بحث بعنوان:
" مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القصص القرآني، قصة ذي القرنين نموذجاً "، المؤتمر العربي الدولي لضمان جودة التعليم، جامعة الزرقاء، ونشر ضمن أبحاث المؤتمر المحكَّمة دولياً، المجلد الأول.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد..
ما الجودة إلا ثقافةٌ تتبَعُها ترجمةٌ لها تظهر على السلوك، وتكرار السلوك يفيد أنها صارت ديدناً وممارسةً وتطبيقاً، وكل ذلك بالاستغلالٍ أمثلٍ لجميع الموارد البشرية والمالية المتاحة.
تتناول هذه الدراسة تسليط الضوء إلى تطبيقات عملية ناجحة في إدارة الجودة الشاملة كما عرضتها قصص القرآن الكريم، تلك النماذج ذكرها القرآن الكريم في معرض المدح لها وإقرار ما فيها، وهي تشكل نماذج فريدة في إدارة الجودة الشاملة، لذا وقبل أن نبحث عند الشرق والغرب عن نماذج في إدارة الجودة الشاملة، فلنبدأ بالبحث في أقرب كتبنا وأصدقها: (القرآن الكريم).
لذا جاءت هذه الدراسة لتتناول استنباط أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة الواردة في القصص القرآني بشكل عام، وقصة ذي القرنين بشكل خاص.
الدراسات السابقة: لا توجد دراسات سابقة تناولت بيان أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القصص القرآني عامة وفي قصة ذي القرنين خاصة، بحسب علم الباحث.
مشكلة الدراسة وهدفها: تسعى كثير من المؤسسات إلى تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة؛ لتتماشى مع الاتجاهات الحديثة في الإدارة، لكنْ إذ نعاني من ندرة النماذج التي تصلح للاقتداء بها في إدارة الجودة الشاملة: أخذ بعض منا يبحث عند الأمم الأخرى عن نماذج تطبيقية لها، مع أن القرآن الكريم بيَّنها وعرضها قبل خمسة عشر قرناً، فجاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء إلى نماذج تطبيقية لأبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة بشكل عام، ثم تخصيص الحديث حول قصة ذي القرنين بصفتها تجربة ناجحة في إدارة الجودة الشاملة تخطيطاً وتنفيذاً.
محددات الدراسة: ستتناول الدراسة تفصيلاً لأبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في قصة ذي القرنين، ولكنها لن تتوسع في بيان مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم، كما لن تتوسع في بيان الآراء المختلفة حول تعريف إدارة الجودة الشاملة وتعداد مبادئها.
أسئلة الدراسة: تسعى الدراسة للإجابة عن السؤالين التاليين:
1. ما هي أبرز معالم إدارة الجودة الشاملة المستنبطة من قصص القرآن الكريم بشكل عام؟
2. ما هي أبرز معالم إدارة الجودة الشاملة المستنبطة من قصة ذي القرنين بالتفصيل؟
فرضيات الدراسة: تسعى الدراسة لتأكيد الفرضيات الآتية:
1. يحتوي القرآن الكريم على نماذج لقصص واقعية نستطيع من خلالها استنباط مبادئ إدارة الجودة الشاملة.
2. تشكل قصة ذي القرنين نموذجاً واقعياً لشخصية إدارية مبدعة، لها إسهام واضح في ترسيخ مبادئ إدارة الجودة الشاملة، مما يعطي قدوة حسنة لمن أراد الاستنارة بنورها.
3. تتوافق مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الإسلام مع أفضل مبادئ إدارة الجودة الشاملة المطبقة حالياً، بل تتميز إدارة الجودة الشاملة في الإسلام عن إدارة الجودة الشاملة عند الآخرين بمميزات ينبغي لفت النظر إليها.
طرق ومنهجية الدراسة: ستعتمد الدراسة المنهج الاستقرائي لتتبع أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم، والمنهج الوصفي التاريخي في الحديث عن قصة ذي القرنين، والمنهج الاستنباطي لاستخلاص أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة المستنبطة منها.
وستقسم الدراسة إلى مبحثين: يتناول المبحث الأول منها الإطار النظري، والمبحث الثاني الإطار العملي، ويندرج تحت كل مبحث مطالب عدة كما يلي:
أولاً: تعريف إدارة الجودة الشاملة:
الهدف الرئيس الذي يبغيه المستفيد والعامل والإدارة: هو جودة المُنتَج، والمقصود بتجويد المُنتَج لغةً: جعلُهُ جيداً (الجوهري، 1990،1/107)، وأجاد الرجل: أتى بالجيد من القول والفعل (ابن منظور، 1997، 3/135)، والجيِّدُ من الأشياء: ضد الرديء (الزبيدي، 1994، 1/1941).
والجودة عند العرب مؤشر للرضا، فلا يصف العرب شيئاً ذي بال بالجودة إلا إذا كان مستوفياً لرغباتهم أو حتياجاتهم.. وخلاصة القول إن الجودة عند العرب رديف للحُسن، بل إنها نهاية الحسن إن اكتملت شرائطها (العجلوني، مؤتمر الجودة، 2006، ص4).
أما تعريف إدارة الجودة الشاملة فهي: " خلق ثقافة متميزة في الأداء، بحيث يعمل المديرون والموظفون بشكل مستمر ودؤوب؛ لتحقيق توقعات المستفيدين، وأداء العمل الصحيح بشكل صحيح منذ البداية، مع تحقيق الجودة بشكل أفضل، وفاعلية عالية، وفي أقصر وقت ممكن " (النمر، 1407هـ، ص88).
ومن الممكن وصف إدارة الجودة الشاملة بأنها ثورة إدارية جديدة وتطوير فكري شامل، وثقافة تنظيمية جديدة، تهدف إلى التطوير المستمر في العمليات، وتخفيض التكاليف، وتحسين الإنتاجية، وتطوير جودة المنتجات (السلمي، 1995، ص22).
ثانياً: مكانة إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم:
للجودة الشاملة وإدارتها في القرآن الكريم مكانة رفيعة، وكيف لا يُعنَى الوحي بالجودة والله تبارك وتعالى تتصف أفعاله بكمال الجودة والإتقان والإبداع؟
فالقرآن الكريم كلام الله " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ " [البقرة: 117]، وكلامٌ لفظُهُ ومعناهُ من عند الله ، لن تجد أجود منه في الشكل: " صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً " [البقرة:: 138]، ولا أجود منه في المضمون: " الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ " [الزمر: 23].
لذا لا ينبغي للعاقل ترك الحَسَن الجيد إلى الرديء: " أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة: 50]، ومن مظاهر إحسانه أنه يقصُّ " أَحْسَنَ القَصَصِ " [يوسف: 2]، ويجزي العاملين بمقتضى شرعه أحسن الجزاء: " لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [التوبة: 121]، ويطلب من الناس الإحسان في أعمالهم: " وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التِي هِيَ أَحْسَنُ " [الإسراء: 53]، وفي أفعالهم: " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " [الكهف: 7], بل حتى جدال المخالف ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن: " ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ " [النحل: 125].
كما حث القرآنُ الإنسانَ على التطوير المستمر وطلب أسباب الإتقان والاستزادة منها دوماً: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا " [طه114]، وجعل للعلماء الحريصين على الاستزادة من إتقان الفهم والإدارك والعلم منزلة لا يدانيهم أحدٌ بمثلها: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألبَابِ " [الزمر:9]. بل وجعله لا يصل إلى كمال الخيرية والإحسان إلا إن أضحى يمتلك شخصيةً إيجابية تسعى إلى تحسين وتجويد أقوال وأفعال غيره من الناس: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله " [آل عمران: 110].
ولعل أبرز مبدأ من مبادئ إدارة الجودة الشاملة التي سبَقَ القرآن الكريم إلى بيانها، هو ما يفيده قوله تبارك وتعالى: " لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ " [المدثر: 37].
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالعبد لا يزال في تقدُّمٍ أو تأخر، ولا وقوف في الطريق البتة.. فإن لم يكن في تقدُّمٍ، فهو في تأخرٍ ولا بُدَّ " (الصالحي، 2/226).
فهذه الآية الكريمة سبقت إلى إقرار أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة وهو مبدأ: وجوب استمرارية التحسين والتطوير، فلا ينبغي لأي مؤسسة تعليمية عُليا أن تتوقف عن استمرارية التطوير والتحسين بحجة أنها نالت الشهادات العالمية في التطوير؛ لأنها إذا توقفت عن التطوير فإنها بالضرورة تتأخر، فالكون لا يعرف الوقوف، لذا عليها أن تحرص على أن تتقدم وإلا فستتأخر.
إن نظام إدارة الجودة الشاملة لا يكمن في لفت النظر إلى وجوب تطبيق النظام فحسب، بل في الاهتمام باستمرارية تحسين وتطوير الجودة؛ فنحن نعيش في كونٍ دائم التغيير.
ثالثاً: الغرض من ورود القصص القرآني:
القصص القرآني يعرض أحداثاً تاريخيةً مضى بها الزمان، ويشكل أصح وثيقة تاريخية تتناول ما ورد في التاريخ من أشخاص وأحداث، وما تعلَّق بها من زمان أو مكان (الخطيب، 1975، ص17).
والقصة القرآنية ليست لمجرد السرد التاريخي لتضييع الوقت، بل للقصة القرآنية أغراض واقعية، من أبرزها ما ورد في دراسة (عطية، 2006، ص118):
1) العبرة:
الغرض الرئيس من القصص القرآني هو العبرة؛ للاستفادة في زمننا الحالي مما ورد فيها من دروس وحِكَم وعِبَر. هذا ما بيَّنه الله تبارك وتعالى في قوله: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [يوسف: 111].
2) تثبيت فؤاد النبي :
فمما تفيده القصة القرآنية تثبيت فؤاد النبي والتسرية عنه، كما قال تعالى: " كُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.. " [هود: 120].
