في كتاب أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين ( دراسة وترجيح ) ذكر المؤلف الدكتور سليمان الدبيخي وفقه الله سبعة أوجه للجمع تختلف قوة وضعفاً ، فإن كان الكتاب عندك فراجعه حفظك الله غير مأمور ، وإن لم يكن فإن شئت أوردت لك ما كتب بارك الله فيك .
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا . يمكنكم تحميل الكتاب مصورا من
هنا . قال - وفقه الله وحفظه - :
"
مذاهب العلماء تجاه هذا التعارض :
لم يتجاوز أهل العلم في هذه المسألة مذهب الجمع ، وكلامهم يدور على حديث جابر رضي الله عنه ( إن الشيطان قد أيس .. ) .
وأما الأحاديث التي فيها إخبار المصطفى صل1 بوقوع الشرك وعبادة الأوثان والأصنام ، فإن أهل العلم لم يختلفوا في وقوع ما دلت عليه ؛ ولذلك بوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب ( التوحيد ) باباً بعنوان : ( ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان ) ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرح هذه الترجمة : ( أراد المصنف بهذه الترجمة الردَّ على عبّاد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فبيّن في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صل1 ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان ، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق ولا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ) .
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين عن حديث ( إن الشيطان قد أيس .. ) : ( لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب ، ويوضح ذلك : أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صل1 ، فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان ، وكثير منهم صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره ) .
وقد اختلف أهل العلم في الجواب على حديث جابر ( إن الشيطان قد أيس .. ) على عدة أقوال ؛ وهي كالتالي :
القول الأول: أن المراد أن الشيطان قد أيس أن يجتمعوا كلهم على الكفر. وإلى هذا ذهب ابن رجب وعبد الله أبا بطين وغيرهما .
القول الثاني : أن النبي صل1 أخبر عمّا وقع في نفس الشيطان من اليأس عندما رأى الفتوح ودخول الناس في دين الله أفواجا ، ولكن لا يلزم من هذا عدم وقوع الشرك وعبادة سوى الله تعالى ، لأن الأمر يقع على خلاف ما ظنه الشيطان ، كما دلت على ذلك الأحاديث الأخرى التي فيها إخبار النبي صل1 بوقوع الشرك . قالوا : ويدل على هذا القول أن النبي صل1 نسب الإياس في الحديث إلى الشيطان مبنياً للفاعل ، فلم يقل ( أُيس ) بالبناء للمفعول بمعنى أن الله أيسه ، فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره . ذكر هذا الجواب الشيخ عبد الله أبا بطين ، وإليه ذهب الشيخ محمد العثيمين .
القول الثالث : أن المراد أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب ، وهم المصدقون بما جاء به الرسول صل1 من عند ربه ، المذعنون له الممتثلون لأوامره ؛ إذ أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه فلا يطمع الشيطان أن يعبده . ذكر هذا الجواب الألوسي .
القول الرابع : ذكره الألوسي أيضا ؛ فقال : ( يحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون ، بناءً على أن تكون ( ال ) للعهد ، وأن يراد بهم الكاملون فيها .. وهم خير القرون ، يؤيد ذلك قول النبي صل1 في آخر الحديث ( ولكن في التحريش بينهم ) .. يقول الطيبي : لعل المصطفى صل1 أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين ، أي : أيس أن يعبد فيها ، ولكن يطمع في التحريش ) .
القول الخامس : ما ذهب إليه أبو العباس القرطبي ؛ من أن المعنى ( أن المسلمين في جزيرة العرب ما أقاموا الصلاة فيها وأظهروها لم يظهر فيها طائفة يرتدون عن الإسلام إلى عبادة الطواغيت والأوثان ، فإذا تركوا الصلاة وذهب عنهم اسم المصلين فإذ ذلك يكونون شرار الخلق ، وهذا إنما يتم إذا قبض الله المؤمنين بالريح الباردة .. وحينئذ تضطرب أليات دوس حول ذي الخلصة وتُعبد اللات والعزى ) .
