى الى عيسى بن مريم فسِّر لقومك أنِّي أنا الله الحيُّ القيُّوم والذي لا أزول، صدِّقوا النبيَّ الأمِّيَّ العربي؛ فافتتحت هذه السُورة- التي نزلت في مجادلة النصارى- بالوصف الذي نزل على نبيِّهم في افتتاح (ألم) بتصديق نبيِّنا ، وذلك تمام المناسبة والمطابقة. وفي تناسُب الفواتح مع الخواتم نجد في الآية: {هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ}: ففي الختم بالعزيز الحكيم، مناسب لأوَّل الآية، لأنَّ التصوير في الأرحام أمرٌ عظيم دقيق، يحتاج لعِظمة إلى عزةٍ وقدرة، وللطفه ودِقَّتهِ إلى حكمة.
وفي تناسُب الخواتم بالمقاصد نجد في الآية: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} تناسُب مع خاتمة السورة: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} فالفرق بينهما أنَّ أوَّل السُورة قد تقدَّم فيهِ ذكر الله وأوصافهِ مرةً بعد أخرى صريحاً، ولم يتقدَّم ذكر الكناية إلا مرة، فعدل من الخطاب إلى الغيبة، لأنَّها الأغلب، وأما آخر السُورة فلِغلَبة الكناية.
وفي تناسُب الفواتح بالمقاصد نجد إلقاء الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة لها المشار إليها في قولهِ في أوَّل السُورة: {فأمَّا الذِينَ في قٌلوبِهم زيغٌ}، فقد حذَّرهم ذلك فقال في الآية 105 من سورة آل عمران نفسها: {ولا تكونوا} أيُّها المؤمنون عند سماع هذه البيِّنات. {كالذينَ تَفَرَّقُواْ}، وهذه الآية والتي قبلها كالشرح لقولهِ: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ}، فشرحَ الاعتصام بحبل الله بقولهِ: {ولتكُن منكُمْ أمَّةٌ}، وشرح قولهُ: {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بقولهِ: {ولا تكونوا}. وفي الآية ابتدأ بقولهِ: {يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ}، وختم بقولهِ: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ}، ولم يُرتِّب النشر ترتيب اللَّف، لأنَّ عادة القرآن الافتتاح بأهل الخير، والختم بهم.
وفي الآية: {إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ}، وعيدٌ معناهُ المجازاة، وهو مناسب لأوَّل الآية: {إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ} لاَّنها في المنافقين، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنَّهُ تعالى لما نهاهم عن اتخاذ بطانة من الكفار، ووعدهم إن صبروا واتقوا، لا يضرَّهم كيدُهم. كما نجد في الآية: {وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنَّ وجه مناسبة الختم بهِ ما سبق في قولهِ في البقرة: {وَقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنَّ ٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. كما نجد أنَّ سورة آل عمران خُتِمَت بالعديد من الوصايا التي جمعت الظهور في الدنيا على العدو، والفوز بنعيم الآخرة، فأمر تعالى بالصبر والمصابرة والرباط. وقد بيَّن السيوطي في كتابهِ (مراصد الاطلاع في تناسُب المقاطع والمطالع) أنَّ كلَّ سورةٍ تُناسِب أوَّلها وآخرها، وهذه السورة افتُتِحت بذكرهِ إنزال القرآن والتوراة والإنجيل من قبلُ، وخُتِمت كذلك بقولهِ: {وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ} . ووجهٌ آخر في تقديم سورة النساء وتأخير سورة المائدة، وهو أنَّ تلك أوَّلها: {يَٰٓأَيُّهَا الناس} وفيها الخطاب بذلك في عدَّة مواضع (الآيات 1، 70، 174) وهو التنزيل المكِّي، وهذه أوَّلها {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ} وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بالخطاب المدني، ثم إنَّ هاتين السُورتين في التلازم والاتحاد، نظير البقرة وآل عمران، فهما اتَّحدتا في تقرير الأصول، من الوحدانية والكتاب والنبوَّة، وهاتين في تقرير الفروع الحكمية، وقد ختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنَّهما سُورةٌ واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ الى المنتهى. وفي ختام المائدة نجد الآية: {لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِيهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرُۢ} أثبتت كلَّ المطالب المذكورة في السُورة، من حُسن التكليف، والأمر والنهي والثواب والعقاب، والرد على اليهود والنصارى، وظهر بالتقرير الذي ذكرناهُ أنَّ هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السُورةـ، برهان قاطع في صحَّة جميع العلوم التي اشتملت عليها السورة، وعندما ختم بأنَّ لهُ ملك السماوات والأرض، على سبيل الإجمال، افتتح سُورة الأنعام بشرح ذلك وتفصيلهُ، فبدأ بذكر أنَّهُ خلق السماوات والأرض، وضمَّ إليهِ أنَّهُ جعل الظلمات والنور، وبدأ بهما قبل سائر المخلوقات، ثم ذكر خلق النوع الإنساني وخلق سائر الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة والموت، ثمَّ أكثر في أثناء السُورة من ذكر الخلق والإنشاء، ثم لمَّا ذكر في صدر السُورة أنَّهُ مُهلك القرون ذكر في خاتمتها {وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ} وهذه مناسبة لأوَّل السُورة مع آخرها، وكذلك لما افتتحها ببدء الخلق، ختمها بأشراط الساعة ثم البعث في قولهِ: {يوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} .
وفي تناسُب الخواتم مع الفواتح نجد الآية: {وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم} نظير: {خلقكم} وذلك ناسب قولهِ في أوَّل السُورة: {وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} وقد اشتملت السُورة على خلق الإنسان، وخصَّ سبحانهُ بلفظ الإنشاء. كما نجد في آخر السُورة الآية: {وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ} التي ناسبت {خَلَٰٓئِفَ في ٱلۡأَرۡضِ} وآية الأنعام جمعت الأحوال الثلاثة: المبدأ، وضمير الإشارة إلى الفراغ والانقضاء بلفظ (خلائف)، ثمَّ المعاش الدنيوي بقولهِ: {وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ} فقد اشتملت هذه الجملة على جميع المراتب بأنواعها: مالاً ورزقاً وصحة وقوة وحُسناً وجاهاً وشرفاً وعلماً وأضدادها، وسبحانهُ لم يؤكِّد وصف العقاب هنا ولكنَّهُ أكَّدهُ في سُورة الأعراف وذلك في الآيات (166، 168).
أما المناسبة بين فاتحة السُورة وخاتمتها فإنَّهُ ذُكِر في أوَّل سُورة الأعراف: {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ}، وقال في آخرها: {إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ} وقال: {فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ}، وقابلهُ قولهُ: {وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ}، وقال: {وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}، وللكفَّار {قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ}، وقابلهُ في آخر السُورة بقولهِ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ}، فذكر تذكر المؤمنين، وعدم تذكُّر الكافرين، وقال: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ}، وقابلهُ في آخرها: {وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بَِٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ}، وقال أيضاً في أوائلها: {ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةً}، وقال في آخرها: {وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ}، ولما ذكر في أول السورة بأنَّهُ خلقهم ثمَّ صوَّرهم، ثمَّ أمرَ الملائكة، فسجدوا لآدم، ذكر في خاتمتها أنَّهُ خلقهم من نفسٍ واحدة، وجعل منها زوجها.



** التناسب بين الآية والآية، ويشمل:
المقابلة، تكميل المعاني، زيادة البيان، التفصيل، العموم والخصوص، التأكيد، السببية:
ونجد في سورة الفاتحة أول آية وهي (بسم الله الرحمن الرحيم) جمعت ما لم يجتمع في آيةٍ غيرها وهو أنها آية مستقلة في الفاتحة، عند من قال به، وهي بعض آية في النمل، وربعها الأول، بعض آية في (اقرأ باسم ربك)، ونصفها الأول بعض آية في هود: (بسم الله مجراها ومرساها)، وربعها الثالث بعض آية في الرحمن: (الرحمن، علم القرآن)، ونصفها الثاني، آية في الفاتحة وبعض آية في البقرة: (هو الرحمن الرحيم).
كما نجد التناسب في قوله عزَّ وجل في سورة الفاتحة أيضاً: (الحمد لله) ولم يرد الحمد للرب، ولا المنعم بل الوارد (الحمد لله) والرب يناسب المعبود، ولهذا قال: (يا ايها الناس اعبدوا ربكم)، والرحمن يناسب المستعان، ويدل عليه (وربنا الرحمن المستعان)، والهادي يناسب الرحيم، ويدل عليه قولهُ: (هدى ورحمة). وإذا تأملت السورة علمت مناسبة الافتتاح، وكونها أم القرآن، وأفضله، وأعظم سورة؛ لما فيها من الاسرار اللطيفة والكلام البديع مما لا تدركه أفهامنا كنقطة في بحر.
ونجد في تكميل المعاني في التناسب بين الآية والآية: اختصاص إضافة (مالك) ل (يوم الدين) لما أشير إليه من التنبيه على العظمة والتفرد بالملك فيه (لمن الملك اليوم)، وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع، أي مالك اليوم كله في يوم الدين، ووقع نعتاً للمعرفة، لأنه بمعنى الاستمرار، ك (غافر الذنب)، أو المضي، قيل: ويحسنه أن أكثر ألفاظ القيامة، جاء بمعنى الماضي تحقيقاً، فحمل هذا على معنى المضي، وأفاد التعريف، ويؤيِّدهُ قراءة (ملك يوم الدين) بصيغة الفعل الماضي، وقيل هو بمعنى الاستقبال بدلاً و (يوم) مفعول به، والمعنى أنه تعالى يملك يوم الدين أن يأتي به.
ونجد في مقابلة الآيات ببعضها ما قاله السيوطي: "وإنما وقع القرآن: (يوم الدين) ولم يقع (يوم الجزاء) وقال: (يوم يجزى الله) ولم يقل (يوم يدين الله) وقال: (جزاءً بما كانوا يعملون)"، ولم يقل: (دينا)، لمعنى دقيق في العربية، وهو انَّ الفعل لا يعم إلا بواسطة المصدر.
ونجد في سورة الفاتحة أيضاً: في آية (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ في تقديم إياك قولان وهما: أحدهما تعظيماً لله والثاني قطعاً لمجال العطف، فإنك إذا قلت: أضربك، أمكنك أن تقول وزيدا، وليس كذلك، إذا قدَّمت: إياك أضرب، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على التناسب من حيث زيادة البيان والتفصيل.
وكرَّر كلمة (إياك) ليكون أدل على الإخلاص، والاختصاص، فإنه يفيد المبالغة في تخليص الاستعانة، كالمبالغة في تخليص العبادة، وتخصيصه بها ولو حُذِف، ولم يدل على التقديم المفيد ذلك، وفي تأخير (نستعين) ما تقدَّم من الأوجه في (نعبد)، ويزداد هنا مراعاة الفاصلة، وفي تقديم (إياك نعبد) على (إياك نستعين) سر لطيف وهو أن في معنى نستعين معنى الدعاء، وطلب الإعانة كقوله: (يغفر الله لكم)، وكذا قوله: (وربنا الرحمن المستعان)، ولم يقل به، واختير الثاني في قوله: (واستعينوا بالصبر)، لأنَّ الصبر ليس بفاعلٍ معيَّن وإنما هو آلة بها يصل الفاعل إلى غلبة الشيطان والنفس.
وقوله: (اهدنا): الهداية: الدلالة والإيصال إلى المطلوب، وهدى يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه، كما هنا، وباللام: (يهدي للتي هي أقوم)، وإلى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم).
كذلك: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، لما كان الفاعل هو الله، والمهدي في جاهد، عداه بلا حرف، وكذا (ولهديناهم صراطاً مستقيما)، بعد (وهديناهما الصراط المستقيم)، أي موسى وهارون، وهما نعم المجتهدان، وسره أنَّ الفاعل إذا كان قوياً، والمفعول شديد القبول، لكون الفعل يتعلق به، فتعديتهُ إليه بلا حرف.
وفي البقرة في تكرير (أولئك) تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح، وأعيد العاطف لاختلاف الخبرين بخلافه في (أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ، أولئك هم الغافلون) فإنهما متفقان لأنَّ التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيئ واحد لأنَّ التشبيه من حيث المعنى وهو الغفلة لا من حيث الغفلة والصورة.
ومن أبواب التناسُب: السببية وهي من العلاقات التي تحكم ربط الجملة بالجملة ويصير بها الكلام شيئاً واحداً، وفي سورة البقرة نجد تناسب الآيات مع بعضها من حيث السببية فنجد أنَّه تعالى قال في الآية (وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ولما وقعت (سواء) خبر (إنَّ) لم تُعطف، وقال في الآية: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} وقيل في يس: (وسواءٌ) لأنها جملة مستقلة عطفت على ما قبلها، وقولهُ (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) معناهُ: سواءٌ عليهم إنذارك لهم وعدم إنذارك لهم بعد ذلك، ولما قال: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أفاد انَّ هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم الذي هو مقصود الآية.