3) ضرب أمثلة على الترهيب والترغيب:
فالعاقل حين يرى مصارع القوم السابقين الذين كذَّبوا أنبيائهم، وما حاق بهم من خسار، يخشى على نفسه. وهذا الأمر مفيد للإصلاح والحث على الإتقان؛ لأن من أمِن العقابَ أساءَ الأدبَ، وظلمَ، وغشَّ، وأتلف..
قال تعالى: " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " [الروم: 9].
المطلب الثاني: أمثلة على نماذج في إدارة الجودة الشاملة في قصص السابقين:
تمتاز قصص القرآن الكريم بالواقعية، وتقديم أمثلة حية يسهل الاقتداء بها، وقد ذكرت قصص القرآن الكريم نماذج عملية على السعي إلى إدارة الجودة الشاملة، وعاقبة مَن لم يلتزم بها، من أبرزها:
1- قبل أن يكلف الله سيدنا آدم بعمارة الأرض، علَّمه الأسماء كلها فسلط الضوء ـ له ولذريته ـ إلى أبرز نقاط القوة لديهم لعمارة الأرض وهو العقل (انظر: سورة البقرة: 31)، وأخبرهم بأبرز نقاط الضعف التي قد تعوقهم كالدنيا والشيطان (انظر: سورة فاطر: 5-6)، ووضع أمامهم هدفاً مرحلياً هو عمارة الأرض بشرع الله (انظر: سورة النور: 55)، ورئيساً استراتيجياً هو رضى الله والجنة (انظر: سورة التوبة: 100).
2- سيدنا نوح حرص على بناء سفينة متينة الصنع، على أعلى درجات الجودة، وليتأكد من ضمان الجودة كان إعلامه بعناية الله ، قال تعالى: " وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا " [هود: 37].
3- سيدنا إبراهيم تدرج في تعريف عبَدَة الكواكب بخالقهم (انظر: سورة الأنعام: 76-79)، ويستفاد منها التخطيط إشراك المستفيدين في الوصول إلى المنتَج المطلوب بتدرج منطقي.
4- حرص سيدنا لوط على جودة المجتمع، وأرشَدَ قومه إلى الزواج بالصالحات، فالزواج أحسن من الشذوذ " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ " [الشعراء:165-166]، لذا حثهم على الزواج من نساء أمته الصالحات ـ وهن كبناته ـ " وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ.. " [هود: 78].
5- سيدنا شعيب يدعو الناس إلى العناية بجودة المقاييس التجارية " فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 85].
6- سيدنا موسى يعاتب بني إسرائيل حين طلبوا تغيير الطعام الجيد، واستبداله بطعام أقل جودة " قَال أَتَسْتَبْدِلُونَ الذِي هُوَ أَدْنَى بِالذِي هُوَ خَيْرٌ " [البقرة: 61].
7- ولحرصه على أجود أساليب الدعوة طلب من الله مساعدته بإرسال هارون معه مسانداً: " وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ " [القصص: 34]. وهذا الطب منه دليل على ميزة من مزاياه، لمراعاته تتبع أعلى مقاييس الجودة؛ وهي حرصه الشديد على أن يهيئ لرسالته أقصى ما يستطيع من وسائل النجاح (حنفي، 1995، ص19).
8- كيف لا يحرص على الجودة والإتقان مَن وصفته المرأة الصالحة بأنه يتحلى بصفتَي: " القَوِيُّ الأمِينُ " [القصص:26]؟ وعلى هاتين الصفتين مدار الجودة والإتقان.
9- ظهر الحرص على وضوح الرؤية في جودة التعليم عند مخاطبة العبد الصالح لسيدنا موسى باشتراطه ـ قبل السماح له بمشاركته الرحلة ـ شرطاً يتفق عليه الاثنان، ويكونان في حل إذا لم يلتزم الطرف الثاني به ـ وهو سيدنا موسى ـ: " قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا " [الكهف: 70]، فوضوح الرؤية والرسالة والقيم لدى الشركاء مهمة جداً قبل البدء بتأسيس أي شركة.
10- كان النظام والتنظيم سمة واضحة في جنود سيدنا سليمان رغم كثرتهم وتنوع أصنافهم، لذا وصفهم القرآن بقوله: " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ " [النمل:17]، أي: يمشون مع سيدنا سليمان على ترتيب ونظام، فلا يتقدم أحدهم عن منزلته ولا يتأخر (الرازي، 2000، 24/187). كما أن تفقُّد سيدنا سليمان الطيرَ، ومعرفته بغياب الهدهد دليل القيادة الناجحة المتابِعة لشؤون الأفراد ومراقبتهم.
11- رغم الجوع الشديد إلا أن أحد الفتية من أصحاب الكهف لم يمنعه جوعه من التذكير بأولوية البحث عن أطيب الطعام وأجوده، فقال مخاطباً إخوته مبيناً أن الجودة أولاً " فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ " [الكهف: 19].
12- صاحب الجنتين الأرضيتين (البستانَين) هداه الله إلى زراعة كل بستان بأجود طريقة " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالهُمَا نَهَرًا " [الكهف: 32-33]. فالنهر دائم الجريان في وسط البستان؛ للري المستمر، والنخل على الحواف؛ لصد الرياح والغبار، ومعروشات الأعناب تشكل سقفاً فوق الزرع؛ فتحجب ما زاد عن حده من أشعة الشمس وتحفظ الحد المطلوب من الرطوبة التي يحتاجها الزرع، حينئذ يُخرج كل بستان أفضل ثمره وزرعه.
كانت تلك أمثلة مختصرة بدون توسع لنماذج في إدارة الجودة الشاملة وردت في قصص القرآن الكريم، وفي المبحث التالي تفصيل لمبادئ إدارة الجودة الشاملة الواردة في إحدى تلك القصص وهي: قصة ذي القرنين.
ذكِرت قصة ذي القرنين في القرآن الكريم مرة واحدة، ووقعت في سورة الكهف (الآيات 83-99) وملخصها كما يلي:
كان ذو القرنين ملكاً صالحاً، وقد أعطاه الله من القوة وأسباب المُلك والفتوح ما لم يكن لغيره، فذكر الله من حسن سيرته ورحمته وقوة ملكه وتوسعه في المشارق والمغارب ما يحصل به المقصود التام من أخذ العبرة من سيرته ومعرفة أحواله: فأخبر أنه أعطاه من كل شيء سبباً يحصل به قوة الملك، وعلم السياسة وحسن التدبير، والسلاح المُخْضِع للأمم، وكثرة الجنود، وتسهيل المواصلات.. ومع ذلك فقد اجتهد في الأخذ بالأسباب.
بدأ ذو القرنين يجاهد بجيشه حتى وصل إلى محلٍ إذا غربت فيه الشمس: " وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ " [الكهف: 86]، أي: رآها في رؤية العين كأنها تغْرب في مياه طينية لونها أسود. ووجد عند ذلك المحل قوماً، منهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، فخاطبه على لسان نبي قومه: " قُلْنَا يا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا " [الكهف: 86]، فقال: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88].
" ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً " [الكهف: 89] أي: ثم عمل بالأسباب التي أوتيها بعدما أخضع أهل المغرب رجع يفتح أقطار الأرض، حتى وصل إلى محل يسمى (مطلع الشمس)، وهذا منتهى ما وصل إليه الفاتحون.
" وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا " [الكهف: 90]، أي: لا ستر لهم عن الشمس، لا ثياب ينسجونها ويلبسونها، ولا بيوت يبنونها ويأوون إليها، فالقوم ـ الذين في أقصى المشرق ـ بهذه الصفة والوحشية منقطعين عن الناس حاهم كحال الوحوش، والمقصود أنه وصل إلى مكان بعيد عن المدنية والعمران، لم يصل إليه أحد.
ثم توجه إلى منطقة أخرى " حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ " [الكهف: 93] بلغ فجوة تشكِّل محلاً متوسطاً بين سلسلتي جبال عظيمة شاهقة متواصلة، فوجد عند تلك الفجوة قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ من بُعد لغتهم، وقلة علمهم، وضعف اتصالهم بالأمم.
استغاثوا بذي القرنين واشتكوا بأنهم شعب ضعيف، تُغير عليهم قبائل متوحشة ـ تدعى يأجوج ومأجوج ـ يفسدون في أرضهم " قَالوا يا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَال مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ " [الكهف: 94 - 95] مِن خراجكم ـ والخراج: ضريبة مقابل الحماية ـ.
فأخبرهم أن الحل ببناء ردم عظيم " أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا " [الكهف: 95] بين سلاسل تلك الجبال، وأرشدهم إلى كيفية بنائه فقال: " آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ " [الكهف: 96]، أي: استخرِجوا واجمعوا لي جميع قطع الحديد من صغار وكبار، واركموه بين السدين، ففعلوا ذلك حتى كان الحديد تلولاً عظيمة موازنة للجبال، و" سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ " [الكهف: 96]، أي: اختار أنسب جبلين متصادفَين (متقابلَين) في سلسلة الجبال لبناء أساس الردم بينهما.
قال: " انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَال آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا " [الكهف: 96]، أي: أشعلوا ناراً كبيرة بحيث تحمى قطع الحديد فتصبح كأنها نار، ثم أمر بالقطر (النحاس المصهور) وجعل يسيِّله بين قطع الحديد المحمَّى، فالتحم بعضها ببعض، وتغلغل النحاس بين قطع الحديد، لتشكِّل الحاجز، فحصل بذلك المقصود من حبس قبائل يأجوج ومأجوج، ولهذا قال: " فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ " أي: يصعدوا ذلك الردم، " وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا " [الكهف: 97]، ثقب الردم.
