هذه المسألةَ اختلفَ فيها أهل العلم على قولينِ خُلاصتُهَا ما يلي :
القول الأول : عدم جوازِ نسخِ القرآنِ بالسنّةِ ، وبه قال الثوريُّ والشافعيُّ وأحمدُ – في روايةٍ – وطائفةٌ مِن أصحابِ الإمام مالكٍ .
قال الإمام الشافعيُّ :" وأبانَ الله لهم أنّه إنّمَا نسخَ ما نسخَ مِن الكتابِ بالكتابِ ، وأنّ السنّةَ لا ناسخة للكتابِ وإنّمَا هي تَبَعٌ للكتابِ ".(1 )
وسُئِلَ الإمام أحـمد : تنسخُ السنّةُ شيئًا مِن القرآنِ ؟ قـال :" لا يُنْسَخُ القرآنُ إلاّ بالقرآنِ ".( 2)
ورجَّحَ هذا القولَ ابنُ قدامةَ ( 3) وابنُ تيميةَ .( 4)
وأشهر أدلّتهم ما يلي :
1 – قول الله تعالى :{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }(البقرة:من الآية106) والسنّةُ لا تساوي القرآنَ ولا تكونُ خيرًا مِنه .( 5)
2 – قول الله تعالى :{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ}(النحل: 101 - 102) .
3 – احْتَجَّ بعضهم بحديث جابرٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلمقال : [ كَلامِي لا يَنْسَخُ كَلامَ الله ، وكَلامُ الله يَنْسَخُ كَلامِي ، وكَلامُ الله يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضَه ] ( 6).
وهذا الحديثُ لو صَحَّ لكانَ قاطعًا للنزاعِ لكن لَمْ يَصِحَّ . بل حُكِمَ عليه بالوضْعِ .
القول الثاني : جواز نسخِه ، وهو رأيُ أبي حنيفةَومالك وأكثر أصحابه ورواية عن الإمام أحمد وهو قولُ الأكثر(7) ورجّحه الشنقيطيّ (8 ) .
ودليلهم أنّ الكُلَّ مِن عند الله ، والناسخُ حقيقةً هو الله على لسانِ رسوله بِوَحْيٍ غيرِ نَظْمِ القرآنِ .(9 )
وبَسْطُ هذه المسألةِ بِذكْرِ أدلّةِ كُلِّ قولٍ وجواب كُلِّ فريقٍ عن أدلّةِ الآخر يَطُولُ وليس هذا مقامه ( 10)، وسواءً قُلنَا بالجوازِ أو بالمنعِ مِنه فإنّ هذه المسألةَ لا وجودَ لها أصلاً ، فلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِن السنّةِ نسخَ نَصًّا مِن القرآنِ ، والذينَ قالوا بالجوازِ لَمْ يذكرُوا مثالاً صحيحًا يؤيّدُ ما قالوه ، وما ذكرُوه مِن الأمثلةِِ - وهو قليلٌ جدًّا – غيرُ مسلّمٍ لهم ، إذْ هو مِن قَبِيلِ البيانِ أو التخصيصِ ، لا مِن قَبِيلِ النسخِ . أو هو مَنسوخٌ بآياتٍ أخرى مِن القرآنِ يعضدها ما ذكرُوه مِن السنّةِ
قال الزركشيُّ :" كُلُّ ما في القرآنِ مِمّا يُدَّعَى نَسْخُه بالسنّةِ عند مَن يراه فهو بيانٌ لحكمِ القرآنِ ".( 11)
وقال أبو الوفاءِ بن عقيل :" واختلفَ القائلونَ بذلك والمانعونَ مِنه هل وُجِدَ ذلك؟ فقال قومٌ : لَمْ يُوجد ذلك ، وإليه ذهب شيخنا الإمام أبو يعلى، وابن سريج مِن أصحابِ الشافعيّ ، وقومٌ مِن المتكلّمين ".( 12)
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية :" وبالجملةِ فلَمْ يثبت أنّ شيئًا مِن القرآنِ نُسِخَ بِسُنَّةٍ بلا قرآنٍ ".(13 )
وقال الزرقانيّ بعد أنْ ذكر أمثلةَ القائلينَ بِنَسْخِ القرآنِ بالسنّةِ وأجاب عنها :" ومِن هذا العرْضِ يخلص لنا أنّ نسخَ القرآنِ بالسنّةِ لا مانعَ يمنعهُ عقلاً ولا شرْعًا ،غايةُ الأمرِ أنّه لَمْ يقعْ لعدمِ سلامةِ أدلّةِ الوقوعِ كما رأيت ".(14 )
وقال البعليُّ( ) في الاختيارات الفقهيّة :" جميعُ ما يُدَّعَى مِن السنّةِ أنّه ناسـخٌ للقرآنِ غَلَط ".( 15)
وإذا تقرَّرَ هذا فإنّ الخلافَ في هذه المسألةِ خلافٌ لا يترتّبُ عليه أثرٌ كبير ، والخَطْبُ فيه يسير والله اعلم .
