محمد محمود إبراهيم عطية
Member
قال ابن القيم - رحمه الله : ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله ، حيث تستولي على الفكر ، وتشغل القلب ، فإذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه ، وجلس على كرسيه ، وصار له التصرف ، وصار هو الأمير المطاع أمره ، فحينئذ يستقيم له سيره ، ويتضح له الطريق ، وتراه ساكنًا وهو يباري الريح ، ] وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [ [ النمل : 88 ] .
فإن قلت : إنك قد أشرت إلى مقام عظيم ، فافتح لي بابه ، واكشف لي حجابه ، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه ؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا ، فهل في البيان غير ما ذكروه ؟
قلت : سأضرب لك أمثالًا تحتذي عليها ، وتجعلها إمامًا لك في هذا المقصد ، قال الله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ . فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ . قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [ [ الذارايات : 24 - 30 ] .
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات ، وتطلعت إلى معناها ، وتدبرتها ، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ، يأكلون ويشربون ، وبشروه بغلام عليم ، وإنما امرأته عجبت من ذلك ، فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك ؛ ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك .
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار ، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم ، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها ، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة ، وكيف تضمنت عَلَمًا عظيمًا من أعلام النبوة ، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي رَدُّها إلى العلم والحكمة ، وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الربِّ وانتقامه من الأمم المكذبة ، وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما ، وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر ؛ وتضمنت أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة ، وهم المؤمنون بها ؛ وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها ، فلا ينتفع بتلك الآيات .
فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة ؛ قال الله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام ، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام ، ولهذا قال بعض الناس : إن ( هل ) في مثل هذا الموضع بمعنى ( قد ) التي تقتضي التحقيق ؛ ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سرٌّ لطيف ، ومعنًى بديع ؛ فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به ، وإحضار الذهن له ، صدَّر له الكلام بأداة الاستفهام ، لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به ، فتارة يصدره بـ ( ألا ) ، وتارة يصدره بـ ( هل ) ، فقول : هل علمت ما كان من كيت وكيت ؟ إما مذكرًا به ، وإما واعظًا له مخوِّفًا ، وإما منبهًا على عظمة ما يخبر به ، وإما مقررًا له ، فقوله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [ [ طه : 9 ] ، و ] وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ [ ص : 21 ] ، و ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [ [ الغاشية : 1 ] ، و ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ متضمن لتعظيم هذه القصص ، والتنبيه على تدبرها ، ومعرفة ما تضمنته .
وفيه أمر آخر ، وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة ، فإنه من الغيب الذي لا تعمله أنت ولا قومك ؛ فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا ؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا ؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام ، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا ؛ وقوله : ] ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ متضمن لثنائه على خليله إبراهيم ، فإن في المكرمين قولين ؛ أحدهما : إكرام إبراهيم لهم ، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف ؛ والثاني : أنهم مكرمون عند الله ، كقوله تعالى : ] بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [ وهو متضمن - أيضًا - لتعظيم خليله ومدحه ، إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافًا له ، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم .
وقوله : ] فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ [ متضمن بمدح آخر لإبراهيم ، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به ، فإن تحيتهم باسم منصوب ، متضمن لجملة فعلية ، تقديره : سلَّمنا عليك سلامًا ؛ وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع ، متضمن لجملة اسمية ، تقديره : سلام دائم ، أو ثابت ، أو مستقر عليكم ؛ ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم ، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث ، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن .
ثم قال : ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح ؛ أحدهما : أنه حذف المبتدأ ، والتقدير : أنتم قوم منكرون ، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب ، لما فيه من الاستيحاش . وكان النبي e لا يواجه أحدًا بما يكرهه ، بل يقول : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا ، وَيَفْعَلُونَ كَذَا ".
الثاني : قوله ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ فحذف فاعل الإنكار ، وهو الذي كان أنكرهم ، كما قال في موضع آخر : ] نَكِرَهُمْ [ [ هود : 70 ] ، ولا ريب أن قوله : ] مُنْكَرُونَ [ ألطف من أن يقول : أنكرتكم .
وقوله : ] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ متضمن وجوهًا من المدح ، وآداب الضيافة ، وإكرام الضيف ؛ منها قوله : ] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [ والروغان : الذهاب بسرعة واختفاء ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء ، وهذا بخلاف من يتثاقل ، ويتبارد على ضيفه ، ثم يبرز بمرأى منه ، ويحل صرة النفقة ، ويزن ما يأخذ ، ويتناول الإناء بمرأى منه ، ونحو ذلك ، مما يتضمن تخجيل الضيف ، وحياءَه ؛ فلفظة ( راغ ) تنفي هذين الأمرين .