لكنه صارحهم بأن ما قمت به من العمل والحيلولة بينكم وبين يأجوج ومأجوج مؤقت إلى أجل، فإذا جاء ذلك الأجل قدَّر الله أسباب القوة والصناعات ليأجوج ومأجوج فيتهدم السد، قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ " [الكهف: 98] (انظر: ابن كثير، 1999، 5/189، الآلوسي، 1985، 11/383، الهرري، 2001، 17/28، السعدي، 1422هـ، 1/453، الزحيلي، 1991، 16/15).
المطلب الثاني: مبادئ إدارة الجودة الشاملة كما وردت في قصة ذي القرنين:
يرجح الباحث أن أفضل مبادئ إدارة الجودة الشاملة محصورة بمجالات سبعة رئيسة هي:
1. قيادة ذات رؤية.
( Visionary Leadership )
2. التعاون الداخلي والخارجي.
( Internal and External Cooperation )
3. التعلم.
( Learning )
4. إدارة العملية.
( Process Managment )
5. التحسين المستمر.
( Continuous Improvment )
6. جاهزية العامل لتلبية متطلبات الجودة، وتدعى: مواءمة العامل.
( Employee Fulffillment )
7. رضا المستفيد (العميل).
( Customer Satisfaction )
وسبق بيان أن أبرز أهداف القصة القرآنية: أخذُ الدروس والعبر منها وتنزيلها على الواقع، وبناء على ذلك سيتم تسليط الضوء على شواهد إلى مجالات إدارة الجودة الشاملة الواردة كما وردت في قصة ذي القرنين، هي:
أولاً: في مجال القيادة ذات الرؤية:
1- الأصل أن تكون الرؤية والرسالة والأهداف والقيم للمؤسسة واضحة ومعلنة، وهذا ما قام به ذو القرنين حين أعلنَ أنَّ الدستور الذي يلتزم به: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88]، وكان يُعيد إعلان دستوره أمام عامة الناس في كل منطقة يمر بها، (الآلوسي، 1985، 11/402) بدليل كلمة (كَذَلِكَ) في قوله تعالى: " كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا " [الكهف: 91].
2- واقعية وعدالة وموضوعية الدستور الذي أعلنه للناس، والفائدة التي عاد بها على المجتمع الذي يطبق الدستور الواضح والمتميز فيه، وهذا يشكل الهدف الرئيس لضمان إدارة الجودة الشاملة وهو الوصول إلى رضا المستفيد، وكيف لايرضى الناس أن يعيشوا في ظل دولة آمنة تعاملهم بالعدل؟
3- امتلاك ذي القرنين لمهارة الاستماع، فرغم صعوبة التواصل مع القوم الذين لا يفقهون قولاً؛ إلا أنه استمع إليهم بهدف الوصول إلى أولى خطوات تلبية حاجات المستفيد، وهي تحديد المشكلة التي يعاني منها ويريد منك حلها.
4- وضوح الأهداف بإعلام أولئك القوم بوصف المنتج الذي يسعى إليه حل مشكلتهم، وهو: بناء ردم يتصف بأمرين رئيسين: لا يمكن تسلقه، ولا يمكن ثقبه.
5- حرص ذي القرنين على بذل الأسباب الواضحة وعدم الركون إلى الأحلام والتواكل، وتمني حصول الكرامات، بل كان يُتْبِع السببَ بالسببِ.
6- القدرة القيادية العالية لذي القرنين في التنسيق بين مختلف فرق العمل، وحل مشكلاتها، وبيان صلاحياتها ومجالات عملها، واختيار الأكفياء لكل فرقة منها، كما سيتبين في المجال التالي.
ثانياً: في مجال التعاون الداخلي والخارجي:
ينبغي أن تحسن المؤسسة التعاون مع المجتمع الداخلي والخارجي، وهذا ما أتقنه ذو القرنين عن طريق توزيع العمل على فِرق، ورغم أن ذا القرنين بإمكانه القيام بالعمل في بناء الردم بجيشه القوي لقوله تعالى: " إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً " [الكهف: 84]، ولكن الأكثر أهمية عنده هو تأهيل الناس وتعويدهم العمل والدفاع عن بلدهم بالتدريب العملي، فقسَّم الناس إلى أصناف: صنف يأتون بزبر الحديد، وصنف يشاركون بإشعال النار بالنفخ، وصنف يأتي بالنحاس المذاب (سلطان، 2008، ص62).
بل يمكن تخيل عدد كبير مِن فِرَق العمل تعمل الأسابيع الطويلة لإنجاز ذاك الردم، وتشمل كل فرقة عشرات الموظفين، ومِن فرق العمل المتوقعة التي أسهمت في ذاك المشروع الضخم:
1) فرقة تبحث عن خامات الحديد.
2) فرقة تستخرج خامات الحديد.
3) فرقة تشكِّل خامات الحديد في قِطَع (زُبَر).
4) فرقة تنقل قطع الحديد.
5) فرقة تبحث عن خامات النحاس.
6) فرقة تستخرج خامات النحاس.
7) فرقة تنقل النحاس.
8) فرقة تشعِل النار لتحمية الحديد.
9) فرقة تصهَر النحاس.
10) فرقة تضع النحاس المصهور (القِطر) فوق الحديد المُحمَّى.
11) فرقة لإطعام هذا العدد الكبير من العاملين.
12) فرقة تتولى الحراسة.
13) فرقة تتولى نقل أوامر الإدارة.
14) فرقة تتولى التخطيط والإشراف والتنسيق.
ومن الطبيعي أنَّ لكل فرقة أهدافها الخاصة التي تنسجم مع الهدف العام المنشود، وأفراد كل فرقة يعرف الهدف الخاص بفرقته، والجميع يعرفون الهدف العام المعلن مسبقاً.
كما اشترك ذو القرنين وجيشه مع أهل المنطقة في العمل، فأسهم في المساواة بين الصدفين، وتحمية الحديد، وإفراغ القِطر.. ولتلك المشاركة أثر في جودة عمل موظفي المؤسسة ورضاهم.
وقد مارسه رسول الله عملياً: كان في سفرٍ فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، عليَّ ذبحها. وقال آخر: عليَّ سلخها. وقال آخر: عليَّ طبخها. فقال رسول الله : وعليَّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام فجمعَ الحطب (الصفدي، 1962، 1/31).
ثالثاً: إدارة الجودة الشاملة في مجال التعليم (بشكل خاص):
1- كان ذو القرنين على قدر كبير من العلم، قال تعالى: " وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَأَتْبَعَ سَبَبَاً " [الكهف: 84-85]، قيل: إن معنى " سَبَبَاً " الأولى: عِلماً.() ومعنى " سَبَبَاً " الثانية: الأخذ بالأسباب، يعني: أنه علِمَ أولاً ثم أخذ بالأسباب.
وعلى هذا ينبغي أن يقود التدريب والتعليم في المؤسسة أفضل المعلمين الأكفياء علماً، يساعدهم إداريون مهرة، مما يسهم في إنتاج أفضل المخرَجات.
والعقل يستنتج أنْ لابد أنَّ ذا القرنين كان عنده علم بأساليب الإدارة ـ وهذا شرط رئيس في التمكين له كي يستطيع إدارة جيش قوي كبير العدد ـ، يُضاف إليها مهارة إدارة فرق العمل والتنسيق بينها لمجتمع يختلف عن مجتمعه الذي تعايش معه وفهمه، ومهارة سياسة مختلف الشعوب.
وكذلك لا بد له من العلم بالجغرافيا للانتقال بين أطراف الأرض، والعلم بخصائص المعادن وهندسة السدود، والعلم باللغات فلم يكن يغزو قوماً إلا حدثهم بلغتهم (ابن كثير، 1999، 5/190).
2- ذاك كان من حيث التعلُّم، أما من حيث التعليم: فقد مارس ذو القرنين ـ مع القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً ـ التعليم بالتدريب العملي تحت إشرافه، فمع أن الأسرع والأفضل لذي القرنين أن يأمر جنوده المدرَّبين الأشداء ببناء الردم، إلا أنه آثرَ تعليمهم فحارب اعتمادهم المطلق على الآخرين بتدريبهم على تحمُّل المسؤولية، ومن ثم غرس فيهم الثقة بالنفس والإيجابية.
لقد كلفهم ذو القرنين بالبحث عن الحديد وإحضاره، والبحث عن النحاس وإحضاره.. وهذا يفيد مبدأ إعطاء الموظفين الثقة اللازمة لإنجاز الأعمال الموكلة لهم، دون التدخل في كل كبيرة وصغيرة من قبل الإدارة أثناء عملية التنفيذ.
رابعاً: في مجال الإدارة التعليمية:
1- الحرص على التغلب على المعوقات لإنجاز العمل، وعدم جعل المشكلات البسيطة سبباً في توقف العمل. فهذا ذو القرنين لم يمنعه أن القوم لا يكادون يفقهون قولاً من خدمتهم، رغم أنه كان يملك المبرر الكافي لعدم نصرتهم، بحجة انه لم يفهم كلامهم.
كذلك الموظف المنتمي إلى مؤسسته التعليمية والساعي إلى جودة مخرجاتها يجتهد في معرفة المقصود من كلام المسؤول في توجيهاته، ولا يتجاهل تنفيذ المهمة بحجة عدم فهم المطلوب.
2- ما قام به ذو القرنين مثال على الإدارة القيمية الأخلاقية الإنسانية، فلم يستغل سلطاته الإدارية لظلم الذين دونه، فحين سُئل هل ستعذب كل الناس أم تحسِن إلى كل الناس في البلاد التي فتحتها، قال: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88].
ومن هذا نستفيد ضرورة تقريب المحسنين المجيدين في عملهم، وإبعاد السيئين المسيئين للمؤسسة، و" حين يضطرب ميزان الحكم، فإذ المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة، وإذ العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد " (قطب، 1981، 4/2291).
خامساً: في مجال الحرص على التحسين المستمر:
1- طلبوا الأدنى فأعطاهم الأعلى، هم طلبوا بناء سد ولكنهم اختار الأفضل لهم وهو الردم. والفرقُ أن السد ساتر بينك وبين شيء، بينما الردم وضع أشياء فوق بعضها بعضاً.
