[align=justify]المشهور في كتب علوم القرآن أن الصحف التي أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكتابتها كانت مشتملة على الأحرف السبعة، فهل من دليل على كونها كذلك؟ وما المنهج الذي اتبعه في الرسم عند تعدد القراءات في آية ما؟[/align]
أخي الكريم أحمد القصير
سؤالك هذا من عويص مسائل علوم القرآن ، وهو من المشكلات في جمع القرآن الكريم ، وسأدلي لك ببعض الأفكار حول هذه المسألأة ، وهي ليست نهائية ، بل ما زالت قيد المدارسة والنقاش ، وإن كنت أميل إليها ، فأقول :
أولاً : هذا الحكم يُبنى على معنى الأحرف السبعة عند القائل به ، وذلك ما لم أره قد تبيَّن عند من قال به .
ثانيًا : هل المراد بالكتابة حفظ النصِّ المقروء بجميع صورِه ، أم حفظ أصل يُرجَعُ إليه في حال الاختلاف ، ويكون مستندًا لمن يجيء بعد أبي بكر رضي الله عنه ؟
وجواب ذلك أن كتابة النصِّ بجميع صوره المقروءة ممكنة عقلاً فيما يمكن رسم صورته ، وممتنعة فيما يتعلق بالصوتيات ؛ كالإمالة والإدغام والإشمام وغيرها .
لكن هل ثبت يقينًا أنه كتب جميع الصُّورِ المنطوق بها ؟
الذي بين أيدينا من المصحف العثماني فيه بعض صور المرسوم التي استُغني عن كتابتها ، وثبتت قراءته بوجهين ، ومن ذلك ( الصراط ، ضنين ، لأهب ).
قال أبو داود سليمان بن نجاح في كتابه مختصر التبيين لهجاء التنْزيل ( 4 : 828 ) : (( وكتبوا في جميع المصاحف ( لأهب ) بلام ألف ، وقرأ نافع من رواية ورش عنه ، والحلواني وسالم بن هارون عن قالون ، وأبو عمر بياء مفتوحة بين اللام والألف على إخبار المتكلم ، وكذا روى إسماعيل والمسيبي عن نافع وأحمد بن صالح عن قالون عنه ، وابن جبير عن أصحابه )) .
وهذا يدلك على أنه لا يلزم كتابة جميع صور المقروء ، بل الاعتماد على المحفوظ من المقروء هو المقدَّم في هذا الباب ، لكن لا يوجد نقص في لفظة ، بحيث تُقرأ ولا توجد لها صورة مرسومة .
وبهذا يمكن القول بأن كتابة المصحف في عهد أبي بكر حوت صورة المقروء ، ولو أهملت بعض وجوه الاختلاف في المرسوم ؛ لأنَّ المقصود الأكبر الاحتفاظ بالقرآن مكتوبًا ، وما قام به أبو بكر ـ لو كان بوجه من وجوه المرسوم ـ متعيِّن في حفظ القرآن .
وفهم هذه المسألة ـ وهي علاقة الملفوظ بالمرسوم ـ تحلُّ إشكالات كثيرة فيما يتعلق بتدوين المصحف وجمعه .
ثالثًا : مما يمكن الاستناد إليه في هذا معرفة علاقة عمل عثمان في المصاحف بعمل أبي بكر قبله ، وهذا مما دخله الاحتمال العقلي ، حتى صارت هذه الاحتمالات ـ عند بعضهم ـ كاليقين ، وليس الأمر كذلك ، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ ما يأتي :
أنَّ عثمان أراد بعمله هذا أن يكون بين المسلمين مرجعًا يرجعون إليه ، ولا يختلفون فيه ، وكان عمدته في هذا عمل أبي بكر ، فأخذ ما في مصحف أبي بكر ، وفرقه بين المصاحف ـ إن كان كتبه بوجوه مختلفة من الرسم ، أو أضاف إليه رسم بعض الوجوه المقروءة ـ ولم يحذف منه شيئًا ، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل .
كما أنه يظهر أنَّ عمل أبي بكر كان جمعًا لمتفرِّقٍ ، حيث كان القرآن مكتوبًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدوات متفرقة كما هو معروف ، فجمعه أبو بكر في مصحف واحدٍ ، ثم جاء عثمان ففرَّق ما في مصحف أبي بكر ، ولم يكتف بذلك ، بل أرسل مع كل مصحفٍ قارئًا يقرئ الناس بما في هذا المصحف ، وما ذاك إلا لأن القراءة قاضية على الرسم ، لذا قرأ بعضهم ( بظنين ، السراط ، ليهب ) مع اتفاق المصاحف بكتابتها بغير هذه الصورة .