وفي قوله تعالى : ] إِلَى أَهْلِهِ [ مدح آخر ، لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله ، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ، ولا يذهب إلى غير أهله إذ قِرَى الضيف حاصل عندهم .
وقوله : ] فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [ يتضمن ثلاثة أنواع من المدح : أحدها : خدمة ضيفه بنفسه ، فإنه لم يرسل به ، وإنما جاء به بنفسه .
الثاني : أنه جاءهم بحيوان تام ، لم يأتهم ببعضه ؛ ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .
الثالث : أنه سمين ، ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين ، فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره .
وقوله : ] إِلَيْهِمْ [ متضمن المدح وآدابًا أخرى ، وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ، ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .
وقوله : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف ، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .
وقوله : ] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [ لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفًا أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه ، وأنس به ، فلما علموا منه ذلك ، قالوا : ] لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [ ، وهذا الغلام اسحق ، لا إسماعيل ، لأن امرأته عجبت من ذلك ، فقالت : ] عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ ، لا يولد لمثلي ، فأنى لي بالولد ؟ وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر ، وكان بكره وأول ولده ؛ وقد بين سبحانه هذا في سورة هود ، في قوله تعالى : ] فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [ وهذه هي القصة نفسها .
وقوله تعالى : ] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ ، فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة ، فصكت الوجه عند هذا الإخبار ؛ وقوله : ] عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال ، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ، ولم تقل : أنا عجوز عقيم ، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة ، لم تذكر غيره ، وأما في سورة هود ، فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم ، وصرحت بالعجب .
وقوله تعالى : ] قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [ متضمن لإثبات صفة القول له ؛ وقوله : ] إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [ متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم ، اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة ، و لوازم كمالها من القيومية ، والقدرة ، والبقاء ، والسمع ، والبصر ؛ وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام .
والحكمة تتضمن كمال الإرادة ، والعدل ، والرحمة ، والإحسان ، والجود ، والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .
كل هذا العلم من اسمه الحكيم ، كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة ، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثًا وسُدًى وباطلاً ، فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقَدَر والثواب والعقاب ، ولهذا كان أصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل ، وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته .
ومن تأمل طريقة القرآن وجدها دالة على ذلك ؛ وأنه سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ، ووقوعه أخرى ، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المعاد ، وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه .
ومن تأمل أدلة المعاد في القرآن ، وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها ، كافية شافية ، موصلة إلى المطلوب بسرعة ، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس ؛ وإن ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفرًا كبيرًا ، لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشفاء والهدى ، وسرعة الإنصاف ، وحسن البيان ، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها ، بما ينثلج له الصدر ، ويكثر معه اليقين ، بخلاف غيره من الأدلة فإنها على العكس من ذلك ، وليس هذا موضع التفصيل .
والمقصود : أن صدور الخلق والأمر عن علم الرب وحكمته ؛ واختصت هذه القصة بذكر هذين الاسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد ، وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة ، فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق ، وغايته ، وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم ؛ وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله ، وإهلاك المكذبين لهم ، والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عيانًا في هذا العالم ، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله ، لصحة ما أخبروا به عن ربهم .
ثم قال تعالى : ] فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ ففرق بين الإسلام والإيمان هنا ، لسرٍّ اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة ، فهو إخراج نجاة من العذاب ، و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرًا وباطنًا .
وقوله تعالى : ] فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم ؛ لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت ، وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين ، وقد أخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط ، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه ، وقلبها معهم ، وليست خيانة فاحشة ، فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهرًا ، وليست من المؤمنين الناجيين .
ومن وضع دلالة القرآن وألفاظه مواضعها تبين له من أسراره وحِكَمه ما يبهر العقول ، ويُعْلِم أنه تنزيل من حكيم حميد .
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور ، وهو : أن الإسلام أعم من الإيمان فكيف استثناء الأعم من الأخص ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس ، وتبين أن المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود ، والمؤمنين غير مستثنين منه ، بل هم المخرجون الناجون .
وقوله تعالى : ] وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ فيه دليل على أن آيات الله سبحانه ، وعجائبه التي فعلها في هذا العالم ، وأبقى آثارها ، دالة عليه ، وعلى صدق رسله ، إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ، ويخشى عذاب الله تعالى ؛ كما قال الله تعالى في موضع آخر : ] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [ [ هود : 103 ] ، وقال تعالى : ] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [ [ الأعلى : 10 ] ، فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول : هؤلاء قوم أصابهم الدهر ، كما أصاب غيرهم ، ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة ؛ وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .
والمقصود بهذا إنما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن ، واستنباط أسراره وآثار كنوزه ، ويعتبر بهذا غيره ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء[SUP] ( [1] ) [/SUP].ا.هـ .