فسدُّ بئرٍ مهجورة مثلاً قد يكون بوضع قطعة خشب أو لوح حديد فوقها، أما ردمها فيكون بإلقاء التراب والحجارة فيها حتى تسوى بالأرض، وردمها أفضل، وإن كان أصعب.
لذا حين طلبوا وضع سد في الفجوة التي بينهم وبين يأجوج ومأجوج، اختار الأفضل وهو ردم الفجوة التي بين الجبال خشية أن ينهار السد، فالردم أفضل (ابن عاشور، 1984، 16/34).
وإدارة الجودة الشاملة في الإسلام إدارة قيَمِيَّة، فهي تحثُّ على إعطاء المستفيد أجود المُخرجات، وأنت لست ملزماً ـ بالضرورة ـ بإعطاء المستفيد ما يطلبه إن كنت تعلم أن هناك بديل أفضل.
قد يطلب زَبونٌ من صيدلية دواءً محدداً، فمن كمال الجودة أن تنصحه بوجود دواء أفضل، ومن ثم تترك له حرية الخيار، لا أن تعطيه الدواء الأقل جودة بدعوى أنه هو الذي طلب ذلك بلسانه وهو يتحمل مسؤولية طلبه؛ لقول رسول الله : " خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ ".()
2- وهذا المعنى يؤدي إلى معنى مستفاد آخر وهو: عدم العناية بقلة الكلفة وسهولة العمل على حساب جودة المخرجات. فلو كان ذو القرنين من النوع (اللامبالي) الذي يهمه سهولة العمل أكثر من جودة المنتج، لأقام لهم سداً من الخشب أو الحجارة وهو الأيسر والأسهل.
3- استعمل ذو القرنين أمتن سبيكة معادن معروفة، صنعَها بعد مزج النحاس المذاب بقطع الحديد المحمَّاة، فنستفيد أنَّ الجودة الشاملة تعني البحث عن الأفضل واستخدامه.
4- رغم أن ذا القرنين أخضع ممالك الأرض في زمانه، إلا أنه لم يحارب يأجوج ومأجوج، مع أن احتمال فوزه عليهم كبير، فهو الممكَّنُ له من عند الله والمهيَّأة له كل أسباب النصر. ولكنه فضَّل الوقاية من إثارة حرب مع يأجوج ومأجوج، فذلك خيرٌ مِن تحمُّل تبعات أثر الحرب معهم، وبدلاً من شن حرب احتمال الخطأ فيها وارد، الأفضل أن تتحايل كي لا تحارب. قال رسول الله : " لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ، فَإِذَا لقيتُمُوهُمْ فَاصْبرُوا".()
والمستفاد من تدريب ذي القرنين لأهل تلك المنطقة: أنَّ تدريب العامل الموجود القابل للتطوير سيكون ـ غالباً ـ أكثر فائدة من استيراد موظف جديد يحتاج وقتاً ليفهم طبيعة العمل في المؤسسة.
وتدريب وتأهيل العامل جزء رئيس من مواءمة العامل الذي ستتم الإشارة إلى اهتمام ذي القرنين به في المجال التالي.
سادساً: في مجال مواءمة العامل:
يفيد ما ورد على لسان ذي القرنين في قوله تعالى: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88] إلى أهمية:
أ- شعور العامل بالرقابة عليه ومعرفته بحتمية محاسبته إن أخطأ.
ب- تخويف العامل المخطئ من عذاب الآخرة يشير إلى أهمية تنمية الوازع الإيماني الداخلي للعاملين، مما يسهم في مراقبة الذات عند غياب الرقيب الإداري.
ج- مكافأة العامل المحسن مادياً ومعنوياً، وقد أبرزت الدراسات أن العاملين لا يعتبرون زيادة الأجر المادي هو الحافز الوحيد، بل يحبون أن تقابَل جهودهم بالثناء وإشعارهم بذلك (جابلونيسكي، 1993، ص3).
سابعاً: في مجال رضا المستفيد:
1- صدق ذي القرنين في تحقيق ما وعد به، وقوته وأمانته، وإتقان إنجازه، إضافة إلى تلبيته حاجات وتحقيقه أهداف الناس، كل هذا لا بد وأن ينعكس على رضاهم عنه.
كيف لا يرضى المستفيد الذي حصل على أفضل منتج بأقل الخسائر؟ (بلا قتال، بلا خراج، بلا استعباد..)، بل حصل على التدريب والتأهيل وبناء الثقة.
2- رغم إتقان جودة منتج ذي القرنين (الردم)، إلا أنه لم يخدع الناس، بل أخبرهم أن الردم الذي بناه سينهار في الزمن المقدَّر له، قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ " [الكهف: 98].
1- قصة ذي القرنين تبرز أهمية إدارة الجودة الشاملة، فقد كان القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً يملكون مالاً (بدليل عرضهم الخراج على ذي القرنين)، ويملكون موارد بشرية، ويملكون مواداً خاماً، ويملكون مهارات استخراجها، إلا أنهم لم يملكوا إدارةً كإدارة ذي القرنين المتصفة بالجودة الشاملة، وكما قال (فورست): " الإدارة فن توجيه النشاط الإنساني " (الصويان، 1995، ص55).
2- فرق جوهري بين مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الإسلام ومبادئ إدارة الجودة الشاملة عند غيرهم، فهدف إدارة الجودة الشاملة في الإسلام: رضى المستفيد مقيداً برضى الله ، بينما هدفها ومحورها عند غيرهم: رضى المستفيد.
3- تتميز إدارة الجودة في الإسلام بقوة الرقابة الذاتية للعاملين، فحتى لو غاب الرقيب الخارجي فإن العامل الذي يشعر بمراقبة الله لن يفعل ما يضر بالمؤسسة أو يُسبِّب رداءة مخرجاتها.
هذا ويوصي الباحث بمزيد العناية بالقصص القرآني واستنباط ما فيها من فوائد وأمثلة عملية واقعية على الإبداع في إدارة الجودة الشاملة.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
1. ابن عاشور، محمد الطاهر. (1984م)، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد وتفسير الكتاب المجيد (الشهير بالتحرير والتنوير)، (د.ط)، الدار التونسية للنشر، تونس.
2. ابن كثير، إسماعيل. (1999م)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي سلامة، ط2، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض.
3. ابن منظور، محمد. (1997م)، لسان العرب، (د.ط)، دار صادر، بيروت.
4. الآلوسي، محمود. (1985م)، روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، ط4، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
5. جابلونيسكي، جوزيف. (1993م)، إدارة الجودة الشاملة، سلسلة خلاصات كتب المدير ورجل الأعمال، السنة 1، العدد6، الشركة العربية للإعلام العلمي (شعاع)، القاهرة.
6. الجوهري، إسماعيل. (1990م)، الصحاح تاج اللغة، تحقيق: أحمد عطار، ط4، دار العلم للملايين، بيروت.
7. حنفي، عبدالحليم. (1995م)، أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، ط3، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
8. الخطيب، عبدالكريم. (1975م)، القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، ط2، بيروت.
9. الرازي، فخر الدين محمد. (2000)، مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت.
10. الزبيدي، محمد. (1994م)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: علي شيري، (د.ط)، دار الفكر، بيروت.
11. الزحيلي، أ.د. وهبة. (1991م)، التفسير المنير، ط1، دار الفكر، دمشق.
12. السعدي، عبدالرحمن. (1422هـ) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض.
13. سلطان، د. صلاح. (2008م)، سورة الكهف: منهجيات في الإصلاح والتغيير، ط1، دار سلطان للنشر، القاهرة.
14. السلمي، علي. (1995م)، إدارة الجودة الشاملة ومتطلبات التأهل للآيزو، دار غريب، (د.ط)، القاهرة.
15. الصالحي، علي. (د.ت)، الضوء المنير على التفسير (جمع لتفسير ابن القيم)، مكتبة دار السلام، (د.ط)، الرياض.
16. الصفدي، صلاح الدين. (1962م)، الوافي بالوفيات، عناية: هلموت ريتر وآخرون، دار فرانز شتاينر، (د.ط)، شتوتغارت، ألمانيا.
17. الصويان، أحمد. (1995)، " دراسة المستقبل: مدخل تأصيلي "، مجلة البيان، عدد86، سنة9، لندن.
18. العجلوني، إبراهيم. (2006م)، " مبادئ إدارة الجودة الشاملة في ضوء المنهج الإسلامي "، مستلة بحث علمي مقدم للنشر استكمالاً لمتطلبات الدكتوراه في الإدارة، مجلة جامعة دمشق، دمشق، ص4.
19. العجلوني، د. إبراهيم. (2006م)، " إدارة الجودة في الإسلام "، المؤتمر العربي الأول حول جودة الجامعات ومتطلبات الترخيص والاعتماد، الشارقة، ص5.
20. عطية، د. سعيد. (2006م)، الإعجاز القصصي في القرآن الكريم، ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة.
21. قرموط، نايف. (2009م)، " الإدارة في سورة يوسف "، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزة.
22. قطب، سيد. (1981م)، في ظلال القرآن، ط10، دار الشروق، بيروت.
23. النمر، سعود بن محمد وآخرون. (1407هـ)، الإدارة العامة: الأسس والوظائف، ط4، دار الفرزدق، الرياض.
24. الهرري، محمد الأمين. (2001م)، حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ط1، دار طوق النجاة، بيروت.
" مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القصص القرآني، قصة ذي القرنين نموذجاً "، المؤتمر العربي الدولي لضمان جودة التعليم، جامعة الزرقاء، ونشر ضمن أبحاث المؤتمر المحكَّمة دولياً، المجلد الأول.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد..