وفي تتابع الآيات ومناسبتها مع بعضها نجد الآية (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ، والآية (إنَّ الصفا والمروة) ، نجد مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنَّ الله تعالى لما أثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة، المفنية للمال والبدن، وكان أحد أركان الإسلام، ناسب ذكرهُ بعد ذلك.
ونجد تناسب الآيات من باب زيادة البيان، حيثُ يعول في هذا الباب على ما يُثار في نفس المخاطب حول المعنى، فتارةً تُعرض له شبهة وتارةً تساؤلاً وأخرى غموضاً ينكشف بالتصريح، وإبانة المعنى لا تفهم من ظاهر اللفظ وإنما يُؤسَّس لها حُسن تجاور الكلام، ويتأتَّى إليها بحُسن البيان فيُداخل المعاني بعضها في بعض، وفي تناسب الآيات من حيث زيادة البيان في سورة البقرة في الآية (ألا انهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون) خُتمت هذه الآية ب (لا يعلمون) والتي قبلها ب (لا يشعرون) لأنَّ النفاق وما فيه من البغي المفضي إلى الفساد في الآرض والفتنة أمرٌ دنيوي مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم، وأما أمر الديانة والوقوف على أنَّ المؤمنين على الحق وهم على الباطل فيحتاج الى نظر واستدلال، حتى يكسب الناظر المعرفة، وأيضاً فقد ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً.
ونجد أيضاً في الآية (الله يستهزئُ بهم ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون) ، نجد كلمة (يمدَّهم) قال الراغب: "أكثر ما جاء في الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه، فالأول: نحو (وأمددناكم بفاكهةٍ) ، (ويمددكم ربكم بخمسة آلافٍ من الملائكة) ، والثاني: كهذه الآية: (ونمد لهم من العذاب مدَّا) وفيها تناسب بين الآيات من حيث التفصيل في المعنى.
وفي تناسب الآيات يذكر في (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدَّت للكافرين) ، قال بعضهم: الفرق بين (فعل) و (عمل) أنَّ عمل لما كان مع امتداد زمان نحو (يعملون له ما يشاء من محاريب) ، (مما عملت أيدينا) ، لأنَّ خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد وفعل بخلافه نحو: (كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل) ، لأنها إهلاكات وقعت من غير بطء، ولهذا عبر بقوله: (وعملوا الصالحات) ، حيث كان المقصود المثابرة عليها، لأنَّ الإتيان بها مرة أو بسرعة.
ومن حيث تفصيل الآيات فقد ذكر في البقرة في الآية (وإذ قلنا للملائكة) التفات من الغيبة الى التكلم للتعظيم (أبى واستكبر) جملتان مستأنفتان، جواب من قال: ما فعل، وقد ذكرت هذه الحالة في هذه السورة جملة وفصَّلها في الأعراف بقوله: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) إلى آخره، وفي سور أخرى، ولما تقدَّم التفصيل في السور المكية أُجمِل في البقرة المدنية اكتفاءً بما تقدَّم.
وفي تناسب الآيات نجد أنَّهُ تعالى خوَّف الخواص بصفتهِ، فقال: (وسيرى الله عملكم) وخواص الخواص بنفسهِ، فقال: (ويحذركم الله نفسه) ، والعوام بأفعالهِ، بقوله: (واتقوا يوماً)، (واتقوا النار) .
وفي الآية (إنَّ البقر تشابه علينا) ذكر الفعل لانَّ البقر اسم جنس، والتذكير والتأنيث في اسم الجنس جائزان، بدليل (أعجازُ نخلٍ خاوية) (أعجازُ نخلٍ منقعر) وبين الآيات تناسب.
وفي تفصيل الآيات نجد في سورة البقرة في الآية (قلنا اهبطوا) ، قيل: الهبوط الخروج من البلد، والثاني في الآية: (اهبطوا مصراً) .
وفي الآية (وإذا لقوا) الضمير في (لقوا) لمن نافق من اليهود، وفي (قالوا أتحدثونهم) لمَن لم ينافق منهم، فاختلاف الضميرين هنا، وهو في (وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهنَّ فلا تعضلوهنَّ) فإنَّ الأول للأزواج، والثاني للأولياء.
وفي الآية (قالو لن تمسَّنا النار إلا أياماً معدودة) وفي آل عمران (معدودات) استيفاءً لاستعمال الجمعين.
وفي الآية من سورة البقرة (أفكلما تهوى أنفسكم) أكثر استعمال الهوى وأسند الفعل إلى النفس ولم يقل تهوون، إشعاراً بأنَّ النفس يُسند إليها غالباً الأفعال السيئة، (إنَّ النفس لأمارةٌ بالسوء) (فطوعت له نفسهُ قتل أخيه) ، (بل سوَّلت لكم أنفسكم) ، (ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) ، خصَّ التكذيب والقتل من بين سائر قبائحهم لأنهما أقبح الأفعال الصادرة منهم، وقدَّم التكذيب لسبقهِ القتل في الواقع.
وفي الآية: (بلى من أسلم وجههُ) التي ناسبت الآية (ووجهتُ وجهي) قيل هي مستعار للذات، أي مخلصاً (وهو محسنٌ) باعتقادهِ الغيمان شرط في قبول الأعمال المفهومة من (أسلم) فهو كقولهِ (آمنوا وعملوا الصالحات) وزاد بالإشارة الى الإخلاص، وقد جمعت هذه الجملة الإيمان والإسلام والإحسان.
وفي الآية (وإذا قضى أمراً) أي أراد قضاءهُ، نجدها تناسب الآيات (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيَّاه) أي أمر، والآية (فلما قضى موسى الأجل) وقد تضمنت الآيات إفساد ما أدَّعوهُ.
وأيضاً في الآية: (هذا البلد آمناً) (هذا بلداً آمناً) لأنَّ الأول إشارة الى الوادي قبل بناء البيت، فدعا أن يجعلهُ آمناً، والثاني إشارة اليهِ بعد بنائهِ ومصيرهِ بلداً.
وفي الآية (سيقول السفهاء) مناسبة للتي قبلها، وذلك أنَّ اليهود والنصارى قالوا إنَّ ابراهيم ومَن ذكر معه كانوا هوداً أو نصارى، فردَّ الله ذلك عليهم بهذه الآية.
وفي الآية (وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض) أفاد أنَّ أهل الكتاب وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون فيما بينهم أيضاً كما قال: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) وقد قيل أهل الباطل لا يتفقون على شيء، وفي الآية (الذين آتيناهم) هو ابلغ من (أوتوا) لإسناد الإيتاء الى الله، ونحو هذا مراداً به الإكرام نحو (هدينا) و(اجتبينا) و(اصطفينا)، قيل ولأنَّ (أوتوا) قد يُستعل فيما لم يكن له قبول.
وفي الآية (فلا تكوننَّ من الممترين) الخطاب في المعنى لغيرهِ، وهو أبلغ من (فلا تمتر) لأنَّ النهي عن الكون من فرقة موصوفة بفعل؛ أبلغُ من النهي عن نفس الفعل، ونجد أنَّهُ كثُر النهي عن الكون في القرآن كقولهِ: (فلا تكوننَّ من الجاهلين)، (ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا)، (فلا تكن في مريةٍ منه).
وختم سبحانه وتعالى الآية (أتوب عليهم) ب (وأنا التواب الرحيم) ترغيباً في التوبة.
ونجد أنَّ الآية (وإلهكم إلهٌ واحد) تناسب الآية (يأيها الناس اعبدوا ربكم) ومعنى الأولى أي لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، والآية خطاب المخلوقين، وهي نظير الآية الثانية.
وفي باب السببيَّة نجد الآية (ما ألفينا) في المائدة ولقمان (وجدنا) لانَّ ألفينا أخص، إذ لا تُطلق على مطلق الوجود، فلا يُقال: ألفيتُ زيداً، وإنما يُقال: ألفيتُ زيداً عاقلاً، بخلاف (وجدتُ) فإنها يجوز إطلاقها على مطلق الوجود.
وفي الآية (فمن اضطُرَّ) تناسُب مع الآية (ثم أضطَّرُّهُ الى عذاب النار) وذلك لتوضيح أن َّهُذا حملُ أمرٍ يكرههُ، ويكون بسبب خارج، كمن يُضرَب أو يُهدَّد حتى يفعل منقاداً. ونجد انَّها مناسبة للآية (أمَّن يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاهُ) وقد عممَّت كلَّ ذلك.
وفي الآية: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} زيادة بيان، لأنَّها آيةٌ أشبعت حاجةً في نفس المخاطب وأزالت ما يعتري البيان. وفي الآية {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ} تناسب للآيات (كتب الله لأغلبنَّ أنا ورُسُلي) ، (كتب في قلوبهم الإيمان) ، (كتب على نفسهِ الرحمة) ، وهذا من لطيف البيان، وأما بناء الفعل للفاعل في قولهِ (وكتبنا عليهم أنَّ النفس بالنفس) فمُناسب لاستعصاء اليهود، وكثرة مخالفتهم لأنبيائهم، بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرَّق بين الخطابين. كما نجد الآية (وإذ قلنا) وفي البقرة (وإذ قيل لهم) لأنَّ آية البقرة في معرض تعداد النعم فناسب نسب القول إليهِ تعالى، بخلاف آية الأعراف فإنها افتتحت بتوبيخهم فناسب ذلك (وإذ قيل لهم) .
ونجد في الآية {أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ} كلام متضمَّن لما يُستقبح ذكره، من ذكر الجماع ودواعيه، وجُعِل كنايةً عن الجماع هنا، والرفث: هو الإفصاح بما يجب أن يُكنَّى به، من ذكر النكاح، بخلاف قولهِ (وقد أفضى بعضكم الى بعض) ، (فلمَّا تغشَّاها) ، (أو لامستم النساء) ، (دخلتم بهنَّ) ، (فأتوا حرثكم) . وذكر في الآية: (من حجَّ ولم يرفث ولم يفسُق، خرج من ذنوبهِ، كيوم ولدتهُ أمُّه).
وفي الآية (فتاب عليكم) أي: خفَّف عنكم بالإباحة والرخصة، وهذه الكلمة تُقال كثيراً عند الترخيص/ كقولهِ: (علمَ أن لن تُحصُوهُ، فتاب عليكم، فاقرؤوا ما تيسَّر منه) ، (فإذا لم تفعلوا، وتاب الله عليكم) .
ونجد من تناسب الآيات: باب تكميل المعاني، وهو باب من أبواب تفريع الكلام والمعاني، ويتطلب رهافة حس لإدراك صلات المعاني فيهِ لردَّ الآية إلى جذرها ومناطها، لأنَّ الآية تتأخر وتسبقها آيات ثم ترتد دلالتها إلى معنى متقدِّم تُكملهُ وتضيف إليهِ، مثل قولهِ تعالى: (تلك حُدود الله فلا تقربوها) ، وفيما سيأتي الآية (تلك حدود الله فلا تعتدوها) لأنَّ الحد الذي هنا، هو النهي في بداية الآية (ولا تُباشروهنَّ)، وأتى بصيغة الجمع (تلك حدود الله) فإنَّهُ يدُل على عودة النهي عن المباشرة وغيره من الأوامر التي قبله، ولهذا ناسبت (لا تقربوها) عبارة (لا تعتدوها) .
وفي الآية {وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ}، يقول الراغب: أصل الفتن الذهب النار لتظهر جودتهُ من رداءته، واستُعمل في إدخال الناس النار، نحو (يوم هُم على النار يُفتنون) ، (ذوقوا فتنتكم) ، وتارةً يُسمُّون ما يحصُل عنه العذاب به، نحو (ألا في الفتنة سقطوا) .
وفي الآية (فلا عدوان إلا على الظالمين) ، تم تسمية المقاتلة عدواناً، قيل معناهُ: فلا سبيل ولا حجة، كقولهِ: (أيُّما الأجلين قضيت، فلا عدوان علي) أي: فلا سبيل علي، وفي الأنفال: (فإنَّ الله بما يعملون بصير) لانَّ الحكم هنا لما كان في الكفرة المخصوصين؛ كان الانتهاء سبباً لكفَّ العدوان عنهم.
وفي الآية (فإن أُحصرتم) أي: ضيقتُم، والإحصار: المنع من طريق البيت، وكذا قولهُ: (للفقراء الذين أُحصِروا في سبيل الله) ، بخلاف (أو جاؤوكم حَصِرت صدورهم) فإنَّهُ خاص بالباطن، أي ضاقت صدورهم بالجبن والبخل.