[1] - انظر ( زاد المهاجر إلى ربه ) المعروف بـ ( الرسالة التبوكية ) ، ص 62 – 72 .
فإن قلت : إنك قد أشرت إلى مقام عظيم ، فافتح لي بابه ، واكشف لي حجابه ، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه ؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا ، فهل في البيان غير ما ذكروه ؟
قلت : سأضرب لك أمثالًا تحتذي عليها ، وتجعلها إمامًا لك في هذا المقصد ، قال الله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ . فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ . قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [ [ الذارايات : 24 - 30 ] .
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات ، وتطلعت إلى معناها ، وتدبرتها ، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ، يأكلون ويشربون ، وبشروه بغلام عليم ، وإنما امرأته عجبت من ذلك ، فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك ؛ ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك .
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار ، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم ، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها ، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة ، وكيف تضمنت عَلَمًا عظيمًا من أعلام النبوة ، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي رَدُّها إلى العلم والحكمة ، وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الربِّ وانتقامه من الأمم المكذبة ، وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما ، وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر ؛ وتضمنت أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة ، وهم المؤمنون بها ؛ وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها ، فلا ينتفع بتلك الآيات .
فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة ؛ قال الله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام ، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام ، ولهذا قال بعض الناس : إن ( هل ) في مثل هذا الموضع بمعنى ( قد ) التي تقتضي التحقيق ؛ ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سرٌّ لطيف ، ومعنًى بديع ؛ فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به ، وإحضار الذهن له ، صدَّر له الكلام بأداة الاستفهام ، لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به ، فتارة يصدره بـ ( ألا ) ، وتارة يصدره بـ ( هل ) ، فقول : هل علمت ما كان من كيت وكيت ؟ إما مذكرًا به ، وإما واعظًا له مخوِّفًا ، وإما منبهًا على عظمة ما يخبر به ، وإما مقررًا له ، فقوله تعالى : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [ [ طه : 9 ] ، و ] وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ [ ص : 21 ] ، و ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [ [ الغاشية : 1 ] ، و ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ متضمن لتعظيم هذه القصص ، والتنبيه على تدبرها ، ومعرفة ما تضمنته .
وفيه أمر آخر ، وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة ، فإنه من الغيب الذي لا تعمله أنت ولا قومك ؛ فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا ؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا ؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام ، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا ؛ وقوله : ] ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ متضمن لثنائه على خليله إبراهيم ، فإن في المكرمين قولين ؛ أحدهما : إكرام إبراهيم لهم ، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف ؛ والثاني : أنهم مكرمون عند الله ، كقوله تعالى : ] بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [ وهو متضمن - أيضًا - لتعظيم خليله ومدحه ، إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافًا له ، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم .
وقوله : ] فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ [ متضمن بمدح آخر لإبراهيم ، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به ، فإن تحيتهم باسم منصوب ، متضمن لجملة فعلية ، تقديره : سلَّمنا عليك سلامًا ؛ وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع ، متضمن لجملة اسمية ، تقديره : سلام دائم ، أو ثابت ، أو مستقر عليكم ؛ ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم ، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث ، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن .
ثم قال : ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح ؛ أحدهما : أنه حذف المبتدأ ، والتقدير : أنتم قوم منكرون ، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب ، لما فيه من الاستيحاش . وكان النبي e لا يواجه أحدًا بما يكرهه ، بل يقول : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا ، وَيَفْعَلُونَ كَذَا ".
الثاني : قوله ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ فحذف فاعل الإنكار ، وهو الذي كان أنكرهم ، كما قال في موضع آخر : ] نَكِرَهُمْ [ [ هود : 70 ] ، ولا ريب أن قوله : ] مُنْكَرُونَ [ ألطف من أن يقول : أنكرتكم .
وقوله : ] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ متضمن وجوهًا من المدح ، وآداب الضيافة ، وإكرام الضيف ؛ منها قوله : ] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [ والروغان : الذهاب بسرعة واختفاء ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء ، وهذا بخلاف من يتثاقل ، ويتبارد على ضيفه ، ثم يبرز بمرأى منه ، ويحل صرة النفقة ، ويزن ما يأخذ ، ويتناول الإناء بمرأى منه ، ونحو ذلك ، مما يتضمن تخجيل الضيف ، وحياءَه ؛ فلفظة ( راغ ) تنفي هذين الأمرين .
وفي قوله تعالى : ] إِلَى أَهْلِهِ [ مدح آخر ، لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله ، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ، ولا يذهب إلى غير أهله إذ قِرَى الضيف حاصل عندهم .
