3- ظهور التفرقة بين اللغة والتفسير.
وهذه إحدى الظواهر التي شكَّلت فرقا جوهريا بين كتب التفسير وكتب معاني القرآن.
والمقصود بها هو اختلاف منهجية علماء معاني القرآن عن منهجية المفسرين السابقين في البحث القرآني، وطريقتهم في التعرض لمعنى الآية ومعالجة الأقوال السابقة في التفسير.
وبيان ذلك من خلال التالي:
أولاً: أن المفسرين لم يقتصروا على هذا التفسير اللغوي وحده، فمع أنهم كانوا يعتمدون على اللغة في بيان التفسير، وكان لهذا التفسير مكانته عندهم إلا أنهم لم يجعلوه الأصل الذي ينطلق منه البحث، بل يوردون معه التفسير بالقرآن وبالسنة، ويذكرون أسباب النزول، وما يحتف بالآية من مُخصِّصات وأحكام وغير ذلك من أنواع البيان المتعارف عليها في كتب التفسير، وعليه فمنطلق بحثهم هو بيان المعنى المراد قبل أي شيء وبكل ما يمكن أن يخدمه من علوم.
بينما نجد منطلق البحث في كتب معاني القرآن هو اللغة، فالبحث اللغوي هو السابق إلى ذهن أصحابها حين يفسرون القرآن، لأنه يرونه نصا عربيا، وأن الذين سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابةرضي الله عنهم لم يحتاجوا في فهمه إلى السؤال عن معانيه، لأنهم كانوا في غنى عن السؤال ما دام القرآن جاريا على سَنن العرب في أحاديثها ومحاوراتها، وما دام يحمل كل خصائص الكلام العربي من زيادة وحذف وإضمار واختصار وتقديم وتأخير، ومن هنا فسروا القرآن وعمدتهم الأولى هي الفقه بالعربية وأساليبها واستعمالاتها والنفاذ إلى خصائص التعبير فيها(1).
فكانوا يوردون ما يوضح المفردة أو الجملة القرآنية بكل ما يمكن أن يكون صالحا من المحتملات اللغوية مما يقتضيه اللسان العربي، دون اعتبار لما يحتف بالآية من أمور أخرى قد تخصص المعنى اللغوي، من أسباب النزول أو المأثور من السنة أو عن الصحابة والتابعين...أو غير ذلك.
ثانياً: أن المصنفين في معاني القرآن لا يكادون ينقلون شيئا عمن قبلهم في تفسير القرآن، حتى المتعلق منها بالتفسير اللغوي، فمعتمد الواحد منهم هو ما يعلمه ويحفظه من اللغة، وإذا نقل شيئا فإنه ينقله كأحد محتملات الآية اللغوية التي يقابل بها قولَه، وقد يردُّه ولا يعتد به.
ومن ذلك ما أورده النحاس عن الكسائي حين اعترض على ما قاله المفسرون واللغويون في معنى قوله تعالى: (أفلم ييأس اللذين آمنوا ألو يشاء الله لهدى الناس جميعا).
قال النحاس: "في هذه الآية اختلاف كثير...عن ابن عباس رضي الله عنها أنه قرأ: أفلم يتبين الذين آمنوا. وفي كتاب خارجة أن ابن عباس قرأ: أفلم يتبين للذين آمنوا وعن ابن عباس: أفلم ييأس الذين آمنوا أي: أفلم يعلم.
وأكثر أهل اللغة على هذا القول وممن قال به أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة. قال سحيم بن وثيل:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
ويروى إذ يأسرونني، فمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا ألم يعلموا.
وفي الآية قول آخر، قال الكسائي: لا أعرف هذه اللغة ولا سمعت من يقول يئست بمعنى علمت ولكنه عندي من اليأس بعينه. والمعنى إن الكفار لما سألوا تسيير الجبال بالقرآن وتقطيع الأرض وتكليم الموتى اشرأب لذلك المؤمنون وطمعوا في أن يعطى الكفار ذلك فيؤمنوا فقال الله (أفلم ييأس الذين آمنوا) أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لعلمهم أن الله لو أراد أن يهديهم لهداهم كما تقول قد يئست من فلان أن يفلح والمعنى لعلمي به"(2).
فنلاحظ هنا عدم اعتداد الكسائي بما ورد في تفسير هذه المفردة، وجعله قولَه في مقابله.
ثالثاً: أن أصحاب هذه الكتب يفرقون بين ما يذكرونه من معاني القرآن وبين ما ينقلونه عن المفسرين، فنراهم حين يريدون نقل شيء عن السلف يقولون: "قال المفسرون" أو "جاء في التفسير" أو "وفي التأويل" أو "قال أهل التفسير" وهذه التفرقة تدل على أن معاني القرآن عندهم هي ما يؤخذ من طريق اللغة، وأن ما عند المفسرين إنما هو شيء آخر لا يمكن أخذه من هذه الطريق(3).
4- من العوامل التي كان لها أثر في تمييز كتب معاني القرآن عن غيرها من كتب التفسير هو أن هذه الكتب قد وُضعت –كما سبق- استجابة لطلب أو جوابا عن سؤال أو بحثا عن مشكل، ولذا فهي لم تقف مع كل الآيات، بل مع ما كان لا بد من الوقوف معه للأسباب السابقة، وهذا ما يجعلها تختلف عن كتب التفسير بمناهجها المختلفة التي تقف مع كل آية وتبيِّنها.
______
(1) مقدمة تحقيق مجاز القرآن (1: 16)
(2) معاني القرآن للنحاس (3: 497) بتصرف.
(3) التفسير اللغوي لقرآن الكريم (ص: 263، 269)