ونجد نظير الآية (تلك عشرةٌ كاملةٌ) التي ذُكرت للتأكيد الرافع لاحتمال أن يعني بالواو معنى (أو) ونظيره في التأكيد: (فتمَّ ميقاتُ ربهِ أربعين ليلةً) ، لأنَّهُ رافع لاحتمال أن تكون العشرة بغير مواعدة، (ولا طائرٌ يطيرُ بجناحيهِ) رافع لاحتمال إرادة قوة الإسراع دون الطيران. و(يقولون بألسنتهم) رافع لاحتمال إرادة القول القلبي. وفي الحديث الشريف: (إنا أمةٌ أمُّيُّةٌ، لا نكتب ولا نحسب) .
وفي تناسُب الآيات من حيث المقابلة نجد في الآية {إِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰق}، أي: إذا فرغتم من عباداتكم، ونفرتُم الى أوطانكم، لا تقولوا قضينا ما علينا، بل اذكروا الله ذكراً كثيراً، ثمَّ قسَّم الناس أربع فرق: أحدهما: الكافرون الذين غاية مقصودهم، ومنتهى همَّتهم أعراض الدنيا، وهم المراد بقولهِ: {فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا}.
والثانية: المتقصِّدون الذين يطلبون خير الدنيا والآخرة، وهم المُراد بقوله: {وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ}. والثالثة: المنافقون الذين يطلبون خير الدنيا والآخرة، وهم المراد بقولهِ: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُ}. والرابعة: السابقون الباذلون نفوسهم في سبيل الله، وابتغاء مرضاتهِ، وهم المراد بقولهِ: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ}، فالثانية في مقابلة الأولى، والرابعة في مقابلة الثالثة، فلهذا ذكرهم على هذا الترتيب إرشاداً لهم إلى اختيار ما هو الصواب.
وفي تناسب الآيات نجد الآية: {لهم نصيبٌ مما كسبوا}، تناسب الآية: {أو كسبت في إيمانها خيراً}، والآية: {للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا، وللنساءِ نصيبٌ مما اكتسبن}، {وويلٌ لهم مما يكسبون}، ومن الصالح لهما: {ثمَّ تُوفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبت}، {وعليها ما اكتسبت}،.
وفي باب السببيَّة نجد الآية: {وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ} قرئت بالتخفيف، والمفعول الثاني محذوف، أي كفراً، بدليل: {ألم ترَ الى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً} ونعمة الله: للإشعار بتعظيم الآيات وتقبيح فعلهم، {من بعد ما جاءتهُ}، مع أنَّ التبديل لا يصحُّ إلا بعد مجيئها، والفائدة مزيد التقريع والتشنيع.
ونجد الآية {يسألونك عن الخمر} مناسبة لما قبلها: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيهِ}، أنَّهُ تعالى لما ذكر مصرف النفقة في الوجوه التي ذكرها، بيَّن هنا نوعين من مصارف المال، وذمِّهما، كان ذكر المصرف السيء بعد المصرف الحسُن، ويرشِّحهُ ختمها بذكر المنفق أيضاً، (والميسر) هو القمار، مصدر من يسر كالموعد.
وفي مناسبة الآيات مع التي قبلها نجد في الآية (فلا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون) ؛ مناسبةً للآية (ولقد آتينا موسى الكتاب) ، قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنَّ إتيان موسى الكتاب هو نعمةً لهم، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم، ثم قابلوا تلك النعمة بالكفر، إذ قد أمُروا بأشياء ونُهو عن أشياء فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها.
وفي الآية 167 من سورة البقرة يقول تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} ونجد أنَّ هذه الآية مناسبة للآية 168 {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ}، ومناسبة الآية لما قبلها أنَّهُ بيَّن التوحيد ودلائلهُ، اتبع ذلك بذكر إنعامهِ على الكافر والمؤمن، ليَدُل على أنَّ الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام.
وفي العموم والتخصيص في الآية: {بما كسبت قلوبكم} أعمَّ من قولهِ: (بما عقَّدتُم الأيمان) لأنَّ القلب لما كان يُعبَّر به عن الجزء الذي به المعرفة والفكر، ويجري من سائر أجزائهِ، مجرى الراعي من المرعى. وفي تكميل المعاني والبيان نجد في الآية: {ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ} بيان عدد الطلاق المحرَّم فصلاً، وهو حُكم الخلع، ثم إنَّهُ خاطب الجميع فيما اعترض من حكم الخلع، ثم رجع الى الزوجين، فقال: {إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ}، ثم رجع فقال: {فإن خِفتُم أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ به}، فلما فرغ من هذا الفصل عاد الى تكميل بيان الطلاق المحرَّم، فقال: {فإن طلَّقها}، فلا تحلُّ له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره.
ومن باب التأكيد نجد الآية: {وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ} والى آخر الآية، نجد التأكيد والوعيد والزجر والوعظ والنصح، والتهديد ما ليس في الأول شيءٌ منه؛ ولهذا قيل: الطلاق للرجال، والعدَّة للنساء. وفي الآية: {لا تُكلَّفُ نفسٌ إلا وُسعها} أي: أنَّ الوسع من القدرة على ما يَفْضَل عن قدر المكلَّف، قال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} تنبيهاً على أنَّهُ يُكلَّف دوين عبدهِ ما تنوء به قدرتهِ.
وفي مقابلة الآيات، في الآية: { يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} يُقال: إنَّ إدخال هذه الآية في خَلل آيات الإنفاق، كإدخال: {حافظوا على الصلوات} في خلل آيات العُدَّة، تنبيهاً على الاهتمام، وذلك لأنَّ الحكمة، هي العلم النافع المؤدي الى العمل. وقولهُ تعالى في الآية: {لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} هو نظير قولهُ في الآية قبلها: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} وهو ليس من باب التكرير، بل فيهِ فوائد منها: أنَّهُ لمَّا قال في الآية الأولى ذلك، ومن المعلوم أن توفيهِ الأجر من غير بخسٍ ونُقصان، وختم هذه الآية بوصفِ بالعلم بهِ.
كما نجد في الآية: {وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أتت بصيغة المبالغة في (كفَّار) و (أثيم) تنبيهاً على عِظَم الربا، كما في {أعجب الكُفَّار نباتهُ} وقد قال السيوطي: قال هنا: {لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، وفي أوَّل النساء: {إنَّ الله لا يُحبُّ كُلَّ مَن كان مُختالاً فخوراً}، وفي آخرها: {إنَّ الله لا يُحبُّ مَن كان خوَّاناً أثيماً}، وفي الحديد: {واللهُ لا يُحبُّ مَن كان خواناً أثيماً}؛ لأنَّ آية البقرة في الكُفَّار الذين استحلُّوا ما حرَّم الله، فقالوا إنما البيعُ مثل الربا فوصفهم بالكفر وناسبه الأثيم، وآية النساء الأولى أتت بعد الأمر بالعبادة، وترك الشرك، فناسبهُ النهي عن الاختيال والفخر، والثانية فيمن سرق الدرع، فناسبهُ (خوَّناً أثيماً). وآية الحديد بعد النهي عن الأسى على ما فات، والفرح بما أتى.
ونجد المناظرة بين الآية: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} والآية {ما كسبت} في آل عمران، وفي النحل والزُمر {ما عملت}، ولما تقدَّم في الزمر لفظ الكسب في مواضع: {وبدا لهم سيئات ما كسبوا}، و {فأصابهم سيئات ما كسبوا}، عدل الى لفظ عملوا، تركاً للتكرار، ولم يتقدَّم في البقرة وآل عمران.
ومناسبة الآية: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ} للآية: {هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} أنَّهُ لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة، وهو أمرٌ جسماني، استطرد الى العلم، وهو أمر روحاني.
ولما كان قولهُ في الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ} مُشعراً بأنها غير مرضية عند الله، أتى في مقابلته بقولهِ: {وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ} وأتى في مقابلة قوله (للناس) بقولهِ (للذين اتقوا) . وفي قولهِ: {شهِد اللهُ} بمعنى قال الله، وقرئ: (شهداء لله) بصيغة الجمع ولام الجر، كقولهِ: {قوَّامين بالقسط شهداء لله}، أي: يستغفرونهُ شهداء لله بأنَّهُ لا إله إلا هو، وذلك غاية الارتباط. وفي الآية: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۧنَ بِغَيۡرِ حَقّٖ}، جاءت الجملة (بغير حق)، وفي البقرة: (بغير الحق) ، لأنَّ الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير، حتى يكون عاماً، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين، فناسب صيغة التعريف.
ونجد مناسبة الآية: {إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} لما قبلها: {وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، كأنَّهُ بيَّن بهِ وجه اصطفائهم، لأنَّهُ سميعٌ لأقوالهم، عليمٌ بصحَّة مقاصدهم ونيَّاتهم، فكان ذلك سبباً لاصطفائهِ لهم. ونجد أنَّهُ قد جاء ذكر سؤال زكريَّا ربَّهُ على أوجه من الخطاب، متفقة في المعنى، فهنا: {ربِّ إنِّي وهنَ العظمُ منِّي} إلى قولهِ: {واجعلهُ ربِّ رضيَّاً}، وفي الأنبياء: {ربِّ لا تذرني فرداً، وأنت خيرُ الوارثين}، ومجيء ذلك مختلفاً، دليل على تكراره، ففيهِ إشارةٌ إلى التكرار والإلحاح في الدعاء. كما نجد مناسبة الآية: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَد}، وفي سورة مريم: {أنَّى يكونُ لي غلامٌ} لتقدُّم قولهُ: {لأهبَ لكِ غلاماً زكيَّاً} {يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ}، وفي قصَّة يحيى: {يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ}، ولأّنَّ أمر عيسى أبدع وأغرب. وبنفس النهج نجد في الآية: {فأنفخُ فيهِ}، وفي المائدة: {فتنفخُ فيها}، وفي مقابلة الآيات نجد الآيات: {مَن آمنَ} مناسبة لقولهِ فيما تقدَّم: {ومَن كفَرَ}. كما نجد أيضاً: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ} تقابلها في الأنفال: {إن ّالله عزيزٌ حكيم} لأنَّ آية الأنفال متقدِّمة النزول في واقعة بدر، وهذه نزلت بعدها في واقعة أُحُد.
والآية: {وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ}، مناسبة لقولهِ: {ما كان لله أن يتَّخذ من ولدٍ}، و{ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها}، و{وما كان لمؤمنٍ أن يقتُل مؤمناً}، ومن باب التأكيد نجد الآية: {وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا} تُفيد التأكيد على طلبهم للاستغفار وتثبيت الأقدام للنصر.
وفي مقابلة الآيات نجد الآية: {لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَامَآ أَصَٰبَكُم} قابلت الآية: {لِّكَيۡلَا تَأسوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ} بمعنى أنَّ كلَّ أمرٍ يؤدي الإنسان إلى أن يجعلهُ بحيثُ لا يقلقهُ فوت مطلوب، ولا فقد محبوب، وفي الآية: {وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ} مُناسِب لقولهِ: {مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ} في أوَّل الآية. وأيضاً نجد في سُورة النساء: {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ} جاءت لتقبيح فعلهم، لا للاحتراز، كما في قولهِ: {أضعافاً مُضاعفةً}. كما نجد: {وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ} فالخطاب هنا لأرباب الأموال، وقيل للأولياء والمراد السُفهاء على حدِّ: {ولا تأكلوا أموالكم بالباطل}، و{ولا تقتلوا أنفسكم} .
وفي المائدة: {وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ}، يقابلها: {فيُنبِّئكم بما كنتم تعملون} و {ثم يُنبِّئهم بما كانوا يفعلون}، و {تالله لتسألُنَّ عمَّا كنتم تفترون} . وفي الآية: {مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ}، والقصد: استقامة الطريق، وعلى هذا: {واقصُد في مشيك}، وفي قولهِ: {فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ}، وقولهُ: {لو كان عرَضاً قريباً وسفراً قاصداً}، وهذا من باب التفصيل في تناسُب الآيات.
نجد في مناسبة الآيات لما قبلها في الآية: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}، لما قبلها: {إذا حلفتم} أي وحنثتُم: إنَّ الله تعالى لما أمرهُم بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً، وكان من المستطاب عندهم الخمر والميسَر، بيَّن تحريمهما، لأنَّ اللذَّة فيهما يُقارنها مفاسِد عظيمة وقرن بها ذِكر الأنصاب والأزلام. وفي الآية 110: {إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى}، كرَّر قولهُ (بإذني) أربع مرَّات، وفي آل عمران مرَّتين، لأنَّ هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها، فناسب الإسهاب. وفي سورة الأنعام لما كانت تفصيل قولهُ في المائدة: {لله ملك السماوات والأرض}؛ أتي فيها بقولهِ: {لهُ الملك يوم يُنفخُ في الصُور}، فنبَّه على الملك العظيم الذي لا تعارض فيه {لمن الملك اليوم}، وقد أكثر فيها من لفظ الرب في سورة الأنعام في أكثر من خمسين موضعاً.