وقوله : ] فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [ يتضمن ثلاثة أنواع من المدح : أحدها : خدمة ضيفه بنفسه ، فإنه لم يرسل به ، وإنما جاء به بنفسه .
الثاني : أنه جاءهم بحيوان تام ، لم يأتهم ببعضه ؛ ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .
الثالث : أنه سمين ، ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين ، فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره .
وقوله : ] إِلَيْهِمْ [ متضمن المدح وآدابًا أخرى ، وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ، ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .
وقوله : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف ، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .
وقوله : ] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [ لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفًا أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه ، وأنس به ، فلما علموا منه ذلك ، قالوا : ] لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [ ، وهذا الغلام اسحق ، لا إسماعيل ، لأن امرأته عجبت من ذلك ، فقالت : ] عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ ، لا يولد لمثلي ، فأنى لي بالولد ؟ وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر ، وكان بكره وأول ولده ؛ وقد بين سبحانه هذا في سورة هود ، في قوله تعالى : ] فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [ وهذه هي القصة نفسها .
وقوله تعالى : ] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ ، فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة ، فصكت الوجه عند هذا الإخبار ؛ وقوله : ] عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال ، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ، ولم تقل : أنا عجوز عقيم ، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة ، لم تذكر غيره ، وأما في سورة هود ، فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم ، وصرحت بالعجب .
وقوله تعالى : ] قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [ متضمن لإثبات صفة القول له ؛ وقوله : ] إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [ متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم ، اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة ، و لوازم كمالها من القيومية ، والقدرة ، والبقاء ، والسمع ، والبصر ؛ وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام .
والحكمة تتضمن كمال الإرادة ، والعدل ، والرحمة ، والإحسان ، والجود ، والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .
كل هذا العلم من اسمه الحكيم ، كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة ، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثًا وسُدًى وباطلاً ، فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقَدَر والثواب والعقاب ، ولهذا كان أصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل ، وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته .
ومن تأمل طريقة القرآن وجدها دالة على ذلك ؛ وأنه سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ، ووقوعه أخرى ، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المعاد ، وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه .
ومن تأمل أدلة المعاد في القرآن ، وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها ، كافية شافية ، موصلة إلى المطلوب بسرعة ، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس ؛ وإن ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفرًا كبيرًا ، لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشفاء والهدى ، وسرعة الإنصاف ، وحسن البيان ، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها ، بما ينثلج له الصدر ، ويكثر معه اليقين ، بخلاف غيره من الأدلة فإنها على العكس من ذلك ، وليس هذا موضع التفصيل .
والمقصود : أن صدور الخلق والأمر عن علم الرب وحكمته ؛ واختصت هذه القصة بذكر هذين الاسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد ، وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة ، فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق ، وغايته ، وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم ؛ وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله ، وإهلاك المكذبين لهم ، والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عيانًا في هذا العالم ، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله ، لصحة ما أخبروا به عن ربهم .
ثم قال تعالى : ] فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ ففرق بين الإسلام والإيمان هنا ، لسرٍّ اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة ، فهو إخراج نجاة من العذاب ، و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرًا وباطنًا .
وقوله تعالى : ] فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم ؛ لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت ، وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين ، وقد أخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط ، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه ، وقلبها معهم ، وليست خيانة فاحشة ، فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهرًا ، وليست من المؤمنين الناجيين .
ومن وضع دلالة القرآن وألفاظه مواضعها تبين له من أسراره وحِكَمه ما يبهر العقول ، ويُعْلِم أنه تنزيل من حكيم حميد .
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور ، وهو : أن الإسلام أعم من الإيمان فكيف استثناء الأعم من الأخص ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس ، وتبين أن المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود ، والمؤمنين غير مستثنين منه ، بل هم المخرجون الناجون .
وقوله تعالى : ] وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ فيه دليل على أن آيات الله سبحانه ، وعجائبه التي فعلها في هذا العالم ، وأبقى آثارها ، دالة عليه ، وعلى صدق رسله ، إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ، ويخشى عذاب الله تعالى ؛ كما قال الله تعالى في موضع آخر : ] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [ [ هود : 103 ] ، وقال تعالى : ] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [ [ الأعلى : 10 ] ، فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول : هؤلاء قوم أصابهم الدهر ، كما أصاب غيرهم ، ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة ؛ وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .
والمقصود بهذا إنما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن ، واستنباط أسراره وآثار كنوزه ، ويعتبر بهذا غيره ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء[SUP] ( [1] ) [/SUP].ا.هـ .
[1] - انظر ( زاد المهاجر إلى ربه ) المعروف بـ ( الرسالة التبوكية ) ، ص 62 – 72 .