كما أنَّ الأصل الذي يدل عليه العقل أن يكون عين المكتوب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين المكتوب في عهد أبي بكروعثمان ، وإن كان ثمَّت اختلافٍ ففي طريقة كتابته ، وهو ما يدخل في باب التنوع في الرسم فحسب ، وإلا فالقرآن كاملٌ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما مات إلا وقد عُرِف ما هو قرآن باقٍ مما ليس بقرآن ، وجهل بعض الصحابة بشيء من ذلك لا يعني صحة اختلافهم مع إجماع غيرهم على خلافهم .
هذه بعض أفكار حول الموضع ، وإن لم تكن قد أجابة بعين ما نريد ، لكنها صالحة للمدارسة والمناقشة ، والله الموفق للصواب .
[align=justify]أستاذي الكريم:
لعلك تلاحظ معي أن الروايات التي اهتمت بنقل أحداث وتفاصيل كتابة القرآن في عهد أبي بكر لا تكاد تجد فيها تعرضاً وتفصيلاً لمشكلة الأحرف السبعة، أفلا يكون هذا دليلاً على أن أصل هذه المشكلة لم يكن حينئذ، وفي نظري أن اللجنة المختصة بالكتابة لم تتعرض لمسألة الأحرف السبعة وكيفية تدوينها، ولو فعلت لواجهت بعض المشكلات والتي ستكون محل نقاش بين الصحابة رضوان الله عليهم، وبالتالي فإن الروايات ستسلط الضوء على شيء من هذه النقاشات لتنقل إلينا بعضاً منها، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، أفلا يكون هذا دليلاً على أن أصل المشكلة لم يكن حينئذ.
ومما يقوي هذا الاحتمال أن الروايات نقلت لنا تفاصيل أخرى هي أقل من مشكلة الأحرف السبعة، كالآية التي في آخر سورة التوبة حيث لم توجد إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، وهذا مما يقوي دعوى أن مشكلة الأحرف السبعة لم تطرح في مشروع كتابة القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.[/align]
أخي الكريم أحمد
أحسنت الاستدلال ، وأنا أوافقك في أنَّ مشكلة الأحرف السبعة لم تظهر لهم ، إذ لم ترد إشارة ـ ولو جزئية ـ إليها ؛ كما ذكرتَ ـ وفقك الله ـ في تعقيبك .
ومن الملاحظ أن كثيرًا ممن يناقش هذا الموضوع اليوم لا يؤمن بالمجملات ، ولا يعتدُّ بالنهايات ، فتراه ينقِّبُ عما لا يمكن وجوده ، فالنتيجة عندنا اليوم هي وجود هذا المصحف الذي كُتِب فيه كل القرآن ، وهو الذي أجمع عليه الصحابة ثمَّ تبعتهم الأمة ، سوى شُذَّاذٍ من الرافضة لا عبرة بهم في هذا .
وأقصد من ذلك : أن عدم وجود تفاصيل لهذا الجمع لا يطعن عليه كما يذهب إلى هذا بعض المغرضين من أعداء الدين ؛ سواءً من المنصرين أو المستشرقين التوراتيين أو ممن تبعهم من المستغربين .
وهذا الأمر قائم على علم الجدل ، ويمكن نقض أقوالهم بدون وجود هذه التفاصيل التي يتَّكئون على عدم وجودها .
ولقد استطردت عن أصل موضوعك ههنا قصدًا ؛ لأنبه أن بحثنا ـ نحن المسلمين ـ في هذه الأمور لا يعدو البحث العلمي للاستفادة والتحرير ، وليس غرض مثلي ومثلك ـ ولله الحمد ـ كغرض أولئك المستغربين أو أسيادهم .
ولقد قرأت كتاب الفيلسوف الكبير عبد الرحمن بدوي ( دفاع عن القرآن ضد منتقديه ) الذي عرض فيه نقد بعض المستشرقين والمنصرين للقرآن ، فإذا بي أزداد قناعة بتهافت ما عندهم من وجهات نظر ، وبقلة عقلهم في هذا الموضوع ، حتى إنهم ليتشبثون بسوء فهمهم فيكون لمن بعدهم حجة قوية ومنطقية ، ويصير ما كان ظنًّا واحتمالاً حجة علمية ، والموضوع ذو شجون ، لكني أردت التنبيه على هذا الأمر ، والله يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى .
حرَّرَ الدكتور عبدالحي الفرماوي في كتابه (رسم المصحف ونقطه) هذه المسألة تَحريراً جيداً لولا ضيق الوقت لنَقلتهُ للمُدارسةِ (103-109) ، وقد أشار إلى خطوات الكتابة في عهد الصديق رضي الله عنه ، ووقف عند هذه النقطة التي أشرتم إليها فأَشارَ إِلى أَنَّ زيداً كان يكتب القراءاتِ المتواترةَ المتلوةَ برسمٍ واحدٍ إِنْ أَمكنَ ، فإن لم يصلح رسمٌ واحدٌ لجميعِها كتبَ أَحدها في الأصل ، وكتب ما يُخالِفُهُ تَحته أو فَوقه أو بِهامش الآية ، أو بغير ذلك من الطرق التي يعرفون بِها أَنَّ للكلمة رسمين أو أكثر ، ثُمَّ قال: (وهذا الاحتمالُ وإِنْ كان بغيرِ دليلٍ كما نرى ، إِلاَّ أنَّه لا يوجد أيضاً ما يَمنعُ من قَبولهِ) ص 108
وكتب في الحاشية : (ويُبَرِّرُ لهم فعل ذلك أَنَّ هذه الصحف لم تكن مجموعةً لقراءة العامة فيها ، وإنَّما جُمعت لحفظ القرآن بين دفتين ، خشيةَ الضياع ، فلا ضررَ في كتابةِ رَسْمين مع الإشارة التي يَعلَمُ بها أولو العلم أَنَّهما رَسْمان صحيحان ، بِخلاف المصاحف العثمانية كما سنرى).
وربَّما يردُّ بعضُ الباحثين بعض الخطوات الدقيقة التي يُشِيْرُ إليها المؤرخون لجمع القرآن دون أن يكون لديهم رواية تاريخية يستندون إليها ، بأَنَّ هذا نوعٌ من التحري الدقيق لا يوافق ما كان سائداً عند العرب في بداية الإسلام من التواضع في أدوات الكتابة وطريقتها ونحو ذلك ، ولكنَّ المُدقِّق في أمرِ جَمعِ القرآن يَجدُ أَنَّ زيدَ بن ثابتٍ قد سارَ على خِطةٍ غايةٍ في الدقةِ والضبطِ والتحري ، وأَنَّه قد احتشدَ لِهذا غايةَ الاحتشاد ، وذلك على مرأى ومَسمعٍ مِن جَميعِ الصحابةِ ، لو كان أهلُ زماننا هم الذين قاموا بِها لَما وسِعَهم أَكثر مِمَّا قام به زيد بن ثابت رضي الله عنه في ذلك ، ثُمَّ إِنَّ الأمرَ قبل ذلك وبعدَه أمرُ حفظِ اللهِ سبحانهُ وتعالى للقرآن ، وتَهيئتهِ وهدايتهِ مَنْ قامَ على هذا العملِ إلى أقومِ طريقةٍ ، وأَسَدِّ سبيلٍ للنهوض بهذا الأمر ، وهذا ما كان والحمد لله.
أحسنتم نضر الله وجوهكم
ومع فتوري عن الكتابة في الملتقى - دون المتابعة – إلا أن هذا الموضوع حركني للكتابة لأهميتة، وهو موضوع لما ينضج في علوم القرآن ، وأرى أنه جدير برسالة علمية، أو بحث علمي محكم على الأقل، ليحرر تحريرا بالغا.
وأقترح أن يكون البحث عبر المراحل التالية:
1. جمع المرويات في الموضوع ، والاستقصاء في ذلك ما أمكن.
2. النقد والتمحيص لتلك المرويات، وتمييز المقبول منها من المردود.
3. التحليل لتلك المرويات والربط فيما بينها، وضم النظير إلى نظيره، وتدقيق النظر والاستنباط منها.
4. النظر في الدراسات السابقة لهذا الموضوع، ونقدها، ومقارنته بما تم التوصل إليه.
5. النتائج.
فمن ينبري لها يا أهل القرآن؟
والسلام عليكم،،،