وايضاً في الآية: {ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} لما تقدَّم ذكرُ التكذيب، ناسب الختم بالمكذِّبين، ولما تقدَّم في غيرها، ختم بغيرهِ ففي النمل بالمجرمين، وفي الروم بقولهِ: {كيف كان عاقبة الذين من قبلُ. كان أكثرهم مُشركين} ختماً لكلِّ بما يُناسِب ما قبلهُ. كما نجد في الآية: {فوق عباده} هي فوقيَّة القهر والغلبة والعلُو والقدرة، وقد قال فرعون: {وإنا فوقهم قاهرون} وتستعمل العرب (فوق) إشارةً إلى علو المنزلة استعارةً من فوقيَّة المكان، وفيهِ {يدُ اللهِ فوق أيديهم}، و{فوق كلِّ ذي علمٍ عليم} يريد علو الرتبة والمنزلة.
وفي الآية: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ} تكذيب لعدم سلوكهم في سبل الله الواضحة، فهم عميٌ عن البصيرة، كعمي البصر، لأنَّهُ نظير {صمٌ بكمٌ عميٌ} . وفي الآية: {أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ} بمعنى أتخُصُّون آلهتكم بالدعوة، أم تدعون دونها، نحو: {قُل أفغيرَ الله تأمروني أعبدُ}، {أفغير دين الله يبغون} لأنَّ معنى الحصر في هذه الآيات فاسد. وفي الآية: {وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ} نظير قولهِ في الزمر: {اللهُ يتوفَّى الأنفُسَ} ليُعلِم سبحانهُ وتعالى انَّه الفاعل الحقيقي للموت.
وفي مقابلة الآيات نجد: {وهم على صلاتهم} خصَّ الصلاة لأنَّها عماد الدين، وأشرف العبادات، وموافقة لما في الآية: {وأُمرنا لنسلم}، و {وأن أقيموا الصلاة}، وفي الآية: {يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ} دليلاً على البعث أيضاً كما في قولهِ أيضاً: {يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ} .
كما نجد {لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ} قابلتها في غافر: {خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ} لأنَّهُ هنا تقدَّم {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ} فناسب تقديم كلمة التوحيد النافية للشرك رداً عليهم. وفي العموم: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} عام في جميع الإنفاق في وجوه الخير والبر، وإن كان المناسب للمقام الإنفاق في الجهاد، وأراد العموم في ذلك.
وفي مقابلة الآيات نجد الآية: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ} مناسبة لقولهِ: {أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ} كأنَّهُ شرح كيفية الإحياء والإماتة الواقعين فيها. وفي باب التأكيد في الآية: {قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} ناسبت آية الزمر: {قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} لأنَّ آيتي الزمر والأنعام بأمر الله تعالى لهُ ب (قُل) فناسب التأكيد في الوعيد بفاء السببية. كما نجد المقابلة في الآية: {مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ}، وفي النحل: {مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ} بزيادة (من دونهِ) . وناسبت الآية: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا} ما قبلها {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ} لأنَّ بيَّن سبحانهُ أنَّ التحريم إنما يستند للوحي الإلهي، أخبر أنَّهُ حرَّم على بعض الأُمَم السابقة أشياءً، كما حرَّم على أهل هذه المِلَّة أشياء، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله في الأمُم جميعها. ونجد الآية: {نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ} وفي الإسراء: {نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۖ} فكلَّ الآيتين أفادت معنىً مُستقِلَّاً.
وفي سورة الأعراف في الآية: {وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ}، الخطاب لبني آدم كقولهِ: {وإذ نجَّيناكم من آل فرعون} فاختلفت الألفاظ والمعاني، والغرض منها تكميل المعاني لأنَّ المعاني الواقعة في القصص فرَّقت في إيرادها، فذُكِر بعضها في مكان، وبعضها في مكانٍ آخر، ولذلك عدَّة فوائد. وأيضاً في الآية: {حَقَّ عَلَيۡهِم ٱلضَّلَٰلَةُ}، وفي النحل: {وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ} بالتأنيث.
وفي الآية: {فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ} وفي سُورة يونُس قابلتها الآية: {فَنجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَعَهُۥ} لأنَّ التشديد للمبالغة والكثرة. وخصَّ سورة الأعراف ب (أنجينا)، و(الذين): لكونها أطول، وسورة يونس أخصر، فناسبها (نجَّينا)، و (من) . كما نجد في: {فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ} وهي الصيحة أو الزلزلة الشديدة، والآية نظير قولهُ في سورة هود: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} لأنَّ الرجفة ناشئة عن الصيحة، صيح بهم فرجفوا فناسب أن يُسنَد الأخذ لكُلٍ منهما.
أيضاً: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوهُم}، وفي العنكبوت قابلتها: {إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله} .
$: التناسب بين الأغراض المختلفة:
نجد في تناسب الأغراض أنَّ المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد والنبوَّات وإثبات القضاء والقدر لله تعالى. فقوله تعالى في سورة الفاتحة: (الحمد لله رب العالمين) يدل على الإلهيات، وقولهُ: (ملك يوم الدين) يدل على المعاد، وقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) يدل على نفي الجبر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقولهُ: (إهدنا الصراط المستقيم) إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوَّات، فقد اشتملت السورة على المطالب الأربعة، التي هي المقصد الأعظم من القرآن، وقال: "وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة، فإنها بنيت على إجمال ما يحويهِ القرآن مفصلاً، فإنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه أن يتضمن ما سيق الكلام لأجله، ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق"..
وفي (اهدنا الصراط المستقيم) يقول السيوطي أن هداية الله للإنسان على أربعة أوجه:الأول: الهداية التي عمَّ بها كل شيء، مقدر فيه حسب احتماله، كما قال: (أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى)، والثاني: الهداية التي جعلها بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن، ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله: (وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا)، والثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنى بقوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى)، والرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة، وهو المعنى بقوله: (الحمد لله الذي هدانا لهذا)، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء، وتعريف الطرق، دون سائر أنواع الهدايات.
ونجد سورة النساء تضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وأما سورة المائدة فتعتبر سورة العقود، فقد تضمنت تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل، وما اخذ على الأمة، وبها تمَّ الدين، فهي سورة التكميل لأنَّ فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين في السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر منها ما يختص محمد كالوضوء، والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين.
ونجد تسميتها بسورة البقرة لما فيها من قصة البقرة العجيب شأنها، وعادة العرب تسمية الجملة من الكلام، والقصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها أو أشد ندوة واستعذاباً أو نحو ذلك، وجاءتا تسميتها أيضاً بفسطاط القرآن لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام والأمثال والمواعظ التي لم تجمع في غيرها وفي الحديث أنها سنام القرآن وسنام كل شيئ أعلاهُ، وفيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر، كما أنَّ فيها آية الكرسي سيدة آي القرآن، وخواتيمها أعطيها ليلة الإسراء من كنز تحت العرش وفيها الاسم الأعظم وفيها مكي ومدني.
وفي تناسب الأغراض المختلفة نجد في آية (لا ريب فيه) في سورة البقرة أنَّها أخف من (لا شك) لثقله بالإدغام، ولهذا أكثر ذلك الريب فيه، وأخَّر الظرف لأنَّ تقديمهُ يوهِم اختصاصهُ بذلك، ووجود الريب فيما عداهُ من الكتب المنزلة مع براءتها منه، كما أنَّ تقديمه في (لا غول فيه) أفاد ثبوته في خمر الدنيا.
وقد قال أهل البيان أنَّ هذه الجملة منزلة مع الجملة قبلها منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في معنى الجملتين، وقولهُ: (هدى للمتقين) منزل منها منزلة التأكيد اللفظي في اتحاد المعنى، فإنَّ معناهُ أنَّهُ في الهداية بالغ درجة ما يدرك كنهها، لما في تنكير (هدى) من الابهام والتفخيم والإتيان به دون هاد، وهذا معنى (ذلك الكتاب) ؛ لأنَّ معناهُ الكتاب الكامل أي في الهداية إذ هي المقصود من الإنزال.
وقد زان قولهُ تعالى: (هدى للمتقين) إلى (ينفقون) وزان قوله (الحمد لله رب العالمين) إلى (مالك يوم الدين) وزان قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) وزان قوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ، قال: وهنا سرٌ دقيق وأنَّهُ تعالى حكى في أول الفاتحة مدح العبد لبارئهِ بسبب إحسانه إليهِ، وترقى فيه، ثم مدح في او البقرة عبدهُ بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوبٍ واحد (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ، فيه الاستئناف البياني كأنَّهُ قيل: ما للمتصفين بهذه الصفات فأجيب بذلك وجئ باسم الإشارة إيذاناً بأنَّ المذكورين قبلهُ أهل لاكتساب ما يورد بعده من أجل الخصائص التي عددت لهم وفي (على) التي للاستعلاء تمثيل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به.
وفي تناسب الأغراض وفي سورة البقرة في آية (الذين كفروا) ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنَّهُ تعالى قدم ذكر أوليائه وعبادهِ المخلصين بصفاتهم التي أهَّلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم خاصة، وأنهم هم الفائزون بالفلاح، عقبة بذكر أضدادهم وهم الكفرة الذين لا ينفع فيهم الهدى وسواءً عليهم إنذار الرسول وعدمه، وقطعت قصتهم من قصة المؤمنين ولم تعطف عليها كقوله (إنَّ الأبرار لفي نعيم وإنَّ الفجار لفي جحيم) لتباين القصة في الغرض والأسلوب فإنَّ الأولى مسوقة لهم لذكر الكتاب وأنَّهُ (هدى للمتقين) والثانية مسوقة لبيان أنَّ الكفار صفتهم كذا وكذا.
وفي سورة البقرة في الآية (وما هم بمؤمنين) التي تطابق الآية (آمنا بالله وباليوم الآخر) ، فالأول في ذكر شأن الفعل، أي أحدثنا الإيمان لا الكفر، ليس لذكر شأن الفاعل وإلا لقال: نحن مؤمنون، والثاني في ذكر شأن الفاعل أي ما هم بمؤمنين، وإلا قال: وما آمنوا بل كفروا، فكيف يتطابقان؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادَّعوهُ ونفيهِ من الفعل بطريقٍ أبلغ، فسلك بذلك طريقاً أدى الى الغرض المطلوب، الذي هو إنكار ما ادَّعوهُ وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره.
وفي الآية (وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون) ، قال صاحب المناجاة: التخصيص بلفظ العبادة هنا، لأنَّهُ ذكر بعد الخلق، والخلق يناسبهُ العبادة، وأيضاً فالخلق أول نعمة تشمل الإنسان من النعم الثبوتية والعبادة أفضل نعمة تفضَّل بها عليه، وأوَّل عبادة كُلِّف بها التوحيد، فكان من المناسب الجمع بينهما، وفي آية (اعبدوا) نجدها أعمَّ من (وحِّدوا) لأنَّه يمثل التوحيد والأعمال معاً (ربكم) ، وقال الطيب: الفرق بين (اعبدوا الله) و (اعبدوا ربكم) لأنَّ في الثاني إيجاب العبادة بواسطة رؤية النعمة التي بها تربيتهم وقواهم، وعلى ذلك قولهُ (يآيها الناس اتقوا ربكم) ، وقولهُ: (يآيها الذين آمنوا اتقوا الله) ، فحيث ذكر (الناس) ذكر (الرب) وحيث ذكر الإيمان، ذكر الله، وقال البيضاوي: إنما قال (ربكم) تنبيهاً على أنَّ الموجب للعبادة هي الربيَّة.
وفي سورة البقرة في الآية: (إنَّ الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها) وقع خمس مقابلات: بين (بعوضة) و (ما فوقها)، وبين (آمنوا) و (كفروا)، وبين (يضلُّ) و (يهدي)، وبين (ينقضون) وبين (يقطعون)، و(يوصل) وبين (يعلمون) وبين (يقولون) ذكرهُ بعضهم، لأنَّ المراد بالأول الاعتقاد بالقلب، وبالثاني: القول الصادر عن اللسان، وهما خلافان في الجملة وذلك كان في الطباق والمقابلة. وفي قولهِ: (وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم) راجع الى المحنة التي في قوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) ، وكذا قولهُ: (وآتيناهم من الآيات ما فيهِ بلاءٌ مبين) راجع الى الأمرين، كما وصف كتابهُ بقولهِ: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) .