ما الجودة إلا ثقافةٌ تتبَعُها ترجمةٌ لها تظهر على السلوك، وتكرار السلوك يفيد أنها صارت ديدناً وممارسةً وتطبيقاً، وكل ذلك بالاستغلالٍ أمثلٍ لجميع الموارد البشرية والمالية المتاحة.
تتناول هذه الدراسة تسليط الضوء إلى تطبيقات عملية ناجحة في إدارة الجودة الشاملة كما عرضتها قصص القرآن الكريم، تلك النماذج ذكرها القرآن الكريم في معرض المدح لها وإقرار ما فيها، وهي تشكل نماذج فريدة في إدارة الجودة الشاملة، لذا وقبل أن نبحث عند الشرق والغرب عن نماذج في إدارة الجودة الشاملة، فلنبدأ بالبحث في أقرب كتبنا وأصدقها: (القرآن الكريم).
لذا جاءت هذه الدراسة لتتناول استنباط أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة الواردة في القصص القرآني بشكل عام، وقصة ذي القرنين بشكل خاص.
الدراسات السابقة: لا توجد دراسات سابقة تناولت بيان أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القصص القرآني عامة وفي قصة ذي القرنين خاصة، بحسب علم الباحث.
مشكلة الدراسة وهدفها: تسعى كثير من المؤسسات إلى تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة؛ لتتماشى مع الاتجاهات الحديثة في الإدارة، لكنْ إذ نعاني من ندرة النماذج التي تصلح للاقتداء بها في إدارة الجودة الشاملة: أخذ بعض منا يبحث عند الأمم الأخرى عن نماذج تطبيقية لها، مع أن القرآن الكريم بيَّنها وعرضها قبل خمسة عشر قرناً، فجاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء إلى نماذج تطبيقية لأبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة بشكل عام، ثم تخصيص الحديث حول قصة ذي القرنين بصفتها تجربة ناجحة في إدارة الجودة الشاملة تخطيطاً وتنفيذاً.
محددات الدراسة: ستتناول الدراسة تفصيلاً لأبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في قصة ذي القرنين، ولكنها لن تتوسع في بيان مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم، كما لن تتوسع في بيان الآراء المختلفة حول تعريف إدارة الجودة الشاملة وتعداد مبادئها.
أسئلة الدراسة: تسعى الدراسة للإجابة عن السؤالين التاليين:
1. ما هي أبرز معالم إدارة الجودة الشاملة المستنبطة من قصص القرآن الكريم بشكل عام؟
2. ما هي أبرز معالم إدارة الجودة الشاملة المستنبطة من قصة ذي القرنين بالتفصيل؟
فرضيات الدراسة: تسعى الدراسة لتأكيد الفرضيات الآتية:
1. يحتوي القرآن الكريم على نماذج لقصص واقعية نستطيع من خلالها استنباط مبادئ إدارة الجودة الشاملة.
2. تشكل قصة ذي القرنين نموذجاً واقعياً لشخصية إدارية مبدعة، لها إسهام واضح في ترسيخ مبادئ إدارة الجودة الشاملة، مما يعطي قدوة حسنة لمن أراد الاستنارة بنورها.
3. تتوافق مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الإسلام مع أفضل مبادئ إدارة الجودة الشاملة المطبقة حالياً، بل تتميز إدارة الجودة الشاملة في الإسلام عن إدارة الجودة الشاملة عند الآخرين بمميزات ينبغي لفت النظر إليها.
طرق ومنهجية الدراسة: ستعتمد الدراسة المنهج الاستقرائي لتتبع أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم، والمنهج الوصفي التاريخي في الحديث عن قصة ذي القرنين، والمنهج الاستنباطي لاستخلاص أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة المستنبطة منها.
وستقسم الدراسة إلى مبحثين: يتناول المبحث الأول منها الإطار النظري، والمبحث الثاني الإطار العملي، ويندرج تحت كل مبحث مطالب عدة كما يلي:
المبحث الأول: الإطار النظري
المطلب الأول: إدارة الجودة الشاملة ومكانتها في القرآن الكريم
أولاً: تعريف إدارة الجودة الشاملة:
الهدف الرئيس الذي يبغيه المستفيد والعامل والإدارة: هو جودة المُنتَج، والمقصود بتجويد المُنتَج لغةً: جعلُهُ جيداً (الجوهري، 1990،1/107)، وأجاد الرجل: أتى بالجيد من القول والفعل (ابن منظور، 1997، 3/135)، والجيِّدُ من الأشياء: ضد الرديء (الزبيدي، 1994، 1/1941).
والجودة عند العرب مؤشر للرضا، فلا يصف العرب شيئاً ذي بال بالجودة إلا إذا كان مستوفياً لرغباتهم أو حتياجاتهم.. وخلاصة القول إن الجودة عند العرب رديف للحُسن، بل إنها نهاية الحسن إن اكتملت شرائطها (العجلوني، مؤتمر الجودة، 2006، ص4).
أما تعريف إدارة الجودة الشاملة فهي: " خلق ثقافة متميزة في الأداء، بحيث يعمل المديرون والموظفون بشكل مستمر ودؤوب؛ لتحقيق توقعات المستفيدين، وأداء العمل الصحيح بشكل صحيح منذ البداية، مع تحقيق الجودة بشكل أفضل، وفاعلية عالية، وفي أقصر وقت ممكن " (النمر، 1407هـ، ص88).
ومن الممكن وصف إدارة الجودة الشاملة بأنها ثورة إدارية جديدة وتطوير فكري شامل، وثقافة تنظيمية جديدة، تهدف إلى التطوير المستمر في العمليات، وتخفيض التكاليف، وتحسين الإنتاجية، وتطوير جودة المنتجات (السلمي، 1995، ص22).
ثانياً: مكانة إدارة الجودة الشاملة في القرآن الكريم:
للجودة الشاملة وإدارتها في القرآن الكريم مكانة رفيعة، وكيف لا يُعنَى الوحي بالجودة والله تبارك وتعالى تتصف أفعاله بكمال الجودة والإتقان والإبداع؟
فالقرآن الكريم كلام الله " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ " [البقرة: 117]، وكلامٌ لفظُهُ ومعناهُ من عند الله ، لن تجد أجود منه في الشكل: " صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً " [البقرة:: 138]، ولا أجود منه في المضمون: " الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ " [الزمر: 23].
لذا لا ينبغي للعاقل ترك الحَسَن الجيد إلى الرديء: " أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة: 50]، ومن مظاهر إحسانه أنه يقصُّ " أَحْسَنَ القَصَصِ " [يوسف: 2]، ويجزي العاملين بمقتضى شرعه أحسن الجزاء: " لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [التوبة: 121]، ويطلب من الناس الإحسان في أعمالهم: " وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التِي هِيَ أَحْسَنُ " [الإسراء: 53]، وفي أفعالهم: " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " [الكهف: 7], بل حتى جدال المخالف ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن: " ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ " [النحل: 125].
كما حث القرآنُ الإنسانَ على التطوير المستمر وطلب أسباب الإتقان والاستزادة منها دوماً: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا " [طه114]، وجعل للعلماء الحريصين على الاستزادة من إتقان الفهم والإدارك والعلم منزلة لا يدانيهم أحدٌ بمثلها: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألبَابِ " [الزمر:9]. بل وجعله لا يصل إلى كمال الخيرية والإحسان إلا إن أضحى يمتلك شخصيةً إيجابية تسعى إلى تحسين وتجويد أقوال وأفعال غيره من الناس: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله " [آل عمران: 110].
ولعل أبرز مبدأ من مبادئ إدارة الجودة الشاملة التي سبَقَ القرآن الكريم إلى بيانها، هو ما يفيده قوله تبارك وتعالى: " لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ " [المدثر: 37].
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالعبد لا يزال في تقدُّمٍ أو تأخر، ولا وقوف في الطريق البتة.. فإن لم يكن في تقدُّمٍ، فهو في تأخرٍ ولا بُدَّ " (الصالحي، 2/226).
فهذه الآية الكريمة سبقت إلى إقرار أبرز مبادئ إدارة الجودة الشاملة وهو مبدأ: وجوب استمرارية التحسين والتطوير، فلا ينبغي لأي مؤسسة تعليمية عُليا أن تتوقف عن استمرارية التطوير والتحسين بحجة أنها نالت الشهادات العالمية في التطوير؛ لأنها إذا توقفت عن التطوير فإنها بالضرورة تتأخر، فالكون لا يعرف الوقوف، لذا عليها أن تحرص على أن تتقدم وإلا فستتأخر.
إن نظام إدارة الجودة الشاملة لا يكمن في لفت النظر إلى وجوب تطبيق النظام فحسب، بل في الاهتمام باستمرارية تحسين وتطوير الجودة؛ فنحن نعيش في كونٍ دائم التغيير.
ثالثاً: الغرض من ورود القصص القرآني:
القصص القرآني يعرض أحداثاً تاريخيةً مضى بها الزمان، ويشكل أصح وثيقة تاريخية تتناول ما ورد في التاريخ من أشخاص وأحداث، وما تعلَّق بها من زمان أو مكان (الخطيب، 1975، ص17).
والقصة القرآنية ليست لمجرد السرد التاريخي لتضييع الوقت، بل للقصة القرآنية أغراض واقعية، من أبرزها ما ورد في دراسة (عطية، 2006، ص118):
1) العبرة:
الغرض الرئيس من القصص القرآني هو العبرة؛ للاستفادة في زمننا الحالي مما ورد فيها من دروس وحِكَم وعِبَر. هذا ما بيَّنه الله تبارك وتعالى في قوله: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [يوسف: 111].
2) تثبيت فؤاد النبي :
فمما تفيده القصة القرآنية تثبيت فؤاد النبي والتسرية عنه، كما قال تعالى: " كُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.. " [هود: 120].