القول السادس : أن معنى الحديث أن الشيطان قد أيس أن يعبد هو نفسه كما هو ظاهر الحديث ، لا أنه أيس من أن يعبد غيره من المخلوقات كالأنبياء والملائكة والصالحين والأحجار والأشجار ، ولم يزعم أحد أن الشيطان قد عبد هو نفسه كفاحا مباشرة ، وإنما أُطيع في عبادة بعض المخلوقات وأضيفت العبادة إليه لأنه هو الآمر بها الداعلي إليها " .
ثم قال في الترجيح بينها :
" في الحقيقة أن جميع الأقوال السابقة محتملة ،
وأقواها القول الثاني ثم الأول ، وأضعفها القول الخامس والسادس .
أما القول الخامس فلأن فيه أن عبادة الأصنام والأوثان لا تكون إلا في آخر الزمان عند قبض الله تعالى المؤمنين بالريح الباردة ، وهذا يرده الواقع ؛ إذ أن عبادة غير الله تعالى من الأصنام والأوثان وُجدت بعد وفاته صل1 ولا تزال موجودة حتى الآن والله المستعان . ( ولا يمكن أن يدعي أنه لن يعبد غير الله في بلاد العرب في وقت من الأوقات ، فإن هذا باطل بالإجماع والضرورة والنصوص المتواترة ، وقد كان في بلاد العرب يهود ونصارى وهم يعبدون غير الله حينما قال الرسول صل1 هذا الحديث ) [ الصراع بين الإسلام والوثنية 2 / 126 بتصرف يسير ] .
وأما القول السادس فيشكل عليه أمران :
أحدهما : ( أنه لم يعهد أنّ العرب المشركين في جاهليتهم كانوا يعبدون الشيطان نفسه ، وإنما عهد أنهم أطاعوه في عبادة الأصنام والأوثان التي عبدوها في الجاهلية وفي دولة الشرك والضلال ، والحديث يجب أن يوجه معناه نفياً وإثباتاً إلى ما عهد وعلم ، لا إلى ما لم يعهد وما لم يعلم ، فيجب أن يقال : إن هذه العبادة التي أيس الشيطان منها هي العبادة التي كان أهل الجاهلية يقدمونها إليه وهي طاعته في عبادة غيره من المخلوقات ناطقها وصامتها ) [ المرجع السابق 2 / 123 ] .
وقد أجيب على هذا الإشكال - أو الاعتراض - بأنه لا مانع من أن الشيطان كان يسعى جهده لإيقاع المشركين عبدة الأصنام والأوثان في عبادته نفسه ، وأنه كان يأمل أن يعبدوه حقيقة مباشرة كما كانوا يعبدون الأحجار والأشجار والإنسان والحيوان وغير ذلك من أصناف المعبودات ، وأنه كان عظيم الرجاء في أن يصل إلى هذه الغاية الشيطانية العظيمة ، فلما انتشر الإسلام واتسعت رقعته وعلا شأنه وارتفع ، انقطع على الشيطان رجاءه هذا وأفسد عليه أمنيته هذه ورأى أنه قد ظن باطلاً ورجا ما لن يكون أبدا ، فانقلب ذلك الرجاء يأسا ، والأمل قنوطا ، والسعي خيبة ، فأعلن يأسه وباح بإفلاسه ، ونادى بويله وثبوره ، فأعلن رسول الله صل1 هذه الحقيقة وقال : ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ) .
فإن توجه هذا الجواب كان الإشكال الثاني قائما وهو :
الأمر الثاني الذي يشكل على هذا القول : أن الحديث قد ورد برواية لا يستقيم معها هذا القول ، وهي : ( إن إبليس يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكنه سيرضى بدون ذلك منكم .. ) " .
[ د. سليمان الدبيخي : أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين / 234 - 238 ] .