وفي الآية: (لا تقولوا راعنا) وتقديمها على الآية (وقولوا انظرنا) من باب التخلية على التحلية، وللكافرين اللام: للعهد، أي اليهود الذين تهاونوا برسول الله ، وفي قولهم (راعنا) فوضع الظاهر موضع ضمير اليهود للإشعار بأنَّ قولهم ذلك كان تهاوناً، (ما يودُّ)، نجد أنَّ زيادة (من) في غير (من خير) تفيد الاستغراق الذي أفادهُ تنكير (خير) الواقع في سياق النفي، وبيتنهُ بقوله: (من أهل الكتاب) إشعار بأنّ كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق، لكن كفرهم يمنعهم، وإقامة لفظ الجلالة مقام ضمير (ربكم) وتقديمهُ على قولهِ (يختص) إيذان بأنَّ الله هو الجامع لصفات الألوهية .
وفي مناسبة وضع هذه الآية: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها) ظاهرة لأنَّ اليهود هم المنكرون للنسخ، وقد تقدَّم في الآية قبلها أنَّهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيرٌ من ربهم، ولما كان الكفار قد يشاركونهم في الأمرين، ضُموا إليهم في الذكر، فالمقصود بالخطاب اليهود، فعقبت تلك الآية المخبرة بعدم ودادهم إنزال الخير بهذه الآية المقررة لأمر النسخ.
وفي الآية (وما أُنزل إلينا) في البقرة، وفي آل عمران: (علينا) لأنَّ (إلى) للانتهاء الى الشيء من أي جهةٍ كان، فلم يصح إلا (إلى)، و (على) تختص بجانب واحد وهو الفوق. كما نجد الآية (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) ناسبت الآية (فإن آمنوا).
وفي الآية (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) قُدِّمت آخراً لأنَّ الغرض في الأوَّل إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
والآية (أينما تكونوا فثمَّ وجه الله) قصد بها الوعظ والتحذير، (إنَّ الله على كل شيءٍ قدير) مناسب لما قبله لانَّ جمع العالم إلى يوم القيامة يحتاج الى قدرة عظيمة، فبيَّن الله سبحانهُ وتعالى أنَّهُ قادر عليه، وقال الكرماني: (الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب وهو قوله تعالى: (وإنَّه للحقُّ من ربك) والثالثة للعلَّة وهو قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجَّة) ، وقيل: الأولى لجميع الأحوال، والثانية لجميع الأزمان والثالثة لجميع الأمكنة).
وفي الآية (إنَّ في خلق السماوات والأرض) جمع السماوات لأناها أجناس مختلفة، ولما أراد ذكر جميع الأرضين قال: (ومن الأرض مثلهنَّ)، وأما السماء فتارةً ذّكرت بصيغة الجمع نحو (يسبح لله ما في السماوات) ، أي جميع سكَّانها على كثرتهم، (تسبح له السماوات) أي كلَّ واحدة على اختلاف عددها، (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) ، إذ المراد نفي علم الغيب عن كل من هو واحدة من السماوات وحيث أريد الجهة، أتى بصيغة الإفراد، ونحو (وفي السماء رزقكم) ، و(أأمنتم من في السماوات أن يخسف بكم الأرض) أي من فوقكم.
وفي تناسُب الأغراض نجد الآية: {لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ }، نجدها اشتملت على جميع المعارف التي يلزم العبد الإيمان بها، وذلك: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيِّين، وعلى جميع الواجبات، وهي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصلة الأرحام، وبرَّ الأيتام، ومواساة المساكين، وإعانة ابن السبيل، وذلك يشمل إعانة المسافر والضيف، وإعطاء مَن سأل، وفك الرقاب بالعتق والفداء، وإعانة المكاتب، والوفاء بالعهود، وهو شامل حتى الأيمان والنذور، والصبر على ما يجهد، ويندرج فيه الصوم والحج، والصبر على الضرَّاء من فاقةٍ أو فقر، والصبر عند القتال، وهذه أصول الواجبات.
وقُدِّم هنا اليوم الآخر، وأخَّر في آية (ومن يكفر بالله وملائكتهِ وكُتُبهِ ورُسُله واليوم الآخر)؛ لأنَّ تالك في الكافر وهو لا يعرف الآخرة، ولا يعني بها، وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عندهُ، فأخَّر ذِكرهُ، وهذه في المؤمن، والمؤمن أقرب الأشياء إليهِ امر الآخرة، فقدَّم ذكرهُ تنبيهاً على أنَّ البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما.
وفي الآية {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} أغراض كثيرة منها: أنَّ هذه الآية رادعة عن القتل والجرح معاً لشمول القصاص لهما، والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء، لأنَّ قطع العضو ينقص مصلحة الحياة.
وفي الآية: {أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم}، وفي آل عمران: {وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْمِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ}، وفي براءة: (أم حسبتُم أن تُتركوا) ، نجد أنَّ آية البقرة في الصبر على مقاسى الكفار، وفي آية آل عمران في حق المجاهدين، وما حصل لهم من القتل والجراح والهزيمة يوم أُحُد، وآية براءة فيمن كان مع النبي ويباطن أقاربهُ وأولياءهُ من الكفار المعادين لرسول الله فناسب مضمون كلِ آية ما سِيقَت له، وقال الكرماني: آية البقرة للنبي والمؤمنين، وآية آل عمران للمؤمنين، وآية براءة للمجاهدين.
وفي الآية: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ} خطاب للأولياء {فيما فعلنَّ في أنفُسِهنَّ بالمعروف}، وفي الآية الآتية: {من معروف}، فالتنزيل: لأنَّ المراد بالأول المعروف من الشرع، وهو الذي أمر الله به، والثاني وجهٌ من الوجوه التي لهمَّ أن يفعلنه، فأخرج مخرج النكرة لذلك.
نجد في الآية: {حافظوا على الصلوات} قد تقدَّمت الإشارة الى مناسبة وضع هذه الآية هنا، ومما قيل فيها، أنَّهُ يُحتمل حدوث خوف قبل نزول تمام أحكام المطلَّقات، ولما بيَّن تعالى أحكام الأزواج والأولاد، وأوصاهم بالتقوى، ونهى عن نسيان الحقوق والفضل فيما بينهم بقولهِ: {ولا تنسَوا الفضل بينكم}، أردفهُ بالأمر بالمحافظة على حقوق الله، وهي الصلوات.
وفي الآية من سورة آل عمران: {وأنزل الفرقان} المراد هنا: جنس الكُتُب السماويَّة، لأنَّها فرقان بين الحق والباطل، وقيل هو الكتاب الرابع وهو الزبور، وقيل: أريدُ القرآن، لأنَّهُ فرَّق بين الحق والباطل من الآيات والمعجزات، كطوفان نوح وفرق البحر لموسى وغير ذلك.
وتدُلُّ الآيةِ: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ} على أنَّهُ سبحانهُ عالم بكلِّ شيء، وهو أبلغ في الغرض من التقييد بقولهِ {فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ} والغرض إفهام العباد كما علَّمهُ-تعالى-وهو عند التقييد المذكور أقوى، لأنَّ الحس متى ما أعان العقل على المطلوب، كان الفهم أتمَّ والإدراك أكمل. وفي الآية: {والراسخون} هم الموصوفون بقولهِ: {الذين آمنوا بالله ورسولهِ ثمَّ لم يرتابوا} لأنَّ الرسوخ في العلم، لا يحصُل إلا بعد الاهتداء والتتبُّع التام، والاجتهاد البليغ.
قال الأصبهاني: القصد بهذه الآية: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّۧنَ}: تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب ممَّا يدُل على نبوَّة محمد قطعاً لعذرهم، وإظهاراً لعنادهم. ولما ذكر سبحانهُ وتعالى في الآية: {وإليهِ تُرجعون}، أنَّهُ أخذ الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بتصديق الرسول المصدق لما معهم، بيَّن في الآية: {قل آمنَّا بالله} من صفتهِ، كونهُ مُصدِّقاً لما معهم، فيجب عليهم اتِّباعهُ، ولما قال في الآية الأولى: {أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ }، وفي آخر التي تليها: {وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ}، أتبعهُ بأن بيَّن في هذه الآية، أنَّ الدين ليس إلا الإسلام، ومن ابتغى ديناً، فهو مردود عليهِ، ونجد الآية: {كيف يهدي الله }، نزلت فيمن ارتدَّ، فمناسبتها للآية التي قبلها ظاهرة، لأنَّ المُرتد مُتَّبِع غير دين الإسلام. وكل هذه الآيات هي الدلائل الدالَّة على نبوَّة محمد في توجيه الالتزامات على أهل الكتاب.
وتُعتبر الآية: {كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ}، من تمام الخطاب في قولهِ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ}، ومثل هذا الكلام عادةً، يحمل النفوس الأبيَّة على ارتكاب معالي الأمور، وتجنُّب سفاسفها كما في الحديث: (إذا مُدِح المؤمن، ربا الإيمان في قلبهِ) ، وقد ناسبت الآية: {وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} الآية: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} وقد أشارت الآيات الى تصحيح الجزاء، والإخلاص.
وتشرح سورة النساء بقيَّة مجملات سورة البقرة في آياتٍ عديدة، كآيةِ اليتامى، والوصيَّة، والمواريث، والأنكحة، ونكاح الأمة، والصداق، والخلع، والقتال. وفي الآية من سورة آل عمران: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ}، كما تُفصِّل احكام النساء ومباحاتها ومحرِّماته، وتُفسِّر سورة المائدة أحكام السُرَّاق وقطاع الطريق لتعلِّقهم بالذهب والفضة الواقع في الآية بعد النساء والبنين، وأشارت السورة الى قسمة المواريث، ثم فصَّل في سورة الأنعام أمر الحيوان والأنعام والحرث، وهو بقيَّة المذكور في الآية. كما تُعتبر سورة المائدة شارحة لبقيَّة مجملات سورة البقرة، فإنَّ آية الأطعمة والذبائح فيها، أبسط من البقرة، وكذا ما حرَّمهُ الكفَّار تبعاً لآبائهم، وفي البقرة موجز، وفي هذه السُورة أبلغ إطناب، وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أوَّل مَن شنَّ القتل، وقال هنا: {كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ} إلى آخرهِ، وهو أبسط من قولهِ في البقرة: {ولكم في القصاص حياةٌ}، وفي البقرة: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}، وذكرت قصَّتها هنا مطوَّلة، وقال هنا: {فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ}، وفي البقرة قصَّة الإيمان موجزة في الآية 224، و225، وقال أيضاً في البقرة: { فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ} وزاد في هذه السُورة في ذمِّهما، وصرَّح بتحريمهما. وفي أوَّل سورة المائدة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أوفوا بالعقود} القصد بها أنَّها تضمَّنت ضروباً من النظم، منها الفصل، وهو أن يُبتدأ بكلام، ولا يُذكر جوابه، حتى يؤتي بمبتدأ ثانِ وبجوابهِ، وقد بيَّنت السُورة أحكاماً كثيرة، فقد نطقت بالوفاء، ونهت عن النكث، وذكرت آيات العقود. كما نجد في الآية: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ}، وقد ختم سبحانهُ الآية التي بعدها بقولهِ {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ الظالمون} والثالثة بقولهِ: {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ الفاسقون}، فقيل: الأولى: في أهل الإسلام، والثانية: في اليهود، والثالثة في النصارى تخصيصاً لكُلِّ ما يليهِ، وقيل الثلاثة في اليهود.
أما سُورة الأنعام فقد كانت مقاصدها الرد على الكُفَّار، حيثُ حرّموا ما أباح الله من الأنعام والحرث، واباحوا ما حرَّم من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهلَّ بهِ لغير الله، ولذلك سُمِّيت باسم الأنعام نظراً إلى المقصد الأهم. وقد أكثر في السُورة من ذكر الخلق والإنشاء، خصوصاً في المأكولات وكفصَّل نوع ذلك، وكرَّرهُ أعظم تكرار وقال: {قد فصَّلنا الآيات} وقد جمعت السُورة جميع المخلوقات بأسرها، وما يتعلَّق بها، كما جمعت العلوم والمصالح الدنيوية، نظير سورة البقرة أيضاً، وما ذكر منها من العبادات المحضة فعلى وجه الاختصار، والإيماء كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه. كما أنَّ المقصود من سُورة الأنعام ذكر أنَّهُ تعالى خالق جميع المخلوقات على اختلاف أصنافها، فبدأ بنوع الأفلاك والزمان، ثم بنوع الإنسان، ثم صفات نوع الكفر منه، ثم عاد الى ذكر الخلق، فذكر خلق سائر النوع الحيواني، ثم النجوم وأنواع النبات إلى غير ذلك {في الأرض} شمل للبرِّ والبحر {ولا طائرٍ}.