[line]الحاشية
( 1 ) الرسالة للشافعي صـ ( 106 ) .
( 2 ) انظر : جامع بيان العلم وفضله ( 2 / 564 ) .
( 3) انظر : روضة الناظر صـ ( 78 ) .
( 4 ) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ( 17 / 195 ، 197 ) و ( 19 / 202 ) و ( 20 / 398 ) .
( 5 ) انظر : روضة الناظر صـ ( 78 ) ، الواضح في أصول الفقه ( 4 / 260 ) .
( 6) الحديث رواه الدارقطنيّ في سننه في كتاب : النوادر ( 4 / 145 ) برقم ( 9 ) ، ورواه ابن عديّ في الكامل في ضعفاء الرجال ( 2/443 ) ، ورواه ابنُ الجوزيّ في العلل المتناهية مِن طريق ابن عدي (1/125) برقم (190). قال ابنُ عديّ في الموضع المتقدّم :" حديثٌ مُنكر وفي إسناده جبرون بن واقد الأفريقي ".
وقال الذهبيّ عنه :" ليس بثقةٍ روى بقلّةِ حياءٍ عن سفيانَ عن ابي الزبير عن جابرٍ فذكر الحديث " انظر: المغني في الضعفاء ( 1 / 199 ) .
وقال ابنُ حجرٍ :" مُتّهمٌ " ونَقَلَ عن الذهبيّ أنّ الحديثَ موضوعٌ . انظر : لسان الميزان ( 2 / 117 ) .
وانظر : شرح مختصر الروضة ( 2 / 322 ) ، مذكرة في أصول الفقه صـ ( 83 ) .
( 7) انظر : إرشاد الفحول ( 3 / 639 ) .
( 8) انظر : مذكرة في أصول الفقه صـ ( 83 ) .
(9 ) انظر : روضة الناظر صـ ( 78 ) .
( 10 ) راجعه إن شئتَ : مِن كُتُبِ أصول الفقه : الرسالة صـ ( 106 ) ، الواضح في أصول الفقه ( 4/ 258 ) ، روضة الناظر صـ ( 78 ) ، شرح مختصر الروضة ( 2 /320 ) ، تقريب الوصول صـ ( 318 ) ، مجموع فتاوى ابن تيمية ( 17/ 195 ، 197 ) و ( 19/ 202 ) و ( 20/ 398 ) ، إرشاد الفحول ( 3/ 639 ) ، مذكرة اصول الفقه صـ ( 83 ) ، معالم أصول الفقه عند أهل السنّة والجماعة صـ ( 267 ) .
ومِن كُتُبِ علوم القرآن : البرهان في علوم القرآن ( 2 / 37 ) ، الإتقان في علوم القرآن ( 2 / 701 ) ، مناهل العرفان في علوم القرآن ( 2 / 237 ) وقد توسّعَ في الحديثِ عن المسألة .
( 11) البرهان في علوم القرآن ( 2 / 50 ) .
( 12) الواضح في أصول الفقه ( 4 / 260 ) .
( 13) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 20 / 398 ) .
(14) مناهل العرفان في علوم القرآن ( 2 / 243 - 244 ) .
( 15) الاختيارات الفقهية صـ ( 13 ) .