3) ضرب أمثلة على الترهيب والترغيب:
فالعاقل حين يرى مصارع القوم السابقين الذين كذَّبوا أنبيائهم، وما حاق بهم من خسار، يخشى على نفسه. وهذا الأمر مفيد للإصلاح والحث على الإتقان؛ لأن من أمِن العقابَ أساءَ الأدبَ، وظلمَ، وغشَّ، وأتلف..
قال تعالى: " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " [الروم: 9].
المطلب الثاني: أمثلة على نماذج في إدارة الجودة الشاملة في قصص السابقين:
تمتاز قصص القرآن الكريم بالواقعية، وتقديم أمثلة حية يسهل الاقتداء بها، وقد ذكرت قصص القرآن الكريم نماذج عملية على السعي إلى إدارة الجودة الشاملة، وعاقبة مَن لم يلتزم بها، من أبرزها:
1- قبل أن يكلف الله سيدنا آدم بعمارة الأرض، علَّمه الأسماء كلها فسلط الضوء ـ له ولذريته ـ إلى أبرز نقاط القوة لديهم لعمارة الأرض وهو العقل (انظر: سورة البقرة: 31)، وأخبرهم بأبرز نقاط الضعف التي قد تعوقهم كالدنيا والشيطان (انظر: سورة فاطر: 5-6)، ووضع أمامهم هدفاً مرحلياً هو عمارة الأرض بشرع الله (انظر: سورة النور: 55)، ورئيساً استراتيجياً هو رضى الله والجنة (انظر: سورة التوبة: 100).
2- سيدنا نوح حرص على بناء سفينة متينة الصنع، على أعلى درجات الجودة، وليتأكد من ضمان الجودة كان إعلامه بعناية الله ، قال تعالى: " وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا " [هود: 37].
3- سيدنا إبراهيم تدرج في تعريف عبَدَة الكواكب بخالقهم (انظر: سورة الأنعام: 76-79)، ويستفاد منها التخطيط إشراك المستفيدين في الوصول إلى المنتَج المطلوب بتدرج منطقي.
4- حرص سيدنا لوط على جودة المجتمع، وأرشَدَ قومه إلى الزواج بالصالحات، فالزواج أحسن من الشذوذ " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ " [الشعراء:165-166]، لذا حثهم على الزواج من نساء أمته الصالحات ـ وهن كبناته ـ " وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ.. " [هود: 78].
5- سيدنا شعيب يدعو الناس إلى العناية بجودة المقاييس التجارية " فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 85].
6- سيدنا موسى يعاتب بني إسرائيل حين طلبوا تغيير الطعام الجيد، واستبداله بطعام أقل جودة " قَال أَتَسْتَبْدِلُونَ الذِي هُوَ أَدْنَى بِالذِي هُوَ خَيْرٌ " [البقرة: 61].
7- ولحرصه على أجود أساليب الدعوة طلب من الله مساعدته بإرسال هارون معه مسانداً: " وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ " [القصص: 34]. وهذا الطب منه دليل على ميزة من مزاياه، لمراعاته تتبع أعلى مقاييس الجودة؛ وهي حرصه الشديد على أن يهيئ لرسالته أقصى ما يستطيع من وسائل النجاح (حنفي، 1995، ص19).
8- كيف لا يحرص على الجودة والإتقان مَن وصفته المرأة الصالحة بأنه يتحلى بصفتَي: " القَوِيُّ الأمِينُ " [القصص:26]؟ وعلى هاتين الصفتين مدار الجودة والإتقان.
9- ظهر الحرص على وضوح الرؤية في جودة التعليم عند مخاطبة العبد الصالح لسيدنا موسى باشتراطه ـ قبل السماح له بمشاركته الرحلة ـ شرطاً يتفق عليه الاثنان، ويكونان في حل إذا لم يلتزم الطرف الثاني به ـ وهو سيدنا موسى ـ: " قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا " [الكهف: 70]، فوضوح الرؤية والرسالة والقيم لدى الشركاء مهمة جداً قبل البدء بتأسيس أي شركة.
10- كان النظام والتنظيم سمة واضحة في جنود سيدنا سليمان رغم كثرتهم وتنوع أصنافهم، لذا وصفهم القرآن بقوله: " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ " [النمل:17]، أي: يمشون مع سيدنا سليمان على ترتيب ونظام، فلا يتقدم أحدهم عن منزلته ولا يتأخر (الرازي، 2000، 24/187). كما أن تفقُّد سيدنا سليمان الطيرَ، ومعرفته بغياب الهدهد دليل القيادة الناجحة المتابِعة لشؤون الأفراد ومراقبتهم.
11- رغم الجوع الشديد إلا أن أحد الفتية من أصحاب الكهف لم يمنعه جوعه من التذكير بأولوية البحث عن أطيب الطعام وأجوده، فقال مخاطباً إخوته مبيناً أن الجودة أولاً " فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ " [الكهف: 19].
12- صاحب الجنتين الأرضيتين (البستانَين) هداه الله إلى زراعة كل بستان بأجود طريقة " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالهُمَا نَهَرًا " [الكهف: 32-33]. فالنهر دائم الجريان في وسط البستان؛ للري المستمر، والنخل على الحواف؛ لصد الرياح والغبار، ومعروشات الأعناب تشكل سقفاً فوق الزرع؛ فتحجب ما زاد عن حده من أشعة الشمس وتحفظ الحد المطلوب من الرطوبة التي يحتاجها الزرع، حينئذ يُخرج كل بستان أفضل ثمره وزرعه.
كانت تلك أمثلة مختصرة بدون توسع لنماذج في إدارة الجودة الشاملة وردت في قصص القرآن الكريم، وفي المبحث التالي تفصيل لمبادئ إدارة الجودة الشاملة الواردة في إحدى تلك القصص وهي: قصة ذي القرنين.
المبحث الثاني: الإطار التطبيقي
المطلب الأول: ملخص قصة ذي القرنين كما وردت في القرآن الكريم:
ذكِرت قصة ذي القرنين في القرآن الكريم مرة واحدة، ووقعت في سورة الكهف (الآيات 83-99) وملخصها كما يلي:
كان ذو القرنين ملكاً صالحاً، وقد أعطاه الله من القوة وأسباب المُلك والفتوح ما لم يكن لغيره، فذكر الله من حسن سيرته ورحمته وقوة ملكه وتوسعه في المشارق والمغارب ما يحصل به المقصود التام من أخذ العبرة من سيرته ومعرفة أحواله: فأخبر أنه أعطاه من كل شيء سبباً يحصل به قوة الملك، وعلم السياسة وحسن التدبير، والسلاح المُخْضِع للأمم، وكثرة الجنود، وتسهيل المواصلات.. ومع ذلك فقد اجتهد في الأخذ بالأسباب.
بدأ ذو القرنين يجاهد بجيشه حتى وصل إلى محلٍ إذا غربت فيه الشمس: " وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ " [الكهف: 86]، أي: رآها في رؤية العين كأنها تغْرب في مياه طينية لونها أسود. ووجد عند ذلك المحل قوماً، منهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، فخاطبه على لسان نبي قومه: " قُلْنَا يا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا " [الكهف: 86]، فقال: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88].
" ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً " [الكهف: 89] أي: ثم عمل بالأسباب التي أوتيها بعدما أخضع أهل المغرب رجع يفتح أقطار الأرض، حتى وصل إلى محل يسمى (مطلع الشمس)، وهذا منتهى ما وصل إليه الفاتحون.
" وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا " [الكهف: 90]، أي: لا ستر لهم عن الشمس، لا ثياب ينسجونها ويلبسونها، ولا بيوت يبنونها ويأوون إليها، فالقوم ـ الذين في أقصى المشرق ـ بهذه الصفة والوحشية منقطعين عن الناس حاهم كحال الوحوش، والمقصود أنه وصل إلى مكان بعيد عن المدنية والعمران، لم يصل إليه أحد.
ثم توجه إلى منطقة أخرى " حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ " [الكهف: 93] بلغ فجوة تشكِّل محلاً متوسطاً بين سلسلتي جبال عظيمة شاهقة متواصلة، فوجد عند تلك الفجوة قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ من بُعد لغتهم، وقلة علمهم، وضعف اتصالهم بالأمم.
استغاثوا بذي القرنين واشتكوا بأنهم شعب ضعيف، تُغير عليهم قبائل متوحشة ـ تدعى يأجوج ومأجوج ـ يفسدون في أرضهم " قَالوا يا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَال مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ " [الكهف: 94 - 95] مِن خراجكم ـ والخراج: ضريبة مقابل الحماية ـ.
فأخبرهم أن الحل ببناء ردم عظيم " أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا " [الكهف: 95] بين سلاسل تلك الجبال، وأرشدهم إلى كيفية بنائه فقال: " آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ " [الكهف: 96]، أي: استخرِجوا واجمعوا لي جميع قطع الحديد من صغار وكبار، واركموه بين السدين، ففعلوا ذلك حتى كان الحديد تلولاً عظيمة موازنة للجبال، و" سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ " [الكهف: 96]، أي: اختار أنسب جبلين متصادفَين (متقابلَين) في سلسلة الجبال لبناء أساس الردم بينهما.
قال: " انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَال آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا " [الكهف: 96]، أي: أشعلوا ناراً كبيرة بحيث تحمى قطع الحديد فتصبح كأنها نار، ثم أمر بالقطر (النحاس المصهور) وجعل يسيِّله بين قطع الحديد المحمَّى، فالتحم بعضها ببعض، وتغلغل النحاس بين قطع الحديد، لتشكِّل الحاجز، فحصل بذلك المقصود من حبس قبائل يأجوج ومأجوج، ولهذا قال: " فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ " أي: يصعدوا ذلك الردم، " وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا " [الكهف: 97]، ثقب الردم.