وفي الآية: {ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ} جعلهم أوصياء له تعالى وكرَّر الوصيَّة في الآيات الثلاث على سبيل التوكيد: وختم الأولى بقولهِ: {لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}، والثانية: {لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ}، والثالثة: {لَعَلَّكُمۡ َتتَّقُونَ} لأنَّ ما في الأولى تكاليف ظاهرة، ومَناطَها العقل، أما الثانية فغامضة لأنَّها جارية مجرى الزجر والوعظ وهي متعلِّقة بالحقوق الماليَّة والقوليَّة، أما الثالثة فمُشتمِلة على ذكر الصراط المستقيم الجامع للتكاليف فختم بالتقوى التي هي اتقاء النار وغضب الجبَّار.
وفي الغرض من الآية: {يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ} أنَّها جامعة لأنواع الملابس، ونظير الآية: {سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡ} وقيل التقوى على ظاهرها من تقوى الله، ولباسها وقيل ساتر العورة، وما ادَّخرهُ في الآخرة وقيل العفَّة والعمل الصالح. أما القصد بالآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ} لما ذكر سبحانهُ بدء خلق الإنسان، وأمر بنيهِ بانقسامهم الى مؤمنٍ وكافر، وذكر معادهم الى جنةٍ ونار، ذكر مبدأ العالم، واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم والقضاء، ثم عاد الى النبوَّة والرسالة، إذ مدار القرآن على تقرير المسائل الأربع: التوحيد والقدرة، والمَعاد، والنُبوَّة.

$: التناسب بين السُور
$: التناسب في ترتيب السور ويشمل (تناسُب أوَّل السُورة مع آخِر ما قبلها، التناسب بين مقاصد السورة والسورة التي قبلها، تعلُّق السُورة بأكثر من سُورة):
ويُعَد هذا الباب من فرائد الإمام السِيُوطي التي لم يسبق إليها المفسِّرون من قبله على الوجه الذي جاء عليه الباب في تفسيره، وإنما هداهُ بيان القرآن إلى هذا اللون من التناسب المعجز بين السور المتتالية، ومكان كل سُورة من السُور السابقة لها، وما بينهما من وشائج تنظم السورة في بيان ما قبلها وتدل على حسن تجاورها وصحة ترتيبها عليها وأنه ليس بالإمكان وضع غيرهما موضعها، مما يؤكِّد أنَّ القرآن كلام واحد يتصل بعضه ببعض وأنَّ البسملة بين كل سُورة وأخرى ليست حائلاً دون التقاء المعاني بل هي حافز على ملاحظ وجوه الاتصال بين أغراض السور وما بينها من تشاكل وائتلاف، لأنَّ النفس تنشط إذا كان الكلامان مختلفين لعقد الائتلاف وتتبع التشابه وتأنس بذلك الالتقاء أكثر منها لو كان كلاماً واحداً.
وفي ذكر الصراط المستقيم في سورة الفاتحة: مما يدل على أن الصراط أعمَّ من السبيل، قوله تعالى: (ولا يهديهم سبيلا)، فلم يستثن، وقال: (ولا يهديهم طريقاً إلا طريق جهنم)، فاستثنى من الطريق طريقاً، كما نجد في (غير المغضوب عليهم) أنَّ الحكمة في أنه لم يعطف بحرف، ولم يقل: أنعمت عليهم، ولم يغضب عليهم كما قال: (الذين آمنوا ولم يلبسوا)، و (الذين آمنوا ولم يرتابوا)، والجواب هو أنه لو قال ولم يغضب عليهم، كان يقول: ولم يضلوا، فلا يكون الإتيان مواخية، والذي نقوله إنه وصفهم بكونهم منعماً عليهم وعدم كونهم مغضوباً عليهم، لكن الإنعام عليهم ليس بأمر من جهتهم، لأنَّ الإنعام لا يكون إنعاماً إلا إذا كان بغير عوض، وبذلك نقول أن كل مغضوب عليه ضال، فما الحاجة لذكر الضالين، والقاعدة هي تأخير الأبلغ، ولهذا عقبت الفاتحة بسورة البقرة، وجميع ما فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، ثم بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطابهم للنصارى، وخُتمت بقوله: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) في النجاشي، ومؤمني النصارى، وهذا في وجوه مناسبة ترتيب السورتين كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قصَّ في كل سورة مما بعدها حال فريق على الترتيب الواقع فيها.
وفي تناسب السُور مع التي قبلها وتناسب المقاصد مع التي قبلها نجد التناسب بين سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران وحكمة تعقيب الفاتحة بسورة البقرة ثم آل عمران، حيث قال بعض الأئمة: "تضمنت سورة الفاتحة: الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكمِّلة لمقصودها، فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه، لما تمسك به النصارى، وأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما انَّ خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأنَّ التوراة أصل، والإنجيل فرعٌ لها، والنبي، لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكيَّة، فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب، والمؤمنين فخوطبوا ب (يأهل الكتاب) (يابني اسرائيل) (يآيها الذين آمنوا)" "
وفي ارتباط سورة البقرة بالفاتحة نجد أنَّ البقرة افتتحت ب (ألم، ذلك الكتاب) فإنَّهُ إشارة الى (الصراط) في قوله (اهدنا الصراط المستقيم) كأنهم لما سألوا الهداية الى الصراط قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليهِ هو الكتاب.
وقال السيوطي: أنَّ أوائل سورة الفاتحة مناسبة لأوائل سورة البقرة، لأنَّ الله تعالى لما ذكر أنَّ الحامدين طلبوا الهدى، ثم أنَّهُ ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاثة الذين ذكرهم في الفاتحة فذكر الذين على هدى من ربهم وهم المنعم عليهم، والذين اشتروا الضلالة بالهدى وهم الضالون، والذين باءوا بغضب، وهم المغضوب عليهم.
وفي آية الكرسي يقول ابن عبد السلام: ""وسبب شرفها أنَّ فيها أحداً وعشرين اسماً لله، ما بين ظاهر ومضمر" وقد صحَّ في الحديث أنَّها سيِّدة آي القرآن، وأعظم آيةٍ فيه، وأنها ربع القرآن. وقال ابن العربي: إنَّها في أي القرآن كسورة الإخلاص، إلا أنَّ سورة الإخلاص تُفضِّلها بوجهين: أحدهما: أنَّها سورة، وهذه آية، والسورة أعظم، لأنَّ وقع التحدِّي بها، فهي أفضل من الآية لاتي لم يُتحدَّ بها. والثاني: أنَّ سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفاً، وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين حرفاً، فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى مُعبِّر عنه بخمسين حرفاً، ثم يُعبَّر عنهُ بخمسة عشر، وذلك بيان لعِظَم القدرة والانفراد بالوحدانية. وأيضاً نجد في آية الكرسي: {ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ} إذا تأمَّلنا معانيها، ثمَّ تلوت جميع أي القرآن، لم تجد جملتها مجموعة في آية واحدة، فإنَّ {شهِدَ اللهُ} ليس فيها إلا التوحيد، وسورة الإخلاص ليس فيها إلا التوحيد والتقديس، و{قل اللهم مالك الملك} ليس فيها إلا الأفعال، والفاتحة فيها الثلاثة، لكن غير مشروحة، بل مرموزه، والثلاثة مجموعة مشروحة في آية الكرسي، والذي يقرُب منها في جمعها آخر الحشر، وأوَّل الحديد، ولكنَّها آيات لا آية واحدة، فإذا قابلت آية الكرسي بأحد تلك الآيات، وجدتها أجمع للمقاصد، فلذلك استحقَّت السيادة على الآيات، وهي تشتمل على المعرفة العظمى التي هي المقصودة التي يتبعها سائر المعارف.
ففي آياتها: نجد الأولى: {لا تأخذهُ سنةٌ ولا نوم} بيان لقيامهِ بتدبير الخلق، والثانية: (ما في السماوات) لكونهِ مالكاً لما يدبِّره، والثالثة: {من ذا الذي يشفع} لكبرياء شأنهِ، والرابعة: {يعلمُ ما بين} لإحاطتهِ بأحوال الخلق وعلمهُ بالمرتضى منهنَّ، والخامسة (وسع) لسعة علمهِ، وتعلُّقهِ بالمعلومات كلها، أو لجلالة وعظمهِ.
وفي تعلُّق السورة بأكثر من سورة نجد في سورة البقرة في آخر آية أنَّهُ تعالى قدَّم ذِكر المغفرة على العذاب، وفي سورة المائدة أيضاً؛ لأنَّ آية البقرة وغيرها جاءت ترغيباً في المُسارعة إلى طلب المغفرة، وإشارةً إلى سعة مغفرتهِ ورحمتهِ، وآية المائدة عقب ذكر السارق والسارقة، فناسب تقديم ذكر العذاب، كذلك نجد مناسبة ختم سورة البقرة بهذه الآية: {آمن الرسول}، أنَّ هذه السُورة أعظم سُور القرآن واشتملت على ما لم يشتمل عليهِ غيرها، من الأحكام وغيرها، فناسب ختم السُورة بهذه الآية.
وفي سورة النساء من التعلُّق بسورة الفاتحة وذلك في تفسير: {الذين أنعمتَ عليهم} في قولهِ: {فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآء وَٱلصَّٰلِحِينَۚ}، وأما وجه تعلُّقها بسورة آل عمران، أنَّ آل عمران خُتِمت بالأمر بالتقوى، وافتُتِحت هذه السُورة به، وذلك من وجوه المناسبات في ترتيب السُورة، وأيضاً نجد أنَّ سُورة آل عمران ذُكرت فيها قصة أُحُد مُستوفاة، وذُكر في هذه السُورة ذيلها، وهو قولهُ: {فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ}، وفي آل عمران ذكرا لغزوة التي بعد أُحُد في قولهِ: { ٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ}، وأُشير إليها في النساء بقولهِ: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ }، وبهاذين الوجهين، عُرِف أنَّ تأخير (النساء) عن (آل عمران) أنسب من تقديمها عليها.
وفي تناسُب السُور مع التي قبلها نجد مناسبة سورة آل عمران للبقرة، أنَّهُ لما ذُكر آخر البقرة {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}، ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين، ولما كان مُفتتح آخر البقرة: {آمن الرسول بما أُنزِلَ إليهِ من ربِّه}، وكان في ذلك الإيمان بالله والكُتُب، ناسب ذكر أوصاف الله، وذكر ما أنزل على رسوله.
وفي تعلُّق السورة بآخر ما قبلها، أخبر أنَّ بعض المؤمنين من بعض في أصل التوالُد، فنبَّه في أوَّل النساء على اتحاد الأصل، وتفرُّع العالم الإنساني منه، ليُحثَّ على أنَّ الجنس الإنساني كان عابداً لله، مفردهُ بالتوحيد والتقوى، فنادى تعالى الناس بالتقوى فقال: {ٰيٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ} . كما نجد في المائدة أيضاً ما يتعلَّق بسورة الفاتحة ببيان المغضوب عليهم والضالِّين في قولهِ: {هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ} وقولهُ: {ۡقد ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ}، وأما علاقتها بسورة النساء، فقد ظهر فيها وجهٌ بديع، وذلك لأنَّ سورة النساء اشتملت على عدَّة عقود، صريحاً وضمناً، فالصريح عقود الأنكحة والصداق، وعقد الحلف في: {والذين عقدت أيْمانكم}، وعقد الأيْمان في هذه الآية، وعقد المعاهدة والأمان في قولهِ: { إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ}، فقد ناسب أن يُعقِّب بسورة مُفتتحة بالأمر بالوفاء والعقد، وكأنَّهُ قيل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمَّت، فكان ذلك غاية التلاحم والتناسق والارتباط.
وفي تعلُّق سورة الأنعام بالمائدة نجد أنَّ الأنعام قد كانت شرحاً لما تضمَّنتهُ المائدة على سبيل الإجمال، وهكذا شأن سُور القرآن، يكون لكُلِّ سُورةٍ مقصد هو فيها مبسوط، ويُجمِل فيها شيءٌ يُبسط في السُورة التي تليها، فتكون كلَّ سُورة تفصيلاً لما أجمل في التي قبلها، وقد قال بعضهم: افتتاح سورة الأنعام بالحمد مناسب لذكرهِ في آخر المائدة فصل القضاء. كما نجد مناسبة افتتاح الانعام لآخر المائدة، أنَّهُ تعالى لمَّا ذكر ما قالتهُ النصارى في عيسى وامَّهُ، من كونها إلهين، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب الصادقين، وأعقب ذلك بأنَّ لهُ ملك السماوات والأرض وما فيهنَّ. وتقديم دليل القدرة ليكون أوَّل السُورة مرتبطاً بقولهِ في آخر المائدة (التي قبلها) {وهو على كلِّ شيءٍ قدير} والضمير عائد لما عليه الضمائر السابقة وهو الله وقيل هو ضمير الشأن.