نظرت في النسخ على وجه العموم فلم اجد في القرآن ولا في السنة قولا فاصلا (مصدره القرآن والسنة) بان هذه الاية نسخت تلك او هذا الحديث نسخ ذلك ... وانما مدار النسخ على اجتهادات .... فهل ينسخ الاجتهاد القرآن؟ ... هل ينسخ (بضم ا لياء) القرآن الذي هو كلام الله المثبت تواترا لفظيا باجتهاد؟ هذا اذا حملنا النسخ على رفع الحكم ...
[align=justify] وللفائدة زيادة على ما ذكره اخونا :احمد البريدي ، انظر هذه المسألة في أضواء البيان حيث قال الشيخ محمد الأمين - رحمه الله - مانصه :
المسألة السادسة اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بمتواتر السنة واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد وخلافهم في هذه المسائل معروف وممن قال بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله
قال مقيده ( صاحب الأضواء )عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر لأن الجميع وحي من الله تعالى فمثال نسخ السنة بالكتاب نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن وقد نسخه الله بالقرآن في قوله ) فلنولينك قبلة ترضاها ( ومثال نسخ الكتاب بالسنة نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكما بالسنة المتواترة ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكما بالسنة المتواترة وسورة الخلع وسورة الحفد هما القنوت في الصبح عند المالكية وقد أوضح صاحب ( الدر المنثور ) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا
وقد قدمنا ( في سورة الأنعام ) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه وأنه لا معارضة بينهما لأن المتواتر حق والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما ، يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية لصراحة الحصر بالنفي والإثبات ... انظر أضواء البيان
فصل وشروط النسخ خمسة أحدهما أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا فلا يمكن العمل بهما والثاني أن يكون حكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ والثالث أن يكون حكم المنسوخ ثابتا بالشرع لا بالعادة والعرف فإنه إذا ثبت بالعادة لم يكن رافعه ناسخا بل يكون ابتداء شرع آخر والرابع كون حكم الناسخ مشروعا بطريق النقل كثبوت المنسوخ فأما ما ليس مشروعا بطريق النقل فلا يجوز أن يكون ناسخا للمنقول ولهذا إذا ثبت حكم منقول لم يجز نسخه بإجماع ولا بقياس والخامس كون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل طريق ثبوت المنسوخ أو أقوى منه ولهذا نقول لا يجوز نسخ القرآن بالسنة انظر المصفى من علم الناسخ والمنسوخ ج1/ 13 تحقيق الدكتور / صالح الضامن[/align]
لقد مرت النقول في قول الإمام الشافعي رحمه الله أن السنة لا تنسخ القرآن ، وفي الحقيقة أن قول الإمام الشافعي رضي الله عنه اختلف المتأخرون من الشافعية في تفسيره ، بل وقال بعضهم بخلاف قول الإمام ، ويتلخص اختلافهم في أن الإمام الشافعي هل قال بعدم جواز نسخ السنة للقرآن عقلاً أم شرعاً ، والذي يترجح لي بعد دراسة مفصلة للموضوع أن الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول بعدم الجواز شرعاً لا عقلاً، وذلك لعدم وقوع النسخ في الواقع ، أي لم يثبت لدى الإمام الشافعي أن السنة نسخت القرآن ، وما قيل في نسخ آية الوصية في سورة البقرة بحديث ( لا وصية لوارث ) إنما هي ـ أي الآية ـ عند الإمام الشافعي منسوخة بآية المواريث في سورة النساء والحديث مخصص لها ولا يخفى معنى هذا الكلام على المختصين والله أعلم .( هذا ملخص بحث كتبته من سنوات بعنوان : قراءة في نسخ السنة للقرآن عند الشافعي ، وهو ما يزال مكتوباً بخط اليد).
يقولون: خير الكلام ما قل ودل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأتيت جوامع الكلم، واختص الحديث لي اختصارا"
فعلى هذا الجواب بقول شيخنا الامام العلامة الهمام محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في رسالته المختصرة "الأصول من علم الأصول":
الثاني: نسخ القرآن بالسنة، ولم أجد له مثالا صحيحا
وقد بين شيخنا في الشرح رحمه الله أن هذا يعني أن بعض الأصوليين استدلوا ببعض الامثلة لكنه لم يجد مثالا سليما منها، وقال وممكن يجد اخرين امثلة في المستقبل
رحم الله الامام وغفرله
والله تعالى أعلم