لكنه صارحهم بأن ما قمت به من العمل والحيلولة بينكم وبين يأجوج ومأجوج مؤقت إلى أجل، فإذا جاء ذلك الأجل قدَّر الله أسباب القوة والصناعات ليأجوج ومأجوج فيتهدم السد، قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ " [الكهف: 98] (انظر: ابن كثير، 1999، 5/189، الآلوسي، 1985، 11/383، الهرري، 2001، 17/28، السعدي، 1422هـ، 1/453، الزحيلي، 1991، 16/15).
المطلب الثاني: مبادئ إدارة الجودة الشاملة كما وردت في قصة ذي القرنين:
يرجح الباحث أن أفضل مبادئ إدارة الجودة الشاملة محصورة بمجالات سبعة رئيسة هي:
1. قيادة ذات رؤية.
( Visionary Leadership )
2. التعاون الداخلي والخارجي.
( Internal and External Cooperation )
3. التعلم.
( Learning )
4. إدارة العملية.
( Process Managment )
5. التحسين المستمر.
( Continuous Improvment )
6. جاهزية العامل لتلبية متطلبات الجودة، وتدعى: مواءمة العامل.
( Employee Fulffillment )
7. رضا المستفيد (العميل).
( Customer Satisfaction )
وسبق بيان أن أبرز أهداف القصة القرآنية: أخذُ الدروس والعبر منها وتنزيلها على الواقع، وبناء على ذلك سيتم تسليط الضوء على شواهد إلى مجالات إدارة الجودة الشاملة الواردة كما وردت في قصة ذي القرنين، هي:
أولاً: في مجال القيادة ذات الرؤية:
1- الأصل أن تكون الرؤية والرسالة والأهداف والقيم للمؤسسة واضحة ومعلنة، وهذا ما قام به ذو القرنين حين أعلنَ أنَّ الدستور الذي يلتزم به: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88]، وكان يُعيد إعلان دستوره أمام عامة الناس في كل منطقة يمر بها، (الآلوسي، 1985، 11/402) بدليل كلمة (كَذَلِكَ) في قوله تعالى: " كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا " [الكهف: 91].
2- واقعية وعدالة وموضوعية الدستور الذي أعلنه للناس، والفائدة التي عاد بها على المجتمع الذي يطبق الدستور الواضح والمتميز فيه، وهذا يشكل الهدف الرئيس لضمان إدارة الجودة الشاملة وهو الوصول إلى رضا المستفيد، وكيف لايرضى الناس أن يعيشوا في ظل دولة آمنة تعاملهم بالعدل؟
3- امتلاك ذي القرنين لمهارة الاستماع، فرغم صعوبة التواصل مع القوم الذين لا يفقهون قولاً؛ إلا أنه استمع إليهم بهدف الوصول إلى أولى خطوات تلبية حاجات المستفيد، وهي تحديد المشكلة التي يعاني منها ويريد منك حلها.
4- وضوح الأهداف بإعلام أولئك القوم بوصف المنتج الذي يسعى إليه حل مشكلتهم، وهو: بناء ردم يتصف بأمرين رئيسين: لا يمكن تسلقه، ولا يمكن ثقبه.
5- حرص ذي القرنين على بذل الأسباب الواضحة وعدم الركون إلى الأحلام والتواكل، وتمني حصول الكرامات، بل كان يُتْبِع السببَ بالسببِ.
6- القدرة القيادية العالية لذي القرنين في التنسيق بين مختلف فرق العمل، وحل مشكلاتها، وبيان صلاحياتها ومجالات عملها، واختيار الأكفياء لكل فرقة منها، كما سيتبين في المجال التالي.
ثانياً: في مجال التعاون الداخلي والخارجي:
ينبغي أن تحسن المؤسسة التعاون مع المجتمع الداخلي والخارجي، وهذا ما أتقنه ذو القرنين عن طريق توزيع العمل على فِرق، ورغم أن ذا القرنين بإمكانه القيام بالعمل في بناء الردم بجيشه القوي لقوله تعالى: " إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً " [الكهف: 84]، ولكن الأكثر أهمية عنده هو تأهيل الناس وتعويدهم العمل والدفاع عن بلدهم بالتدريب العملي، فقسَّم الناس إلى أصناف: صنف يأتون بزبر الحديد، وصنف يشاركون بإشعال النار بالنفخ، وصنف يأتي بالنحاس المذاب (سلطان، 2008، ص62).
بل يمكن تخيل عدد كبير مِن فِرَق العمل تعمل الأسابيع الطويلة لإنجاز ذاك الردم، وتشمل كل فرقة عشرات الموظفين، ومِن فرق العمل المتوقعة التي أسهمت في ذاك المشروع الضخم:
1) فرقة تبحث عن خامات الحديد.
2) فرقة تستخرج خامات الحديد.
3) فرقة تشكِّل خامات الحديد في قِطَع (زُبَر).
4) فرقة تنقل قطع الحديد.
5) فرقة تبحث عن خامات النحاس.
6) فرقة تستخرج خامات النحاس.
7) فرقة تنقل النحاس.
8) فرقة تشعِل النار لتحمية الحديد.
9) فرقة تصهَر النحاس.
10) فرقة تضع النحاس المصهور (القِطر) فوق الحديد المُحمَّى.
11) فرقة لإطعام هذا العدد الكبير من العاملين.
12) فرقة تتولى الحراسة.
13) فرقة تتولى نقل أوامر الإدارة.
14) فرقة تتولى التخطيط والإشراف والتنسيق.
ومن الطبيعي أنَّ لكل فرقة أهدافها الخاصة التي تنسجم مع الهدف العام المنشود، وأفراد كل فرقة يعرف الهدف الخاص بفرقته، والجميع يعرفون الهدف العام المعلن مسبقاً.
كما اشترك ذو القرنين وجيشه مع أهل المنطقة في العمل، فأسهم في المساواة بين الصدفين، وتحمية الحديد، وإفراغ القِطر.. ولتلك المشاركة أثر في جودة عمل موظفي المؤسسة ورضاهم.
وقد مارسه رسول الله عملياً: كان في سفرٍ فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، عليَّ ذبحها. وقال آخر: عليَّ سلخها. وقال آخر: عليَّ طبخها. فقال رسول الله : وعليَّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام فجمعَ الحطب (الصفدي، 1962، 1/31).
ثالثاً: إدارة الجودة الشاملة في مجال التعليم (بشكل خاص):
1- كان ذو القرنين على قدر كبير من العلم، قال تعالى: " وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَأَتْبَعَ سَبَبَاً " [الكهف: 84-85]، قيل: إن معنى " سَبَبَاً " الأولى: عِلماً.() ومعنى " سَبَبَاً " الثانية: الأخذ بالأسباب، يعني: أنه علِمَ أولاً ثم أخذ بالأسباب.
وعلى هذا ينبغي أن يقود التدريب والتعليم في المؤسسة أفضل المعلمين الأكفياء علماً، يساعدهم إداريون مهرة، مما يسهم في إنتاج أفضل المخرَجات.
والعقل يستنتج أنْ لابد أنَّ ذا القرنين كان عنده علم بأساليب الإدارة ـ وهذا شرط رئيس في التمكين له كي يستطيع إدارة جيش قوي كبير العدد ـ، يُضاف إليها مهارة إدارة فرق العمل والتنسيق بينها لمجتمع يختلف عن مجتمعه الذي تعايش معه وفهمه، ومهارة سياسة مختلف الشعوب.
وكذلك لا بد له من العلم بالجغرافيا للانتقال بين أطراف الأرض، والعلم بخصائص المعادن وهندسة السدود، والعلم باللغات فلم يكن يغزو قوماً إلا حدثهم بلغتهم (ابن كثير، 1999، 5/190).
2- ذاك كان من حيث التعلُّم، أما من حيث التعليم: فقد مارس ذو القرنين ـ مع القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً ـ التعليم بالتدريب العملي تحت إشرافه، فمع أن الأسرع والأفضل لذي القرنين أن يأمر جنوده المدرَّبين الأشداء ببناء الردم، إلا أنه آثرَ تعليمهم فحارب اعتمادهم المطلق على الآخرين بتدريبهم على تحمُّل المسؤولية، ومن ثم غرس فيهم الثقة بالنفس والإيجابية.
لقد كلفهم ذو القرنين بالبحث عن الحديد وإحضاره، والبحث عن النحاس وإحضاره.. وهذا يفيد مبدأ إعطاء الموظفين الثقة اللازمة لإنجاز الأعمال الموكلة لهم، دون التدخل في كل كبيرة وصغيرة من قبل الإدارة أثناء عملية التنفيذ.
رابعاً: في مجال الإدارة التعليمية:
1- الحرص على التغلب على المعوقات لإنجاز العمل، وعدم جعل المشكلات البسيطة سبباً في توقف العمل. فهذا ذو القرنين لم يمنعه أن القوم لا يكادون يفقهون قولاً من خدمتهم، رغم أنه كان يملك المبرر الكافي لعدم نصرتهم، بحجة انه لم يفهم كلامهم.
كذلك الموظف المنتمي إلى مؤسسته التعليمية والساعي إلى جودة مخرجاتها يجتهد في معرفة المقصود من كلام المسؤول في توجيهاته، ولا يتجاهل تنفيذ المهمة بحجة عدم فهم المطلوب.
2- ما قام به ذو القرنين مثال على الإدارة القيمية الأخلاقية الإنسانية، فلم يستغل سلطاته الإدارية لظلم الذين دونه، فحين سُئل هل ستعذب كل الناس أم تحسِن إلى كل الناس في البلاد التي فتحتها، قال: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88].
ومن هذا نستفيد ضرورة تقريب المحسنين المجيدين في عملهم، وإبعاد السيئين المسيئين للمؤسسة، و" حين يضطرب ميزان الحكم، فإذ المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة، وإذ العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد " (قطب، 1981، 4/2291).
خامساً: في مجال الحرص على التحسين المستمر:
1- طلبوا الأدنى فأعطاهم الأعلى، هم طلبوا بناء سد ولكنهم اختار الأفضل لهم وهو الردم. والفرقُ أن السد ساتر بينك وبين شيء، بينما الردم وضع أشياء فوق بعضها بعضاً.