وفي تعلُّق أوَّل سورة الأعراف بآخر ما قبلها، هو أنَّهُ قد تقدَّم في الأنعام: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ}، و{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ}، افتتح الأعراف أيضاً باتباع الكتاب في قولهِ: {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ} إلى قولهِ: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ} وأيضاً فلما تقدَّم في الأنعام: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ}، قال في مُفتَتَح الأعراف: {فَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ}، وذلك شرح التنبيه المذكور. وأيضاً لما قال في الأنعام: {مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ}، وذلك لا يظهر إلا في الميزان؛ افتَتح الأعراف بذكر الوزن، فقال: {وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ}، ثمَّ ذكر مَن ثَقُلَت موازينهُ ومَن خفَّت موازينه، ثمَّ ذكر بعد ذلك قصَّة أصحاب الأعراف وهم الذين تساوَت حسناتهم وسيِّئاتهم.


$: التناسُب بين السُور المُتشابهة المطالع:
والتشابه بين المطالع ليس من التكرار بل هو ضرب من التصرفات يقصد إليه المتكلم، ويخضع لاعتبارات من الاختيار والترتيب للإبانة عن أحوال وأغراض لا تتأتى إلا بالتشابه ولا يصل الدارس الى ما تحتها إلا ببعث ما وراء الائتلاف من اختلاف وإن جاءت صورته صورة إعادة وتكرار.
نجد في التناسب بين السور المتشابهة المطالع: أن الإمام السيوطي ذكر التناسب بين سورة الفاتحة وبين سورة الأنعام، والكهف؛ لأن جميعها بدأت ب (الحمد لله)، وسورة سبأ وفاطر، ونجد أنَّ الفاتحة تشمل جميعها لأنها تقرأ أولاً وآخراً، ومن يبتدئ بحفظه من الآخر، يبتدئ بها، كما أنَّ من قرأ من الأول يبتدئ بها.
فقوله في أول الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)، إشارة الى أول النعم، وهي نعمة الوجود، ومكانه، وزمانه. وفي الكهف: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) إشارة الى نعمة الشرع الذي به قيام الوجود. وهاتان النعمتان في الدنيا.
وفي أول سبأ وفاطر الإشارة الى الآخرة، فأن رسل الملائكة للأمر الأخروي أكثر.
ففي السورتين الحمد على النعم الأخروية، ويؤيد ذلك أنه قال في سورة الأنعام: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) فذكر نعمة دنيوية، وقال في فاطر: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)، فذكر نعمة أخروية/ وحمد عليها.
وأما الفاتحة ففيها الحمد على ما في الدنيا، وعلى ما في الأخرة معاً فقوله: (رب العالمين) إشارة الى نعمة الإيجاد، وقوله: (مالك يوم الدين) اشارةً الى نعمة المعاد، والفاتحة أفضل السور الخمسة. كما نجد في التناسب بين السور المتشابهة المطالع كما وقع في القرآن من (الحمد لله رب العالمين) (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض)، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، (الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض)، (الحمد لله فاطر السماوات والأرض). بخلاف التسمية، فأنَّ الأنسب أن يكون بأفضل الأسماء والصفات، وهو الله، الرحمن، الرحيم.
وفي الآية: {ٰيٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ}، وجعل هذا المطلع مطلعاً لسُورتين النساء والحج، وعلَّل هنا الأمر بالتقوى بما يدُل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدُل على المعاد، وبدأ بالمبدأ لأنَّهُ الأوَّل.
وفي تعلُّق الأعراف بسُورة البقرة، أنَّ كُلَّاً منهما افتتح بذكر الكتاب، ولما كانت تلك مدنيَّة، والمؤمنون بها أكثرُ وُصِف فيها بأنَّهُ {هدى للمتقين}، ولما كانت هذه مكيَّة، والكفَّار بها أكثر، وصِف فيها بقولهِ: {لتُنذِر به} والإنذار يليق بالكافرين، ثم فيها انتقل إلى ذكر نعمة الإيجاد والمعاش، واستطرد إلى قصة خلق آدم، ثم خاطب الكفار، ولما كانت تلك مدنية، وكفارها يهود، قال {يا بني إسرائيل}، لأنهم أهل كتاب وهذه مكيَّة، وكفارها المشركون، وتُعتبر سورة الأعراف المُتمِّمة لسُورة الأنعام، فهي كمنزلة سورة آل عمران من البقرة، وقد ذكر في الأنعام الرد على المشركين في تحريم المأكل، وذكر في الأعراف الرد عليهم في تحريم الملبس.








$: التناسب على مستوى السياق العام للقرآن:
والتناسب على مستوى السياق العام للقرآن ناتج من تتابع السور وترجيع مقاصدها بمداخلة عناصر ومكونات من بيانها في سور بعيدة، كل ذلك للحث على التشابه الذهني على الجمع بين السياقات والمقاربة بين المتباعدات وانحصر ذلك في المناسبة بين ما تشابهت فيه المطالع.
وهذا المبحث يلفت الى اجراءات يتخذها المفسِّر في تحليله للآيات تلتقي مع مباحث التناسب في انها تتبع وجوه الترتيب في النظم القرآني على مستوى السياق العام.
فالآية تتداخل وتتمازج بعناصر سياقية وتركيبية تنتج عنها مستتبعات خاصة ودلالات فارقة تختلف وتأتلف ويظل التشابه ظاهرياً لا يصل إلى حد التماثل؛ وإنما وسيلة لاستدراج الذهن لينفذ الى باطن اللغة وإجراء السياق من أجل ترجيح المراد.
وفي سياقٍ أخر نجد كلمة (الدين) في سورة الفاتحة تعني الجزاء، وإذا ما أعطيت مَن أحسن إليك بحسابٍ مستوفي على قدر ما صنع، فهو الدين ولذلك ورد هذا اللفظ في القرآن؛ لأنه تعالى هو المجازي لا غيره، ويجازي بحساب، كما قال: (فوفَّاهُ حسابه)، ثم بعد ذلك يكون العطاء الجزيل والإحسان الكثير.
ونجد أن الله تعالى ذكر في سورة الفاتحة من الأسماء الحسنى خمسة: الله، الرب، والرحمن والرحيم والملك، والسر فيه أن يقول خلقتك أولاً، فأنا إله، ثم ربَّيتك بإسباغٍ النعم فأنا رب، ثم عصيت فسترت، فأنا رحمن، ثم تُبتَ، فغفرت لك، فأنا رحيم، ثم لابد من اتصال الجزاء، فأنا مالك يوم الدين.
وفي سياقٍ آخر نجد أنه قد يفرق بين: هدى المتهدِّي بنفسه، وهدى المتعدِّي بالحرف، بأنَّ معنى الأول: الإذهاب إلى القصد والإيصال، ولهذا يسند إلى الله تعالى، ومعنى الثاني: الدلالة وإراية الطريق فيسند إلى النبي ، مثل: (وإنك تهدي إلى صراطٍ مستقيم)، وإلى القرآن/ مثل: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
وفي سياقٍ آخر نجد أنَّ سورة النساء تضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان مخلوقة لله ومقدرة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله تعالى: (ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها)، ثم قال: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) فتضمَّنت الأحكام من نكاح النساء ومحرَّماته والمواريث المتعلقة بالأرحام.
ويقول السيوطي في كتابه: أنَّ الأنسب أن يقال إنَّ لكل فاتحة فس سورة سبباً ولطيفة غير ما في الأخرى، فيقال: (الم) في سورة البقرة قسم بالكتاب، لقوله بعده (ذلك الكتاب)، وفي آل عمران قسم بالله لقوله تعالى: (الله لا إله الا هو)، وفي الأعراف قسم بالنبي لقولهِ بعده (كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدركَ حرجٌ منه) ، خطاباً لهُ عليه السلام، ولا يخفى على اللبيب حسن الجمع متتابعاً في هذه السور الثلاث بين القسم بالمنزل والمنزل إليه. كما أنَّهُ تعالى قسم في الرعد بأعظم مخلوقاته وآثاره لقوله بعد (الله الذي رفع السماوات) ، وهو نوع البشر لقوله بعد (أحسب الناس)، وفي الروم بأكرم من النوع الأكرم، وهي الأنبياء عليهم السلام، وفي لقمان بالوساطة من النوع الأكرم، وهم طائفة الأولياء، وفي تنزيل بالصنع البديع، والإمكان العجيب في خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقال: ولك أن تراعي هذه المناسبة في السور المتكرر فيها الحمد، ففي الفاتحة باعتبار الربوبية للعالمين، وفي الأنعام باعتبار خلقه السماوات والأرض، وجد أن آية الليل والنهار المشار إليها بقولهِ: (جعل الظلمات والنور) أو الكفر والإسلام، وفي الكهف باعتبار إنزال الكتاب، وفي سبأ باعتبار ملكه لسائر ما تضمنتهُ السماوات والأرضين، وفي فاطر باعتبار تخصيصهِ صنف الملك بخواص تشعر باجتبائه لهذا النوع من المخلوقات، وتصريفهم في أهل الأرض.
وفي سورة البقرة نجد أنَّ الله تعالى قال: (أنزل فيه رمضان هدى للناس)، لأنَّ المقصود بيان شرف الشهر، وكونه زمان نزول أشرف الأشياء وهو القرآن، فاعتبر نفعه العام الذي بالصلاحية، ولذلك قال بعدهُ: (بيِّنات من الهدى والفرقان). وفي الآية: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم) ، ساق هذه الآية بخلاف ما سيق له أوَّل القصة وهو قوله: (ومن الناس من يقول آمنا) ، لأنَّ أول القصة في بيان مذهبهم والترجنة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا عليه مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم الى رؤسائهم في الكفر صدقوهم ما في قلوبهم، وليست هذه الآية بتكرير لتلك.
وفي الآية: (صمٌ بكمٌ عميٌ) حذف للمبتدأ، أي هم، أو المنافقون صيانةً للسان عن ذكرهم، وأداة التشبيه وهو أبلغ من ذكرها، وهل يسمى مثل هذا تشبيهاً بليغاً، أو استعارة مذهبان مشهوران، قال ابن جرير: (وهذه الجملة من المؤخر الذي معناهُ التقديم، فإنَّ مقامها عقب قوله: (وما كانوا مهتدين) ).
وقال الأصبهاني: "لقد كَثُر في كتاب الله النداء ب (يآيها) لأنَّ فيه أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة منها ما في (يا) من التأكيد والتنبيه، وما في (ها) من التنبيه، وما في التدرج من الإبهام في (أي) إلى التوضيح، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، لأنَّ كل ما نادى له عباده من أوامرهِ ونواهيهِ ووعدهِ ووعيدهِ ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، فاقتضى الأمر أن يُنادوا بالآكد الأبلغ"، وفي البرهان: (لا نظير في القرآن لهذا الخطاب لأانَّ المراد بالعبادة في لآية التوحيد، وهو أول ما يلزمهم أولاً، ثم ذكر سائر المعارف وبنى عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات)، قال: (ولا يرد على ذلك أنَّ سورة البقرة ليست أول القرآن نزولاً لأنها وإن لم تكُن أوَّلهُ نزولاً، فهي أوَّلهُ بعد الفاتحة، في اللوح المحفوظ على الترتيب الموجود في المصحف) .
وفي سياقٍ آخر في سورة البقرة في آية: (قلنا اهبطوا منها جميعاً) قيل: أمر بالهبوط من الجنة ومن السماء (فإما يأتينكم مني هدى) ، وجوابهُ: (فمن تبع) في سورة طه، قال ابن جماعة: يحتمل أن فعل، وسياق قصة آدم هنا لفعلهِ فجيء ب (من تبع)، وفي طه جاء بعد قولهِ (ولم نجد له عزما) (وعصى آدم ربه فغوى) فناسب (من اتبع) أي جدَّد قصد الاتباع ولذلك قال بعد (تبع): (فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)، وبعد (اتبع): (فلا يضل ولا يشقى) .
وفي سورة البقرة نجد: (ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوة) فجُمعت الحجارة ولم يقُل الحجر لمناسبة مقابلة الجمع في (قلوبكم) بالجمع، ولأنَّ قلوبهم متفاوتة في القسوة كما أنَّ الحجارة متفاوتة في الصلابة.
وفي سياقٍ آخر نجد في الآية (ومن أظلم ممَّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمهُ وسعى في خرابها) وفي الآية (ولله المشرق والمغرب فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله) تناسب في تتابع الآيات مع بعضها، لأنَّها في ضمن تعداد أهل الكتاب، وقد مرَّ قبلها تقرير أمر النسخ، وفي وصلها بالآية التي قبلها ما لا يخفى من المناسبة، لأنَّ المساجد والقبلة متلابسان، وللتنبيه على أنَّ مَن منع من التولية إلى جهة القبلة، وإن لم يمنع من الصلاة في المسجد.