فسدُّ بئرٍ مهجورة مثلاً قد يكون بوضع قطعة خشب أو لوح حديد فوقها، أما ردمها فيكون بإلقاء التراب والحجارة فيها حتى تسوى بالأرض، وردمها أفضل، وإن كان أصعب.
لذا حين طلبوا وضع سد في الفجوة التي بينهم وبين يأجوج ومأجوج، اختار الأفضل وهو ردم الفجوة التي بين الجبال خشية أن ينهار السد، فالردم أفضل (ابن عاشور، 1984، 16/34).
وإدارة الجودة الشاملة في الإسلام إدارة قيَمِيَّة، فهي تحثُّ على إعطاء المستفيد أجود المُخرجات، وأنت لست ملزماً ـ بالضرورة ـ بإعطاء المستفيد ما يطلبه إن كنت تعلم أن هناك بديل أفضل.
قد يطلب زَبونٌ من صيدلية دواءً محدداً، فمن كمال الجودة أن تنصحه بوجود دواء أفضل، ومن ثم تترك له حرية الخيار، لا أن تعطيه الدواء الأقل جودة بدعوى أنه هو الذي طلب ذلك بلسانه وهو يتحمل مسؤولية طلبه؛ لقول رسول الله : " خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ ".()
2- وهذا المعنى يؤدي إلى معنى مستفاد آخر وهو: عدم العناية بقلة الكلفة وسهولة العمل على حساب جودة المخرجات. فلو كان ذو القرنين من النوع (اللامبالي) الذي يهمه سهولة العمل أكثر من جودة المنتج، لأقام لهم سداً من الخشب أو الحجارة وهو الأيسر والأسهل.
3- استعمل ذو القرنين أمتن سبيكة معادن معروفة، صنعَها بعد مزج النحاس المذاب بقطع الحديد المحمَّاة، فنستفيد أنَّ الجودة الشاملة تعني البحث عن الأفضل واستخدامه.
4- رغم أن ذا القرنين أخضع ممالك الأرض في زمانه، إلا أنه لم يحارب يأجوج ومأجوج، مع أن احتمال فوزه عليهم كبير، فهو الممكَّنُ له من عند الله والمهيَّأة له كل أسباب النصر. ولكنه فضَّل الوقاية من إثارة حرب مع يأجوج ومأجوج، فذلك خيرٌ مِن تحمُّل تبعات أثر الحرب معهم، وبدلاً من شن حرب احتمال الخطأ فيها وارد، الأفضل أن تتحايل كي لا تحارب. قال رسول الله : " لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ، فَإِذَا لقيتُمُوهُمْ فَاصْبرُوا".()
والمستفاد من تدريب ذي القرنين لأهل تلك المنطقة: أنَّ تدريب العامل الموجود القابل للتطوير سيكون ـ غالباً ـ أكثر فائدة من استيراد موظف جديد يحتاج وقتاً ليفهم طبيعة العمل في المؤسسة.
وتدريب وتأهيل العامل جزء رئيس من مواءمة العامل الذي ستتم الإشارة إلى اهتمام ذي القرنين به في المجال التالي.
سادساً: في مجال مواءمة العامل:
يفيد ما ورد على لسان ذي القرنين في قوله تعالى: " أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " [الكهف: 87 - 88] إلى أهمية:
أ- شعور العامل بالرقابة عليه ومعرفته بحتمية محاسبته إن أخطأ.
ب- تخويف العامل المخطئ من عذاب الآخرة يشير إلى أهمية تنمية الوازع الإيماني الداخلي للعاملين، مما يسهم في مراقبة الذات عند غياب الرقيب الإداري.
ج- مكافأة العامل المحسن مادياً ومعنوياً، وقد أبرزت الدراسات أن العاملين لا يعتبرون زيادة الأجر المادي هو الحافز الوحيد، بل يحبون أن تقابَل جهودهم بالثناء وإشعارهم بذلك (جابلونيسكي، 1993، ص3).
سابعاً: في مجال رضا المستفيد:
1- صدق ذي القرنين في تحقيق ما وعد به، وقوته وأمانته، وإتقان إنجازه، إضافة إلى تلبيته حاجات وتحقيقه أهداف الناس، كل هذا لا بد وأن ينعكس على رضاهم عنه.
كيف لا يرضى المستفيد الذي حصل على أفضل منتج بأقل الخسائر؟ (بلا قتال، بلا خراج، بلا استعباد..)، بل حصل على التدريب والتأهيل وبناء الثقة.
2- رغم إتقان جودة منتج ذي القرنين (الردم)، إلا أنه لم يخدع الناس، بل أخبرهم أن الردم الذي بناه سينهار في الزمن المقدَّر له، قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ " [الكهف: 98].
الخاتمة
بعد هذه الجولة مع قصة ذي القرنين كما وردت في القرآن الكريم، يتبين أن ذا القرنين التزم أفضل مبادئ إدارة الجودة الشاملة، فشكلت قصته عبرة لمن أراد الاستفادة منها، وشكلت شخصيته قدوة لمن أراد الاقتداء به، ومن نتائج هذه الدراسة:
1- قصة ذي القرنين تبرز أهمية إدارة الجودة الشاملة، فقد كان القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً يملكون مالاً (بدليل عرضهم الخراج على ذي القرنين)، ويملكون موارد بشرية، ويملكون مواداً خاماً، ويملكون مهارات استخراجها، إلا أنهم لم يملكوا إدارةً كإدارة ذي القرنين المتصفة بالجودة الشاملة، وكما قال (فورست): " الإدارة فن توجيه النشاط الإنساني " (الصويان، 1995، ص55).
2- فرق جوهري بين مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الإسلام ومبادئ إدارة الجودة الشاملة عند غيرهم، فهدف إدارة الجودة الشاملة في الإسلام: رضى المستفيد مقيداً برضى الله ، بينما هدفها ومحورها عند غيرهم: رضى المستفيد.
3- تتميز إدارة الجودة في الإسلام بقوة الرقابة الذاتية للعاملين، فحتى لو غاب الرقيب الخارجي فإن العامل الذي يشعر بمراقبة الله لن يفعل ما يضر بالمؤسسة أو يُسبِّب رداءة مخرجاتها.
هذا ويوصي الباحث بمزيد العناية بالقصص القرآني واستنباط ما فيها من فوائد وأمثلة عملية واقعية على الإبداع في إدارة الجودة الشاملة.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
1. ابن عاشور، محمد الطاهر. (1984م)، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد وتفسير الكتاب المجيد (الشهير بالتحرير والتنوير)، (د.ط)، الدار التونسية للنشر، تونس.
2. ابن كثير، إسماعيل. (1999م)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي سلامة، ط2، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض.
3. ابن منظور، محمد. (1997م)، لسان العرب، (د.ط)، دار صادر، بيروت.
4. الآلوسي، محمود. (1985م)، روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، ط4، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
5. جابلونيسكي، جوزيف. (1993م)، إدارة الجودة الشاملة، سلسلة خلاصات كتب المدير ورجل الأعمال، السنة 1، العدد6، الشركة العربية للإعلام العلمي (شعاع)، القاهرة.
6. الجوهري، إسماعيل. (1990م)، الصحاح تاج اللغة، تحقيق: أحمد عطار، ط4، دار العلم للملايين، بيروت.
7. حنفي، عبدالحليم. (1995م)، أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، ط3، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
8. الخطيب، عبدالكريم. (1975م)، القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، ط2، بيروت.
9. الرازي، فخر الدين محمد. (2000)، مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت.
10. الزبيدي، محمد. (1994م)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: علي شيري، (د.ط)، دار الفكر، بيروت.
11. الزحيلي، أ.د. وهبة. (1991م)، التفسير المنير، ط1، دار الفكر، دمشق.
12. السعدي، عبدالرحمن. (1422هـ) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض.
13. سلطان، د. صلاح. (2008م)، سورة الكهف: منهجيات في الإصلاح والتغيير، ط1، دار سلطان للنشر، القاهرة.
14. السلمي، علي. (1995م)، إدارة الجودة الشاملة ومتطلبات التأهل للآيزو، دار غريب، (د.ط)، القاهرة.
15. الصالحي، علي. (د.ت)، الضوء المنير على التفسير (جمع لتفسير ابن القيم)، مكتبة دار السلام، (د.ط)، الرياض.
16. الصفدي، صلاح الدين. (1962م)، الوافي بالوفيات، عناية: هلموت ريتر وآخرون، دار فرانز شتاينر، (د.ط)، شتوتغارت، ألمانيا.
17. الصويان، أحمد. (1995)، " دراسة المستقبل: مدخل تأصيلي "، مجلة البيان، عدد86، سنة9، لندن.
18. العجلوني، إبراهيم. (2006م)، " مبادئ إدارة الجودة الشاملة في ضوء المنهج الإسلامي "، مستلة بحث علمي مقدم للنشر استكمالاً لمتطلبات الدكتوراه في الإدارة، مجلة جامعة دمشق، دمشق، ص4.
19. العجلوني، د. إبراهيم. (2006م)، " إدارة الجودة في الإسلام "، المؤتمر العربي الأول حول جودة الجامعات ومتطلبات الترخيص والاعتماد، الشارقة، ص5.
20. عطية، د. سعيد. (2006م)، الإعجاز القصصي في القرآن الكريم، ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة.
21. قرموط، نايف. (2009م)، " الإدارة في سورة يوسف "، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزة.
22. قطب، سيد. (1981م)، في ظلال القرآن، ط10، دار الشروق، بيروت.
23. النمر، سعود بن محمد وآخرون. (1407هـ)، الإدارة العامة: الأسس والوظائف، ط4، دار الفرزدق، الرياض.
24. الهرري، محمد الأمين. (2001م)، حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ط1، دار طوق النجاة، بيروت.