وفي الآية (ومن أحسن) استفهام بمعنى النفي، إذ لا حُسن إلا في صبغةٍ غير الله، (ونحن لهُ مخلصون) أي وأنتم غير مخلصين، فحذف اكتفاءً، أو الجملة من باب التعريض بالذم، (أم تقولون) بالتاء والياء، وفيه لف مُجمل على ما سبق، (أأنتُم أعلمُ أمِ الله) هو تهكُّم واستهزاء، إذ لا مشاركة بين الله وبينهم في العلم، وقد جاءت جُمَل هذه الآيات من ابتداء ذكر ابراهيم إلى انتهاء الكلام فيه، على اختلاف معانيه، وتعدُّد مبانيه، كأنَّها جملةً واحدة، في حُسنِ مساقها ونظم اتِّساقها.
وفي الآية (ولعلكم تهتدون) يقول الطوفي: الختم به مناسب لما هو في سياقهِ من الأمر باستقبال الكعبة ودفع حجة الناس عنهم، كقلهِ: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا)، (ولكن ليطهركم وليتم نعمتهُ عليكم) متعلق بأتمَّ أي كما أتممتها بإرسال الرسول.
وقد قُدِّمت الآية (ما ننسخ من آيةٍ) وما بعدها من الآيات الكثيرة على نسخ القبلة تلويحاً بالجهاد، وذكر نقص الأنفس مضموماً إليه غيره من نقص الأموال والثمرات والابتلاء بالخوف والجوع، وقُدِّم عليه ذكر فضيلة من يُقتل في سبيل الله، والأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ومدح الصابرين، وختم ببشارة الصابرين أيضاً، وما وعدوا عليه من الصلوات والرحمة وما وصفوا به من الهداية (بشيءٍ) نكرة للتقليل تسهيلاً عليهم.
وفي السياق العام أيضاً نجد مناسبة الآية 187 من سورة البقرة التي ذكرت من قبل، والآية 188 {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} أنَّ مَن تعبَّدهُ الله بالصوم، فحبسَ عمَّا تعوَّدهُ من الأكل والشرب والجماع، ثم بالاعتكاف، فحبس نفسهُ عن اللذة ى مقيَّداً في مكان لا يبرح منه، جدير ألا يأكل، ولا يكو مطعمهُ ومشربهُ إلا من الحلال الخالص، الذي ينوِّر القلب ويفضي به الى الاجتهاد في العبادة، وإلا لم يكُن صومهُ تاماً، وتقدَّم أيضاً آية الدعاء، وشروط الإجابة: إحلال المطعم والمشرب والملبس، فناسَب النهي عن أكل الحرام عقب ذلك. كما نجد الآية (ادخلوا هذه القرية فكلوا) وفي الأعراف: (اسكنوا هذه القرية وكلوا)، قال صاحب المناجاة: حذفت من الأعراف لأن فيها (اسكنوا) والسكون مشعر الراحة، ولأن سورة الأعراف أقصر من البقرة فكانت محلاً للإيجاز. كما نجد في سورة البقرة الآية (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً بما كانوا يفسقون) وفي الأعراف: (فأرسلنا عليهم) فخصصت الآية بلفظ الفسق (بما كانوا يفسقون) كراهة التكرار لتقدُّم ذكر الظلم فيها مرتين، كما خصَّت لذلك لذكر (يفسقون) عقب القصة فيها مرتين، والآية مسوقة للتوبيخ كما تقدَّم، والظلم أشدَّ من الفسق فناسب ختمها بهِ.
وفي جمع الآيات في السياق العام نجد الآية (تلك عشرةٌ كاملةٌ) أي لم تنقص أجزاؤها، وقال: (وأتموا الحجَّ والعمرة لله) روى إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهو وصف فيه زيادة على الأجزاء، فإنَّ ماهيتي الحج والعمرة توجدان بدونهِ، وقد جمع بينهما في قولهِ: (اليوم أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي) .
وفي الآية: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} بيَّن أنَّ ما سبق إليهِ اللسان من اليمين من غير قصد غير مؤاخذ به، مفسِّرة لقولهِ في سورة المائدة: {بما عقَّدتُم الأيمان}، كما أنَّ آية المائدة مفسِّرة لمؤاخذة المذكورة هنا.
وفي السياق العام نجد الآية: {وإذا طلَّقتُم النساء} أوَّلها خطاب للأزواج بالإجماع، وقولهُ: {فلا تعضُلوهنَّ} في نفس الآية خطاب للأولياء عند الأكثرين، ويؤيِّدُهُ سبب النزول للآيات، ف {أزواجهنَّ} مجاز باعتبار الكَوْن، وللأزواج، عند آخرين، و{بلغن أجلهُنَّ} هنا على حقيقته، وفي الآية قبلها أُريدَ به مشارفة البلوغ ومقاربتهِ، وقد دلَّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
وفي الآية: {وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ} تهديد مناسب لقولهِ: (ولا تعزموا). وفي نفس الآية {وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} مناسب لقولهِ في أوَّل الآية: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ}، وقيل: لمَّا حذَّر بالجملة قبلها، عقَّب بهذه الآية، لتنزيل بعض روع التحذير والتهديد، على عادتهِ تعالى من الجمع بين الترهيب والترغيب والتخويف والرجاء.
وفي تعلُّق الآية: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ} بما قبلها: {مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا} من حيث أنَّهُ تعالى لما أمر بالقتال والإنفاق فيه، ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنَّهم لما أمروا بالقتال، فنُكِبوا وخالفوا، ذمَّهم الله عليهِ، ونسبهم الى الظلم، والمقصود منه ألا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على تركهِ كما فعل أولئك.
وأيضاً في الآية: {تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ} المتعلقة بما قبلها: {تِلكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ}، قال بعضهم: وجهُ تعلُّق هذه الآية بما قبلها، أنَّهُ تعالى أنبأ محمداً من أخبار الأنبياء السالفة مع قومهم، كسؤال قوم موسى: {أرنا اللهُ جهرةً}، وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منهُ إحياء الموتى، وإبراءُ الأكمه والأبرص، فكذَّبوهُ وأرادوا قتلهُ.
وأيضاً في الآية: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا} والآية التي قبلها: {لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ} وقال أبو حيَّان: أنَّ الجامع بين الآية وما قبلها؛ أنَّهُ تعالى أخبر أنَّهُ لا ينال المرء البِرَّ إلا بالإنفاق ممَّا يُحِب، ونبي الله إسرائيل حرَّم الإبل، وكانت أحبُّ الطعام إليهِ تقرُّباً إلى الله، فاجتمعت الآيتان في أنَّ كلاً منهما فيهِ ترك ما يحبُّهُ الإنسان. وفي السياق العام أيضاً نجد أنَّهُ لمَّا وقع في سورة النساء: {إنا أنزلنا إليكَ الكتابَ لتَحكُم بين الناس}، وكانت نازلة في قصة سارقٍ سرق درعاً، فصَّل في المائدة أحام السارقين في الآية 38، والخائنين في الآية 13، ولما ذكر أنَّهُ أنزل الكتاب ليحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحُكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرَّر ذكر من لم يحكم بما أنزل الله، فقد ترتَّبت السورة الأربع المدنيَّات البقرة آل عمران، والنساء وتلاحمت وتناسقت وتلازمت، وقد افتُتِحت بالبقرة، التي هي أوَّل ما نزل بالمدينة وخُتِمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها كما في حديث الترمذي .
كما نجد في سُورة النساء بدأ بالقسط، وأخَّرها في المائدة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ }، ولما جاءت آية النساء في معرض الاعتراف على نفسهِ، وعلى الوالدين والأقربين، بُدئ فيها بالقسط، وفي المائدة جاءت في معرض ترك العداوات، فبُدئ فيها بالقيام لله، ثم أردف بالشهادة بالعدل، والتي هي في معرض المحبَّة والمحاباة، فهناك تقدَّم حديث النشوز والإعراض والعدل بين النساء، فناسب تقديم ذكر القسط، وفي المائدة تأخُّر ذكر العداوة، فناسب أن يُجاورها ذكر القسط.
وفي سياقٍ آخر نجد الآية: {وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} قد اقترنت بهاتين الصفتين، وفي السياق ما يستدعي الحكمة والحكم، وقد استخدم اللفظ في معنيين، وإن استدعى أحدهما، جُعِلَ مُشتقَّاً منهُ، فإنَّ المعاني مُستفادة من الكلام وسياقه. كما نجد في الآية: {وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ} قد قدَّم اللعب على اللهو في موضعين هذه الآية والآية 70، وفي الأنفال الآية 36، وفي الحديد الآية 20، وقدَّم اللهو على اللعب في الأعراف الآية 54، وفي العنكبوت الآية 64، وذلك لأنَّ اللعب زمانهُ الصبا، واللهو زمانهُ الشباب، ولهذا قُدِّم في قولهِ: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}، و {لو أردنا أن نتخذ لهواً}، وقدَّم اللَّهو في الأعراف لأنَّ ذلك من القيامة، فذّكر على ترتيب ما انقضى، وأمَّا في العنكبوت فالمراد ذكر زمان الدنيا، وأنَّهُ سريع الانقضاء. وأيضاً في السياق العام نجد لما جاء في الأعراف بعد {وما كنتم تستكبرون}، وهو ذم لهم بالإعراض عن اتباع الحق، ولذلك قال بعده: {كما نسوا لقاء يومهم هذا} ناسب تقديم اللهو، وكذا آية العنكبوت جاءت بعد قولهُ: {ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض} الآيتين الدالة على إعراضهم عن الحق واتباعهِ، مع علمهم به، وبقيَّة المواضع جاءت في سياق ذمَّ الدُنيا ولهوها وزينتها.
وفي الأنعام قدَّم في هذه الآية: {قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} وفي الأنبياء: {قل أتعبدون من دون اللهِ مَا لَا يَنفَعُكم شيئاً وَلَا يَضُرُّكم} قدَّم النفع على الضرر، وفي سائر المواضع قدَّم الضر على النفع، لأنَّ دفعهُ أهمَّ من جلب النفع، ولما ذكر في الأنعام، وفي الأنبياء والدعاء والعبادة، والمقصود منهما غالباً طلب النفع وجلبهِ، كان تقديمهُ أهم، ولذلك قال في الحج: {يدعو لمَن ضُرَّهُ أقرب من نفعهِ} أي المقصود بالدعاء.
نجد مناسبة وضع سُورة الأعراف عقب الأنعام أنَّ الأنعام لما كان لبيان الخلق، وقال فيها: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ} وقال في بيان القرون: {كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ} وأُشِيرَ فيها إلى ذكر المُرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة على وجهِ الإجمال، لا للتفصيل، ذُكِرت هذه السُورة بعدها، لأنَّها مُشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها، فبسَّط فيها قصَّة خلق آدم أبلغ تبسيط، ثم قصص المُرسَلين وأُممهم، كما بسَّط حال القرون المهلَكة ورُسُلِهم. كما نجد أنَّ سورة الأعراف ناظرت سورة البقرة لما قال: {ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ} وفي السياق العام ذكر بعد خلْقِهم خلْقَ الأرض والسماء وذلك في الآية التي بعدها، ثم بعد ذلك ذكر قصة خلق آدم في الآية 30، فكان بين خلق السماء والأرض، وخلق البشر ارتباط في الدلالة على القدرة والبعث، ولذلك قال: {أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَلَمۡ يَعۡيَ بِخَلۡقِهِنَّ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰۚ }، كذلك في الأعراف لما ذكر خلق البشر، أعقبهُ بخلق السماوات والأرض، وأيضاً فإنَّ السُورة مُفصِّلة لما أجمل في سورة الأنعام. كما نجد في سياق الآيات في الآية: {فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ}، لما كان سياق الآيات السابقة للآية في إنبات الأرض بالماء المُنزل إليها؛ تمَّم هذا المعنى بكيفيَّة ما يخرُج من النبات من الأرض الطيبة، ولما كانت الأعراف قد شرحت لما أُجمِل من سُورة الأنعام، ومن ذلك ما أُجمل فيها من ذكر المُرسلين، ومن قولهِ: {وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ}، فافتتح هذه السُورة بقولهِ: {فَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ}، ثمَّ شرح قصة آدم، ثم عقَّب بأوَّل الرُسُل، ونسق الباقيين عليهِ.
فتناسُب الآية داخل دائرة السُورة لا يحول دون ملاحظة مناسبتها بآيات خارج أسوارها وترتيبها عليها للكشف عن أسرار تنظيم عناصرها من خلال نظائر المعنى الواحد في سياقات مُتتابعة.
 
أرجو الله أن يكون في ميزان حسنات الباحثة التي أذنت لي بإخراج ماجمعته الأخت الفاضلة عن درر العالم الجليل السيوطي في التناسب البلاغي القرآني ..أجدد شكري لها..
 
عودة
أعلى